نقوس المهدي
كاتب
في دراسة حول الدعارة الاستعمارية، تتناول كريستل تارو بالتحليل تحول الشرق الذي طالما داعب خيال الغربيين إلي بؤرة انحلال ومصير عاهرات المغرب العربي بين عالمهم الأصلي والنموذج الأجنبي المضاد.
نظمت مهنة الدعارة في بداية القرن التاسع عشر لتتمتع لاحقًا بثقلها وانتشارها. ولم يكن هذا النظام الفرنسي الذي يستوجب تسجيل العاهرات وإخضاعهن للفحص الطبي والنفي بصفة جزئية إلا نتيجة منطقية لمعايير جنسية فرضها سريان اللاهوت الأخلاقي منذ القرن الخامس عشر. وتقدم لنا كريستل تارو في كتابها «الدعارة الاستعمارية» تحليلاً بالغ الدقة لآليات الدعارة في المغرب العربي إبان الاستعمار، وتعتبر دراستها امتدادًا للدراسات السابقة التي تناولت تنظيم المهنة، ففي نحو عام 1830، كان الرحالة الغربيون ينخرطون في البحث عن الملذات الجسدية في شرق كان يرمز بالنسبة إليهم إلي الفردوس الذي تسكنه حوريات منعزلات يانعات. واكتشفوا، بكثير من الدهشة والافتتان، كرم الضيافة الجنسية الممارس في بعض الدور والملذات التي تقدمها إليهم خليلات الخيم ورهافة العوالم في المدينة، مما دفعهم إلي اعتبار هذا المسلك أشكالاً بذيئة للبيع والشراء.
بيد أن الإفراط في وضع القوانين واللوائح المفروضة من جانب المستعمر قد قلب الأوضاع رأسًا علي عقب حيث فرض الفرنسيون في شمال أفريقيا العزل والتهميش علي الفتيات. ففي الوقت الذي سادت فيه العاصمة موجة من الرفض إزاء إقامة الأحياء المشبوهة عمدت الإدارة إلي إنشائها في المدن الرئيسية في المغرب العربي وعليه أصبح حي بوسبير في الدار البيضاء مقصدًا إجباريا لأكثر السائحين تعجلاً إلا أن النظام الفرنسي قد دفع إلي تكوين شبكة معقدة من البيوت السرية.
تحدد كريستل تارو الأسلوب الذي وصمت بسببه الفتيات ـ وهن الخاضعات في آن واحد لسلطة الرجل ولهيمنة الاستعمار ـ بسبب خرقهن المزدوج للقوانين. فلقد أصبحن محل احتقار ليس فقط باسم القيم الأوروبية بل أيضًا من جانب الوسط الذي ترجع إليه أصولهن. فلقد انتهكن الأوامر القرآنية بل والقاعدة السائدة. علي مر العقود، شهدت العوالم والراقصات تدهورًا في أوضاعهن.
إلا أن هؤلاء المغربيات قد أبدعن ثقافة فرعية ثرية. فهذه الكائنات المهجنة و«الشخصيات الفاصلة» والمسلمات اللائي خلعن حجابهن واللائي أحيانًا ما يكشفن عن صدورهن أو سررهن، الموشومات واللائي يرتدين الملابس الأوروبية رغم وضعهن لزينة ولعطور شرقية قد أصبحن «ممثلات معبرات عن تركيبة غير مسبوقة». فهن يشغلن مركزًا وسطًا يسمح لهن بالعمل بين النظام والفوضي، بين المعتاد والمنحرف، بين المطابق للشائع والتجديد. فهن يحملن مرجعيات لعالمهن الأصلي مع دمجهن فيها لعدد من عناصر النمط الأجنبي المضاد.
ويتعين علينا في هذا الصدد مضاهاة مجموعة الصور الفوتوغرافية للفتيات المغربيات مع مجموعة الفتيات نصف العاريات المقدمات كبرهان دامغ علي تلك الفرضية. وتوحي النظرة الحزينة والعميقة ــ الاستفزازية أحيانًا والمستسلمة غالبًا ــ للفتيات المغربيات بمدي المقاومة الصماء التي تعلن عنها أولئك النساء المهضومة كرامتهن.
La Prostitution Coloniale Algerie, Tunisie, Maroc 1830-1962
الدعارة الاستعمارية: الجزائر وتونس والمغرب من 1830 إلي 1962
De Christelle Taraud Payot, 496P.
.
نظمت مهنة الدعارة في بداية القرن التاسع عشر لتتمتع لاحقًا بثقلها وانتشارها. ولم يكن هذا النظام الفرنسي الذي يستوجب تسجيل العاهرات وإخضاعهن للفحص الطبي والنفي بصفة جزئية إلا نتيجة منطقية لمعايير جنسية فرضها سريان اللاهوت الأخلاقي منذ القرن الخامس عشر. وتقدم لنا كريستل تارو في كتابها «الدعارة الاستعمارية» تحليلاً بالغ الدقة لآليات الدعارة في المغرب العربي إبان الاستعمار، وتعتبر دراستها امتدادًا للدراسات السابقة التي تناولت تنظيم المهنة، ففي نحو عام 1830، كان الرحالة الغربيون ينخرطون في البحث عن الملذات الجسدية في شرق كان يرمز بالنسبة إليهم إلي الفردوس الذي تسكنه حوريات منعزلات يانعات. واكتشفوا، بكثير من الدهشة والافتتان، كرم الضيافة الجنسية الممارس في بعض الدور والملذات التي تقدمها إليهم خليلات الخيم ورهافة العوالم في المدينة، مما دفعهم إلي اعتبار هذا المسلك أشكالاً بذيئة للبيع والشراء.
بيد أن الإفراط في وضع القوانين واللوائح المفروضة من جانب المستعمر قد قلب الأوضاع رأسًا علي عقب حيث فرض الفرنسيون في شمال أفريقيا العزل والتهميش علي الفتيات. ففي الوقت الذي سادت فيه العاصمة موجة من الرفض إزاء إقامة الأحياء المشبوهة عمدت الإدارة إلي إنشائها في المدن الرئيسية في المغرب العربي وعليه أصبح حي بوسبير في الدار البيضاء مقصدًا إجباريا لأكثر السائحين تعجلاً إلا أن النظام الفرنسي قد دفع إلي تكوين شبكة معقدة من البيوت السرية.
تحدد كريستل تارو الأسلوب الذي وصمت بسببه الفتيات ـ وهن الخاضعات في آن واحد لسلطة الرجل ولهيمنة الاستعمار ـ بسبب خرقهن المزدوج للقوانين. فلقد أصبحن محل احتقار ليس فقط باسم القيم الأوروبية بل أيضًا من جانب الوسط الذي ترجع إليه أصولهن. فلقد انتهكن الأوامر القرآنية بل والقاعدة السائدة. علي مر العقود، شهدت العوالم والراقصات تدهورًا في أوضاعهن.
إلا أن هؤلاء المغربيات قد أبدعن ثقافة فرعية ثرية. فهذه الكائنات المهجنة و«الشخصيات الفاصلة» والمسلمات اللائي خلعن حجابهن واللائي أحيانًا ما يكشفن عن صدورهن أو سررهن، الموشومات واللائي يرتدين الملابس الأوروبية رغم وضعهن لزينة ولعطور شرقية قد أصبحن «ممثلات معبرات عن تركيبة غير مسبوقة». فهن يشغلن مركزًا وسطًا يسمح لهن بالعمل بين النظام والفوضي، بين المعتاد والمنحرف، بين المطابق للشائع والتجديد. فهن يحملن مرجعيات لعالمهن الأصلي مع دمجهن فيها لعدد من عناصر النمط الأجنبي المضاد.
ويتعين علينا في هذا الصدد مضاهاة مجموعة الصور الفوتوغرافية للفتيات المغربيات مع مجموعة الفتيات نصف العاريات المقدمات كبرهان دامغ علي تلك الفرضية. وتوحي النظرة الحزينة والعميقة ــ الاستفزازية أحيانًا والمستسلمة غالبًا ــ للفتيات المغربيات بمدي المقاومة الصماء التي تعلن عنها أولئك النساء المهضومة كرامتهن.
La Prostitution Coloniale Algerie, Tunisie, Maroc 1830-1962
الدعارة الاستعمارية: الجزائر وتونس والمغرب من 1830 إلي 1962
De Christelle Taraud Payot, 496P.
.