منصف الوهايبي - في الأدب والحبّ: ما بين أهل المدر وأهل الوبر

■ تتنوّع الأجناس الكتابيّة التي تُعنى بمسألة الحبّ في تراث العرب، على نحو لافت؛ وهي كلّها أو أكثرها حكايات وقصص مَرِحة واقعيّة مثلما هي عجيبة أو خرافيّة، تستدعي النظرَ في الظاهرة السرديّة، وكلّ ما يكوّن متنها، والسؤالَ عمّا إذا كانت آلتها أو أداتها اللسان أم اليد العاقلة؟ والأوّل من حيث غرض التواصل هو الأسبق، فيما اليد تكمّل اللسان، أو هي في حالات ما تعقله أو تلزمه بقوانين المسكوت عنه وأحكامه. وهذا مبحث قائم بذاته، وقد خاض فيه أكثر من باحث عندنا، سواء من منظور مورفولوجي استئناسا بمنهج فلاديمير بروب، الذي يمثّل نقلة نوعيّة مدارها على تركيب الحكاية وكلّ ما يشكّل جسمها. وكانت نبيلة إبراهيم، في حدود ما قرأنا، أوّل من بادرت إلى تطبيقه على حكايات شعبيّة مصريّة، ولكن بشكل ميكانيكي على ما يقوله مصطفى يعلى؛ إذ غفلت عن ناحية في منهج بروب وهي عدم التفريق أو التمييز بين شكل ومحتوى، بل إنّ بروب يقول بـ«شكل المحتوى» و«محتوى الشكل». ومن ثمّة بذلت الباحثة ما بذلت من دون أن تنفذ إلى البنية العامّة أو نواة الحكاية الشعبيّة العجيبة، أو تمسك بمنطقها الخاصّ. ثمّ كانت محاولة داود سليمان الشوبكي، وقد لا تكون أكثر من استنساخ لمحاولة نبيلة إبراهيم، على أنّه ـ وهذا ممّا يحمد له ـ وثّق النصوص، وسجّل مواقيتها وأمكنتها.
أمّا المحاولة الجديرة بالاعتبار فهي للمغربي مصطفى يعلى، فقد أفاد من سابقيه، ولكنّه فطن إلى ما فيها من نقائص، وسعى إلى استكشاف التمثّلات الفنّيّة في هذا النوع من القصص الشعبي، وليس العجيب فحسب، بل هو يدعو صراحة إلى تطبيق المنهج المورفولوجي على الرواية أيضا؛ وهذه دعوة مغرية ولكن لا أحد جازف بها أو خاطر. على أنّ ما يعنينا في السياق الذي نحن فيه أنّ هؤلاء الباحثين وغيرهم أو أكثرهم أو جلّهم ، قلّما تنبّهوا إلى أنّ الشّعر مثّل في الأغلب الأعمّ مصدر اقتباس لأكثر هذه الحكايات، وللأعمال المتعلّقة بنظريّة الحبّ عند العرب؛ حتّى أن بعض هذه الأعمال التي يُفترض فيها أن تكون تعليقا نظريّا على خبرة الحبّ تستحيل هي بدورها إلى مختارات شعريّة في الحبّ ينتظمها خيط سردي مخصوص محكوم عامّة ببنية الاطّراد والاستطراد، والتعاقب الزمني، وما ينشأ عنه من تعاقب تراكمي، أو بوظيفة الخروج بحثا عن الشيء المفقود؛ وهو في الخطاب الذي نحن فيه ليس أكثر من الحبّ المفقود. وهي من هذا الجانب نصوص أوّلا وأخيرا، لا نحتاج إلى اكتناه طبيعتها اللغويّة فحسب، بل إلى لسانيّات أخرى أيضا، غير المعروفة، تتركّز أساسا في هذا النوع من الخطاب الأدبي، من حيث مستوى الوظائف والأفعال والسرد، أي «الإنشائيّة» بعبارتنا اليوم، وما يتعلّق بها من القوانين المتحكّمة في النصوص الأدبيّة. ولعلّ هذا ما يستدعي التوقّف عند هذه العلاقة الطّريفة بين الحبّ والشّعر، حيث العود إلى النصّ الشّعريّ للاستدلال به على هذا المعنى أو ذاك المغزى يكفّ عن مطلب الاستدلال، ويستغرق مرّة أخرى في لذّة النصّ الشّعريّ نفسه. فقصص الحبّ ليست فقط مجرّد سرد لوقائع غراميّة أو مجرّد عرض لأخبار المحبّين، وما يلاقونه من عذاب في سبيل حبّهم أو ما يتجشّمونه من عناء ليظفروا بلقاء المحبوب، أو ما يتدبّرونه من حيل ليختلسوا النّظر إليه؛ وإنّما تستحيل في مناسبات عديدة لا إلى شروح على بعض الأبيات أو القصائد الشّعريّة، وإنّما إلى حكايات. وهذا ما يدفع إلى إمكان تأويل هذه السّرديّة الغراميّة التي تصاحب النصّ الشّعريّ، على أنّها ضرب من ضروب جماليّة التّلقّي يتولاّها في هذه المرّة جنس أدبيّ يكاد يكون وقفا على العرب. وإذا ما انتبهنا إلى أنّ الشّعر من جهة كونه فنّا ينشد الجمال انتبهنا لاشكّ إلى مشاركته الحبّ في الغاية نفسها أو القصد من جهة أنّ الحبّ رغبة في الجميل؛ وهذا ما يسوّغ البحث في إنشائيّة الفنّ عن طريق مقولة الحبّ.
ومقترحنا أن نعود إلى بعض مصطلحاتنا القديمة حفرا وتنقيبا، وننفض غبار الأزمنة عنها، ونستدرك عليها، عسى أن نعيد تجنيس أدبنا في ضوئها. ومن هذه المصطلحات «أهل المَدَر» أي سكّان البيوت المبنيّة، و»أهل الوبَر» وهم البدو سكان الخِيام»، وما يمكن أن يتأسّس على ذلك من مفاهيم تتعلّق بأدب حضري أو «حبّ حضري» وآخر «بدوي» مداره على التّعفّف عن شهوانيّة الجسد أو في التغنّي به، كما هو الشأن في بعض نصوص الشّعر العذريّ «البدوي»، وتكثيف الاستعارة بشأن بعض أعضائه مناسبة لكشف شوق يغلب على النّفس أكثر ممّا يغلب على ميول الجسد؛ فكأنّما نحن بصدد أيروتيكا روحيّة تصاحبها عطالة جنسيّة أكثر منها أيروتيكا جسديّة، على نحو ما ذكرنا في بعض مقالاتنا. وإذا كان هذا المقال لا يُعنى مباشرة برمزيّة القَصص العشقي كلّه، فلا يفوتنا أن نشير إلى ناحية في الخطاب الصّوفيّ القصصي، حيث نلاحظ بتفاوت استخداما لبلاغة أيروتيكيّة وقد تمّت تنقيتها من الاستعارة الدّالّة على شهوانيّة جنسيّة، وتطهيرها من الأسلوب المعبّر عن الحاجات البيولوجيّة الطّبيعيّة، حيث تكون إماتة الشّهوات من شروط إمكان التّرقّي القدسيّ. وهذا ممّا يجدر أن تتعلّق به همّة الباحث في شؤون البلاغة سعيا إلى ترسّم ملامح «التّحويل البلاغي» التي تسم كلّ ضرب مستجدّ من ضروب الأدب أو الفنّ، حيث القوانين التي تحكم فعل الإبداع لا تعدو أن تكون غير قوانين «المعاودة والاختلاف» إذا ما تمثّلنا بمفاهيم جيل دولوز.
وما يعنينا ها هنا أن نعود إلى مفهوم نستجلبه من أهل الفلسفة والمنطق لنتمثّل به خاصّية يمكن تحصيلها بواسطة التّاويل، من بعض قصص الحبّ لدى العرب.
وهو الثالث المرفوع الذي يفيد في لغة المناطقة ما يتمّ استبعاده بوصفه حدّا ثالثا، عندما يتعلّق الأمر بقضيّتين تكونان متناقضتين؛ حيث تكون إحداهما صحيحة، وتكون الثّانية فاسدة. على أنّ ضربا من الثّالث المرفوع يمكن ألاّ يكون مرفوعا من بعض قصص الحبّ هذه. وعليه لا يمكن اختزال شيء ما إلى حقيقة واحدة؛ وهذه قصص مركّبة من جنسين: شعر ونثر، بل من «فكر مركّب» بما يؤكّد أنّ أيّ ظاهرة هي حاصل تركيب معقّد بين عناصر مختلفة. ومن ثمّة فإنّ الحبّ ليس قابلا لأن يُختزل في اللّيبيدو ولا في أيّ شعور آخر، فهو في هذه النصوص نصوص أهل المدر وأهل الوبر؛ تلك التي تنمّ عن رغبة جامحة في القَصَص، أو ربّما عن مجرّد لعب بالكلام أو لهو به وعبث؛ أو ربّما لأنّ السرد كما يقول بارت لغة لازمة للمجتمعات، شأنها شأن اللغة من حيث هي لازمة للاجتماع، أو هو كالحياة حاضر أبدا فينا، «تركيب» من الانفعالات أو هو سيمياء من الغرائز متشابكة متراكمة تجعل الحبّ قابلا لأن يُقارن بإكسير، فهو يشكّلُ من عناصر مختلفة خليطا جديدا ذا نكهة خاصّة غير قابلة لأن تردّ إلى أيّ من هذه العناصر وحده.
إنّ هذه العاطفة المركّبة التي نسمّيها الحبّ هي التي تهيّئ للثّالث المرفوع ألاّ يكون مرفوعا من بعض قصص الحبّ عند العرب. فيكفي أن نعود إلى بعض الرّوايات حتّى نعاين أمارات عديدة دالّة على إمكان هذا الثّالث، حتّى إن كنّا لا نستطيع أن نسمّيه مباشرة بحيث نستدلّ عليه بواسطة تعبير سالب أو مقارن، ولكن لا يمكن ألاّ نعيه تخمينا أو تأويلا. ولعلّ هذا من نستشعره من خلال تراجع ثقافة التّاثيم في الرّواية التي تقدّم لنا جميل بن معمر يضطجع إلى جانب بثينة من دون تشكيك في عذريّة حبّه لها.
على أنّه يمكن أن نعود بإمكان هذا الثّالث إلى جذور أقدم منغرسة في تربة القيم الجاهليّة على نحو ما نعاين ذلك في نكاح [زواج] الاستبعاض أو الرّهط ممّا يليّن من حدّة التّقابل بين الإباحة والتّحريم في بعض ضروب النّكاح. وبعبارة أخرى فإنّه إذا كان هذا الثّالث ممكنا في الكتابة العشقيّة لأنّه يحقّق إمكانه من خلال التّخييل اللّغويّ فإنّه قد يكون ممكنا أيضا لأنّ هناك ثقافة تتّسع له وتهيّئ له من القيم ما يسوّغه وإن بنسبة من النّسب. وإنّ هذه الملاحظة الأخيرة حول تنسيب الاعتراف بهذا الثّالث ينبغي أن تؤخذ في الحسبان حتّى لا يتمّ السّكوت عن أنّ الثّقافة التي تجري فيها هذه الكتابة الغراميّة، إنّما هي ثقافة ذكوريّة تموضع الجسد الأنثويّ أكثر ممّا تذوّته وتغيّب في الغالب الأعمّ الجسد المذكّر جسد العاشق. فهي بتأويل ما سرديّة غراميّة تخفي علاقة سلطويّة من نمط آخر حتّى لا نقول علاقة ساديّة.

٭ كاتب تونسي
 
أعلى