أحمد شوقي علي - سعاد حسني بستان الغواية.. ساندريلا الاغراء

"حورَّيَةٌ لَو رآها عابِدُ للها = مَرَّت بِحارسِ بُستانٍ فَقالَ لَها
سَرَقتِ رُمانَتَي نَهديك من شَجَري = قالَت وَقد بَهَتَت من قَولِهِ خَجَلا
فَتش قَميصي لكي أَن تَذهَبَ الوَجَلا = فَهمَّ أَن يَقبض النهدين ما مَهلا
فَصاحَ مِن وَجنَتيها الجُلَّنار عَلى = قَضيب قامَتِها لا بَل هَما ثَمَري"

لعل الشاعر الدمشقي أمين الجندي (1758-1835 مـ)، لم يدر وهو يصيغ تلك الخماسية الشعرية، أنها ستصلح بعد مائتي سنة، ولعلها ستصلح للأبد، أن تقدم أدق وصف لسندريلا السينما المصرية سعاد حسني (1946-2001).

ليس المجاز الذي استخدمه الشاعر هو مصدر الجمال في الأبيات السابقة، لكن الجمال الذي رمى إليه الجندي يقبع في تلك الصورة البصرية التي غلفت الرحلة القصيرة للفتاة بين مرورها بحارس البستان وإجابتها الصاعقة على اتهامه، تلك البراءة العفية بين "فتش قميصي كي أن تذيب الوجلا" حتى "بل هما ثمري"؛ هي المجاز الشعري الذي تمخضت عنه سعاد حسني.

يمكننا ببساطة وفق هذا المفهوم الشعري، أن نصنف سعاد كفنانة إغراء من الدرجة أولى، لكنها تمتلك إغواءً من نوع خاص، ذلك الذي يستطيع أن يهز أكثر النساك تورعًا فيجعله يلقي بنفسه من خلوته بأعلى قمم الجبال تحت أقدام براءتها العفوية، فمن يستطيع أن يخذل "جلنار وجنتيها" إذ نطق ثغرها بـ "بل هما ثمري"!

فخلال مشوار السندريلا، الذي ضم 82 عملًا سينمائيا، انفلتت الغواية، من بين عينين بريئتين ملأى بالشقاوة وثغر باسم ينادي "يا حسين" – عمر الشريف في فيلم "إشاعة حب"، تلك المعزوفة الموسيقية المسرسبة من بين شفتيها هي التي تفوقت بحلاوتها على الحضور الأنثوي الطاغي لهند رستم في الفيلم نفسه، ولعلها ليست مفارقة أن يكون لعمر الشريف ردة الفعل –التمثيلية- نفسها المليئة ببلاهة الخجل والاندهاش عند سماعه "يا حسين" منها، أو عند رؤيته هند رستم لأول مرة وهي ترقص على المسرح في فيلم "صراع في النيل".

من ذلك، قد يختلط الأمر على المشاهد الذي آلف سعاد حسني، بعد انطلاقتها الهادئة في فيلمي "حسن ونعيمة" و"إشاعة حب"، فتاة شقية يحمل أداؤها مسحة تحررية، بل وأحيانا نسوية، خاصة في فيلم "خللي بالك من زوزو" الذي قدم ما يمكن اعتباره تصورًا معكوسًا لقصة سندريلا، لا تنتظر فيها البطلة "المغلوبة على أمرها" المخلص الذي سينقذها من بؤسها، وإنما تشاغله هي وتبادئه الغرام، لكن من يتعقد ذلك يغفل عما تحمله عيني سعاد من تعابير رغم نوع الدور الذي تؤديه، كما أنه يتغافل أيضًا عن تخيل التاريخ الشخصي لحورية "حارس البستان" ويكتفي –فقط- بما قد يهمه في واحد من عناصر ذلك المشهد: الخجل/ العفوية/ التحدي/ عبث الحارس بالقميص، وهم العناصر الأربع الذين يكوّنون مجتمعين إغواء السندريلا.

لذلك فإن المشاهد الذي يراقب فيلم "زوجتي والكلب"، بعينين قلقتين/ فاحصتين، لن يقتنع كثيرًا بمشهد اللقاء المتخيل بين "نور" –نور الشريف- و"سعاد" –سعاد حسني-، رغم الابتذال الذي ظهرت عليه البطلة في صوت مضغها للعلكة أو الجذ على شفتها لإغواء صديق زوجها، ثم ما تلاه بعد ذلك من إثارة اللقاء الحميمي بينمها، لكن أكثر المشاهد التي ستترك في نفسه أثرًا، ولعلها أكثر ما يميز الفيلم -حتى للمشاهد المراهق-، من حيث الإغراء، هو ذلك المشهد الحميمي الذي جمعها بمحمود مرسي أثناء الاستحمام، وكل تلك الحيوية والعفوية التي تبدت بها الزوجة (الإطار البريء) في معاكسة زوجها "الريس مرسي" وانتهت بعناق وقُبل أسفل الدش.

لا نقصد من الإشارة الأخيرة، أن نقول أن هناك إطار ما بريء للإغراء، هو صاحب التأثير الأقوى، فالأمر بالنسبة إلى ظاهرة سعاد حسني أكثر اختلافًا من ذلك، لعله أكثر اقترابًا من تركيب الجملة الشعرية، الرصينة، وإنه من الطريف في الأمر أن لقب السندريلا مأخوذ من قصة كلاسيكية صاغها شاعر هو الفرنسي شارل بيرو، ولقبها به أيضًا شاعر هو صلاح جاهين، وهو الأمر الذي لم يفطن له أي ممن حاولن تقليدها أو إلصاق أنفسهم عنوة بذلك اللقب!

فالشاعر حين يبدأ في قصيدة ما، يحتفظ بصوته الأصلي في حين يتماهى مع مشاعر إنسانية عدة، وطيلة 32 عامًا هم عمر سعاد حسني في التمثيل، لم تتخل أبدًا عن "نعيمة" التي صاغها هنري بركات في ملحمة حب شعرية هي "حسن ونعيمة"، تلك الفتاة في جلبابها الريفي، والذي لا يعدم الإشارة إلى البراءة والعفوية أولا وأخيرًا ثم إلى إغواء "كشف المستور"، فهي الصوت "نعيمة" حتى وإن كانت "ثريا" في "ثلاث رجال وامرأة"، و"سلوى" في السبع بنات"، أو "عزيزة" في "السفيرة عزيزة"، وحتى أنها لم تنس أن تكون "نعيمة" عندما واجهت رشدي أباظة في مشهد تلقيها العزاء منه في فيلم "غروب وشروق"، وهي أيضًا نعيمة عندما تلبست ثوب السندريلا "زوزو".

وكان يمكن لسعيد مرزوق، أن يجعل بطله مستمرًا في رحلة شكه في زوجته في فيلم "زوجتي والكلب"، حتى نهاية الأحداث مع إبهام موقف الزوجة، ولعل ذلك كان سيفيده بالتأكيد في أن ينقل حالة عدم اليقين تلك إلى المشاهد نفسه، لكنه أثر أن تظهر براءة "سعاد" عند لقائها بنور، فقط، حتى يحفظ لها "صوتها/ نعيمة"، ثم يضع المشاهد، أي مشاهد، في موقف حارس البستان الذي استمتع بنضارة فتاته/ حوريته في احمرار "الجلنار" في وجنتيها، ثم في عفويتها المتحدية لإثبات براءتها عندما قالت "لا"! "بل هما ثمري".

فلنفتش إذن عن صوت سعاد حسني في عينيها، وفي وسع ابتسامتها، وتناغم أكتافها مع حركة رأسها في الرقص، مسترجعين صورتها من سميحة "في إشاعة حب" حتى وفاء في "الراعي والنساء"، ثم نسجلها واحدة من أكثر الفنانات اللواتي عرفتهم السينما المصرية إغراءً.



(*)ابتداء من اليوم ستنشر "المدن" سلسلة مقالات عن الاغراء ونجومه في العالم العربي، سواء في السينما أو في المجتمع، وحتى سنتطرق الى اللاغراء في بعض البلدان. هنا حلقة أولى عن سعاد حسني، وغدا حلقة عن هند رستم.

* عن موقع المدن
.
 
أعلى