نقوس المهدي
كاتب
"وقد حدّثنا أبو كريب وابن وكيع وسهل بن موسى،قالوا: حدّثنا ابن عيينة عن عثمان بن أبي سليمان،عن ابن أبي مليكة، عن ابن عبّاس سئل عن همّ يوسف ما بلغ؟ قال: حلَّ الهميان[شداد السراويل أو التكّة] وجلس منها مجلس الحائز
حدّثنا الحسن بن محمد قال: حدّثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: أخبرنا عبدالله بن أبي مليكة قال: قلت لابن عبّاس: ما بلغ من همّ يوسف ؟ قال: استلقت له وجلس بين رجليها ينزع ثيابه…" الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج8 صص.204 ـ 205
***
عني العرب بالحبّ في تراثهم عناية فائقة تعكسه سمات الشّعر العربيّ من نسيب وغزل وتعكسه شعبيّةُ كثير من قصص الحبّ يتوارثون روايتها بالاستزادة والاستنقاص في خطابهم الشّفويّ كما في خطابهم المكتوب.
على أنّ تنوّع الأجناس الكتابيّة التي تُعنى بمسألة الحبّ في تراث العرب لا يمكنها أن تحجب عنّا كون الشّعر يمثّل في الغالب الأعمّ مصدر اقتباس لكلّ الأعمال المتعلّقة بنظريّة الحبّ عندهم حتّى أن بعض هذه الأعمال التي يُفترض فيها أن تكون تعليقا نظريّا على خبرة الحبّ تستحيل هي بدورها إلى مختارات شعريّة في الحبّ. ولعلّ هذا ما يستدعي الوقوف على هذه العلاقة الطّريفة بين الحبّ والشّعر حيث العود إلى النصّ الشّعريّ للاستدلال به على هذا المعنى أو ذاك المغزى يكفّ عن مطلب الاستدلال ويستغرق مرّة أخرى في لذّة النصّ الشّعريّ نفسه. فقصص الحبّ ليست فقط مجرّد سرد لوقائع غراميّة أو مجرّد عرض لأخبار المحبّين وما يلاقونه من عذاب في سبيل حبّهم أو ما يتجشّمونه من عناء ليظفروا بلقاء المحبوب أو ما يتدبّرونه من حيل ليختلسوا النّظر إليه وإنّما تستحيل في مناسبات عديدة إلى شروح على بعض الأبيات أو القصائد الشّعريّة. وهذا ما يدفع إلى إمكان تأويل هذه السّرديّة الغراميّة التي تصاحب النصّ الشّعريّ على أنّها ضرب من ضروب جماليّة التّلقّي يتولاّها في هذه المرّة جنس أدبيّ. وإذا انتبهنا إلى أنّ الشّعر من جهة كونه فنّا ينشد الجمال انتبهنا إلى مشاركته الحبّ في نفس الغاية أو القصد من جهة أنّ الحبّ رغبة في الجميل؛ وهذا ما يسوّغ البحث في إنشائيّة الفنّ عن طريق مقولة الحبّ.
***
يبدو التّراث الغراميّ عند العرب على غاية من التّنوّع والثّراء, فهو يناظر في تشكلّه التّنوّع والثّراء اللّذين أسهما في بناء الحضارة نفسها. بيد أنّ هذا المقال لا يرمي إلى الإلمام بكلّ ضروب الحبّ لدى العرب؛ فلا يعنيه أن يستخلص نظريّة الحبّ لديهم فذاك مطلب عزيز تجشّم عناءه غيرنا(انظر مثلا أطروحة رجاء بن سلامة:العشق والكتابة ـ رسالة دكتوراه دولة), وهذا المقترب حسبه أن يدرك أمله في أن يصوغ ملمحا من ملامح هذه النّظريّة بطريقته، وعليه فإنّ ما يعنينا إنّما هو النّظر إلى ضرب من ضروب الحبّ في الذّهنيّة العربيّة كما تأتّت إلينا عن طريق بعض قصص الحبّ،ألا وهو الحبّ من حيث هو عاطفة إيروتيكيّة يتداخل فيها النّفسيّ والجسديّ في منحى يخفّف من المغالاة في روحنة الحبّ؛مثلما يتجلّى ذلك في ما يرد من قصص "الحبّ الحضري" وفي التّعفّف عن شهوانيّة الجسد على نحو يتجلّى في قصص "الحبّ البدويّ" حيث التغنّي بالجسد في بعض نصوص الشّعر العذريّ وتكثيف الاستعارة بشأن بعض أعضائه مناسبة لكشف شوق يغلب على النّفس أكثر ممّا يغلب على ميول الجسد فكأنّما نحن بصدد أيروتيكا روحيّة تصاحبها عطالة جنسيّة أكثر منها أيروتيكا جسديّة؛ولكنّه يحاول أيضا أن يحدّ من شطط الغلمة في عماها الغريزيّ دونما توجيه أتيقيّ أو من الاحتفاء الشّبقيّ بالجسد ومقايسة جماليّته بمقياس طواعيّته للممارسة الجنسيّة دون سواه. وإذا كان هذا المقترب لا يُعنى مباشرة برمزيّة القصّ العشقي في الخطاب الصّوفيّ؛ فإنّنا نلاحظ بتفاوت استخداما لبلاغة أيروتيكيّة وقد تمّت تنقيتها بعد من الاستعارة الدّالّة على شهوانيّة جنسيّة مباشرة وبعد أن تمّ تطهيرها من الأسلوب المعبّر عن الحاجات البيولوجيّة الطّبيعيّة حيث تكون إماتة الشّهوات من شروط إمكان التّرقّي القدسيّ. وهذا ممّا يجدر أن تتعلّق به همّة الباحث في شؤون البلاغة سعيا إلى ترسّم ملامح "التّحويل البلاغي" التي تسم كلّ ضرب مستجدّ من ضروب الأدب أو الفنّ حيث القوانين التي تحكم فعل الإبداع قد لا تعدو أن تكون غير قوانين "المعاودة والاختلاف"
لكن مقابل هذا الخطاب الصّوفيّ كان ثمّة صنف آخر من الكتابة الأيروتيكيّة يتنامى في تراث العرب ضمن سياق من تعاقب الظّهور والضّمور بحسب التّعاقب بين شدّة الأعراف وصرامة الأحكام وبين تراخي القوانين ومرونة القيم؛ وهي كتابة مفرطة في "إباحيّتها"، وجذورها تمتدّ على حدّ امرئ القيس في بعض قصائده "الخليعة". ولقد ألّف العرب في الجنس مؤلّفات لا يمكن تنزيلها باصطلاح اليوم إلاّ ضمن مجال البورنوغرافيا؛ نظرا إلى "إباحيّتها" المفرطة ونظرا إلى كونها لا ترى غضاضة في عرض أسماء الأعضاء الجنسيّة بأسمائها التي تمجّها الأسماع عادة بحكم عوامل أخلاقيّة. كما أنّها لا تتردّد في وصف مفصّل ودقيق لأوضاع من الجماع مختلفة، بل هي تتقصّد ذلك وتتعمّده(انظر العتبة التي صدّرنا بها). وقد يكون صحيحا أنّ مثل هذه الكتابة الجنسيّة المكشوفة التي تنتسب إلى فترات متأخّرة من تراث العرب تبلغ ذروتها في عصر "الانحطاط "؛ إلاّ أنّه قد لا يكون من المجدي أن ننظر إليها بعيني الازدهار والانحطاط, وإنّما قد يكون من الأجدر النّظر إليها على أنّها تندرج في إطار طقس من طقوس الكتابة الاحتفائيّة بالحبّ أو بالجنس. ويدفعنا إلى ترجيح القول بمثل هذه الكتابة الاحتفائيّة المكشوفة ما نصادفه من أواصر بين ما هو احتفائيّ وما هو لعبيّ ؛ وبالفعل فإنّه من الجائز أن نتحدّث ونحن نقرأ مثلا ما قام به جلال الدّين السّيوطي في "رشف الزّلال من السّحر الحلال"من استعراض لعشرين مقامة تختلف باختلاف العلوم التي تنتسب إليها هذه الخطابات حيث يتولّى كلّ عالِم (صاحب خطاب) وصف ليلته مع امرأته حسب ما يقتضيه علمه أو فنّه من اصطلاح وأسلوب، في عمليّة أقرب ما يكون إلى منافسة لعبيّة، بل هي بالفعل مناظرات لعبيّة تستكمل ما أُثِر عن العرب من أنّهم كانوا ينظرون إلى المرأة،من بين ما كانوا ينظرون به إلى المرأة، على أنّها لعبة الرّجل فتضاعف هذه الخطابات العشرون في لعب أيروتيكيّ متخيّل اللّعب الأيروتيكيّ الواقعيّ. وقد سبق أن وقفنا على هذا الكتاب في مقال لنا بالأوان.
وقد يكون من الواضح أنّ مقتربنا ـ على محدوديّته ـ ليس بالعمل التأويلي، لأنّ بنية هذا النصّ هي مثل الشعر ـ على ما نرجّح ـ بنية هيرمينوطيقيّة، أو هي مؤوّلة سلفا، أو أنّ النصّ ينشأ مؤوّلا.
ونقدّر أنّ معاينة الصّورة، من هذه الكوة، يمكن، إذا اكتملت لها الأدوات واستتبّت، أن تفضي إلى قراءة مختلفة تجمع بين الذّاتين: ذات العاشق(الراغب) وذات المعشوقة(المرغوب فيه) وجسد هذا وجسد تلك، ولا تقتصر على الثّاني فحسب (المرأة) كما نجد في أكثر الدّراسات. فالمرأة في هذه النّصوص ليست جسدا منفردا أو صورة قائمة بنفسها، وإنما هي في علاقة حميمة بجسد آخر و كلّ منهما لباس لصاحبه:
إذا ما الضّجيع ثنا عطفها = تثنّت فكانت عليه لباسا
إنّ فعل الحب بالمعنى الحسّي للكلمة، لا يغدو ممكنا، في مثل هذه النّصوص"رشف الزلال" إلاّ من خلال "لعبة" لغويّة يحلّ فيها التّشبيه محلّ الاستعارة أو هو ينهض بها، وتتبادل فيها الرّموز والعلامات مواقعها وتتحوّل إلى دوالّ. وفي هذه اللعبة يتوارى جسد العاشق حينا ويتجلّى حينا آخر، يتوارى في جسد الأنثى ويتجلّى في سلسلة العلامات – الرّموز، أو التّشابيه –
.وللسيوطي مؤلفات جنسيّة غير قليلة مثل"الوشاح في فوائد النكاح" ونواظر الأيك في النيك" و"الإفصاح في اسماء النكاح" ومباسم الملاح ومناسم الصباح في مواسم النكاح" و"الزنجبيل القاطع في وطء ذات البراقع"(قصيدة في مئة وخمسين بيتا) و"نزهة المتأمّل ومرشد المتأهّل" و"المستطرفة في دخول الحشفة" و"نزهة العمر في التفضيل بين البيض والسود والسمر" و"اليواقيت الثمينة في صفات السمينة".
وقد اتبع السيوطي في "رشف الزلال" أسلوب المقامة،وأسند الكلام إلى شخصيّة متخيّلة: أبو الذرّ النفيس بن أبي إدريس وهو يدعو الرجال ـ أسوة بالإمام ـ إلى الزواج. قال: "حكى ابو الدرّ النفيس بن أبي إدريس، قال:خرجنا يوم عيد إلى مسجد بعيد ونحن شببَة متقاربون وعصبة في السنّ متجاذبون… فلمّا كان صبيحة البناء ،اجتمع بعضنا للهناء،فقال قائلنا : ليصف كلّ منّا خبر ليلته وما اتفق له مع حليلته."
***
أهو الثالث المرفوع؟
لا مناص في هذا السّياق من تسليط الضّوء على العلاقة بين الحبّ والجنس. وهي علاقة تتجلّى في كثير من قصص الحبّ, كما تحفل بها سير العشّاق, بالغة الطّرافة لما يطبعها من استثنائيّة قيميّة تتمثّل أساسا في تفتيت شعور الغيرة لدى المحبّ بحسب تفتيته تفاضليّا لجسد المحبوب أو في إباحة جسد المحبوب للصّحبة بالحيلة والتّغرير على نحو ما نصادف في ذلك في خبر المرقّش وأسماء. أو بالمقابل في مطابقة تامّة بين الحبّ والغيرة تولّد الثّار والقتل, على نحو يمكن أن يستمرّ فيه شعور الغيرة حتّى ما بعد الموت.
وما يعنينا هاهنا هو أن نعود فنشير إلى مقال لنا سابق وسمناه ب"الثّالث المرفوع في قصص الحبّ عند العرب"،وهو مفهوم استجلبناه من أهل الفلسفة والمنطق لنتمثّل به خاصّية يمكن تحصيلها بواسطة التّاويل من بعض قصص الحبّ لدى العرب. فالثّالث المرفوع يفيد في لغة المناطقة ما يتمّ استبعاده كحدّ ثالث عندما يتعلّق الأمر بقضيّتين تكونان متناقضتين؛ حيث تكون إحداهما صحيحة وتكون الثّانية فاسدة. على أنّه لا يعنينا هاهنا أن نختبر عاطفة الحبّ عند العرب منطقيّا،وإنّما يعنينا أنْ ننبّه إلى أنّ ضربا من الثّالث المرفوع يمكن ألاّ يكون مرفوعا من بعض قصص الحبّ عند العرب. وذلك لأنّه لا يمكن اختزال شيء ما إلى حقيقة واحدة ،فأيّة ظاهرة هي حاصل تركيب معقّد بين عناصر مختلفة؛ والحبّ ليس قابلا لأن يُختزل في اللّيبيدو ولا في أيّ شعور آخر, فهو "تركيب" من الانفعالات أو هو سيمياء من الغرائز متشابكة متراكمة تجعل الحبّ قابلا لأن يُقارن بإكسير, فهو يشكّل من عناصر مختلفة خليطا جديدا ذا نكهة خاصّة غير قابلة لأن تردّ إلى أيّ من هذه العناصر وحده.إنّ هذه العاطفة المركّبة التي نسمّيها الحبّ هي التي تهيّئ للثّالث المرفوع ألاّ يكون مرفوعا من بعض قصص الحبّ عند العرب. فيكفي أن نعود إلى بعض الرّوايات حتّى نعاين أمارات عديدة دالّة على إمكان هذا الثّالث حتّى وإن كنّا لا نستطيع أن نسمّيه مباشرة بحيث نستدلّ عليه بواسطة تعبير سالب أو مقارن ولكن لا يمكن ألاّ نعيه تخمينا أو تأويلا ولعلّ هذا من نستشعره من خلال تراجع ثقافة التّاثيم في الرّواية التي تقدّم لنا جميلا يضطجع إلى جانب بثينة دون تشكيك في عذريّة حبّه لها. وهذا أيضا ما نعاينه في الرّواية التي تقدّم عفراء وهي تطلب الإذن من زوجها أن تبكي عروة وقد أذن لها دون قدح في ذمّتها. ولعلّ من أطرف ما يعبّر عن إمكان هذا الثّالث هو ما نلفيه في هين البيتين للمجنون حيث لا يرفع هذا الثّالث بل ترفع بدلا منه الغيرة من قلب المحبّ وتستحيل هي بدورها بدورها رغبة؛ إذ يقول المجنون وقد مرّ بزوج ليلى
بربّك هل ضممت عليك ليلى قبيل الصّبح أم قبّلتَ فــاها
وهل رفّت عليـك قرون ليلى رفيف الأقحوانة في شذاها
وقس على ذلك ما يقوله جنادة العذري أشكل عليه الشّوق فلم يعد يدري بما يتمثّل للتّعبير عنه بطلب الحياة لمحبوبته أم برجاء الموت
من حبّهــــا أتمنّى أن يلاقيـَـني من نحـــو بلدتِها نــــاعٍ فيـــنعاها
كيـــما أقول: فراقٌ لا لقاء له ُ وتضـــــمرُ النّفس يأسا ثمّ تسلاها
ولوْ تموتُ لراعتني وقلتُ: ألا يا بؤس للموت ليت الموتَ أبقاهـا
على أنّه يمكن أن نعود بإمكان هذا الثّالث إلى جذور أقدم منغرسة في تربة القيم الجاهليّة على نحو ما نعاين ذلك في نكاح الاستبعاض أو الرّهط ممّا يليّن من حدّة التّقابل بين الإباحة والتّحريم في بعض ضروب النّكاح. وبعبارة أخرى فإنّه إذا كان هذا الثّالث ممكنا في الكتابة العشقيّة لأنّه يحقّق إمكانه من خلال التّخييل اللّغويّ فإنّه قد يكون ممكنا أيضا لأنّ هناك ثقافة تتّسع له وتهيّئ له من القيم ما يسوّغه وإن بنسبة من النّسب. وإنّ هذه الملاحظة الأخيرة حول تنسيب الاعتراف بهذا الثّالث ينبغي أن تؤخذ في الحسبان حتّى لا يتمّ السّكوت عن أنّ الثّقافة التي تجري فيها هذه الكتابة الغراميّة إنّما هي ثقافة ذكوريّة تموضع الجسد الأنثويّ أكثر ممّا تذوّته وتغيّب في الغالب الأعمّ الجسد المذكّر جسد العاشق. فهي بتأويل ما، سرديّة غراميّة تخفي علاقة سلطويّة من نمط آخر حتّى لا نقول علاقة ساديّة.
الهوامش :
جلال الدين السيوطي،رشف الزلال من السحر الحلال،الانتشار العربي بيروت لبنان 1997
وانظر للتوسّع: معجم سركيس للمطبوعات والأعلام للزركلي ونجم الدين الغزي:الكواكب السائرة في أعيان المئة العاشرة
وصلاح الذين المنجد:الحياة الجنسيّة عند العرب
ـ رجاء بن سلامة:الكتابة والعشق(رسالة دكتوراه دولة) جامعة منوبة تونس
المعزّ الوهايبي، الفنّ لعبا ـ أطروحة ماجستير، الفصل الأوّل، 2007
.
حدّثنا الحسن بن محمد قال: حدّثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: أخبرنا عبدالله بن أبي مليكة قال: قلت لابن عبّاس: ما بلغ من همّ يوسف ؟ قال: استلقت له وجلس بين رجليها ينزع ثيابه…" الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج8 صص.204 ـ 205
***
عني العرب بالحبّ في تراثهم عناية فائقة تعكسه سمات الشّعر العربيّ من نسيب وغزل وتعكسه شعبيّةُ كثير من قصص الحبّ يتوارثون روايتها بالاستزادة والاستنقاص في خطابهم الشّفويّ كما في خطابهم المكتوب.
على أنّ تنوّع الأجناس الكتابيّة التي تُعنى بمسألة الحبّ في تراث العرب لا يمكنها أن تحجب عنّا كون الشّعر يمثّل في الغالب الأعمّ مصدر اقتباس لكلّ الأعمال المتعلّقة بنظريّة الحبّ عندهم حتّى أن بعض هذه الأعمال التي يُفترض فيها أن تكون تعليقا نظريّا على خبرة الحبّ تستحيل هي بدورها إلى مختارات شعريّة في الحبّ. ولعلّ هذا ما يستدعي الوقوف على هذه العلاقة الطّريفة بين الحبّ والشّعر حيث العود إلى النصّ الشّعريّ للاستدلال به على هذا المعنى أو ذاك المغزى يكفّ عن مطلب الاستدلال ويستغرق مرّة أخرى في لذّة النصّ الشّعريّ نفسه. فقصص الحبّ ليست فقط مجرّد سرد لوقائع غراميّة أو مجرّد عرض لأخبار المحبّين وما يلاقونه من عذاب في سبيل حبّهم أو ما يتجشّمونه من عناء ليظفروا بلقاء المحبوب أو ما يتدبّرونه من حيل ليختلسوا النّظر إليه وإنّما تستحيل في مناسبات عديدة إلى شروح على بعض الأبيات أو القصائد الشّعريّة. وهذا ما يدفع إلى إمكان تأويل هذه السّرديّة الغراميّة التي تصاحب النصّ الشّعريّ على أنّها ضرب من ضروب جماليّة التّلقّي يتولاّها في هذه المرّة جنس أدبيّ. وإذا انتبهنا إلى أنّ الشّعر من جهة كونه فنّا ينشد الجمال انتبهنا إلى مشاركته الحبّ في نفس الغاية أو القصد من جهة أنّ الحبّ رغبة في الجميل؛ وهذا ما يسوّغ البحث في إنشائيّة الفنّ عن طريق مقولة الحبّ.
***
يبدو التّراث الغراميّ عند العرب على غاية من التّنوّع والثّراء, فهو يناظر في تشكلّه التّنوّع والثّراء اللّذين أسهما في بناء الحضارة نفسها. بيد أنّ هذا المقال لا يرمي إلى الإلمام بكلّ ضروب الحبّ لدى العرب؛ فلا يعنيه أن يستخلص نظريّة الحبّ لديهم فذاك مطلب عزيز تجشّم عناءه غيرنا(انظر مثلا أطروحة رجاء بن سلامة:العشق والكتابة ـ رسالة دكتوراه دولة), وهذا المقترب حسبه أن يدرك أمله في أن يصوغ ملمحا من ملامح هذه النّظريّة بطريقته، وعليه فإنّ ما يعنينا إنّما هو النّظر إلى ضرب من ضروب الحبّ في الذّهنيّة العربيّة كما تأتّت إلينا عن طريق بعض قصص الحبّ،ألا وهو الحبّ من حيث هو عاطفة إيروتيكيّة يتداخل فيها النّفسيّ والجسديّ في منحى يخفّف من المغالاة في روحنة الحبّ؛مثلما يتجلّى ذلك في ما يرد من قصص "الحبّ الحضري" وفي التّعفّف عن شهوانيّة الجسد على نحو يتجلّى في قصص "الحبّ البدويّ" حيث التغنّي بالجسد في بعض نصوص الشّعر العذريّ وتكثيف الاستعارة بشأن بعض أعضائه مناسبة لكشف شوق يغلب على النّفس أكثر ممّا يغلب على ميول الجسد فكأنّما نحن بصدد أيروتيكا روحيّة تصاحبها عطالة جنسيّة أكثر منها أيروتيكا جسديّة؛ولكنّه يحاول أيضا أن يحدّ من شطط الغلمة في عماها الغريزيّ دونما توجيه أتيقيّ أو من الاحتفاء الشّبقيّ بالجسد ومقايسة جماليّته بمقياس طواعيّته للممارسة الجنسيّة دون سواه. وإذا كان هذا المقترب لا يُعنى مباشرة برمزيّة القصّ العشقي في الخطاب الصّوفيّ؛ فإنّنا نلاحظ بتفاوت استخداما لبلاغة أيروتيكيّة وقد تمّت تنقيتها بعد من الاستعارة الدّالّة على شهوانيّة جنسيّة مباشرة وبعد أن تمّ تطهيرها من الأسلوب المعبّر عن الحاجات البيولوجيّة الطّبيعيّة حيث تكون إماتة الشّهوات من شروط إمكان التّرقّي القدسيّ. وهذا ممّا يجدر أن تتعلّق به همّة الباحث في شؤون البلاغة سعيا إلى ترسّم ملامح "التّحويل البلاغي" التي تسم كلّ ضرب مستجدّ من ضروب الأدب أو الفنّ حيث القوانين التي تحكم فعل الإبداع قد لا تعدو أن تكون غير قوانين "المعاودة والاختلاف"
لكن مقابل هذا الخطاب الصّوفيّ كان ثمّة صنف آخر من الكتابة الأيروتيكيّة يتنامى في تراث العرب ضمن سياق من تعاقب الظّهور والضّمور بحسب التّعاقب بين شدّة الأعراف وصرامة الأحكام وبين تراخي القوانين ومرونة القيم؛ وهي كتابة مفرطة في "إباحيّتها"، وجذورها تمتدّ على حدّ امرئ القيس في بعض قصائده "الخليعة". ولقد ألّف العرب في الجنس مؤلّفات لا يمكن تنزيلها باصطلاح اليوم إلاّ ضمن مجال البورنوغرافيا؛ نظرا إلى "إباحيّتها" المفرطة ونظرا إلى كونها لا ترى غضاضة في عرض أسماء الأعضاء الجنسيّة بأسمائها التي تمجّها الأسماع عادة بحكم عوامل أخلاقيّة. كما أنّها لا تتردّد في وصف مفصّل ودقيق لأوضاع من الجماع مختلفة، بل هي تتقصّد ذلك وتتعمّده(انظر العتبة التي صدّرنا بها). وقد يكون صحيحا أنّ مثل هذه الكتابة الجنسيّة المكشوفة التي تنتسب إلى فترات متأخّرة من تراث العرب تبلغ ذروتها في عصر "الانحطاط "؛ إلاّ أنّه قد لا يكون من المجدي أن ننظر إليها بعيني الازدهار والانحطاط, وإنّما قد يكون من الأجدر النّظر إليها على أنّها تندرج في إطار طقس من طقوس الكتابة الاحتفائيّة بالحبّ أو بالجنس. ويدفعنا إلى ترجيح القول بمثل هذه الكتابة الاحتفائيّة المكشوفة ما نصادفه من أواصر بين ما هو احتفائيّ وما هو لعبيّ ؛ وبالفعل فإنّه من الجائز أن نتحدّث ونحن نقرأ مثلا ما قام به جلال الدّين السّيوطي في "رشف الزّلال من السّحر الحلال"من استعراض لعشرين مقامة تختلف باختلاف العلوم التي تنتسب إليها هذه الخطابات حيث يتولّى كلّ عالِم (صاحب خطاب) وصف ليلته مع امرأته حسب ما يقتضيه علمه أو فنّه من اصطلاح وأسلوب، في عمليّة أقرب ما يكون إلى منافسة لعبيّة، بل هي بالفعل مناظرات لعبيّة تستكمل ما أُثِر عن العرب من أنّهم كانوا ينظرون إلى المرأة،من بين ما كانوا ينظرون به إلى المرأة، على أنّها لعبة الرّجل فتضاعف هذه الخطابات العشرون في لعب أيروتيكيّ متخيّل اللّعب الأيروتيكيّ الواقعيّ. وقد سبق أن وقفنا على هذا الكتاب في مقال لنا بالأوان.
وقد يكون من الواضح أنّ مقتربنا ـ على محدوديّته ـ ليس بالعمل التأويلي، لأنّ بنية هذا النصّ هي مثل الشعر ـ على ما نرجّح ـ بنية هيرمينوطيقيّة، أو هي مؤوّلة سلفا، أو أنّ النصّ ينشأ مؤوّلا.
ونقدّر أنّ معاينة الصّورة، من هذه الكوة، يمكن، إذا اكتملت لها الأدوات واستتبّت، أن تفضي إلى قراءة مختلفة تجمع بين الذّاتين: ذات العاشق(الراغب) وذات المعشوقة(المرغوب فيه) وجسد هذا وجسد تلك، ولا تقتصر على الثّاني فحسب (المرأة) كما نجد في أكثر الدّراسات. فالمرأة في هذه النّصوص ليست جسدا منفردا أو صورة قائمة بنفسها، وإنما هي في علاقة حميمة بجسد آخر و كلّ منهما لباس لصاحبه:
إذا ما الضّجيع ثنا عطفها = تثنّت فكانت عليه لباسا
إنّ فعل الحب بالمعنى الحسّي للكلمة، لا يغدو ممكنا، في مثل هذه النّصوص"رشف الزلال" إلاّ من خلال "لعبة" لغويّة يحلّ فيها التّشبيه محلّ الاستعارة أو هو ينهض بها، وتتبادل فيها الرّموز والعلامات مواقعها وتتحوّل إلى دوالّ. وفي هذه اللعبة يتوارى جسد العاشق حينا ويتجلّى حينا آخر، يتوارى في جسد الأنثى ويتجلّى في سلسلة العلامات – الرّموز، أو التّشابيه –
.وللسيوطي مؤلفات جنسيّة غير قليلة مثل"الوشاح في فوائد النكاح" ونواظر الأيك في النيك" و"الإفصاح في اسماء النكاح" ومباسم الملاح ومناسم الصباح في مواسم النكاح" و"الزنجبيل القاطع في وطء ذات البراقع"(قصيدة في مئة وخمسين بيتا) و"نزهة المتأمّل ومرشد المتأهّل" و"المستطرفة في دخول الحشفة" و"نزهة العمر في التفضيل بين البيض والسود والسمر" و"اليواقيت الثمينة في صفات السمينة".
وقد اتبع السيوطي في "رشف الزلال" أسلوب المقامة،وأسند الكلام إلى شخصيّة متخيّلة: أبو الذرّ النفيس بن أبي إدريس وهو يدعو الرجال ـ أسوة بالإمام ـ إلى الزواج. قال: "حكى ابو الدرّ النفيس بن أبي إدريس، قال:خرجنا يوم عيد إلى مسجد بعيد ونحن شببَة متقاربون وعصبة في السنّ متجاذبون… فلمّا كان صبيحة البناء ،اجتمع بعضنا للهناء،فقال قائلنا : ليصف كلّ منّا خبر ليلته وما اتفق له مع حليلته."
***
أهو الثالث المرفوع؟
لا مناص في هذا السّياق من تسليط الضّوء على العلاقة بين الحبّ والجنس. وهي علاقة تتجلّى في كثير من قصص الحبّ, كما تحفل بها سير العشّاق, بالغة الطّرافة لما يطبعها من استثنائيّة قيميّة تتمثّل أساسا في تفتيت شعور الغيرة لدى المحبّ بحسب تفتيته تفاضليّا لجسد المحبوب أو في إباحة جسد المحبوب للصّحبة بالحيلة والتّغرير على نحو ما نصادف في ذلك في خبر المرقّش وأسماء. أو بالمقابل في مطابقة تامّة بين الحبّ والغيرة تولّد الثّار والقتل, على نحو يمكن أن يستمرّ فيه شعور الغيرة حتّى ما بعد الموت.
وما يعنينا هاهنا هو أن نعود فنشير إلى مقال لنا سابق وسمناه ب"الثّالث المرفوع في قصص الحبّ عند العرب"،وهو مفهوم استجلبناه من أهل الفلسفة والمنطق لنتمثّل به خاصّية يمكن تحصيلها بواسطة التّاويل من بعض قصص الحبّ لدى العرب. فالثّالث المرفوع يفيد في لغة المناطقة ما يتمّ استبعاده كحدّ ثالث عندما يتعلّق الأمر بقضيّتين تكونان متناقضتين؛ حيث تكون إحداهما صحيحة وتكون الثّانية فاسدة. على أنّه لا يعنينا هاهنا أن نختبر عاطفة الحبّ عند العرب منطقيّا،وإنّما يعنينا أنْ ننبّه إلى أنّ ضربا من الثّالث المرفوع يمكن ألاّ يكون مرفوعا من بعض قصص الحبّ عند العرب. وذلك لأنّه لا يمكن اختزال شيء ما إلى حقيقة واحدة ،فأيّة ظاهرة هي حاصل تركيب معقّد بين عناصر مختلفة؛ والحبّ ليس قابلا لأن يُختزل في اللّيبيدو ولا في أيّ شعور آخر, فهو "تركيب" من الانفعالات أو هو سيمياء من الغرائز متشابكة متراكمة تجعل الحبّ قابلا لأن يُقارن بإكسير, فهو يشكّل من عناصر مختلفة خليطا جديدا ذا نكهة خاصّة غير قابلة لأن تردّ إلى أيّ من هذه العناصر وحده.إنّ هذه العاطفة المركّبة التي نسمّيها الحبّ هي التي تهيّئ للثّالث المرفوع ألاّ يكون مرفوعا من بعض قصص الحبّ عند العرب. فيكفي أن نعود إلى بعض الرّوايات حتّى نعاين أمارات عديدة دالّة على إمكان هذا الثّالث حتّى وإن كنّا لا نستطيع أن نسمّيه مباشرة بحيث نستدلّ عليه بواسطة تعبير سالب أو مقارن ولكن لا يمكن ألاّ نعيه تخمينا أو تأويلا ولعلّ هذا من نستشعره من خلال تراجع ثقافة التّاثيم في الرّواية التي تقدّم لنا جميلا يضطجع إلى جانب بثينة دون تشكيك في عذريّة حبّه لها. وهذا أيضا ما نعاينه في الرّواية التي تقدّم عفراء وهي تطلب الإذن من زوجها أن تبكي عروة وقد أذن لها دون قدح في ذمّتها. ولعلّ من أطرف ما يعبّر عن إمكان هذا الثّالث هو ما نلفيه في هين البيتين للمجنون حيث لا يرفع هذا الثّالث بل ترفع بدلا منه الغيرة من قلب المحبّ وتستحيل هي بدورها بدورها رغبة؛ إذ يقول المجنون وقد مرّ بزوج ليلى
بربّك هل ضممت عليك ليلى قبيل الصّبح أم قبّلتَ فــاها
وهل رفّت عليـك قرون ليلى رفيف الأقحوانة في شذاها
وقس على ذلك ما يقوله جنادة العذري أشكل عليه الشّوق فلم يعد يدري بما يتمثّل للتّعبير عنه بطلب الحياة لمحبوبته أم برجاء الموت
من حبّهــــا أتمنّى أن يلاقيـَـني من نحـــو بلدتِها نــــاعٍ فيـــنعاها
كيـــما أقول: فراقٌ لا لقاء له ُ وتضـــــمرُ النّفس يأسا ثمّ تسلاها
ولوْ تموتُ لراعتني وقلتُ: ألا يا بؤس للموت ليت الموتَ أبقاهـا
على أنّه يمكن أن نعود بإمكان هذا الثّالث إلى جذور أقدم منغرسة في تربة القيم الجاهليّة على نحو ما نعاين ذلك في نكاح الاستبعاض أو الرّهط ممّا يليّن من حدّة التّقابل بين الإباحة والتّحريم في بعض ضروب النّكاح. وبعبارة أخرى فإنّه إذا كان هذا الثّالث ممكنا في الكتابة العشقيّة لأنّه يحقّق إمكانه من خلال التّخييل اللّغويّ فإنّه قد يكون ممكنا أيضا لأنّ هناك ثقافة تتّسع له وتهيّئ له من القيم ما يسوّغه وإن بنسبة من النّسب. وإنّ هذه الملاحظة الأخيرة حول تنسيب الاعتراف بهذا الثّالث ينبغي أن تؤخذ في الحسبان حتّى لا يتمّ السّكوت عن أنّ الثّقافة التي تجري فيها هذه الكتابة الغراميّة إنّما هي ثقافة ذكوريّة تموضع الجسد الأنثويّ أكثر ممّا تذوّته وتغيّب في الغالب الأعمّ الجسد المذكّر جسد العاشق. فهي بتأويل ما، سرديّة غراميّة تخفي علاقة سلطويّة من نمط آخر حتّى لا نقول علاقة ساديّة.
الهوامش :
جلال الدين السيوطي،رشف الزلال من السحر الحلال،الانتشار العربي بيروت لبنان 1997
وانظر للتوسّع: معجم سركيس للمطبوعات والأعلام للزركلي ونجم الدين الغزي:الكواكب السائرة في أعيان المئة العاشرة
وصلاح الذين المنجد:الحياة الجنسيّة عند العرب
ـ رجاء بن سلامة:الكتابة والعشق(رسالة دكتوراه دولة) جامعة منوبة تونس
المعزّ الوهايبي، الفنّ لعبا ـ أطروحة ماجستير، الفصل الأوّل، 2007
.
صورة مفقودة