نقوس المهدي
كاتب
هذا المقال ليس أكثر من إشارة تخطّفناها، من قراءتنا في تراث العرب الشعري. وهو تراث عظيم، لم نعرف بعد كيف نعيد تأصيله وقراءته.
وهي إشارة تخصّ هؤلاء الشعراء «الأغفال» الذين أغفلناهم؛ وظلّوا في ثنايا التاريخ نسيا منسيّا؛ ومنهم هذا الشاعر الحبشي الأصل سُحَيْم عبد بني الحسحاس، وشعره أو ما بقي منه، يرقى إلى مرتبة نصوص الفحول من شعراء العربيّة، أي النصوص القويّة التي نستطيع أن نعود إليها، من دون أن نبرأ من سحرها وفتنتها. وهي فضلا عن ذلك تجعلنا نقترح لمثل هذا الشعر الذي عاش أصحابه زمنين اثنين معا: الجاهلي والإسلامي، مصطلح «النصّ المخضرم». أمّا الموضوع الأثير في شعر هذا الحبشي فهو صورة الجسد «العاري». وهي صورة مشدودة إلى صورة الجسد المضخّم أو المثال، في ثقافة العرب. وبما أنّ الاثنين جزء من جسد أو جسم آخر يضمّهما معا مثلما يضمّ غيرهما من الأجزاء، هو النّصّ سواء أكان نثرا أم شعرا، فإنّ تحوّلات الصّورة لا يمكن أن تُكتنه الاّ في سياق التّجربة الفنيّة الكليّة لهذا النّصّ: نصّ الحبّ أو العشق وهو يسلسل جاهليّا إلى إسلاميّ؛ حتّى أنّنا لا نستشعر أيّ حرج في أن نسمه بـ»النّصّ المخضرم» كما أسلفت؛ أو النّصّ الذي يطلّ برأسين وينظر في زمنين اثنين.
سُحَيم شاعر لم يركب في شعره سبيل الالتواء، ولم يتقيّد بأيّ نسـق دينيّ أو اجتماعيّ، بل لم يـجعل مـن مشاغله إقامة مثل هذا النّسق، كما كان يفعل أكثر شعراء عصره في صدر الإسلام، من المنشدّين إلى السّلطة السّياسيّة وأنساقها (الفرزدق ـ جرير ـ الأخطل ـ ذو الرّمّة…). إنّما اتّجه سحيم ـ وهو العبد ـ إلى مخاطبة الجسد العاري من ثوب الثّقافة، ومن المسبقات اللاهوتيّة والمعتقدات الدينيّة، التي ترسّخت بفعل ذاكرة تقيس اليوم بالبارحة، فكان العري أشبه بعودة إلى الطّبيعة، وتوكيدا لقيمة الجسد الحسّية المباشرة. وليس يهمّ كثيرا إن كان سحيم صادرا في ذلك عن محاولة لإثبات الذّات في مجتمع يميّز بين العبد وغيره، بل لعلّ هذه المحاولة هي التي تجعل من القصص المنسوبة إلى سحيم ومن شعره أيضا، «مغامرة ذات» لا سند لها إلاّ نصّها، مغامرة قلّما نقف عليها في شعر الشّعراء الذين ذهبوا مذهبه، وأبرزهم عمر بن أبي ربيعة الذي نسك في آخر حياته. فقد انتهى هؤلاء، أي عمر وأمثاله إلى احتضان الثّدي الذي منحهم مع الحياة حرّية مؤجلة، بعبارة معاصرة، في حين سار سحيم حتّى النّهاية سيرة الابن الضالّ، فذهبت نفسه ثمنا «لضلاله» واجترائه.
يروي صاحب «الشّعر والشّعراء» عن سحيم عبد بني الحسحاس، أنّ عبد الله بن ربيعة المخزومي والد الشاعر المعروف عمر بن أبي ربيعة اشتراه وكتب إلى الخليفة عثمان بن عفّان «انّي قد اشتريت لك غلاما حبشياّ شاعرا فكتب إليه: «لا حاجة لنا فيه، انّما حظّ أهل العبد الشّاعر منه إذا شبع أن يشبّب بنسائهم، وإذا جاع أن يهجوهم». ويروي صاحب «الأغاني» أنّ الخليفة عمر بن الخطاب سمع سحيما ينشد:
ولقد تحدّر من كريمة بعضهمْ / عرَق على جنْب الفراش وطيبُ
فقال:» ويحك إنّك مقتول!» فسقوه الخمر، ثم عرضوا عليه نسوة، فلما مرّت به التي كان يُتّهم بها، أهوى إليها [ببصره]، فقتلوه.
يجالس سُحيم نسوة من بني صبير كان من شأنهن إذا جلسن للتـّغزّل أن يتعابثن بشقّ الثيّاب وشدّة المغالبة على إبداء المحاسن والمفاتن، فلا يستشعر أيّ خجل في أن يشاركهنّ لعبة التّـعرّي. فلعلّ في التعرّي عودة إلى مرحلة لم يستلبها المجتمع ولا الثقافة، مرحلة من الجنسيّة الطفليّة يجهل فيها الطّفل كلّ حياء، أو هو يبدي لذّة لا التباس فيها في كشف جسده؛ كما يقول علماء النفس. يقول سحيم في هذه القصص المنسوجة حول سيرته:
كأنّ الصبيرياّت يوم لقيننا / ظباءٌ حنت أعناقهنّ المكانــــــــسُ
فكم قد شققنا من رداء مزنّر / ومن برقع عن ناظر غير نــاعسِ
إذا شقّ برد نيط بالبرد برقعٌ / على ذاك حتى كلنا غير لابـــسِ
(الصّبيريّات نسبة إلى قبيلة. و»مكانس ج. مكنس: جحر الظّباء والوحش)
إنّ الثّقافة بالمعنى الأنثُروبولوجي العميق، تستولي على الجسد وتستلبه بطرق ووسائل شتّى، لتجعل منه لغتها الخاصّة ولغة المجتمع الذي تنضوي إليه على نحو ما ينضوي إليها، لذلك فإنّ النّسوة اللاتي يصورهنّ سحيم وهنّ يتعابثن بشقّ الثيّاب ويتغالبن على إبداء محاسن الجسد ومفاتنه، لا يمزّقن مجرّد نسيج من الصّوف أو الجلد؛ على قدر ما يمزّقن أقنعة الثّقافة والضّوابط الاجتماعيّة التي تحول دون تحرّر الجسد وانطلاقه.
ولعلّ سحيما هو أوّل شاعر عربي أشار إلى ما يمكن تسميته باحتفاليّة «التعرّي الجماعي»؛ حيث تعـبـّر الأجساد بلغة خرساء لغة العري والحركة عن طبائعها ورغائبها والعلائق المتبادلة بينها. وقد تبدو هذه الإشارة معزولة في سياق قصص الحبّ أو الغزليّة العربيّة، إلاّ أنّها ليست كذلك في الحقيقة، فلها جذور في أساطير العرب ومعتقداتهم وطقوسهم الدينيّة. فقد كان من عادة العرب قبل الإسلام أن يطوفوا بالبيت (الكعبة) عراة تحمّسا في الدّين.
وقد قصر البعض هذا الطّقس على الرّجال دون النّساء، فالرّجل يطوف عاريا بينما المرأة تضع ثيابها كلّها الاّ درعا مفرّجا (مشقوقا من قداّم أو من خلف) تطوف فيه، بحيث يعبّر الثّوب عن رمزيّة اجتماعيّة عميقة الغور، فيستر ما يجب أن يستر من أعضاء الجسد ويكشف ما يجب أن يكشف منها. ولكنّ الجاحظ يشير في رسائله إلى أنّ المرأة كانت تستطيع أن تمارس هذا الطّقس الدّيني عارية. وقد عزّز ذلك بشواهد من أخبار العرب في الجاهليّة والإسلام. لكن إذا كان العري في المجتمع العربي قبل الإسلام، سلوكا يجسّم الانتقال من الحلّ إلى الحرم، أو من الدّنيوي إلى القدسي، فإنّ طرافة سحيم تكمن في نفي هذه الثنّائية بنقل القدسيّ إلى سياق الدّنيوي. ولا يقف تدنيس المحرّم في القصص المنسوبة إلى سحيم، وهي ليست سوى نصوص تفسّر شعره، عند حدود هذه الصّورة العارية، وإنّما يتخطّاها ليشمل ما أقرّه المجتمع واصطلح عليه، العرف. فسحيم مثله مثل عدد من شعراء عصره الذين ظلّوا منشدّين إلى الإرث الجاهليّ معرضين عن الدّيانة الجديدة، لا يحبس في نفسه مشاعر ولا يكظم أهواء. فإذا كانت المرأة تتجلّى في تجربة غيره جسدا مستسلما أو راغبا على تمنّـعه، فإنّها عند سحيم جسد فاعل، يستشعر العاشق لذّة في أن يكون موضوعا لرغبته، فإذا هي التي توسّد وتثني، وتحوي…
والقصيدة كلّها وحدة فنيّة وصفيّة كاملة تنطوي على مقوّمات القصّ الجاهلي، وتتكشّف عن ملامح قصّة متعدّدة المشاهد أكثر مماّ هي متعدّدة المواضيع، تتظافر فيها ثلاثة أساليب سرديّة هي: الوقفة والثـّغرة والمشهد. وهي أساليب مطّردة في أكثر هذا القصص، تتّصل ببنية النّص الظّاهرة، ويمكن النّفاذ منها إلى بنيته المضمرة ومعاينة صورة الجسد المخفي ومن ثم الاستحواذ على بعض دلالاتها. إنّ الوصف هو محور الصّورة السّردية القائمة على «الوقفة» في الجمل المقصورة على وصف حالة المرأة أو أعضائها، ما عدا بعض الجمل الخاطفة فهي جزء من الصّورة المشهديّة. والوصف سكون أو زمن واقف، يتجلّى في الصّورة التي يضفيها الشاعر على المرأة. وهذه الصّورة تطّرد أو تكاد في مجمل شعر الحبّ عند العرب، حتّى ليمكن القول إنّها صورة لـ»بيضة الخدْر» في معلّقة امرئ القيس.
جاء في هذه القصص أنّ سُحيما اشتراه رجل يقال لـه أبو معبد، وأنّه خرج في سفر، فتشوّق إلى ابنته، فكان يتمثّل بهذا البيت:
عُميْرة َودّعْ إن تجهّزتَ غاديــا / كفى الشّيبُ والإسلامُ للمرء ناهيا
فأكمل سُحيم القصيدة بما يزيد على مئة بيت، فمنها في التّشبيب بابنة مولاه، وهو ضرب من القصص الشّعري:
فبتنا وسادانا إلى عَلَجــانةٍ / وحقْفٍ تهداه الرّياح تـــــــــهاديا
توسّدني كفا وتثني بمعصــم / عليّ وتحوي رجلها من ورائيا
وهبّت شمال آخر الليل قــرّة / ولا ثوب إلاّ بردها وردائيـــــا
فما زال بُرْدي طيّبا من ثيابـها / إلى الحول حتّى أنهج البُرد باليا
وتقول القصّة إنّ هذا المولى علم بذلك فـعرضه للبيع، ثمّ رقّ له وردّه. وأراد قومه قتله، فضنّ به ثمّ رفع أمره إلى الوالي، فضربه ثمانين جلدة. ولكنّه بقي على إصراره في التّشبيب بابنة سيّده، فما كان منه إلاّ أن أحرقه. وهذه لا شكّ رواية أخرى تخالف تلك التي تقول إنّ عمر بن الخطّاب أو عثمان بن عفّان هو الذي أمر بقتل سحيم.
كاتب تونسي
وهي إشارة تخصّ هؤلاء الشعراء «الأغفال» الذين أغفلناهم؛ وظلّوا في ثنايا التاريخ نسيا منسيّا؛ ومنهم هذا الشاعر الحبشي الأصل سُحَيْم عبد بني الحسحاس، وشعره أو ما بقي منه، يرقى إلى مرتبة نصوص الفحول من شعراء العربيّة، أي النصوص القويّة التي نستطيع أن نعود إليها، من دون أن نبرأ من سحرها وفتنتها. وهي فضلا عن ذلك تجعلنا نقترح لمثل هذا الشعر الذي عاش أصحابه زمنين اثنين معا: الجاهلي والإسلامي، مصطلح «النصّ المخضرم». أمّا الموضوع الأثير في شعر هذا الحبشي فهو صورة الجسد «العاري». وهي صورة مشدودة إلى صورة الجسد المضخّم أو المثال، في ثقافة العرب. وبما أنّ الاثنين جزء من جسد أو جسم آخر يضمّهما معا مثلما يضمّ غيرهما من الأجزاء، هو النّصّ سواء أكان نثرا أم شعرا، فإنّ تحوّلات الصّورة لا يمكن أن تُكتنه الاّ في سياق التّجربة الفنيّة الكليّة لهذا النّصّ: نصّ الحبّ أو العشق وهو يسلسل جاهليّا إلى إسلاميّ؛ حتّى أنّنا لا نستشعر أيّ حرج في أن نسمه بـ»النّصّ المخضرم» كما أسلفت؛ أو النّصّ الذي يطلّ برأسين وينظر في زمنين اثنين.
سُحَيم شاعر لم يركب في شعره سبيل الالتواء، ولم يتقيّد بأيّ نسـق دينيّ أو اجتماعيّ، بل لم يـجعل مـن مشاغله إقامة مثل هذا النّسق، كما كان يفعل أكثر شعراء عصره في صدر الإسلام، من المنشدّين إلى السّلطة السّياسيّة وأنساقها (الفرزدق ـ جرير ـ الأخطل ـ ذو الرّمّة…). إنّما اتّجه سحيم ـ وهو العبد ـ إلى مخاطبة الجسد العاري من ثوب الثّقافة، ومن المسبقات اللاهوتيّة والمعتقدات الدينيّة، التي ترسّخت بفعل ذاكرة تقيس اليوم بالبارحة، فكان العري أشبه بعودة إلى الطّبيعة، وتوكيدا لقيمة الجسد الحسّية المباشرة. وليس يهمّ كثيرا إن كان سحيم صادرا في ذلك عن محاولة لإثبات الذّات في مجتمع يميّز بين العبد وغيره، بل لعلّ هذه المحاولة هي التي تجعل من القصص المنسوبة إلى سحيم ومن شعره أيضا، «مغامرة ذات» لا سند لها إلاّ نصّها، مغامرة قلّما نقف عليها في شعر الشّعراء الذين ذهبوا مذهبه، وأبرزهم عمر بن أبي ربيعة الذي نسك في آخر حياته. فقد انتهى هؤلاء، أي عمر وأمثاله إلى احتضان الثّدي الذي منحهم مع الحياة حرّية مؤجلة، بعبارة معاصرة، في حين سار سحيم حتّى النّهاية سيرة الابن الضالّ، فذهبت نفسه ثمنا «لضلاله» واجترائه.
يروي صاحب «الشّعر والشّعراء» عن سحيم عبد بني الحسحاس، أنّ عبد الله بن ربيعة المخزومي والد الشاعر المعروف عمر بن أبي ربيعة اشتراه وكتب إلى الخليفة عثمان بن عفّان «انّي قد اشتريت لك غلاما حبشياّ شاعرا فكتب إليه: «لا حاجة لنا فيه، انّما حظّ أهل العبد الشّاعر منه إذا شبع أن يشبّب بنسائهم، وإذا جاع أن يهجوهم». ويروي صاحب «الأغاني» أنّ الخليفة عمر بن الخطاب سمع سحيما ينشد:
ولقد تحدّر من كريمة بعضهمْ / عرَق على جنْب الفراش وطيبُ
فقال:» ويحك إنّك مقتول!» فسقوه الخمر، ثم عرضوا عليه نسوة، فلما مرّت به التي كان يُتّهم بها، أهوى إليها [ببصره]، فقتلوه.
يجالس سُحيم نسوة من بني صبير كان من شأنهن إذا جلسن للتـّغزّل أن يتعابثن بشقّ الثيّاب وشدّة المغالبة على إبداء المحاسن والمفاتن، فلا يستشعر أيّ خجل في أن يشاركهنّ لعبة التّـعرّي. فلعلّ في التعرّي عودة إلى مرحلة لم يستلبها المجتمع ولا الثقافة، مرحلة من الجنسيّة الطفليّة يجهل فيها الطّفل كلّ حياء، أو هو يبدي لذّة لا التباس فيها في كشف جسده؛ كما يقول علماء النفس. يقول سحيم في هذه القصص المنسوجة حول سيرته:
كأنّ الصبيرياّت يوم لقيننا / ظباءٌ حنت أعناقهنّ المكانــــــــسُ
فكم قد شققنا من رداء مزنّر / ومن برقع عن ناظر غير نــاعسِ
إذا شقّ برد نيط بالبرد برقعٌ / على ذاك حتى كلنا غير لابـــسِ
(الصّبيريّات نسبة إلى قبيلة. و»مكانس ج. مكنس: جحر الظّباء والوحش)
إنّ الثّقافة بالمعنى الأنثُروبولوجي العميق، تستولي على الجسد وتستلبه بطرق ووسائل شتّى، لتجعل منه لغتها الخاصّة ولغة المجتمع الذي تنضوي إليه على نحو ما ينضوي إليها، لذلك فإنّ النّسوة اللاتي يصورهنّ سحيم وهنّ يتعابثن بشقّ الثيّاب ويتغالبن على إبداء محاسن الجسد ومفاتنه، لا يمزّقن مجرّد نسيج من الصّوف أو الجلد؛ على قدر ما يمزّقن أقنعة الثّقافة والضّوابط الاجتماعيّة التي تحول دون تحرّر الجسد وانطلاقه.
ولعلّ سحيما هو أوّل شاعر عربي أشار إلى ما يمكن تسميته باحتفاليّة «التعرّي الجماعي»؛ حيث تعـبـّر الأجساد بلغة خرساء لغة العري والحركة عن طبائعها ورغائبها والعلائق المتبادلة بينها. وقد تبدو هذه الإشارة معزولة في سياق قصص الحبّ أو الغزليّة العربيّة، إلاّ أنّها ليست كذلك في الحقيقة، فلها جذور في أساطير العرب ومعتقداتهم وطقوسهم الدينيّة. فقد كان من عادة العرب قبل الإسلام أن يطوفوا بالبيت (الكعبة) عراة تحمّسا في الدّين.
وقد قصر البعض هذا الطّقس على الرّجال دون النّساء، فالرّجل يطوف عاريا بينما المرأة تضع ثيابها كلّها الاّ درعا مفرّجا (مشقوقا من قداّم أو من خلف) تطوف فيه، بحيث يعبّر الثّوب عن رمزيّة اجتماعيّة عميقة الغور، فيستر ما يجب أن يستر من أعضاء الجسد ويكشف ما يجب أن يكشف منها. ولكنّ الجاحظ يشير في رسائله إلى أنّ المرأة كانت تستطيع أن تمارس هذا الطّقس الدّيني عارية. وقد عزّز ذلك بشواهد من أخبار العرب في الجاهليّة والإسلام. لكن إذا كان العري في المجتمع العربي قبل الإسلام، سلوكا يجسّم الانتقال من الحلّ إلى الحرم، أو من الدّنيوي إلى القدسي، فإنّ طرافة سحيم تكمن في نفي هذه الثنّائية بنقل القدسيّ إلى سياق الدّنيوي. ولا يقف تدنيس المحرّم في القصص المنسوبة إلى سحيم، وهي ليست سوى نصوص تفسّر شعره، عند حدود هذه الصّورة العارية، وإنّما يتخطّاها ليشمل ما أقرّه المجتمع واصطلح عليه، العرف. فسحيم مثله مثل عدد من شعراء عصره الذين ظلّوا منشدّين إلى الإرث الجاهليّ معرضين عن الدّيانة الجديدة، لا يحبس في نفسه مشاعر ولا يكظم أهواء. فإذا كانت المرأة تتجلّى في تجربة غيره جسدا مستسلما أو راغبا على تمنّـعه، فإنّها عند سحيم جسد فاعل، يستشعر العاشق لذّة في أن يكون موضوعا لرغبته، فإذا هي التي توسّد وتثني، وتحوي…
والقصيدة كلّها وحدة فنيّة وصفيّة كاملة تنطوي على مقوّمات القصّ الجاهلي، وتتكشّف عن ملامح قصّة متعدّدة المشاهد أكثر مماّ هي متعدّدة المواضيع، تتظافر فيها ثلاثة أساليب سرديّة هي: الوقفة والثـّغرة والمشهد. وهي أساليب مطّردة في أكثر هذا القصص، تتّصل ببنية النّص الظّاهرة، ويمكن النّفاذ منها إلى بنيته المضمرة ومعاينة صورة الجسد المخفي ومن ثم الاستحواذ على بعض دلالاتها. إنّ الوصف هو محور الصّورة السّردية القائمة على «الوقفة» في الجمل المقصورة على وصف حالة المرأة أو أعضائها، ما عدا بعض الجمل الخاطفة فهي جزء من الصّورة المشهديّة. والوصف سكون أو زمن واقف، يتجلّى في الصّورة التي يضفيها الشاعر على المرأة. وهذه الصّورة تطّرد أو تكاد في مجمل شعر الحبّ عند العرب، حتّى ليمكن القول إنّها صورة لـ»بيضة الخدْر» في معلّقة امرئ القيس.
جاء في هذه القصص أنّ سُحيما اشتراه رجل يقال لـه أبو معبد، وأنّه خرج في سفر، فتشوّق إلى ابنته، فكان يتمثّل بهذا البيت:
عُميْرة َودّعْ إن تجهّزتَ غاديــا / كفى الشّيبُ والإسلامُ للمرء ناهيا
فأكمل سُحيم القصيدة بما يزيد على مئة بيت، فمنها في التّشبيب بابنة مولاه، وهو ضرب من القصص الشّعري:
فبتنا وسادانا إلى عَلَجــانةٍ / وحقْفٍ تهداه الرّياح تـــــــــهاديا
توسّدني كفا وتثني بمعصــم / عليّ وتحوي رجلها من ورائيا
وهبّت شمال آخر الليل قــرّة / ولا ثوب إلاّ بردها وردائيـــــا
فما زال بُرْدي طيّبا من ثيابـها / إلى الحول حتّى أنهج البُرد باليا
وتقول القصّة إنّ هذا المولى علم بذلك فـعرضه للبيع، ثمّ رقّ له وردّه. وأراد قومه قتله، فضنّ به ثمّ رفع أمره إلى الوالي، فضربه ثمانين جلدة. ولكنّه بقي على إصراره في التّشبيب بابنة سيّده، فما كان منه إلاّ أن أحرقه. وهذه لا شكّ رواية أخرى تخالف تلك التي تقول إنّ عمر بن الخطّاب أو عثمان بن عفّان هو الذي أمر بقتل سحيم.
كاتب تونسي