نقوس المهدي
كاتب
“الحبُ أعظمُ شهوةٍ وأكملها” (ابن عربي)
الحُبُّ لغةً “نَقِيضُ البُغْضِ. والحُبُّ الودادُ والـمَحَبَّةُ، وكذلك الحِبُّ بالكسر.. وأَحَبَّهُ فهو مُحِبٌّ، وهو مَحْبُوبٌ.. والـمَحَبَّةُ أَيضًا: اسم للحُبِّ”[1].
ماهيّة الحب
كما في معظم المفاهيم والمصطلحات التي يخوضها في فلسفته، يستند ابن عربي في تعريف الحب وأصله وسببه على ما ورد في القرآن والحديث الشريف. فمن المعروف أنّ منهج ابن عربي يقوم على تأويل عميق ذي بعد باطنيّ لآيات القرآن والسنة النبوية وما تحتويه من أحاديث، وبذلك فإنّ الحب عند ابن عربي مقامٌ إلهيّ، وهو كذلك في أدبيات المتصوّفين. فقد نسب الله الحبّ إلى نفسه، فمن أسمائه الوَدود، وهو المحبّ كما يرد في آيات كثيرة في القرآن: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. وترد آيات يُذكر فيها حب الله لعباده من المتطهرين، والتوابين، والمتوكلين، والصابرين، وغيرهم ممن تحققوا بسمات حسنة. وفي الحديث القدسيّ “ما تقرّب المتقربون بأحب إليّ من أداء ما افترضته عليهم، ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإن أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به”. ويرد في الحديث القدسيّ أيضًا “وجبت محبتي للمتحابين فيّ”. في المقابل نفى الله عن نفسه حبَّ قوم اتسموا بصفات لا يحبها، فالأصل أنه لا يحب ما تحققوا به وأحبّ زوال تلك الصفات، فالله }لا يحبّ الظالمين{ و}لا يحبّ المعتدين{ و}لا يحبّ كلّ مختال فخور{ و}لا يحبّ المسرفين{. لذا، فإنّ أصل المحبة عند ابن عربي هو المحبة الإلهية، وكلّ مظاهر الحب المنسوبة إلى الإنسان هي من أصل تلك المحبة الإلهية، يقول ابن عربي:
الحب يُنسب للإنسان والله = بنسبة ليس يدري علمنا ما هي
الحب ذوقٌ ولا تُدرى حقيقته = أليس ذا عجب والله والله
لوازم الحب تكسوني هويتها = ثوب النقيضيْن مثل الحاضر الساهي
بالحب صح وجوب الحق حيث يُرَى = فينا وفيه ولسنا عين أشباه
أستغفر الله ممّا قلت فيه وقد = أقول من جهة الشكر لله[2]
وبذلك فإنّ الحب عند ابن عربي -وإن كان معقول المعنى- فإنه لا تُدرك حقيقته، كونه حقيقة إلهية، فهو من المعلومات التي ليس بالإمكان حدّها والإحاطة بها، يدركها من قامت به صفة المحبّة بالذوق. ولمقام المحبة عند ابن عربي أربعة ألقاب، أولها الحبّ، وهو خلوصه إلى القلب وصفاؤه عن كدرات العوارض فلا غرض له ولا إرادة مع محبوبه، واللقب الثاني الودّ، وله اسم إلهي وهو الودود، والثالث العشق، وهو إفراط المحبّة، ويذكر ابن عربي أنّ اسم العشق لا يطلق على الله كما هو الحال في الودّ والودود، وإن كان الله قد وصف نفسه في الخبر بشدّة الحب، والعشق التفاف الحب على المحب حتى خالط جميع أجزائه، واللقب الرابع الهوى، وهو استفراغ الإرادة في المحبوب والتعلق به في أول ما يحصل في القلب وليس لله منه اسم[3].
وللحبّ عند ابن عربي سببان، هما الجمال والإحسان؛ فأمّا الجمال فهو من حكم اسم الله “الجميل” الذي وصف به نفسه، والذي تجلّى في خلقه العالمَ على صورته، فكان العالم جميلًا على صورة الله. فالجمال محبوبٌ لذاته. ويتعمّق ابن عربي في فلسفته للجمال كسبب للحبّ، موصِلًا إياه بحضرة الخيال، أي عالم المِثال، وبالتجليات الإلهية في الكون وعالم الصور، ما لا ليس بالإمكان الخوض فيه في هذا المدخل حول الحبّ. وأما الإحسان فهو حبّ العباد لإحسان الله، يقول ابن عربي: “وما ثمَّ إحسان إلا من الله، ولا محسن إلا الله، فإن أحببت الإحسان فما أحببت إلا الله، فإنه المحسن، وإن أحببت الجمال فما أحببت إلا الله تعالى فإنه الجميل..”[4]. ويرى العديد من الصوفيين أنّ التصوف هو تحقيق مقام الإحسان، الذي جاء في الحديث الشريف أنه، أي الإحسان، “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن يراه فإنه يراك”. فالإحسان هو المقام الذي يلي الإيمان الغيبي الاعتقادي، ليصبح الإيمان عند مستوى الإحسان إيمانَ شهودٍ وتحقيق “كأنك تراه”[5].
الحب سبب الوجود- سريان الحب في الوجود
ينسب ابن عربي للحقيقة الإلهية المسمّاة بالحب سبب وجود العالم وإظهاره، وهو ما يأتي صريحًا في نص ورد في كتابه “التنزلات الموصلية”، وهو نصّ يبدو استفاضة وتفسيرًا في حديث قدسيّ يتداوله الصوفيون في أدبياتهم ويؤسس عليه ابن عربي جلّ فلسفته في الحبّ، هذا الحديث هو: “كنتُ كنزًا مخفيًا فأحببتُ أن أُعرَف، فخلقتُ الخلقَ فتعرّفتُ إليهم فعرفوني”. ويذكر ابن عربي أنه حديث ثابت بالكشف[6] لا بالنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول ابن عربي:
“الحمد لله الذي جعل الهوى حَرَمًا تحجُّ إليه قلوب الأدبا، وكعبة تطوف بها ألباب الظرفا، وجعل الفِراق أمَرَّ كأسٍ تُذاق، وجعل التلاق عذبَ الجنى طيّبَ المذاق، تجلى اسمه الجميل سبحانه فألهى الألباب، فلما غرقت في بحر حبّه أغلق دونها الباب، وأمر أجناد الهوى، أن يضربوها بسيوف النوى، فلما طاشت العقول وقيّدها الثقيل، ودعاها داعي الاشتياق، وحرّكتها دواعي الأشواق، رامت الخروج إليه عشقًا، فلم تستطع، فذابت في أماكنها الضيقة ومسالكها الوعرة وجدًا وشوقًا، واشتدّ أنينها، وطال حزنها وحنينها، ولم يبقَ إلا النَفَس الخافت، والإنسان الباهت، ورثى لها العدو والشامت، فأذابها الأرق، وأتلفها القلق، وأنضجتها لواعج الحُرَق، وفتك فيها الفراق بحسامه، وجرّعها مضاضة كأس مدامه، واستولى عليها سلطان البيْن، فمحق فيها الأثر والعين، ونزلت بفنائها عساكر الأسف، وجُرّدت عليها سيوف التلف، وأيقنت بالهلاك، وعاينت مصارع الهُلّاك، وما خافت ألم الموت، وإنما خافت حسرة الفوت، فنادت يا جميل يا مِحسان، يا من قال: }هل جزاء الإحسان إلا الإحسان{، يا من تيّمني بحبه، وهيّمني بين بعده وقربه، تجليتَ فأبليت، وعُشقتَ فأرّقت، وأعرضتَ فأمرضتَ، فيا ليتك مرّضت، وأفرطت فقنّطت، وأسّست فأسّست، وأيّست فأيأست، وقربت فدنوت، وبعدت فأبعدت، وأجلست فآنست، وأسمعت فأطعمت، وكلمت فأكلمت، وخاطبت فأتعبت، وملكت فهتكت، وأملكت فأهلكت، وأتْهمت ففرحت، وأنجدت فأترحت، ونوهت فولّهت، وزينت فأفتنت، وألّهت فتيّهت، وفوّهت فتوّهت، وغلطت فنشطت، وعززت فعجّزت، وأسلبت فأغفلت، وأمسكت فنسكت، ووسعت فجمعت، وضيقت ففرقت، وأحرمت فأحلت، وأحللت فحرمت، وإذا تحققتُ لم أعشق، وإذا عشقتُ لم أُهجَر، وإذا هُجِرتُ لم أُقبَر، وإذا قُبِرتُ لم أُنشَر، وإذا نُشرتُ لم أُحشَر، وإذا حُشِرتُ لم أُعتَب، وأذا عوتبتُ لم أُزجَر، وإذا زُجرتُ لم أُطرَد، وإذا طُرِدتُ لم تُسعَّر بي النار التي فيها على الحجب أن أنظر، فلما سمع ندائي، وتقلبي في أنواع بلائي، بادر الحجَّاب، إلى رفع الحجاب، وتجلى المراد، فَنعِمَت العين والفؤاد، جعلنا الله وإياكم ممّن عشق ولحق، وصبر فظفر”[7].
فكان الحبّ أصل سبب وجود العالم، والسماع سبب كونه، وبهذا الحب وقع التنفس، وأظهر العالَمُ نَفَس الرحمن
كان الله ولا شيء، وفي الحديث “كان الله في عماء”، وهذا العماء عند ابن عربي هو “جوهر العالم”، فأحبَّ أن يُعرَف، فتحققت المحبة حقيقةً إلهية وسببًا في الظهور والتعرّف. يقول ابن عربي: “الحبّ لا يتعلّقُ إلا بمعدومٍ يصحّ وجوده”، أي حين كان الخلق في العماء، جوهر العالم، ولكن صحّ وجودهم وتحقق بالمحبة، إذ لم يكن علم الله بالعالم إلا علمه بنفسه، فلم يكن في الوجود إلا هو. يقول ابن عربي: “إنّ الحب لا يتعلق إلا بمعدومٍ يصحّ وجوده، وهو غير موجود في الحال، والعالم مُحدَث، والله كان ولا شيء معه، فكان الحبّ أصل سبب وجود العالم، والسماع سبب كونه، وبهذا الحب وقع التنفس، وأظهر العالَمُ نَفَس الرحمن، لإزالة حكم الحب، وتنفّس ما يجد المحب، وخرج ذلك النفَس عن أصل محبة في الخلق، الذي يريد أن يتعرف إليهم فيعرفوه، فكان العماء المسمى بالحق المخلوق به، فكان ذلك العماء جوهر العالم، فقبل صور العالم وأرواحه وطبائعه كلها، وهو قابل لا يتناهى، فالعماء من تنفسّه، والصور المُعبَّر عنها بالعالم من كلمة كُن، فالمحبة مقامها شريف، وهي أصل الوجود”[8].
لقد ظهر ما ظهر في الكون على صورة الله، حيث كما قلنا لم يكن علمه بالعالم إلا علمه بنفسه، فلم يكن في الوجود إلا هو: “وصورة العالم على قدر الحضرة الإلهية الأسمائية، فما في الحضرة الإلهية اسم إلهي إلا وعلى قدر أثره في نشء العالم، من غير زيادة ولا نقصان، فخلق الله العالم في غاية الإحكام والإتقان.. فأخبر أنه تعالى خلق آدم على صورته، والإنسان مجموع العالم، فطابق العالم الأسماء الإلهية، وكأنه كان باطنًا فصار بالعالم ظاهرًا، فعرف نفسه شهودًا بالظاهر بقوله: فأحببتُ أن أُعرَف”[9].
يرتبط هذا الحديث عند ابن عربي حول الحب بعقيدة التجلي عنده، وبنظريته حول أسماء صفات الذات الإلهية وتجلياتها في الوجود، فما من اسم إلهي إلا وله تجلٍّ وظهور في الموجودات، فتجلى اسم الله “الجميل”، كما يذكر ابن عربي في النص أعلاه المقتبس من “التنزلات الموصلية”، فكان سببًا للحبّ. وورد في الحديث “إن الله جميل يحب الجمال”، ولم يكن جميل في الوجود إلاه فأحب نفسه، وظهر اسمه الودود فأحب نفسه، وحكم بالاسم على الموجودات: “فإنه تعالى يحب الجمال، وما ثم جميل إلا هو، فأحبّ نفسه، ثم أحب أن يرى نفسه في غيره، فخلق العالم على صورة جماله، ونظر إليه فأحبّه حبّ من قيّده النظر، فما خلق الله العالم إلا على صورته، فالعالم كله جميل، وهو سبحانه يحبّ الجمال.. ومن هنا تعلق الأسماء الإلهية، فتسمّى تعالى بالودود، فهو تعالى ثابت المحبة من كونها ودًا، كيف لا يحب الصانع صنعته؟! ونحن مصنوعاته بلا شك، فإنه خالقنا، وخالق أرزاقنا ومصالحنا، والصنعةُ مُظهِرةٌ علمَ الصانع لها بالذات، واقتدارَه وجماله وعظمته وكبرياءه، فإن لم نكن، فعلى من؟ وفيمن؟ وبمن؟ فلا بد منا ولا بد من حبه فينا، فهو بنا ونحن به، وكما قال صلى الله عليه وسلم في ثنائه على ربه: “فإنما نحن وبه وله فالود حضرة العطف”[10].
والمحبة الإلهية للخلق عند ابن عربي هي أن يحبّ الله خلقه لهم ولنفسه، فحبّه لهم لنفسه هو في قوله “أحببتُ أن أُعرَف فخلقت الخلق فتعرفت إليهم فعرفوني”، فقد خلق الخلق ليعرفوه، ويسبّحوه ويثنوا عليه، فالعالم كله عند ابن عربي في مقام الشهود والعبادة ـ }وإن من شيء إلا يسبّح بحمده{ ـ إلا كل مخلوق له قوه التفكير “وليس إلا النفوس الناطقة الإنسانية والجانّية خاصة، من حيث أعيان أنفسهم لا من حيث هياكلهم، فإنّ هياكلهم كسائر العالم في التسبيح له والسجود، فأعضاء البدن كلها بتسبيحه ناطقة، وهذا كله من حكم حبّه إيانا لنفسه”. وأما حبّه لخلقه لهم، أي لأجلهم، فهو من تعريفه لهم إلى طريق صلاحهم وإلى الأدله والسبيل الى معرفته[11].
وحبّ الله لعباده ليس مُحدَث بل قديم أزلي، لا يتصف ببدء أو نهاية أو غاية، يقول ابن عربي: “عين محبته لعباده عين مبدأ كونهم، متقدميهم ومتأخريهم إلى ما لا نهاية له، ونسبه حب الله لهم نسبة كينونته معهم أينما كانوا، في حال عدمهم وفي حال وجودهم، فكما هو معهم في حال وجودهم، هو معهم في حال عدمهم، لأنهم معلومون له، وهو مشاهد لهم مُحبّ فيهم، لم يزل ولا يزال، لم يتجدّد عليه حكم من لم يكن عليه، بل لم يزل مُحبًا خلقه كما لم يزال عالما بهم، فقوله: “فأحببت أن أُعرف” تعريفًا لنا مما كان الأمر عليه في نفسه، كل ذلك كمالًا يليق بجلاله، لا يُعقل تعالى إلا فاعلًا خالقًا، وكل عين فكانت معدومة لعينها معلومة له محبوبًا له إيجادها، فكما أنه لا أول لوجوده سبحانه، فلا أول لمحبته عباده سبحانه، وذكر المحبة يحدث عند المحبوب عند التعريف الإلهي لا نفس المحبة، ومن وجه آخر إذا قلنا: إنّ للحب الإلهي بدءًا، فبدؤه النفس الإلهيّ عن رؤية المحبوب، فصِف الحب بما شئتَ من حادث وغيره، ليس الحب سوى عين المحب، فما في الوجود إلا محب ومحبوب“[12].
ما لا يُعوَّل عليه في الحب
أخيرًا، فإن أفضل ما تُختتم به تلك المقدمة حول الحبّ عند ابن عربي هو مقولات في الحب وردت في رسالته “ما لا يُعوّل عليه” والتي أدرج فيها الكثير من الحِكَم المختزلة والمنطوية على عمق ودراية شاملة للحياة والطريق الصوفية، وسنحاول تقديم شرح مختصر لتلك المقولات في الحب، كونها توجز ما سبق وتجمع تشعّبات فلسفة ابن عربي في الحبّ وتبسّطها[13]:ibn-2
- كل محبة لا يُؤْثِر صاحبها إرادة محبوبه على إرادته فلا يُعوَّل عليها: فالمحب مَن وافقت إرادته إرادة المحبوب، ولا تحقق للحب إلا بذلك، وعلامة الحب الطاعة والاتباع، وغير ذلك فليس بحبّ: }قلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ{.
- كل محبة لا يلتذ صاحبها بموافقة محبوبه فيما يكرهه في نفسه طبعًا لا يعوَّل عليها: فالأصل أن يُفني الحبُّ المحبَ عن نفسه، وأن توافق إرادته إرادة محبوبه، وإن كانت إرادة محبوبه فيما يكره المُحبّ.
- كل حبّ لا ينتج إحسان المحبوب في قلب المحبّ لا يُعوَّل عليه: فالإحسان سبب للحبّ، إن انعدم زال حكم الحب، فإن لم يشهد المحب إحسانًا من المحبوب في قلبه، فلا محبَّ ولا حبّ.
- كل حب يُعرف سببه فيكون من الأسباب التي تنقطع لا يُعوَّل عليه: فأسباب الحب جمال وإحسان، والجمال إما مطلق وإما عرضيّ، والحب الذي يتعلق بأسباب تنقطع، أي بأسباب فانية لا تحمل صفة الدوام والاستمرار، مثل الجمال العرضيّ والأسباب المادية، ليس بحبّ.
- كل حبّ يكون معه طلب لا يُعوَّل عليه: فالأصل في الحبّ التجرد عن الطلب والأسباب، والموافقة التامّة لإرادة المحبوب، والطلب من الأسباب التي تنقطع وتنتهي بتحقيق الطلب، وذلك ليس بحبّ.
- كل حبّ لا يتعلق بنفسه وهو المسمى حبّ الحبّ لا يُعوَّل عليه: فالأصل حبّ الحبّ، وحبُّ بلا حبٍّ للحب ينفي عن صاحبه ذوقَ الحبّ والشرب من بحره، فمن شرب شراب الحب أحبَّ الحب، وطلب المزيد منه، وذلك هو التعلق بالمحبوب المرتبط بالضرورة بالتعلق بالحب وحب الحب لذاته.
- كل حب لا يفنيك عنك ولا يتغير بتغير التجلي لا يُعوَّل عليه: فقلب المحبّ ككأس الشراب الشفاف يتلوّن بحال المحبوب ولونه وتجليه عليه، وذاك فناء المحبّ عن نفسه، فالحبّ الذي لا يتغير بتغير تجلي المحبوب هو حال القلب الذي وقف عند تجلي واحد وبقي عليه، ولم يتلوّن بتجليات المحبوب المتغيرة، فهذا أسير التجلي، أو الصورة الواحدة، وليس بمُحبٍّ.
- كل حبّ تبقى في صاحبه فضلة طبيعية لا يعوَّل عليه: والفضلة هي البقية من الشيء، والأصل في الحب فناء المحب عن نفسه في محبوبه، فلا شيء منه ولا بقية من طلب أو هدف أو رغبة.
- كل شهوة غير شهوة الحب لا يُعوَّل عليها: فشهوة الحب لا تنقطع كما لا تنطفئ لوعته ولا يسكن شوقه، والمحبّ في طلب دائم لمحبوبه، وتوافق تلك المقولة وتتمّمها مقولة أخرى لابن عربي هي “كل شوق يَسكُن باللقاء لا يُعوَّل عليه“.
- المحبة إذا لم تكن جامعة لا يعوَّل عليها: بمعنى أن يجمع المحب صفات المحبين من فناء عن أنفسهم وعدم تعلق حبهم بطلب من المحبوب، وتعلق حبهم بحبّ الحب، والمحبة الجامعة هنا تشير أيضًا إلى حبّ العالَم بما فيه من خلق وموجودات، كون العالم جميل خلقه الله على أحسن وأكمل صورة، والله جميل يحبّ الجمال، وتلك هي جمعية الحب، والله أعلم.
.
الهوامش
[1] ابن منظور، لسان العرب، القاهرة: دار المعارف، د.ت.، ص ص 742 – 743.
[2] محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكية، تقديم: نواف جراح، المجلد الثالث، الباب الثامن والسبعون ومائة (في معرفة مقام المحبة)، بيروت، دار صادر، 2004، ص ص 371 – 385.
[3] السابق نفسه.
[4] محمود محمود الغراب، الحب والمحبة الإلهية: من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي، دمشق، مطبعة نضر، ط2، 1992، ص ص 33 – 34.
[5] أنظر/ي: التصوف مقام الإحسان من الإسلام، موقع التصوف الإسلامي، على الرابط التالي:
http://www.islamic-sufism.com/article.php?id=1344
[6] الكشف والمكاشفة من المصطلحات الصوفية التي تعني “شهود الأعيان، وما فيها من الأحوال في عين الحق، فهو التحقيق الصحيح بمطالعة تجليات الأسماء الإلهية”، أنظر/ي: معجم اصطلاحات الصوفية، تصنيف عبد الرزاق القاشاني، تحقيق وتقديم وتعليق: عبد العال شاهين، القاهرة، دار المنار، 1992، ص 346.
[7] من كتاب التنزلات الموصلية، أنظر/ي: محمود الغراب، مرجع سابق، ص ص 8 – 9.
[8] محمود الغراب، مرجع سابق، ص ص 12 – 13.
[9] السابق نفسه.
[10] السابق، ص ص 13- 14.
[11] ابن عربي، مرجع سابق، ص 380.
[12] محمود الغراب، مرجع سابق، ص 17.
[13] لم نعثر على كتاب محقق لرسالة “ما لا يُعوَّل عليه ” لابن عربي، رغم أن الرسالة من المعروف ومن المحقق أنها منسوبة للشيخ الأكبر، غير أنا عثرنا على الرسالة كمخطوطة على موقع مكتبة جامعة أم القرى على الرابط التالي:
.
الحُبُّ لغةً “نَقِيضُ البُغْضِ. والحُبُّ الودادُ والـمَحَبَّةُ، وكذلك الحِبُّ بالكسر.. وأَحَبَّهُ فهو مُحِبٌّ، وهو مَحْبُوبٌ.. والـمَحَبَّةُ أَيضًا: اسم للحُبِّ”[1].
ماهيّة الحب
كما في معظم المفاهيم والمصطلحات التي يخوضها في فلسفته، يستند ابن عربي في تعريف الحب وأصله وسببه على ما ورد في القرآن والحديث الشريف. فمن المعروف أنّ منهج ابن عربي يقوم على تأويل عميق ذي بعد باطنيّ لآيات القرآن والسنة النبوية وما تحتويه من أحاديث، وبذلك فإنّ الحب عند ابن عربي مقامٌ إلهيّ، وهو كذلك في أدبيات المتصوّفين. فقد نسب الله الحبّ إلى نفسه، فمن أسمائه الوَدود، وهو المحبّ كما يرد في آيات كثيرة في القرآن: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. وترد آيات يُذكر فيها حب الله لعباده من المتطهرين، والتوابين، والمتوكلين، والصابرين، وغيرهم ممن تحققوا بسمات حسنة. وفي الحديث القدسيّ “ما تقرّب المتقربون بأحب إليّ من أداء ما افترضته عليهم، ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإن أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به”. ويرد في الحديث القدسيّ أيضًا “وجبت محبتي للمتحابين فيّ”. في المقابل نفى الله عن نفسه حبَّ قوم اتسموا بصفات لا يحبها، فالأصل أنه لا يحب ما تحققوا به وأحبّ زوال تلك الصفات، فالله }لا يحبّ الظالمين{ و}لا يحبّ المعتدين{ و}لا يحبّ كلّ مختال فخور{ و}لا يحبّ المسرفين{. لذا، فإنّ أصل المحبة عند ابن عربي هو المحبة الإلهية، وكلّ مظاهر الحب المنسوبة إلى الإنسان هي من أصل تلك المحبة الإلهية، يقول ابن عربي:
الحب يُنسب للإنسان والله = بنسبة ليس يدري علمنا ما هي
الحب ذوقٌ ولا تُدرى حقيقته = أليس ذا عجب والله والله
لوازم الحب تكسوني هويتها = ثوب النقيضيْن مثل الحاضر الساهي
بالحب صح وجوب الحق حيث يُرَى = فينا وفيه ولسنا عين أشباه
أستغفر الله ممّا قلت فيه وقد = أقول من جهة الشكر لله[2]
وبذلك فإنّ الحب عند ابن عربي -وإن كان معقول المعنى- فإنه لا تُدرك حقيقته، كونه حقيقة إلهية، فهو من المعلومات التي ليس بالإمكان حدّها والإحاطة بها، يدركها من قامت به صفة المحبّة بالذوق. ولمقام المحبة عند ابن عربي أربعة ألقاب، أولها الحبّ، وهو خلوصه إلى القلب وصفاؤه عن كدرات العوارض فلا غرض له ولا إرادة مع محبوبه، واللقب الثاني الودّ، وله اسم إلهي وهو الودود، والثالث العشق، وهو إفراط المحبّة، ويذكر ابن عربي أنّ اسم العشق لا يطلق على الله كما هو الحال في الودّ والودود، وإن كان الله قد وصف نفسه في الخبر بشدّة الحب، والعشق التفاف الحب على المحب حتى خالط جميع أجزائه، واللقب الرابع الهوى، وهو استفراغ الإرادة في المحبوب والتعلق به في أول ما يحصل في القلب وليس لله منه اسم[3].
وللحبّ عند ابن عربي سببان، هما الجمال والإحسان؛ فأمّا الجمال فهو من حكم اسم الله “الجميل” الذي وصف به نفسه، والذي تجلّى في خلقه العالمَ على صورته، فكان العالم جميلًا على صورة الله. فالجمال محبوبٌ لذاته. ويتعمّق ابن عربي في فلسفته للجمال كسبب للحبّ، موصِلًا إياه بحضرة الخيال، أي عالم المِثال، وبالتجليات الإلهية في الكون وعالم الصور، ما لا ليس بالإمكان الخوض فيه في هذا المدخل حول الحبّ. وأما الإحسان فهو حبّ العباد لإحسان الله، يقول ابن عربي: “وما ثمَّ إحسان إلا من الله، ولا محسن إلا الله، فإن أحببت الإحسان فما أحببت إلا الله، فإنه المحسن، وإن أحببت الجمال فما أحببت إلا الله تعالى فإنه الجميل..”[4]. ويرى العديد من الصوفيين أنّ التصوف هو تحقيق مقام الإحسان، الذي جاء في الحديث الشريف أنه، أي الإحسان، “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن يراه فإنه يراك”. فالإحسان هو المقام الذي يلي الإيمان الغيبي الاعتقادي، ليصبح الإيمان عند مستوى الإحسان إيمانَ شهودٍ وتحقيق “كأنك تراه”[5].
الحب سبب الوجود- سريان الحب في الوجود
ينسب ابن عربي للحقيقة الإلهية المسمّاة بالحب سبب وجود العالم وإظهاره، وهو ما يأتي صريحًا في نص ورد في كتابه “التنزلات الموصلية”، وهو نصّ يبدو استفاضة وتفسيرًا في حديث قدسيّ يتداوله الصوفيون في أدبياتهم ويؤسس عليه ابن عربي جلّ فلسفته في الحبّ، هذا الحديث هو: “كنتُ كنزًا مخفيًا فأحببتُ أن أُعرَف، فخلقتُ الخلقَ فتعرّفتُ إليهم فعرفوني”. ويذكر ابن عربي أنه حديث ثابت بالكشف[6] لا بالنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول ابن عربي:
“الحمد لله الذي جعل الهوى حَرَمًا تحجُّ إليه قلوب الأدبا، وكعبة تطوف بها ألباب الظرفا، وجعل الفِراق أمَرَّ كأسٍ تُذاق، وجعل التلاق عذبَ الجنى طيّبَ المذاق، تجلى اسمه الجميل سبحانه فألهى الألباب، فلما غرقت في بحر حبّه أغلق دونها الباب، وأمر أجناد الهوى، أن يضربوها بسيوف النوى، فلما طاشت العقول وقيّدها الثقيل، ودعاها داعي الاشتياق، وحرّكتها دواعي الأشواق، رامت الخروج إليه عشقًا، فلم تستطع، فذابت في أماكنها الضيقة ومسالكها الوعرة وجدًا وشوقًا، واشتدّ أنينها، وطال حزنها وحنينها، ولم يبقَ إلا النَفَس الخافت، والإنسان الباهت، ورثى لها العدو والشامت، فأذابها الأرق، وأتلفها القلق، وأنضجتها لواعج الحُرَق، وفتك فيها الفراق بحسامه، وجرّعها مضاضة كأس مدامه، واستولى عليها سلطان البيْن، فمحق فيها الأثر والعين، ونزلت بفنائها عساكر الأسف، وجُرّدت عليها سيوف التلف، وأيقنت بالهلاك، وعاينت مصارع الهُلّاك، وما خافت ألم الموت، وإنما خافت حسرة الفوت، فنادت يا جميل يا مِحسان، يا من قال: }هل جزاء الإحسان إلا الإحسان{، يا من تيّمني بحبه، وهيّمني بين بعده وقربه، تجليتَ فأبليت، وعُشقتَ فأرّقت، وأعرضتَ فأمرضتَ، فيا ليتك مرّضت، وأفرطت فقنّطت، وأسّست فأسّست، وأيّست فأيأست، وقربت فدنوت، وبعدت فأبعدت، وأجلست فآنست، وأسمعت فأطعمت، وكلمت فأكلمت، وخاطبت فأتعبت، وملكت فهتكت، وأملكت فأهلكت، وأتْهمت ففرحت، وأنجدت فأترحت، ونوهت فولّهت، وزينت فأفتنت، وألّهت فتيّهت، وفوّهت فتوّهت، وغلطت فنشطت، وعززت فعجّزت، وأسلبت فأغفلت، وأمسكت فنسكت، ووسعت فجمعت، وضيقت ففرقت، وأحرمت فأحلت، وأحللت فحرمت، وإذا تحققتُ لم أعشق، وإذا عشقتُ لم أُهجَر، وإذا هُجِرتُ لم أُقبَر، وإذا قُبِرتُ لم أُنشَر، وإذا نُشرتُ لم أُحشَر، وإذا حُشِرتُ لم أُعتَب، وأذا عوتبتُ لم أُزجَر، وإذا زُجرتُ لم أُطرَد، وإذا طُرِدتُ لم تُسعَّر بي النار التي فيها على الحجب أن أنظر، فلما سمع ندائي، وتقلبي في أنواع بلائي، بادر الحجَّاب، إلى رفع الحجاب، وتجلى المراد، فَنعِمَت العين والفؤاد، جعلنا الله وإياكم ممّن عشق ولحق، وصبر فظفر”[7].
فكان الحبّ أصل سبب وجود العالم، والسماع سبب كونه، وبهذا الحب وقع التنفس، وأظهر العالَمُ نَفَس الرحمن
كان الله ولا شيء، وفي الحديث “كان الله في عماء”، وهذا العماء عند ابن عربي هو “جوهر العالم”، فأحبَّ أن يُعرَف، فتحققت المحبة حقيقةً إلهية وسببًا في الظهور والتعرّف. يقول ابن عربي: “الحبّ لا يتعلّقُ إلا بمعدومٍ يصحّ وجوده”، أي حين كان الخلق في العماء، جوهر العالم، ولكن صحّ وجودهم وتحقق بالمحبة، إذ لم يكن علم الله بالعالم إلا علمه بنفسه، فلم يكن في الوجود إلا هو. يقول ابن عربي: “إنّ الحب لا يتعلق إلا بمعدومٍ يصحّ وجوده، وهو غير موجود في الحال، والعالم مُحدَث، والله كان ولا شيء معه، فكان الحبّ أصل سبب وجود العالم، والسماع سبب كونه، وبهذا الحب وقع التنفس، وأظهر العالَمُ نَفَس الرحمن، لإزالة حكم الحب، وتنفّس ما يجد المحب، وخرج ذلك النفَس عن أصل محبة في الخلق، الذي يريد أن يتعرف إليهم فيعرفوه، فكان العماء المسمى بالحق المخلوق به، فكان ذلك العماء جوهر العالم، فقبل صور العالم وأرواحه وطبائعه كلها، وهو قابل لا يتناهى، فالعماء من تنفسّه، والصور المُعبَّر عنها بالعالم من كلمة كُن، فالمحبة مقامها شريف، وهي أصل الوجود”[8].
لقد ظهر ما ظهر في الكون على صورة الله، حيث كما قلنا لم يكن علمه بالعالم إلا علمه بنفسه، فلم يكن في الوجود إلا هو: “وصورة العالم على قدر الحضرة الإلهية الأسمائية، فما في الحضرة الإلهية اسم إلهي إلا وعلى قدر أثره في نشء العالم، من غير زيادة ولا نقصان، فخلق الله العالم في غاية الإحكام والإتقان.. فأخبر أنه تعالى خلق آدم على صورته، والإنسان مجموع العالم، فطابق العالم الأسماء الإلهية، وكأنه كان باطنًا فصار بالعالم ظاهرًا، فعرف نفسه شهودًا بالظاهر بقوله: فأحببتُ أن أُعرَف”[9].
يرتبط هذا الحديث عند ابن عربي حول الحب بعقيدة التجلي عنده، وبنظريته حول أسماء صفات الذات الإلهية وتجلياتها في الوجود، فما من اسم إلهي إلا وله تجلٍّ وظهور في الموجودات، فتجلى اسم الله “الجميل”، كما يذكر ابن عربي في النص أعلاه المقتبس من “التنزلات الموصلية”، فكان سببًا للحبّ. وورد في الحديث “إن الله جميل يحب الجمال”، ولم يكن جميل في الوجود إلاه فأحب نفسه، وظهر اسمه الودود فأحب نفسه، وحكم بالاسم على الموجودات: “فإنه تعالى يحب الجمال، وما ثم جميل إلا هو، فأحبّ نفسه، ثم أحب أن يرى نفسه في غيره، فخلق العالم على صورة جماله، ونظر إليه فأحبّه حبّ من قيّده النظر، فما خلق الله العالم إلا على صورته، فالعالم كله جميل، وهو سبحانه يحبّ الجمال.. ومن هنا تعلق الأسماء الإلهية، فتسمّى تعالى بالودود، فهو تعالى ثابت المحبة من كونها ودًا، كيف لا يحب الصانع صنعته؟! ونحن مصنوعاته بلا شك، فإنه خالقنا، وخالق أرزاقنا ومصالحنا، والصنعةُ مُظهِرةٌ علمَ الصانع لها بالذات، واقتدارَه وجماله وعظمته وكبرياءه، فإن لم نكن، فعلى من؟ وفيمن؟ وبمن؟ فلا بد منا ولا بد من حبه فينا، فهو بنا ونحن به، وكما قال صلى الله عليه وسلم في ثنائه على ربه: “فإنما نحن وبه وله فالود حضرة العطف”[10].
والمحبة الإلهية للخلق عند ابن عربي هي أن يحبّ الله خلقه لهم ولنفسه، فحبّه لهم لنفسه هو في قوله “أحببتُ أن أُعرَف فخلقت الخلق فتعرفت إليهم فعرفوني”، فقد خلق الخلق ليعرفوه، ويسبّحوه ويثنوا عليه، فالعالم كله عند ابن عربي في مقام الشهود والعبادة ـ }وإن من شيء إلا يسبّح بحمده{ ـ إلا كل مخلوق له قوه التفكير “وليس إلا النفوس الناطقة الإنسانية والجانّية خاصة، من حيث أعيان أنفسهم لا من حيث هياكلهم، فإنّ هياكلهم كسائر العالم في التسبيح له والسجود، فأعضاء البدن كلها بتسبيحه ناطقة، وهذا كله من حكم حبّه إيانا لنفسه”. وأما حبّه لخلقه لهم، أي لأجلهم، فهو من تعريفه لهم إلى طريق صلاحهم وإلى الأدله والسبيل الى معرفته[11].
وحبّ الله لعباده ليس مُحدَث بل قديم أزلي، لا يتصف ببدء أو نهاية أو غاية، يقول ابن عربي: “عين محبته لعباده عين مبدأ كونهم، متقدميهم ومتأخريهم إلى ما لا نهاية له، ونسبه حب الله لهم نسبة كينونته معهم أينما كانوا، في حال عدمهم وفي حال وجودهم، فكما هو معهم في حال وجودهم، هو معهم في حال عدمهم، لأنهم معلومون له، وهو مشاهد لهم مُحبّ فيهم، لم يزل ولا يزال، لم يتجدّد عليه حكم من لم يكن عليه، بل لم يزل مُحبًا خلقه كما لم يزال عالما بهم، فقوله: “فأحببت أن أُعرف” تعريفًا لنا مما كان الأمر عليه في نفسه، كل ذلك كمالًا يليق بجلاله، لا يُعقل تعالى إلا فاعلًا خالقًا، وكل عين فكانت معدومة لعينها معلومة له محبوبًا له إيجادها، فكما أنه لا أول لوجوده سبحانه، فلا أول لمحبته عباده سبحانه، وذكر المحبة يحدث عند المحبوب عند التعريف الإلهي لا نفس المحبة، ومن وجه آخر إذا قلنا: إنّ للحب الإلهي بدءًا، فبدؤه النفس الإلهيّ عن رؤية المحبوب، فصِف الحب بما شئتَ من حادث وغيره، ليس الحب سوى عين المحب، فما في الوجود إلا محب ومحبوب“[12].
ما لا يُعوَّل عليه في الحب
أخيرًا، فإن أفضل ما تُختتم به تلك المقدمة حول الحبّ عند ابن عربي هو مقولات في الحب وردت في رسالته “ما لا يُعوّل عليه” والتي أدرج فيها الكثير من الحِكَم المختزلة والمنطوية على عمق ودراية شاملة للحياة والطريق الصوفية، وسنحاول تقديم شرح مختصر لتلك المقولات في الحب، كونها توجز ما سبق وتجمع تشعّبات فلسفة ابن عربي في الحبّ وتبسّطها[13]:ibn-2
- كل محبة لا يُؤْثِر صاحبها إرادة محبوبه على إرادته فلا يُعوَّل عليها: فالمحب مَن وافقت إرادته إرادة المحبوب، ولا تحقق للحب إلا بذلك، وعلامة الحب الطاعة والاتباع، وغير ذلك فليس بحبّ: }قلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ{.
- كل محبة لا يلتذ صاحبها بموافقة محبوبه فيما يكرهه في نفسه طبعًا لا يعوَّل عليها: فالأصل أن يُفني الحبُّ المحبَ عن نفسه، وأن توافق إرادته إرادة محبوبه، وإن كانت إرادة محبوبه فيما يكره المُحبّ.
- كل حبّ لا ينتج إحسان المحبوب في قلب المحبّ لا يُعوَّل عليه: فالإحسان سبب للحبّ، إن انعدم زال حكم الحب، فإن لم يشهد المحب إحسانًا من المحبوب في قلبه، فلا محبَّ ولا حبّ.
- كل حب يُعرف سببه فيكون من الأسباب التي تنقطع لا يُعوَّل عليه: فأسباب الحب جمال وإحسان، والجمال إما مطلق وإما عرضيّ، والحب الذي يتعلق بأسباب تنقطع، أي بأسباب فانية لا تحمل صفة الدوام والاستمرار، مثل الجمال العرضيّ والأسباب المادية، ليس بحبّ.
- كل حبّ يكون معه طلب لا يُعوَّل عليه: فالأصل في الحبّ التجرد عن الطلب والأسباب، والموافقة التامّة لإرادة المحبوب، والطلب من الأسباب التي تنقطع وتنتهي بتحقيق الطلب، وذلك ليس بحبّ.
- كل حبّ لا يتعلق بنفسه وهو المسمى حبّ الحبّ لا يُعوَّل عليه: فالأصل حبّ الحبّ، وحبُّ بلا حبٍّ للحب ينفي عن صاحبه ذوقَ الحبّ والشرب من بحره، فمن شرب شراب الحب أحبَّ الحب، وطلب المزيد منه، وذلك هو التعلق بالمحبوب المرتبط بالضرورة بالتعلق بالحب وحب الحب لذاته.
- كل حب لا يفنيك عنك ولا يتغير بتغير التجلي لا يُعوَّل عليه: فقلب المحبّ ككأس الشراب الشفاف يتلوّن بحال المحبوب ولونه وتجليه عليه، وذاك فناء المحبّ عن نفسه، فالحبّ الذي لا يتغير بتغير تجلي المحبوب هو حال القلب الذي وقف عند تجلي واحد وبقي عليه، ولم يتلوّن بتجليات المحبوب المتغيرة، فهذا أسير التجلي، أو الصورة الواحدة، وليس بمُحبٍّ.
- كل حبّ تبقى في صاحبه فضلة طبيعية لا يعوَّل عليه: والفضلة هي البقية من الشيء، والأصل في الحب فناء المحب عن نفسه في محبوبه، فلا شيء منه ولا بقية من طلب أو هدف أو رغبة.
- كل شهوة غير شهوة الحب لا يُعوَّل عليها: فشهوة الحب لا تنقطع كما لا تنطفئ لوعته ولا يسكن شوقه، والمحبّ في طلب دائم لمحبوبه، وتوافق تلك المقولة وتتمّمها مقولة أخرى لابن عربي هي “كل شوق يَسكُن باللقاء لا يُعوَّل عليه“.
- المحبة إذا لم تكن جامعة لا يعوَّل عليها: بمعنى أن يجمع المحب صفات المحبين من فناء عن أنفسهم وعدم تعلق حبهم بطلب من المحبوب، وتعلق حبهم بحبّ الحب، والمحبة الجامعة هنا تشير أيضًا إلى حبّ العالَم بما فيه من خلق وموجودات، كون العالم جميل خلقه الله على أحسن وأكمل صورة، والله جميل يحبّ الجمال، وتلك هي جمعية الحب، والله أعلم.
.
الهوامش
[1] ابن منظور، لسان العرب، القاهرة: دار المعارف، د.ت.، ص ص 742 – 743.
[2] محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكية، تقديم: نواف جراح، المجلد الثالث، الباب الثامن والسبعون ومائة (في معرفة مقام المحبة)، بيروت، دار صادر، 2004، ص ص 371 – 385.
[3] السابق نفسه.
[4] محمود محمود الغراب، الحب والمحبة الإلهية: من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي، دمشق، مطبعة نضر، ط2، 1992، ص ص 33 – 34.
[5] أنظر/ي: التصوف مقام الإحسان من الإسلام، موقع التصوف الإسلامي، على الرابط التالي:
http://www.islamic-sufism.com/article.php?id=1344
[6] الكشف والمكاشفة من المصطلحات الصوفية التي تعني “شهود الأعيان، وما فيها من الأحوال في عين الحق، فهو التحقيق الصحيح بمطالعة تجليات الأسماء الإلهية”، أنظر/ي: معجم اصطلاحات الصوفية، تصنيف عبد الرزاق القاشاني، تحقيق وتقديم وتعليق: عبد العال شاهين، القاهرة، دار المنار، 1992، ص 346.
[7] من كتاب التنزلات الموصلية، أنظر/ي: محمود الغراب، مرجع سابق، ص ص 8 – 9.
[8] محمود الغراب، مرجع سابق، ص ص 12 – 13.
[9] السابق نفسه.
[10] السابق، ص ص 13- 14.
[11] ابن عربي، مرجع سابق، ص 380.
[12] محمود الغراب، مرجع سابق، ص 17.
[13] لم نعثر على كتاب محقق لرسالة “ما لا يُعوَّل عليه ” لابن عربي، رغم أن الرسالة من المعروف ومن المحقق أنها منسوبة للشيخ الأكبر، غير أنا عثرنا على الرسالة كمخطوطة على موقع مكتبة جامعة أم القرى على الرابط التالي:
.
صورة مفقودة