فاتحة الطايب - ظاهرة الحب "الكورتوازي".. من زاوية التفاعل مع ظاهرة الحب "العذري"

تمهيد:
يسعى بحثنا، الذي يتبنى أطروحة تفاعل شعراء التروبادور في جنوب فرنسا( ) مع الموشحات والأزجال الأندلسية، إلى التركيز على نتائج هذا التفاعل التي يترجمها تبلور ظاهرة شعرية جديدة لها قوانينها الخاصة التي يتطلب فهمها، بالإضافة إلى استحضار الموشحات والأزجال وأشعار بني عذرة، استحضار الإرث الثقافي الخاص بمبدعي الحب الكورتوازي( ) ورؤيتهم الخاصة للعالم.
وإذ نجعل من الطرف المتفاعل (التروبادور) نقطة انطلاق في هذا البحث – الذي تشكل فيه الموشحات والأزجال الأندلسية وأشعار بني عذرة خلفية المقارنة – نؤكد أننا لا نبحث في مسألة التأثير بمفهومها التقليدي الأحادي، الذي يلغي الدور المبدع للمتلقي وخصوصيات نسق الاستقبال، حينما يجعل من الطرف المتأثر طرفا سلبيا كل دوره هو اقتفاء خطى الآخر المتقدم. إننا ننطلق، بخلاف ذلك، من مفهومي الكشف والتفاعل بين الذات والآخر في إطار احترام الاختلافات، وهذا النوع من التفاعل هو الذي ينفي وجود تطابق بين الظاهرتين الشعريتين العربية والفرنسية، كما يذهب إلى ذلك بعض الدارسين- العرب تخصيصا – في سبيل تأكيد فضل العرب على الغرب( ). مع العلم، أن فئة أخرى من الدارسين – الغربيين في المجمل( ) – استندت إلى الاختلاف الطبيعي بين متفاعلين لكي تنفي نفيا قاطعا حدوث أي لقاء بينهما: أي نفي أن تكون الثقافة العربية الإسلامية قد أغنت، السجلات الأدبية (وكذا السجلات الفكرية والعلمية) الخاصة بالثقافة الغربية في القرون الوسطى.
وبما أن التاريخ الثقافي لبلدان أوربا الغربية – والشرقية أيضا( )- يفند هذا الزعم، نود أن نشير في نفس السياق إلى حقيقة موازية تؤكد أن التلاقح والتبادل هما قدر الحضارات الإنسانية، وهي أن الثقافة العربية الإسلامية نفسها قد تشكلت بفضل تفاعلها الإيجابي مع مختلف الثقافات العالمية غربية وشرقية. مما يفيد، أننا نتبنى إلى جانب أطروحة تفاعل التروبادور مع الموشحات وفلسفة الحب العذري العربية، أطروحة تفاعل الثقافة العربية الوافدة مع الثقافة الإسبانية المحلية في الأندلس، معتبرين الموشح والزجل الأندلسيين( ) شاهدي إثبات على تعدد المراجع وتعايشها في الأندلس، فالموسيقى الأندلسية التي أقام عليها الوشاحون إيقاعاتهم « لم تكن عربية صرفا بقدر ما كانت مزيجا من الألحان العربية والإسبانية التي كان بعضها وافدا وبعضها محليا »( )، إضافة إلى أن « الازدواج اللغوي بين العربية والرومانية في الأندلس » هو الأصل في نشوء طراز شعري مختلط فيه مؤثرات غربية وشرقية.( )
1 – أسطورة وأربع أطروحات
تقول الأسطورة الفرنسية: بفعل سلطة غامضة لساحر قوي، تفتق شعر التروبادور مثل وردة نادرة الحسن في بلاد الأكيتان حوالي سنة 1100م، ليزهر بعد ذلك خلال أكثر من قرن، إلى أن أدت الحروب الصليبية (…) إلى إفلاس بلاد التروبادور الجميلة اقتصاديا وفكريا، كما أدت إلى إفلاس البلاطات الفيودالية.
إن هذه الأسطورة التي تستنجد بقوى السحر الغامضة، لتفسر الظهور المفاجئ لظاهرة الشعر الكورتوازي، هي نفسها التي تؤكد حدوث التفاعل بين شعر التروبادور والشعر العربي الإسلامي. فحينما تنفي وجود شعر بذلك الحسن في بلاد الأكيتان قبل سنة 1100، رادة إفلاس بلاد التروبادور إلى الحروب الصليبية( )، تثير انتباه المتأمل في خطابها إلى التلازم القوي بين ظهور شعر التروبادور والحروب الصليبية، التي تعد إحدى الوسائل التي تم بها التواصل بين أوربا والعالم الإسلامي المتقدم آنذاك.( )
والحال أن أطروحات ثلاثا تساند هذه الأسطورة في نفي التفاعل الفرنسي العربي، وإن كانت تختلف معها بخصوص مصدر أشعار التروبادور( ):
1- يرى أصحاب الأطروحة الأولى، أن شعر التروبادور مشتق من أشعار الشاعر اللاتيني أوفيد.
2- ويرى أصحاب الأطروحة الثانية، أن الأغاني الدينية وأغاني الطلبة الهزلية هي التي كانت وراء ظهور هذا النوع من الشعر.
3- أما أصحاب الأطروحة الثالثة، فيبحثون عن أصل شعر التروبادور الغنائي في الأغنية الشعبية.
ورغم هشاشة هذه الأطروحات – التي تترجمها في رأينا نظرتها الأحادية المطلقة، التي لا تستطيع أن تفسر كيف انتقل الشعر في بلاد الأكيتان من حال إلى حال في ظرف وجيز- إلا أنها تثير انتباه الدارس المقارن إلى الطبيعة المتعددة لمراجع الشاعر الفرنسي المحلية التي ستتحاور مع مراجع الشاعر الأندلسي والعربي. فبالرغم من الاختلاف الواضح بين فلسفة الحب في ديوان « فن الحب » لأوفيد الذي يصنف ضمن أشهر الدواوين الحسية في تاريخ الشعر العالمي( )، وفلسفة الحب في كتاب « فن الحب » لأندري لو شابلان( ) الشبيهة – فيما يتعلق تخصيصا بطبيعة العلاقة بين المحب ومحبوبته – بفلسفة الحب في كتاب « الزهرة » لابن داوود الظاهري( )، إلا أنه لا يجب إغفال تأثير أوفيد في القرون الوسطى كما يدل على ذلك بداية استلهام عنوان ديوانه لنقل دستور الشعراء الجدد. خاصة وأن أول شاعر تروبادور وصلت إلى القراء أشعاره هو غيوم التاسع أمير بواتيي، الذي يتمتع بنصيب وافر من ثقافة عصره. ( )
أما بالنسبة لأغاني الطلبة الهزلية والأغنية الشعبية، فإن المسافة الجمالية بينها وبين أغاني التروبادور لا تنفي دورها كمنطلق لنوع خاص من الشعر ستتحدد سماته تدريجيا بعد التفاعل. وهنا لا بد من التذكير بأن الزجل والموشح، اللذين كانا وراء تحديد هاته السمات، تأسسا على الأغنية الشعبية التي تعد الأصل المشترك لهما « … مصوغة في لغة عامية عربية وفي لغة رومية، كان يتحدث بها كثير من المسلمين في تلك البلاد منذ دخل الإسلام إليها »( ) .
بخلاف الأطروحات السابقة، تدافع أطروحة المستعربين عن كون الموشحات والأزجال ساهمت في تشكل الشعر البروفانسي. ولهذه الأطروحة مؤيدون عديدون منهم – على سبيل المثال ريبيرا، ومندث بيدال، وجونتالت بلنثيا، وجومث، وليفي بروفنسال، وشارل بيلا وهنري بيريس، وجب..( ).
وإذا كنا نتفق مع جوهر هذه الأطروحة المتمثل في حدوث التفاعل، كما يستدل على ذلك باختلاف الشعر البروفانسي عن الشعر الديني والدنيوي الذي ظل لردح طويل من الزمن يخرج في ثياب لاتينية في فرنسا وأوربا،( ) فإننا نختلف مع استخفاف بعض المدافعين عنها (نيكل مثلا) بالمراجع المحلية أونفي دورها نفيا تاما، مؤكدين، في هذا السياق، أن دينامية هذه الأطروحة رهينة بفعل المقارنة الذي يأخذ بعين الاعتبار تعدد مراجع الظاهرة الفنية وتحاورها( ). ولعل في المسيرة الإبداعية للشاعر الطليعي غيوم التاسع أمير بواتيي، ما يوضح إجمالا فكرتنا عن هذا النوع من التعدد والتحاور.
2- الغنائية « الفروسية » ظاهرة ثقافية شاملة
2-1: أصل الشعر الغنائي الفرنسي
يجمع الدارسون على أن بلاط غيوم التاسع يعد أصل ولادة الشعر الغنائي الفرنسي، فهذا الشاعر الأمير هو أول من سن قوانينا للشعر الفرنسي القروسطوي، وسكب الإلهام الشعري في قالب صارم ومنتظم. وقد قسموا إنتاجه الشعري إلى قسمين: يتضمن القسم الأول الأشعار التي نظمها قبل مشاركته في الحرب الصليبية ، ويتضمن القسم الثاني الأشعار التي نظمها بعد عودته. مع العلم، أن القسم الثاني ينقسم بدوره إلى قسمين.( )
وإذا تأملنا الأطوار الثلاثة التي قطعها نظم الشعر عند غيوم التاسع من خلال الإحدى عشر مقطوعة التي وصلت إلى القارئ بصفتها أقدم ما نظمه الشعراء التروبادور، سنكتشف تحاور المراجع المتعددة في إنتاجه الشعري المرتبط أشد الارتباط بأحداث وتفاصيل حياته:
– الطور الأول: وتمثله الأغاني الثلاث التي نظمها غيوم وهو في العشرين من عمره بعد طلاقه من زوجته الأولى. وإذا كانت هذه الأغاني أكبر شاهد، بالفعل، على أن الفرنسيين كانوا ينشدون قبل التعرف على الموشحات الأندلسية منظومات شعرية تتجرد من الوزن والقافية ولا تتضمن من الإيقاع إلا اتحاد الحروف الأخيرة( )، فإنها تؤكد في المقابل تلازم النظم والغناء في الشعر البروفانسي قبل الاتصال بالعالم الإسلامي، مما يسر عملية التفاعل مع الموشحات التي « ارتبطت منذ أطوارها الأولى بالموسيقى والغناء »( ).
بالإضافة إلى ذلك، تكشف موضوعات هذه الأغاني عن بصمات الحضارة البيزنطية في فكر هذا الأمير اليقظ ذهنيا والمتحرر حد الخلاعة أخلاقيا، كما يدل على ذلك تأثير أوفيد الذي لن يختفي حتى في الطورين الثاني والثالث. فاستنادا إلى هذه الأغاني الثلاث – التي تمكننا من رسم صورة للحب مرتبطة بوضعية المرأة المتدنية في الوسط الأرستقراطي الفرنسي( ) في الزمن الفيودالي الأول الذي يمتد إلى نهاية القرن الحادي عشر- يتضح البون الشاسع بين تحقير الشاعر للمرأة وتصوير علاقته بها تصويرا خليعا، وبين ما انتهى إليه الشعر الكورتوازي من السمو بالمرأة وبعاطفة الحب.( )
في هذا السياق، نسجل أن بذرة التيمات التقليدية للحب العذري التي كانت موجودة آنذاك في الوسط الثقافي الفرنسي( )، والتي يستند إليها بعض الدارسين الفرنسيين ليضعفوا من التأثير العربي الإسلامي، لم يكتب لها أن تنمو في الأشعار الأولى لغيوم. بل وحتى في الأشعار التي تشكل الطور الثاني، والتي تؤرخ لتطور الشعر الفرنسي على إثر الاتصال بالموشحات الأندلسية عبر دمشق وإسبانيا.
– الطور الثاني: ويتضمن ثلاث مقطوعات ذات طابع هزلي سرد فيها غيوم مغامراته، بعد عودته من الحملة الصليبية. وفي هذه الأشعار الخفيفة المغناة (1101م- 1103م) ظل طيف أوفيد حاضرا على مستوى التيمة، إلا أن الموشحات أعلنت فيها عن حضورها من خلال خصوصية النظم. فخلافا للأغاني الأولى التي غناها قبل مشاركته في الحرب الصليبية، تحمل الأغاني التي غناها بعد رجوعه قواسم مشتركة مع الموشحة الأندلسية على مستوى النظم. بحيث يصح القول ،أنها تمثل بداية الثورة الشعرية في النسق الفرنسي، الذي أحس ساعتها بالحاجة الماسة إلى الالتفات إلى الخارج، واستلهام نموذج الشطر المعروف في الأندلس.
– الطور الثالث: يضم خمس مقطوعات، نستثني منها مقطوعة حزينة يودع فيها غيوم العالم والفروسية. وتتميز المقطوعات الأربع المتبقية، بالإضافة إلى جدة الشكل، بكونها تفاجئ متلقي القرن الثاني عشر الفرنسي، بصورة جديدة للمرأة وبفلسفة مختلفة للحب، تمثل بداية تحول في الوسط الأرستقراطي.
ومع أننا نرى مع المستعربين، أن فلسفة الحب العذري الإسلامية قد ساهمت في هذا التغيير، إلا أننا ننظر إليها بصفتها مؤثرا لامس روح غيوم وساهم في تحريرها. ذلك أن اختفاء الشاعر السفيه الذي كان يسخر من النساء في أسلوب فج ووقح، لم يحدث إلا بعد أن عشق غيوم زوجة جاره الكونت دو شاترلو، أي بعد أن عرف الحب الحقيقي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الجانب الحسي بصفته النهاية الطبيعية لعاطفة الحب الصادقة المتبادلة بين عاشقين ظل حاضرا في تصوره الجديد للحب، كما يتضح من مقطوعة « لن أعشق سواها »( ) التي تختلف عن مقطوعات الشعراء التروبادور المتأخرين، التي تتغنى بالحب المثالي الذي يلغي الوصال.
نخرج إذن، من خلال تأملنا للأطوار الثلاثة التي مر منها شعر غيوم، باستنتاجين عامين متقابلين:
أ- جذبت الحاجة إلى إيقاع موسيقي يتفق مع الشعر الغنائي، الإنتاج المحلي الفرنسي ممثلا في أشعار غيوم إلى استلهام نظم الموشحات الأندلسية. وإذا أضفنا إلى مقطوعات غيوم أشعار كل من، سيركامون، وماركابرو وجوفري روديل،… وأخذنا بعين الاعتبار التلازم بين النظم والغناء، أي صورة هؤلاء الشعراء والمغنين الجوالين الحاملين آلاتهم على ظهورهم، سيتبين لنا مدى تفاعلهم مع الزجالين والوشاحين الأندلسيين على مستوى الشكل، ويتجلى هذا التفاعل بداية « في استعمال الآلات الإسلامية وأسلوب الأداء المتمثل في الانسجام بين الشعر واللحن، أي بين الإيقاع الشعري وإيقاع اللحن، كما(…) يتجلى… في طريقة / النظم المقتبسة من الموشحات والأزجال، بما تعتمد من تقسيم هيكلي وإيقاع منوع وتقفية متعددة وبالخرجة التي تتخذ فيها كاللازمة.
هذا بالإضافة إلى تأثرهم بإيقاعية البيت أو الشطر »( )، كما يتضح مثلا من المقابلة بين الشكل العام للموشحات ممثلة هاهنا بموشحة ابن اللبانة « شاهدي في الحب من حرقي »( )، وشكل مقطوعات شعراء التروبادور، التي نأخذ كمثال عنها مقطوعة « قلبي يتنهد » لبرنار دو فانتادور( ):

Mon cœur Soupire شاهدي في الحب من حرقي
De bonne foi sans tromperie ,
J’aime la plus belle et meilleure,
Mon cœur soupire, mes yeux pleurent ,
De trop l’aimer pour mon malheur.
شاهدي في الحب من حرقي
أدمع كالجمر تنذرف
تعجز الأوصاف عن قمر
خده يدمي من النظر
بشر يسمو على البشر
ب- أما على مستوى التيمة، فتمثل أشعار الطور الثالث بداية تفاعل مؤسس لظاهرة شعرية جديدة اسمها الحب الكورتوازي، التي تتلاقى مع ظاهرة الحب « العذري » العربية في ملامح وتختلف عنها في ملامح أخرى، كما يستدل على ذلك من التمايز بين التسميتين: عذري / كورتوازي .
2- 2 الحب العذري / الحب الكورتوازي
2-2-1. مفهوم العذرية في الموشحات وشعر بني عذرة:
هناك إجماع بين الدارسين على أن الغزل يحتل مكان الصدارة في الموشحات الأندلسية، وعلى أن الوشاحين الأندلسيين تناولوا تيمة الحب من زوايا متباينة، حيث تعايش التيار العذري القوى الحضور في هذه الموشحات كما في موشحة « ميتات الدمى » وهي من الموشحات التي ترد في « دار الطراز »( )، مع تيارين أساسيين، نمثل لهما بالغزل الإباحي والغزل بالمذكر.
ومما لا شك فيه أن التيار العذري القوي، الذي يهمنا هاهنا في الموشحات، شديد الصلة بمفهوم الحب العذري عند الشعراء العذريين، والذي تمتد جذوره إلى بعض شعراء العصر الجاهلي أمثال عنترة بن شداد( ). وقد أثار مفهوم « العذرية » في شعر بني عذرة نقاشات عديدة في أوساط الباحثين العرب المحدثين( )، أدت في النهاية إلى تكوين فكرة أكثر واقعية عن هذا النوع من الحب الذي يسمو بالحبيبة الواحدة، والذي فرضته بنية اجتماعية محكومة بذهنية خاصة، فأصبح مقابلا للحب المستحيل الذي انتهى إليه الحب الكورتوازي مع الفارق.
-2-2- 2. الفروسية الغرامية
بخلاف الحب « العذري » في الموشحات والأزجال التي كانت فنا شعبيا يتداوله الناس جميعا من مواطنين محليين وعرب فاتحين( )، يعتبر الحب « الكورتوازي » حبا أرستقراطي النشأة والتطور. ولا يؤثر في هذا المعطى انتماء كثير من شعراء التروبادور التالين لغيوم التاسع و جوفري روديل، إلى طبقات اجتماعية متواضعة – كما هو الحال مثلا بالنسبة للشاعرين برنار دو فانتادور وماركابرو- لأن هؤلاء الشعراء الذين يتمتعون بقدر وافر من ثقافة عصرهم، كانوا يحسون ويفكرون مثل النبلاء الذين كانوا يخالطونهم ويحظون برعايتهم.
لقد كان الحب الكورتوازي، إذن، وثيق الصلة بمؤسسة الفروسية التي قطعت أشواطا في فرنسا نمثل لها بمرحلتين أساسيتين: تعود المرحلة الأولى إلى العصر الفيودالي الأول وتتميز بجفاف الطبع وبالغياب التام للدور النسائي، وتبتدئ المرحلة الثانية مع العصر الفيودالي الثاني الذي بصمته الحروب الصليبية، إذ كان من نتائجها تحول أسلوب حياة الأسياد بالكامل. فكما يحدث كلما تواجهت حضارتان متفاوتتان، كان للشرق الأكثر تحضرا وغنى من الغرب، تأثير كبير على الفرسان الصليبيين، الذين نقلوا إلى مدنهم مظاهر المدنية الشرقية التي ساهمت في تطور المجتمع والأخلاق والعمران والاقتصاد، ومن بينها فلسفة الحب العذري( ). مما يعني، أن فلسفة الحب الجديدة التي أخذت تتسرب بالتدريج إلى بنية المجتمع النبيل الفرنسي، ساهمت بقوة في تطور مؤسسة الفروسية وتغير معالمها.
إلا أن مفهوم الحب المستوردة معانيه تلون، في المقابل، بلون التراتبية الاجتماعية السائدة في هذا المجتمع. حيث أدى التطور التدريجي السريع من الحب الحسي الفج قبل الحروب الصليبية إلى الحب الكورتوازي، إلى تكريس وضعية التراتبية الاجتماعية الموروثة عن المجتمع الفيودالي الأول على المستوى الطبقي، في نفس الوقت الذي خلخل فيه التراتبية على مستوى النوع / الجنس، بواسطة استلهام الشعراء للقوانين الضابطة لعلاقة الفارس بسيده لوصف طبيعة العلاقة التي تربطهم بمعشوقاتهم. ففي مؤسسة « الفروسية الغرامية » المتفرعة عن مؤسسة الفروسية العتيدة، حل الفارس (أميرا كان أم غير أمير) محل التابع الذي ينتمي بلا أدنى تحفظ لسيده، وحلت المرأة النبيلة في المقابل محل السيد / الأمير لتمنح تابعها (التروبادور)، مقابل خدمته العاطفية، الحماية والعون الذي قد يتلخص في ابتسامة من بعيد( ).
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الشعر الكورتوازي – المشروط بتحولات اقتصادية وسوسيو – ثقافية بقدر ما يشرطها – قد تدرج في علاقة الفارس بسيدته، بشكل يتماشى وسيرورة التطور الناتج عن تفاعل غذته الوضعية الاجتماعية للشاعر الفارس وتفاصيل حياته.
3. سيرورة تطور مفهوم الحب الكورتوازي
بدأ شعر التروبادور، كما أسلفنا، مع شاعر أمير امتزجت لديه في نهاية المطاف النظرة الحسية الأوفيدية للحب مع النظرة الروحانية المستوردة من العالم العربي الإسلامي، فتغنى بالحب الحقيقي بدل التغني بالحب « العفيف ». وقد أدت الوضعية الاجتماعية للسيدة المعشوقة بصفتها سيدة متزوجة، إلى سن بند جديد سيؤثر على أجيال الشعراء اللاحقين، وسيشكل بداية تمرد علني عجيب على المواضعات الاجتماعية وقوانين الكنيسة. وفي سياق المقارنة، نسجل أن استمرار الشعراء العذريين العرب في حب معشوقاتهم بعد زواجهن، لا يشبه في شيء حب السيدة المتزوجة الذي يمثل أساس الشعر الكورتوازي، لأن الأصل في شعر بني عذرة هو حب متبادل بين الشاعر وحبيبته قبل تزويجها( )، كما يستدل من قول مجنون ليلى( ):
قضى الله بالمعروف منها لغيرنا وبالشوق مني والغرام قضى ليا
مع الجيل الثاني من شعراء التروبادور، ستتحدد أكثر طبيعة هذا النوع من التمرد، وتخصيصا مع الأمير الشاعر جوفري روديل، الذي بدأ مسيرته الشعرية بشعر يمزج بين النظرتين الحسية والروحانية، قبل أن يكرس نفسه اضطرارا للحب العفيف بعد أن أغرم عن طريق السماع بأميرة طرابلس (لبنان) البعيدة. ومما لا شك فيه أن حب الأميرة الغائبة، الذي تغنى به في قصيدته الشهيرة « حب من بعيد »( )، هو الذي يمثل الخطوة الأولى في مسيرة تطهير الحب وإضفاء الطابع الروحاني عليه بجعله رديفا للحب المستحيل( ).
ويرجع الدارسون الفضل في رسوخ هذا النوع من الحب بأبعاده المتشابكة إلى الشاعر برناردو فانتادور، الذي يخصونه بصفة شاعر من بين الشعراء التروبادور، لتميز نظمه وصوره الشعرية( ). فهذا الشاعر الكبير، هو الذي رسم الصورة النهائية للحب الكورتوازي بإضافة بند علو مكانة السيدة المعشوقة على مكانة العاشق إلى بند زواجها، مما ضاعف عراقيل الوصال وجعل من الحرمان ركنا أساسيا في هذا الحب. وهذا يعني، أن الحب الحقيقي عند دو فانتادور هو أن يحب العاشق بشكل كامل، أي أن يحب الروح والجسد معا، غير أن العراقيل الاجتماعية والطبقية اختزلت سعادته في أن يتغني بهذا الحب الذي يضاعفه الحرمان ويسمو به( ).
ومن نافلة القول التذكير، بارتباط بند المعشوقة الأعلى مقاما بحياة دو فانتادور الخاصة، حيث أغرم هذا الشاعر ذو الأصول المتواضعة بداية بزوجة ابن راعيه وحاميه السيدة دو فانتادور، وحينما طرده الكونت دو فانتادور من القصر، التحق بالأميرة إليونور الأكيتانية ورافقها إلى إنجلترا عندما أصبحت ملكتها.
أثناء تغني دو فانتادور بالحب الحقيقي، الذي يتضمن الرغبة غير المشبعة، كان بعض معاصريه يتغنون عل سبيل التجديد بالحب المثالي الخالي من الجانب الحسي، والذي ستتعمق معانيه وستتكرس مع الشعراء اللاحقين، الذين أصبح الحب عندهم – بصفته عاطفة نبيلة – يمثل الغاية القصوى. وهذا الحب المثالي، الذي لا يستهدف امرأة بعينها – والذي انتهى إلى إحلال مريم العذراء محل المعشوقة( ) – هو الذي انتشر فيما بعد عبر أرجاء أوروبا.
4 – تركيب:
تفضي المقارنة بين معاني الحب في الشعر العذري العربي ومعانيه في الشعر الكورتوازي، وخاصة عند الجيل الثالث من الشعراء التروبادور، إلى تأكيد التشابه بين الظاهرتين الشعريتين. ونجمل المعاني المشتركة في:( )
– التذلل للحبيبة وعبادتها، وهو أمر لا ينتقص من رجولة العاشق بقدر ما يكملها.
– وصف الحالة النفسية للشاعر من ألم، وحرقة، وعذاب جراء الحب والفراق.
– الوفاء للواحدة مهما قست وقست الظروف.
– الشكوى من القدر المفرق بين الأحبة.
– التوجس من الرقيب والعاذل والواشي.
– الحاجة إلى مساعد .
– الشحوب والذهول أمام الحبيبة.
– السمو بها فوق مستوى البشر.
– اعتبارها الأفضل بين النساء و النموذج الأعلى للجمال .
إلا أن هذا التأكيد لا يعني أننا أمام ظاهرتين شعريتين متطابقتين، فبواسطة المقارنة تبين لنا أننا أمام ظاهرتين متمايزتين تمتلك كل منهما ضوابطها الخاصة رغم التشابهات. فإذا كان صحيحا أن الغرب « لم يكن… يعرف مثل تلك النغمة في الحب، ولم يكن أحد من شعراء الغرب ليعبر عن حبه في ذلك الأسلوب »( )، فإن النغمة المستوردة قد تلونت بلون الثقافة الفرنسية القروسطية في الجنوب ثم الشمال، وتفاعلت مع الوسط الطبقي الذي انبثق منه أول تروبادور ومع تفاصيل حيوات الشعراء اللاحقين وإبداعيتهم لتؤسس خصوصيتها التي نعطي كمثال عنها:
بندا الحبيبة المتزوجة والأعلى مقاما.
ودون أي خلط بين التخييل الشعري والحقيقة السوسيو – تاريخية، نستنتج أن الحب الكورتوازي امتلك في النهاية سلطة تغيير الذهنية والتأثير في المجتمع بصفته حبا أرستقراطيا متصلا بالبلاط والخاصة. إذ « كان له الفضل في الدفع بالرجال إلى تطوير الفضائل الاجتماعية الأكثر نبلا من أجل استحقاق هذا الحب »( )، كما ساهم في الرفع من مقام المرأة بشكل فضح به مؤسسة الزواج القائمة على المصلحة في الوسط الأرستقراطي من جهة، وأخلاقيات الكنيسة المراعية للظاهر في القرون الوسطى من جهة أخرى.
ذلك أن ما يجعل من الحب الكورتوازي، الذي يقوم على حرية اختيار الحبيب وصدق المشاعر بين الفارس ومعشوقته المتزوجة والأعلى مقاما منه، حبا معقدا هو النظرة الجديدة لمفهوم الخيانة التي انتهى إلى فرضها بصفتها حقيقة من حقائق الوجود لا تملك مواضعات الزواج ولا الأخلاقيات الدينية، إلى حين،( ) حيالها شيئا، كما يدل على ذلك تسامح الكنيسة ساعتها مع جلسات التحكيم التي كانت تعقدها النساء النبيلات للبث في شكاوى المتنازعين من هذا النوع من الأحبة، والتي كانت من خلالها تقنن علنيا الخيانة المعنوية. مما يفيد، أن أخلاق القرن الثاني عشر الجديدة، انتهت إلى حصر معنى الخيانة في منح الجسد لغير الزوج، وهو ما تستمر في إدانته بصرامة بحبس المرأة في دير مدى الحياة. أما منح الروح للحبيب، الذي يعد البند الأساس في الحب الكورتوازي، فقد أصبح العلامة المميزة للأخلاقيات الجديدة( ).
في النهاية نشير إلى أن هذه العقيدة الجديدة مثلت بداية ولوج المرأة الفرنسية العلني إلى ميدان الثقافة، فإلى القرن الثاني عشر يتم إرجاع خلق نموذج السيدة العظيمة المثقفة (إليونور الأكيتانية كمثال…) التي تدير صالونا له القدرة على فرض معايير جديدة وتلقين سلوكيات الفعل والحديث



- ظاهرة الحب « الكورتوازي ».. من زاوية التفاعل مع ظاهرة الحب « العذري »
فاتحة الطايب
جامعة محمد الخامس / الرباط
 
أعلى