نقوس المهدي
كاتب
هناك خلط وربط عجيب بين الحب العذري والحب الأفلاطوني (المثالية الأفلاطونية) عند بعض المستشرقين، خاصة المستشرق الهولندي رينهارت دورزي مكتشف النسخة الوحيدة من مخطوطة (طوق الحمامة في الألفة والألاف) لابن حزم والذي للأسف روج هذا الربط عند جمهور كبير من الأوروبيين حتى الثلث الأول من القرن العشرين.
وعنهم أخذ الأدباء والمفكرون العرب ونشروا بين العامة، وصف الحب الأفلاطوني بأنه حب عذري, وهذا خطأ كبير. إذ لا توجد علاقة وثيقة أو وجه شبه بين هذين النوعين من الحب بما يسمح بترادفهما، بل إن البيئة التي نشأ فيها كل منهما لا تتشابه مع بيئة الآخر.
فالحب العذري نشأ في بيئة إسلامية عربية خالصة لا تعرف ذلك الفارق الذي يحتمه الحب الأفلاطوني بين الروح والجسد، لذالك حرصت الدراسات المنصفة غير العربية علي ترجمة الحب العذري بمسماه العربي نفسه، ففي الحب العذري ركن من أهم الأركان وهو المرأة بصفتها المحبوبة، في حين لا مكان لها عند أفلاطون، ودورها لا يتعدي دور المنجبة للأطفال والمحافظة على النوع البشري، ولم تضم مأدبة أفلاطون نساء، ويرتبط الحب عنده بمفهوم التدرج السُلَّمي الذي تعلوه الروح درجة درجة, وصولاً إلى التحرر الكامل عن الجسد (فالأفلاطونية تقسم الإنسان والعالم إلى قسمين متنافرين: الروح ـ الجسد، العقل ـ الحواس، المادة ـ المُثل). لذلك فإن التعبير الذي يتردد عن أن رجلاً يحب امرأة حباً أفلاطونياً تعبير خاطئ.
ماهية الحب الأفلاطوني:
لأفلاطون في الحب محاورة مشهورة تسمي «المأدبة»، أجرى فيها الحوار بين سقراط وبعض معاصريه من الفلاسفة والأطباء والشعراء والسوفسطائيين ورجال السياسة، والمحاورة في مجموعها تصور مذهب سقراط في الحب، وإن عبَّر كل متحاور عن وجهة نظره، وطبع كلامه بطوابع شخصيته الخاصة.
- وملخص المحاورة:
أن الحب أقدم الآلهة وأفضلها، فهو الذي يبعث في الإنسان الإحساس بالشرف وينمّى فيه الإيثار وروح التضحية. وأنه يجب التفرقة بين نوعين من الحب: نوع دنيء وضيع يلبي النزعات الجنسية، وهو حب النساء والحب الشاذ للغلمان، ونوع نبيل شريف يخلّو خلواً تاماً من كل نزعة جسدية وشهوة بهيمية، وهو الحب النقي البريء ذلك الحب الذي يرتفع عن الصغائر ويتنزه عن الدنايا والذي يكسب صاحبه المعرفة والحكمة والفضيلة، من ذلك الحب الذي ينشأ بين الأستاذ وتلاميذه أو مريديه (هذه العبارة أوحت خطأ للباحثين قديماً وحديثاً أن المحاورة ترفع من الحب الشاذ، مع أنها تندد في غير موضع وبصراحة صريحة بهذا الحب، وتشن عليه حرباً شعواء) والمحاورة جميعها دفاع عن سقراط وتعلق شباب أثينا بآرائه وكلفهم بحواره الذي كان يملأ قلوبهم له حباً وحنانا، حتى زعم أعداؤه أنه يفسدهم وأنه يَزْدَري قوانين الخُلق والعرف والدين، وحوكم محاكمة ظالمة أودت به وقضت علي حياته.
ثم تُختتم المحاورة بدفاع قوي حار عن سقراط، مصورة الحب العارم بينه وبين تلاميذه، وهو حب نقي بريء ممعن في النقاء والبراءة، إذ كان سقراط نبيل النفس صافي الطبع كريم الخلق وكان الشباب يفتنون به فتونا. إذن كانت المحاورة دفاعاً عن سقراط وعن تعلق تلاميذه المشروع به، وإن كان أفلاطون قد ضمنها الحديث عن الحب الجسدي الوضيع وعن حبه الأفلاطوني الرفيع. فهل في هذه المحاورة عن الحب ما يمكن أن ندعوه شبيهاً أو حتى قريب الشبه بالهوى العذري؟ بالوقوف على ماهية الحب الأفلاطوني نراه يقوم على مدينة فاضلة وهو نتيجة دراسة عميقة على أسس فلسفية. فهو حب علمي وعقلي يلعب فيه العقل والتفكير الرصين دوراً مهماً وتسيطر إرادة المحب الأفلاطوني على حبه. هو حب لا يوجد فيه ممارسات جنسية، خالٍ من الشهوة الجنسية ومثال هذا الحب الصداقة التي تقوم بين المَثَلين. فالحب الأفلاطوني الذي دعا إليه أفلاطون في كتابه «المأدبة» واحتفل به كثيراً ورأى فيه أتم أشكال الحب وأسماها، إنما هو ذلك الحب الذي يكون بين ذكرين على نحو كانت تمارس فيه الجنسية المثلية، ثم ترقى أمر هذه الممارسة إلى لون من الاستعلاء والتسامي الجنسي والروحي بين الذكرين. فالحب بين الذكر والذكر هو الحب بالروح وليس الجسد، وبرأيه أن روح الرجولة العالية القوية تدفعهم إلى مصادقة أندادهم وأشباههم ولا يبغون وراء صداقاتهم مكسباً، وعلة ذلك «أننا كنا أصلاً كائناً واحداً، وليس الحب إلا تعبيراً عن الشوق إلى العودة للأصل».
الحب الأفلاطوني هو الترفع عن المادة والسمو بنورانية الروح، حيث يبدأ الإنسان بحب الأشكال الجميلة ثم يرتقي إلى حب النفوس وينتهي إلى حب المعرفة. فالحب الأفلاطوني الذي تكلم عنه أفلاطون في «المأدبة» هو الحب العلوي الأفلاطوني وهو الحب المثالي الذي يرقى فيه العقل فوق العالم الحسي ويرتفع عن العالم الروحي المقيد بالأشخاص إلى عالم الجمال المطلق أو المثالية المطلقة وهذا الحب عند أفلاطون غاية الغايات. لأن الإنسان كان مجرد روح تعيش في عالم المثل فلما حكم عليه بالتواجد المادي بالولادة فإنه ينغمس في العالم المادي وينسى عالم المثل حتى يصادف الجمال فينتقل من حب الصورة الجميلة إلى حب النفس الجميلة إلى حب مثال الجمال حيث عالم المثل وحب الفلسفة.
الحب الأفلاطوني هو الترفع عن المادة والسمو بنورانية الروح، حيث يبدأ الإنسان بحب الأشكال الجميلة ثم يرتقي إلى حب النفوس وينتهي إلى حب المعرفة. فالحب الأفلاطوني الذي تكلم عنه أفلاطون في «المأدبة» هو الحب العلوي الأفلاطوني وهو الحب المثالي الذي يرقى فيه العقل فوق العالم الحسي ويرتفع عن العالم الروحي المقيد بالأشخاص إلى عالم الجمال المطلق أو المثالية المطلقة وهذا الحب عند أفلاطون غاية الغايات
درجات الحب لدى أفلاطون:
- حب الجمال في شكل واحد معين.
- حب الجمال في كل الأشكال الجميلة.
- حب الجمال الروحاني.
- حب الجمال في المثل.
- حب الجمال المطلق.
ويجب أن يمر الإنسان بمرحلة تلو الأخرى ليعرف معنى الحب الأفلاطوني الصحيح. فالحب الأفلاطوني وسيلة للحق والإبداع والإنتاج ولا يتفتح العقل للجمال المطلق إلا بعد أن يكتوي بنار العلم والفن والحكمة. إذاً ففي كتابه «المأدبة» رأى أفلاطون أن هناك وظيفة للقلب تسمح بالانتقال من مفهوم الجمال الحسي إلى مفهوم الجمال الكامل للمثال المطلق.
فكان الحوار في هذه «المأدبة» يرفع من الحب الأرضي للحب السماوي. فلدى أفلاطون لا تتحقق السعادة إلا بإخضاع الشهوات الحسية لصوت العقل الذي يلزم الإنسان باتباع الخير واجتناب الشر، ويقوم الخير عنده على الخلاص من الشهوات وقمع اللذات بالتطهير والفضيلة حيث الفرار من عالم الحس إلى التأمل الفلسفي.
أما رأي أفلاطون في المرأة فلا فرق لديه بين الرجل والمرأة في جمهوريته، فهو يراها كالرجل والاختلاف في التكوين الجنسي فقط، ورغم اعترافه بأنها أقل قدرة من الرجل فإنه يقول بأنه لا يوجد عمل في الحياة تختلف في أدائه طبيعة الرجل عن طبيعة المرأة، وتصبح المرأة بنظره تملك كل قدرات الرجل، لكنها لا تملك القوة ذاتها، وعلى المرأة أن تنال نصيبها من التعليم والتدريب وتنشأ نشأة مماثلة لنشأة الرجل وأن تتدرب على فنون الحرب، لأنها ستمارس المهام ذاتها التي يمارسها الرجل، وعلى المرأة أن تتدرب على الشجاعة التي تحتاج إليها الدولة. أما بالنسبة للعلاقة الجنسية فيرى أفلاطون أن العلاقة الجنسية خاضعة للحاجة الجنسية العامة التي تنتج عن رغبة الطرفين, والدولة في جمهوريته تقوم بجمع الجيد بالجيد والمقبول بالمقبول والضعيف بالضعيف، وإن ارتكب الرجل الخيانة الزوجية ضد زوجته فإنه يرتكب خطأ ضد المجتمع بأكمله ويحاسبه المجتمع ويجرد من حقوقه.
وألغى أفلاطون جسد المرأة وجعله آلة تفريخ -أداة للإنجاب مما أدى إلى إلغاء دور الأسرة. ولم يلغ الجسد كرهاً بالمرأة، بل لعدم ثقته بالظواهر الحسية. والدولة هي التي تختار الذكر المميز للأنثى المميزة لتبني العلاقات الزوجية على أساس الطبقة العقلية والتكافؤ الشخصي لتصنيف وتنقية شعب الجمهورية لإبقاء الجيد ومعالجة السيئ.
فنستنتج مما سبق أن الحب الأفلاطوني حب علمي عقلي يقوم على التفكير الرصين، والعقل يسيطر فيه على إرادة المحب، حيث يرقى فيه العقل فوق العالم الحسي ويرتفع عن العالم الحسي إلى عالم الجمال وللحب الأفلاطوني موضوع نهائي وهو الله أو الجمال المطلق. والحب ليس غاية بذاته بل هو وسيلة للخلق والإبداع.
ماهية الحب العذري:
للحب عند العرب منازل ومراتب متعددة، أول مراتبه: الهوى، وهو الميل إلى المحبوب، ويليه: الشوق، وهو نزوع المحب إلى لقائه، ثم الحنين : وهو شوق ممزوج برقة، ويليه الحب، وهو أول الألفة، ثم الشغف، وهو التمني الدائم لرؤية المحبوب، ويليه الغرام، وهو التعلق بالمحبوب تعلقاً لا يستطيع المحب الخلاص منه، ثم العشق، وهو إفراط في الحب ويغلب أن يلتقي فيه المحب والمحبوب، ثم التتيم، وهو استعباد المحبوب للمحب، يقال تيمه حباً، ويليه الهيام، وهو شدة الحب حتى يكاد يسلب المحب عقله، ثم الجنون:، وهو استلاب الحب لعقل المحب.
وتتكرر مع مراتب الحب كلمات مثل: الولع، وهو شدة التعلق بالمحبوب، والشجن: وهو الهمّ والكرب، واللوعة: وهى الألم، وتباريح الحب، وهي شدائده، والجوى: وهو كتمانه والضيق به، والكمد: وهو الحزن الشديد، والوجد: وهو الصبابة وشدة الحب، والوله: وهو التحير من شدة الوجد، والكلف: وهو الاستغراق في الحب. بينما الحب العذري هو غاية بذاته، حب يتغنى بالعشق ويذوب به ويعيش من أجله، وموضوع الحب هو الحبيبة، ونرى المحب العذري نفسه ممزقة بين الانجذاب المادي للجسد الأنثوي والتعلق الروحي بالروح والعفة، خوفاً من السقوط في الإثم. انطلق هذا الحب من الغريزة ولكنه أفلت من تقلب الأهواء ولجأ للعفة، وعاش في ديمومة وفضل الحرمان على اللذة، لأنه كما يقول شكري فيصل استجابة طبيعية لأثر التعاليم الإسلامية في النفس العربية المسلمة، وهذا هو سبب تحوله من مادي حسي إلى روحي عفيف، ففي هذا الحب الجارف والقوي لا يلتقي الحبيبان بسبب العادات الاجتماعية والموروثة عند العرب التي تمنع الحبيب من الزواج بحبيبته، فيتسامى المحب ليصل إلى العفة والمثل العليا. والحب العذري: عاطفة مشبوبة يهيم فيها المحب بحبيبته، ويرجو الحظوة بوصالها ولكن تتضاءل لديه النظرة إلى المتع الحسية، إذ يطغى عليها حرص المحب على استدامة عاطفته في ذاتها، وعلى اعتزازه بها مع التضحية في سبيل الإبقاء عليها بما يستطيع بذله من جهد وآلام. إذاً فالحب العذري حب زاخر بالمشاعر القوية مليء بالعاطفة المتقدة متقيد بالأخلاق كالعفة والوفاء والإخلاص. ويتجه فيه الشاعر العذري بالغزل العفيف حيث يضنيه الحرمان ويذيبه الشوق والعشق ولكنه يخاف على كرامة محبوبته وسمعتها، لذلك كان يخاف الله فيما يأتي وفيما يقول. وتجدر الإشارة إلى أن الحب العذري منسوب إلى بني عذرة وهم إحدى قبائل قضاعة التي كانت تنتشر شمال الحجاز وكان بنو عذرة، يسكنون وادي القرى الممتد بين تيماء وخيبر، ولقد نشأ الحب العذري بعد الإسلام واتضحت معالمه في عهد الأمويين، وهو حب شريف وعفيف يكابد فيه المحب الحرمان بسبب بعده عن المحبوبة بحكم العادات الاجتماعية الموروثة. ولكن للمرأة فيه حرمة مقدسة وقالت إحدى نساء هذه القبيلة «فينا التعفف والعفاف وهذا يورثنا رقة القلب والعشق يفني آجالنا».
ويقول قيس إلى ليلى:
الله يعلم أن النفس هالكة
باليأس منك ولكني أمنيها
فنظرة الحب العذري للمرأة على أنها الفردوس المنهوب أو المفقود وهي جوهر السكن النفسي والمرأة روح قبل أن تكون جسداً. ونرى لديهم توحيداً بين الذات المحبة والذات المحبوبة لدرجة الاتحاد والذوبان والانصهار، والعاشق مخلص لمن يحب وفي يحترم المرأة التي أحبها حاضرة أم غائبة. وهؤلاء العذريون لا يعتقدون أن الحب معصية ما دام فيه تعفف وصدق، لذلك يشهدون الله على حبهم ويعتقدون نفسهم ضحايا القدر. يقول جميل بثينة:
لقد لامني فيها أخ ذو قرابة
حبيب إليه في ملامته رشدي
فقلت له: فيها قضى الله ما ترى
علي وهل في ما قضى الله من رد
للحب عند العرب منازل ومراتب متعددة، أول مراتبه: الهوى، وهو الميل إلى المحبوب، ويليه: الشوق، وهو نزوع المحب إلى لقائه، ثم الحنين : وهو شوق ممزوج برقة، ويليه الحب، وهو أول الألفة، ثم الشغف، وهو التمني الدائم لرؤية المحبوب، ويليه الغرام، وهو التعلق بالمحبوب تعلقاً لا يستطيع المحب الخلاص منه، ثم العشق، وهو إفراط في الحب
فمن خصائص وسمات وجوهر وطبيعة هذا الحب:
- موضوع الحب هو الحبيبة والصدق في المحبة.
- الإفراد في المحبة، حيث يتعلق المحب العذري بمحبوبة واحدة فقط ويرى فيها الغاية القصوى للجمال والجلال الأنثوي.
- يعرف المحب العذري غالباً مقروناً بمحبوبة مثل (جميل بثينة) و(قيس ليلى).
- الحرارة الملتهبة، حيث يهزأ المحب من برودة العقل ويغمره غليان المشاعر. إنه حب يذهب بالعقل ولا يدع مجالاً لتفسيراته.
- العفة المحصلة: فهو حب لا يعرف للشهوة سبيلاً، فنرى العفة في سجاياهم والصدق في طباعهم ونلمس نفوسهم الأبية وأخلاقهم الشريفة.
- التذلل في الحب والمعاناة والألم والحزن والتشاؤم والبكاء من الحرمان، فهو حب تمنع فيه العادات الاجتماعية عند العرب من الزواج بالحبيبة. لذلك يقنعون باليأس والتضرع والنجوى، ومن طبيعة الحب العذري أيضاً أن القتيل يبكي قاتله ولا يحقد عليه، نستشهد على ذلك بقول جميل:
خليلي فيما عشتما، هل رأيتما
قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي؟!
- المحب العذري يخلق لمحبوبته شمائل وقوة روحية تسيطر على هداه.
- الديمومة.
- الحب قضاء من الله لا مفر منه وهو سنة الحياة. يقول جميل بثينة:
فلا تكثروا لومي فما أنا بالذي
سننت الهوى في الناس أو ذقته وحدي
- صراع مع رغائب النفس والعفة وغلبة البيئة الدينية وغالباً ما يكون الخروج من هذا الصراع هو الجنون أو الموت. وكما أن الجهاد هو الصورة المشرفة في الإسلام والجهاد خير الدنيا وخير الآخرة. وبما أن الجهاد النفسي والديني ينبعان من المعاناة الشديدة واحتمال الأذى. كذلك المحب العذري لجأ للجهاد النفسي مكان الجهاد الديني فأصبح شهيد الحب. مثل جميل بثينة عندما عبر عن عواطفه القلقة والثائرة والمتلظية وعبر عن جهاد النفس بمداراة رغباته المكبوتة وعواطفه الملتهبة حيث قال:
يقولون: جاهد يا جميل بغزوة وأيُّ جهاد غيرهن أريد؟!
لكل حديث عندهن بشاشة
وكل قتيل بينهن شهيد
فهو حب حتى الموت، وإذا بدأ فلا نهاية له إلا بنهاية الحب، والموت يمثل لهم انعتاقاً من الألم والخلاص من هذا العذاب الشديد عذاب الحرمان.
يقول جميل بثينة:
يهواك ما عشت الفؤاد فإن أمت
يتبع صداي صداك بين الأقبر
- العالم الخارجي صورة لعالمهم الداخلي وانعكاس له.
- الطيف أو الخيال يساعد العذري على التماسك الداخلي لأن القهر لا يمكن أن يقهر الخيال.
والحب العذري يعكس التمزق بين المثال والحاجة أو بين رغبات المجتمع ورغبات الفرد وحاجاته، أي أن الحب العذري ناتج عن التصادم بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع في نفسية العذري.
فالحب العذري تجسيد للذات التي كبتت متطلباتها الغرائزية، مع أن النفس ذات طبيعة غرائزية تشكل ضغطاً من أجل إشباع حاجاتها.
وهذا الوجع الحسي نتيجة استجابة الفرد للنواهي الاجتماعية والدينية وموقفه من المحارم يثير في نفسه القلق والخوف من الإثم، فالطبيعة العذرية تكبت غرائزها الفطرية فتبدو لنا ملامح الانشطار الداخلي عند المحب العذري «كلما اصطدم طلب اللذة بمقتضيات الواقع».
كيف نشأ الحب العذري
عُرِفَ المجتمع الجاهلي بقبليته واعتماده على الصيد والخروج للصحراء وشرب الخمر ولعب الميسر حتى ساد الشعر اللاهي الذي كان يصور غير مبالٍ زيارة المحبوبة ليلاً والتصريح الشعري الفج لمفاتن الجسد، ومن رواد هذا الاتجاه:امرؤ القيس، وفي نفس الوقت (العصر الجاهلي) ظهرت طائفة من الشعراء سموا بالمتيمين، تتخذ من الغزل العفيف وجهة لها وأساس أشعارها حتى صار الحب العفيف مقصد كل قصائدهم. كاتجاه مضاد للاتجاه الحسي في الجاهلية. ونما هذا الاتجاه وازدهر في ظل العصر الأموي، وسمى آنذاك بالحب العذري.
هؤلاء المتيمون أول من وضع السمات الرئيسية لهذا الحب من حيث ارتباط اسم العاشق بصاحبته وفنائه في حبها وما يرتبط بهذا من هجر وفراق ولوعة وسقم بل حتى الموت ومن ثم نما هذا الحب وترسخت أشعاره الغزلية العفيفة في العصر الأموي علي يد العذريين.
والحب العذري سمي بهذا الاسم نسبة إلى قبيلة «عذرة» في إرجاء البادية، إذ ظهر في هذه القبيلة عشاق عُدوا النماذج الصحيحة لهذا الحب والمثل العليا له بكل سماته المميزة وطابعة الخاص. وبنو عذرة من قضاعة التي يصل نسبها إلى حِمير اليمنية أو معد العدنانية على اختلاف بين النسابين في ذلك. وكان بنو عذرة ينزلون في البادية العربية شمالي الحجاز (وادي القرى)، وهو واد طويل بين تيماء وخيبر، فيه قرى منثورة وفيه زروع ونخيل، وفيه يقول جميل:
ولقد أجرُّ الذيل في وادي القُرَى
نشوان بين مزارع ونخيلِ
وفي هذا الوادي الممرع الخصب كان بنو عذرة يتنقلون بخيامهم، وقد رزقهم الله من الثمرات ما جعل حياتهم رغدة هانئة بالقياس إلى قبائل الصحراء الذين كانوا يقاسون غير قليل من الشظف، حين تجدب مراعيهم، فتموت القطعان ويهلك الناس. فلم تكن حياة بني عذرة قاسية، ولا كان فيها هذا الجدب المهلك، إنما كان فيها خصب ونماء هيأ لشيء من الفراغ كما هيأ لشيء من الاستقرار وأن تجرى الحياة هادئة، فليس فيها منازعات القبائل على المراعى وما صحب هذه المنازعات من حروب دائرة لا تنقطع. وكان لذلك أثره فيما خلفت بنو عذرة من شعر، فإننا لا نجد عندها شعر الحماسة والفخر والزهو الذي كان منتشراً بين قبائل نجد، وإنما نجد عندها نمطا آخر من شعر غنائي قوامه التعبير عن آلام النفس إزاء الحب وكأنهم لما فرغوا لأنفسهم أو هيأت لهم حياتهم أن يفرغوا لأنفسهم، أخذوا يغنونها هذا الضرب من الشعر الوجداني.
وفي السنة السابعة للهجرة تم دخولهم في الإسلام، ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن النعمان بن هوذة بصدقات قومه الذين اشتركوا في غزوة مؤتة، وكان أحد سادتهم (قطبة بن قتادة) على ميمنة الجيش في حرب القادسية، كما تولى أحد أبطالها (خالد بن عرفطة) الميسرة.
وكان للإسلام أثره في نمو هذا الهوى، بما فرض على الناس من أن يغضوا أبصارهم ولا يأتوا بفاحشة ولا ينتهكوا الحرمات، ولم يقف تأثير مثالية الإسلام عند بني عذرة، فقد أخذت هذه المثالية تطبع شعر البدو في نجد بطوابع واضحة من البراءة والطهارة والتسامي، فلم نعد نقرأ شعر الحب الإباحي الذي كان يردده امرؤ القيس وغيره من شعراء نجد في الجاهلية، إنما أخذنا نقرأ شعراً عفيفاً، فيه نبل، وفيه هذا الحزن الذي يصدر عن نفس ملتاعة تخاف الله فيما تأتى من قول وفعل. وهيأت لهذا الحزن أيضاً بيئة الصحراء وما يخيم عليها من سكون وصمت في لياليها المقمرة الشاحبة، ولذلك لم يكن من الغريب أن تستهل القصيدة العربية حتى في الجاهلية بالبكاء على الأطلال والديار، فطبيعة البيئة الصحراوية تبعث على الشجا والحزن والألم.
-الصحراء والإسلام إذن هما اللذان أعدا لظهور هذا الغزل العفيف الحزين وما طوي فيه من حب نبيل شريف، وهو غزل يعبر عن أسمى العواطف التي يفيض بها القلب الإنساني، غزل نحس فيه لذع الحرمان وأن الرجل يتهيب الاقتراب من المرأة، فهي كائن ملائكي تحول قدسيته دون لمسه، وحتى هي إن وصلته لا يزال يشعر شعوراً عميقاً بالألم واليأس، بل قد يفضى به حبه إلى الجنون أو إلى الموت، وهو لا يأتي ذلك وحده، بل تأتيه المرأة أيضاً سعيدة قريرة العين.
وقد ساعدت رقة مشاعر شعرائها وقوة عاطفتهم على التصاق هذا اللون (الحب العذري) بهم، حتى ليصل العاشق في أحيان كثيرة منهم للموت، لدرجة أن قال رجل منهم: «لقد تركت بالحي ثلاثين شاباً قد خامرهم السل وما لهم داءٌ إلاّ الحب» وسئل آخر: ممن أنت؟ فقال: من قوم إذا أحبوا ماتوا، فقالت جارية سمعته: «عذري ورب الكعبة». حتى إن نساء القبيلة لا يخجلن منه ويصرحن به وكأنه عادة تورث أو تقليد يحاكى وذلك حين سئلت امرأة عذرية بها هوى يدنيها من الموت: ما بال العشق يقتلكم معاشر عذرة من بين أحياء العرب؟ قالت: فينا تعفف، والعفاف يورثنا رقة القلوب والعشق يفني آجالنا.
الحب العذري إذاً، حل وسط بين الحب والدين. وحررت العذرية الحب من إسار الغريزة، وحولته إلى نوع من الجمال والشفافية المطلقة. لذلك دعا بعض العارفين إلى فكرة جديدة، وهي أن العشق العذري وسيلة إلى العشق الإلهي، إذ يقول بعض الصوفيين: «كما أن النساء حبائل الشيطان فهن حبائل العرفان، إذ قد يتوصل العاشق من عشقه إلى معرفة مبدعه لأن المقدمات الصحيحة تنتج الأغراض الصحيحة ومن أمعن النظر في مخلوق زائل ترقى عنده معرفة الفاعل الدائم».
والحب العذري حب مهد الإسلام الحنيف السبيل له، وخلع عليه من قيمه السامية، ما جعله حباً يبعد العاشق عن الانحراف الجنسي، بل يجعله عفاً. وهذا النوع من الحب يأخذ بعداً قلما نجده في أي مجتمع آخر غير إسلامي.
فالعاطفة في الحب العذري تتحد في إطار واحد هو النأي عن الابتذال والابتعاد عما يخدش الحياء أو يدغدغ العواطف أو يثير الغرائز، بل يجعل عاطفته مشبوبة بعاطفة أخرى سامية هي عاطفة الإسلام، الذي يحدد للإنسان مسار خلق قويم ليلتزمه.
وما المحب العذري إلا صوفي خالص، صوفي في ظمئه الذي لا ينتهي إلى رؤية الحبيب ولقائه، وصوفي في تغنيه بعشقه الجامح الذي يملك كل قلبه وكل أهوائه وعواطفه ومشاعره، وصوفي تعييه الحيلة وتعوزه الوسيلة إلى لقاء المحبوب، وإنه ليسير في طريق لا نهاية لها ولا سبيل إلى الدنو من غايتها إلا بإسلام الروح، وصوفي في ارتفاعه عن كل صغائر الحياة، لعله يقترب من قدس الأقداس، وصوفي في ابتهاله وذله وضراعته، وما أشبه شعره بالتراتيل الدينية. لذلك كله لا نغلو إذا قلنا إن هذا الحب العذري هو الذي أتاح لنا هذه الثروة البديعة من الحب الصوفي السامي.
- على هذا قسم الصوفيون الحب إلى حب يملؤه حيّز بشري أو إنسي، وآخر يملؤه حيّز آخر هو الحيز القدسي، حب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وآخر مطلق هو حب الخالق عز وعلا.
صورة المرأة العربية في الحب العذري
حتى صورة المرأة العربية الحبيبة أو المحبة مختلفة تمام الاختلاف عن صورة المرأة الأفلاطونية، فهي هنا يبدو عليها الحياء والوقار والخوف من الله ومن عقاب الآخرة، واحترام العادات والتقاليد العربية الأصيلة. وقد يعشق الرجل المرأة ولا ينالها فيتألم وينتظر أن يلقاها في جنة الخلد فيقول لحبيبته:
نعم المحبة يا سؤلي محبتكم
حب يجر إلى خير وإحسان
إلى نعيم وعيش لا زوال له
في جنة الخلد خلد ليس بالفاني
وقد وصل العذريون إلى مرتبة سامية في هذا الحب من عفة النفس وصدق الحديث. (هنا يجب إيضاح لفظ العفة في اللغة العربية والتي ليس لها مثيل في لغات العالم.فالعفافة: هي بقية اللبن في الشكوة (وعاء من الجلد)، وقد تطلق على ما يبقى في الضرع بعد الحلب.. وهي شيء قليل. ومن رضي بالقليل (هذا اللبن) فهو على خُلق ما.
وقد أجمع العرب على تسميته بالعفة، ومنها تولد معنى العفاف، وهو الرضا بما تيسر حفظاً للكرامة وصوناً للنفس، والعفيف من كان ذلك نعته، ومنه جاء الاسم «عفان» أبو عثمان الخليفة الراشد رضي الله عنه على وزن فعلان من عف، كعطشان من عطش).
كان للإسلام أثره في نمو هذا الهوى، بما فرض على الناس من أن يغضوا أبصارهم ولا يأتوا بفاحشة ولا ينتهكوا الحرمات، ولم يقف تأثير مثالية الإسلام عند بني عذرة، فقد أخذت هذه المثالية تطبع شعر البدو في نجد بطوابع واضحة من البراءة والطهارة والتسامي، فلم نعد نقرأ شعر الحب الإباحي الذي كان يردده امرؤ القيس وغيره من شعراء نجد في الجاهلية
يقول جميل بن معمر واصفاً روحه الهائمة في المحبوب بعزة نفس وعفة قلب ورفعة روح وسمو ويفخر بهذا الموقف الروحي الذي يترفع عن دنايا الحياة ويسمو محلقاً عن الفواحش والخطايا:
لا والذي تسجد الجباه له
ما لي بما دون ثوبها خبر
ولا بفيها ولا هممت به
ما كان إلاّ الحديث والنظر
ما إن دعاني الهوى لفاحشة
إلا نهاني الحياء والكرم
فلا إلى محرم مددت يدي
ولا مشت بي لزلة قدم
وهذا شيخ العشاق قيس بن الملوح يقول:
تتوق إليك النفس ثم أردها
حياء ومثلي بالحياء خليق
وشعر العذريين كلهم - من دون استثناء - وأخبارهم تضوع بهذا العطر النقي الصافي، عطر الطهر والعفة والفضيلة، يقول جميل:
وكان التفرق عند الصباح
على مثل رائحة العنبر
خليلان لم يقربا ريبة
ولم يستخفا إلى منكر
وإذا تفاقمت الخطوب في مواجهة الشاعر لوصال الحبيبة واحتشدت العثرات وصار الهوى جداراً حائلا بينه وبينها، يلوذ بصمته ويهفو بروحه إلى لقاء الحبيبة في الآخرة، حيث لا رقيب ولا موانع تقف في مواجهته. ويقول معبراً عن ذلك:
لئن منعوني في حياتي زيارة
أحامي بها نفسا تملكها الحبُ
فلن يمنعوني أن أجاور لحدها
يجمع جسمينا التجاور والتربُ
ويقول عبد الرحمن ابن أبي عمار الناسك – القس- صاحب سلامة:
أهابك أن أقول بذلتُ نفسي
ولو أنى أطيع القلبَ قالا
حياءً منكِ حتى سُلَّ جسمي
وشَقَ عليَّ كتمانى وطالا
أما العباس بن الأحنف، صاحب فوز، فيقول:
أتأذنون لصب في زيارتكم
فعندكم شهواتُ السمع والبصرِ؟
لا يضمر السوءَ إن طال الجلوسُ به
عَفُّ الضمير ولكن فاسقُ النظر
وهذا هو الشاعر العذري المعاصر عبد الرحمن العشماوي في قصيدته «الرؤى الباسمات» يقول:
يموت الخؤون على حقده
ويرقى بعفته المسلمُ
وفي قصيدته «قراءة في وجه الصمت» يقول:
وهل يكون الحب ذا قيمة إذا خلا من لذة الطهر؟!
هكذا ارتبط وجود الحب العذري بقصائد الشعراء ارتباطاً وثيقاً حتى لنرى أن الشعر العفيف هو لسان حال العاشق العذري، ومن هنا نشأ التوحد بين الشعر العفيف وبين الحب العذري حتى امتزجا معاً فصار القصد واحداً.
وأرقى أنواع الحب كافة هو الحب العذري الذي يناجي فيه الحبيب معشوقته مناجاة خالصة من شوائب عاطفة الجسد. حتى يكاد يرتفع بصاحبه لمرحلة التصوف المجرد من غاية الحس والمادة.
أما أقدم قصص الحب العذري فهي قصة «عروة وعفراء» حيث باعد عمه بينهما حتى تزوجت عفراء فظل يناجيها فأصابه السقم، ومات فبلغها النبأ، فظلت تندبه حتى ماتت بعده، ودفنت بجانبه حيث قيل بأن شجرتين غريبتين ظلتا تنموان بجانب قبرهما حتى التفت إحداهما على الأخرى تحقيقاً لأمنيتهما، ومن شعر عروة:
وإني لتعرونى لذكراك هزة
لها بين جلدي والعظام دبيب
وقد ظلت الأجواء العذرية رداءً هاماً ترتديه قصائد شعراء ما بعد عذرة، فنرى مثلاً الأخطل الصغير (بشارة الخورى) والذي توج أميراً للشعر العربي بعد شوقي في 4 يونيو 1961م، يقف من شعراء عذرة موقف المُبارك لهم، الوفي لحبهم، حاملاً الصبابة إلى القلوب العذرية عندما قال:
أنا وفد أبناء الصبابة ساجدِ
من ترب عذرة في أذل مكانِ
فتصوغ في أذني (جميل) رنتي
وتطيب نفس (كُثير) ببياني
حتى إنه قد صاغ قصة حب عروة وعفراء في مطولة شعرية متسمة بتوهج الحب العذري لقلوب المحبين، وذلك عندما استهل مطولته قائلاً:
مهد الغرام ومسرح الغزلان
حيث الهوى ضرب من الإيمان
يتعانق الروحان فيه صبابة
ويعف أن يتعانق الجسدان
ويبقى قول الشاعر العذري المحب:
وما الحب في الإنسان إلاّ فضيلة
تلطف أخلاقاً له وتدمث
ذلك هو الحب العذري بطبيعته وخصائصه التي تختلف عن طبيعة الحب الأفلاطوني وهو يعد جلاء القلوب وصقل الأذهان ما لم يُفرط فإذا أفرط عاد سقماً قاتلاً ومرضاً منهكاً».
أما الحب الأفلاطوني المثالي فإنه لا يعترف بحق الجسد إنما يعترف بالروح فقط وهذا ليس حباً لأن الحب ظاهرة إنسانية متأصلة في النفس البشرية فإن أحب الإنسان روحياً فقط فلن يوصف بإنسان وإن أحب جسدياً فقط فلن يوصف أيضاً بإنسان لأن الإنسان جسد وروح فالحب الحقيقي هو أن نسمو بالحبين معاً «الروحي والجسدي».
إذاً ليست المثالية في التشبه بالملائكة، فللملائكة صفات وللبشر صفات والسمو الحقيقي هو أن نسمو بإنسانيتنا وبمحبتنا.
مفردات ذات علاقة وثيقة بالحب العذري لا توجد في أي لغة عالمية أخرى:
من المفردات التي يتقارب معناها ويتقاطع وتصبح من المفردات المترادفة أو المتقاربة في هذا الموضوع والقابلة للتأويل والانتقال من حال إلى حال مما يَشي بعبقرية اللغة العربية:
– الحب، العشق، الهوى، الغرام، الغزل، الوجد
-?الحب: فالحبّ على ما ورد في لسان العرب للإمام العلاّمة ابن منظور ( 630هـ - 711 هـ) « نقيض البغض، والحب الوداد والمحبّة. والجذر (ح.ب) ينطوي على معني الإقامة. يقال حـبَّ إذا وقف، وحبّ إذا تودّد»
-?العشق: أما العشق فمن الجذر (ع ش ق) فهو « فرط الحبّ» والعشق لزوم الشيء لا يفارقه.
ولذلك سمي الكلِف عاشقاً للزومه هواه. سئل أبو العباس أحمد بن يحي: عن الحب والعشق أيهما أحمد؟ فقال: الحبّ، لأن العشق فيه إفراط. وسمي العاشق عاشقاً لأنه يذبل من شدّة الهوى كما تذبل العشقة إذا قطعت. والعشقةُ شجرة تخضر ثم تدق وتصفرّ.
-?الهوى: الهوى العشق يكون في مداخل الخير والشرّ. قال اللغويون: الهوي محبّة الإنسان الشيء وغلبته على قلبه. قال الله عزّ وجلّ في كتابه (.. ونهى النفس عن الهوى) (النازعات: 40)، (وما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحى) ( النجم: 3)، لذلك فغالباً ما يأتي الهوى موصوفاً ويحدد الوصف له معناه.
- الغرام: الغرام هو الولوع، من الجذر (غ ر م)، غرم الرجل حمل ديناً. منه قوله عزّ وجل (.. والغارمين وفي سبيل الله) (التوبة: آية 60) وقد أغرم بالشيء أولع به وهو الحبّ والعشق، مرتبط بالعذاب الدائم والشرّ اللازم. قال تعالي في كتابه (إن عذابها كان غراماً» (الفرقان: 65)، تقول العرب: «إن فلاناً لمغرم بالنساء إذا كان مولعاً بهن»
-?الغزل: الغزل جذر (غ ز ل) حديث الفتيان مع الفتيات، رجل غزِل متغزّل بالنساء. يقال: هو أغزل من امرئ القيس، وقال ابن سيدة: الغزل اللهو مع النساء فيه معني الضعف والفتور.
-?الوجد: الوجد يقال للحب الشديد، وله صلة بمعنى الحزن، وصلة باليسار والسعة.
وعلى الإجمال ومما له علاقة مباشرة بموضوعنا: لو وضعنا «الحب» في وسط هذه المنظومة من المفردات، لرأينا أنه مرتبط بالإقامة والألفة. لذلك سمّى العلامة ابن حزم الأندلسي كتابه في الحب – والذي استهللنا موضوعنا هذا بذكره – «طوق الحمامة في الألفة والألاف» والهوى أدنى مرتبة من الحب، لأنه ينطوي علي معنى (سقط) ويكون في مداخل الخير والشرّ. أما العشق ففي مرتبة أعلى من الحب لأنه من فرط الحب وملازمته. وأما الوجد فتصعيد في الحب و مرتبة أعلى من العشق. والغزل يغلب عليه الحديث واللهو. وأن الغرام يحمل شيئاً من الغرم وفيه عذاب أو شرّ.
وعنهم أخذ الأدباء والمفكرون العرب ونشروا بين العامة، وصف الحب الأفلاطوني بأنه حب عذري, وهذا خطأ كبير. إذ لا توجد علاقة وثيقة أو وجه شبه بين هذين النوعين من الحب بما يسمح بترادفهما، بل إن البيئة التي نشأ فيها كل منهما لا تتشابه مع بيئة الآخر.
فالحب العذري نشأ في بيئة إسلامية عربية خالصة لا تعرف ذلك الفارق الذي يحتمه الحب الأفلاطوني بين الروح والجسد، لذالك حرصت الدراسات المنصفة غير العربية علي ترجمة الحب العذري بمسماه العربي نفسه، ففي الحب العذري ركن من أهم الأركان وهو المرأة بصفتها المحبوبة، في حين لا مكان لها عند أفلاطون، ودورها لا يتعدي دور المنجبة للأطفال والمحافظة على النوع البشري، ولم تضم مأدبة أفلاطون نساء، ويرتبط الحب عنده بمفهوم التدرج السُلَّمي الذي تعلوه الروح درجة درجة, وصولاً إلى التحرر الكامل عن الجسد (فالأفلاطونية تقسم الإنسان والعالم إلى قسمين متنافرين: الروح ـ الجسد، العقل ـ الحواس، المادة ـ المُثل). لذلك فإن التعبير الذي يتردد عن أن رجلاً يحب امرأة حباً أفلاطونياً تعبير خاطئ.
ماهية الحب الأفلاطوني:
لأفلاطون في الحب محاورة مشهورة تسمي «المأدبة»، أجرى فيها الحوار بين سقراط وبعض معاصريه من الفلاسفة والأطباء والشعراء والسوفسطائيين ورجال السياسة، والمحاورة في مجموعها تصور مذهب سقراط في الحب، وإن عبَّر كل متحاور عن وجهة نظره، وطبع كلامه بطوابع شخصيته الخاصة.
- وملخص المحاورة:
أن الحب أقدم الآلهة وأفضلها، فهو الذي يبعث في الإنسان الإحساس بالشرف وينمّى فيه الإيثار وروح التضحية. وأنه يجب التفرقة بين نوعين من الحب: نوع دنيء وضيع يلبي النزعات الجنسية، وهو حب النساء والحب الشاذ للغلمان، ونوع نبيل شريف يخلّو خلواً تاماً من كل نزعة جسدية وشهوة بهيمية، وهو الحب النقي البريء ذلك الحب الذي يرتفع عن الصغائر ويتنزه عن الدنايا والذي يكسب صاحبه المعرفة والحكمة والفضيلة، من ذلك الحب الذي ينشأ بين الأستاذ وتلاميذه أو مريديه (هذه العبارة أوحت خطأ للباحثين قديماً وحديثاً أن المحاورة ترفع من الحب الشاذ، مع أنها تندد في غير موضع وبصراحة صريحة بهذا الحب، وتشن عليه حرباً شعواء) والمحاورة جميعها دفاع عن سقراط وتعلق شباب أثينا بآرائه وكلفهم بحواره الذي كان يملأ قلوبهم له حباً وحنانا، حتى زعم أعداؤه أنه يفسدهم وأنه يَزْدَري قوانين الخُلق والعرف والدين، وحوكم محاكمة ظالمة أودت به وقضت علي حياته.
ثم تُختتم المحاورة بدفاع قوي حار عن سقراط، مصورة الحب العارم بينه وبين تلاميذه، وهو حب نقي بريء ممعن في النقاء والبراءة، إذ كان سقراط نبيل النفس صافي الطبع كريم الخلق وكان الشباب يفتنون به فتونا. إذن كانت المحاورة دفاعاً عن سقراط وعن تعلق تلاميذه المشروع به، وإن كان أفلاطون قد ضمنها الحديث عن الحب الجسدي الوضيع وعن حبه الأفلاطوني الرفيع. فهل في هذه المحاورة عن الحب ما يمكن أن ندعوه شبيهاً أو حتى قريب الشبه بالهوى العذري؟ بالوقوف على ماهية الحب الأفلاطوني نراه يقوم على مدينة فاضلة وهو نتيجة دراسة عميقة على أسس فلسفية. فهو حب علمي وعقلي يلعب فيه العقل والتفكير الرصين دوراً مهماً وتسيطر إرادة المحب الأفلاطوني على حبه. هو حب لا يوجد فيه ممارسات جنسية، خالٍ من الشهوة الجنسية ومثال هذا الحب الصداقة التي تقوم بين المَثَلين. فالحب الأفلاطوني الذي دعا إليه أفلاطون في كتابه «المأدبة» واحتفل به كثيراً ورأى فيه أتم أشكال الحب وأسماها، إنما هو ذلك الحب الذي يكون بين ذكرين على نحو كانت تمارس فيه الجنسية المثلية، ثم ترقى أمر هذه الممارسة إلى لون من الاستعلاء والتسامي الجنسي والروحي بين الذكرين. فالحب بين الذكر والذكر هو الحب بالروح وليس الجسد، وبرأيه أن روح الرجولة العالية القوية تدفعهم إلى مصادقة أندادهم وأشباههم ولا يبغون وراء صداقاتهم مكسباً، وعلة ذلك «أننا كنا أصلاً كائناً واحداً، وليس الحب إلا تعبيراً عن الشوق إلى العودة للأصل».
الحب الأفلاطوني هو الترفع عن المادة والسمو بنورانية الروح، حيث يبدأ الإنسان بحب الأشكال الجميلة ثم يرتقي إلى حب النفوس وينتهي إلى حب المعرفة. فالحب الأفلاطوني الذي تكلم عنه أفلاطون في «المأدبة» هو الحب العلوي الأفلاطوني وهو الحب المثالي الذي يرقى فيه العقل فوق العالم الحسي ويرتفع عن العالم الروحي المقيد بالأشخاص إلى عالم الجمال المطلق أو المثالية المطلقة وهذا الحب عند أفلاطون غاية الغايات. لأن الإنسان كان مجرد روح تعيش في عالم المثل فلما حكم عليه بالتواجد المادي بالولادة فإنه ينغمس في العالم المادي وينسى عالم المثل حتى يصادف الجمال فينتقل من حب الصورة الجميلة إلى حب النفس الجميلة إلى حب مثال الجمال حيث عالم المثل وحب الفلسفة.
الحب الأفلاطوني هو الترفع عن المادة والسمو بنورانية الروح، حيث يبدأ الإنسان بحب الأشكال الجميلة ثم يرتقي إلى حب النفوس وينتهي إلى حب المعرفة. فالحب الأفلاطوني الذي تكلم عنه أفلاطون في «المأدبة» هو الحب العلوي الأفلاطوني وهو الحب المثالي الذي يرقى فيه العقل فوق العالم الحسي ويرتفع عن العالم الروحي المقيد بالأشخاص إلى عالم الجمال المطلق أو المثالية المطلقة وهذا الحب عند أفلاطون غاية الغايات
درجات الحب لدى أفلاطون:
- حب الجمال في شكل واحد معين.
- حب الجمال في كل الأشكال الجميلة.
- حب الجمال الروحاني.
- حب الجمال في المثل.
- حب الجمال المطلق.
ويجب أن يمر الإنسان بمرحلة تلو الأخرى ليعرف معنى الحب الأفلاطوني الصحيح. فالحب الأفلاطوني وسيلة للحق والإبداع والإنتاج ولا يتفتح العقل للجمال المطلق إلا بعد أن يكتوي بنار العلم والفن والحكمة. إذاً ففي كتابه «المأدبة» رأى أفلاطون أن هناك وظيفة للقلب تسمح بالانتقال من مفهوم الجمال الحسي إلى مفهوم الجمال الكامل للمثال المطلق.
فكان الحوار في هذه «المأدبة» يرفع من الحب الأرضي للحب السماوي. فلدى أفلاطون لا تتحقق السعادة إلا بإخضاع الشهوات الحسية لصوت العقل الذي يلزم الإنسان باتباع الخير واجتناب الشر، ويقوم الخير عنده على الخلاص من الشهوات وقمع اللذات بالتطهير والفضيلة حيث الفرار من عالم الحس إلى التأمل الفلسفي.
أما رأي أفلاطون في المرأة فلا فرق لديه بين الرجل والمرأة في جمهوريته، فهو يراها كالرجل والاختلاف في التكوين الجنسي فقط، ورغم اعترافه بأنها أقل قدرة من الرجل فإنه يقول بأنه لا يوجد عمل في الحياة تختلف في أدائه طبيعة الرجل عن طبيعة المرأة، وتصبح المرأة بنظره تملك كل قدرات الرجل، لكنها لا تملك القوة ذاتها، وعلى المرأة أن تنال نصيبها من التعليم والتدريب وتنشأ نشأة مماثلة لنشأة الرجل وأن تتدرب على فنون الحرب، لأنها ستمارس المهام ذاتها التي يمارسها الرجل، وعلى المرأة أن تتدرب على الشجاعة التي تحتاج إليها الدولة. أما بالنسبة للعلاقة الجنسية فيرى أفلاطون أن العلاقة الجنسية خاضعة للحاجة الجنسية العامة التي تنتج عن رغبة الطرفين, والدولة في جمهوريته تقوم بجمع الجيد بالجيد والمقبول بالمقبول والضعيف بالضعيف، وإن ارتكب الرجل الخيانة الزوجية ضد زوجته فإنه يرتكب خطأ ضد المجتمع بأكمله ويحاسبه المجتمع ويجرد من حقوقه.
وألغى أفلاطون جسد المرأة وجعله آلة تفريخ -أداة للإنجاب مما أدى إلى إلغاء دور الأسرة. ولم يلغ الجسد كرهاً بالمرأة، بل لعدم ثقته بالظواهر الحسية. والدولة هي التي تختار الذكر المميز للأنثى المميزة لتبني العلاقات الزوجية على أساس الطبقة العقلية والتكافؤ الشخصي لتصنيف وتنقية شعب الجمهورية لإبقاء الجيد ومعالجة السيئ.
فنستنتج مما سبق أن الحب الأفلاطوني حب علمي عقلي يقوم على التفكير الرصين، والعقل يسيطر فيه على إرادة المحب، حيث يرقى فيه العقل فوق العالم الحسي ويرتفع عن العالم الحسي إلى عالم الجمال وللحب الأفلاطوني موضوع نهائي وهو الله أو الجمال المطلق. والحب ليس غاية بذاته بل هو وسيلة للخلق والإبداع.
ماهية الحب العذري:
للحب عند العرب منازل ومراتب متعددة، أول مراتبه: الهوى، وهو الميل إلى المحبوب، ويليه: الشوق، وهو نزوع المحب إلى لقائه، ثم الحنين : وهو شوق ممزوج برقة، ويليه الحب، وهو أول الألفة، ثم الشغف، وهو التمني الدائم لرؤية المحبوب، ويليه الغرام، وهو التعلق بالمحبوب تعلقاً لا يستطيع المحب الخلاص منه، ثم العشق، وهو إفراط في الحب ويغلب أن يلتقي فيه المحب والمحبوب، ثم التتيم، وهو استعباد المحبوب للمحب، يقال تيمه حباً، ويليه الهيام، وهو شدة الحب حتى يكاد يسلب المحب عقله، ثم الجنون:، وهو استلاب الحب لعقل المحب.
وتتكرر مع مراتب الحب كلمات مثل: الولع، وهو شدة التعلق بالمحبوب، والشجن: وهو الهمّ والكرب، واللوعة: وهى الألم، وتباريح الحب، وهي شدائده، والجوى: وهو كتمانه والضيق به، والكمد: وهو الحزن الشديد، والوجد: وهو الصبابة وشدة الحب، والوله: وهو التحير من شدة الوجد، والكلف: وهو الاستغراق في الحب. بينما الحب العذري هو غاية بذاته، حب يتغنى بالعشق ويذوب به ويعيش من أجله، وموضوع الحب هو الحبيبة، ونرى المحب العذري نفسه ممزقة بين الانجذاب المادي للجسد الأنثوي والتعلق الروحي بالروح والعفة، خوفاً من السقوط في الإثم. انطلق هذا الحب من الغريزة ولكنه أفلت من تقلب الأهواء ولجأ للعفة، وعاش في ديمومة وفضل الحرمان على اللذة، لأنه كما يقول شكري فيصل استجابة طبيعية لأثر التعاليم الإسلامية في النفس العربية المسلمة، وهذا هو سبب تحوله من مادي حسي إلى روحي عفيف، ففي هذا الحب الجارف والقوي لا يلتقي الحبيبان بسبب العادات الاجتماعية والموروثة عند العرب التي تمنع الحبيب من الزواج بحبيبته، فيتسامى المحب ليصل إلى العفة والمثل العليا. والحب العذري: عاطفة مشبوبة يهيم فيها المحب بحبيبته، ويرجو الحظوة بوصالها ولكن تتضاءل لديه النظرة إلى المتع الحسية، إذ يطغى عليها حرص المحب على استدامة عاطفته في ذاتها، وعلى اعتزازه بها مع التضحية في سبيل الإبقاء عليها بما يستطيع بذله من جهد وآلام. إذاً فالحب العذري حب زاخر بالمشاعر القوية مليء بالعاطفة المتقدة متقيد بالأخلاق كالعفة والوفاء والإخلاص. ويتجه فيه الشاعر العذري بالغزل العفيف حيث يضنيه الحرمان ويذيبه الشوق والعشق ولكنه يخاف على كرامة محبوبته وسمعتها، لذلك كان يخاف الله فيما يأتي وفيما يقول. وتجدر الإشارة إلى أن الحب العذري منسوب إلى بني عذرة وهم إحدى قبائل قضاعة التي كانت تنتشر شمال الحجاز وكان بنو عذرة، يسكنون وادي القرى الممتد بين تيماء وخيبر، ولقد نشأ الحب العذري بعد الإسلام واتضحت معالمه في عهد الأمويين، وهو حب شريف وعفيف يكابد فيه المحب الحرمان بسبب بعده عن المحبوبة بحكم العادات الاجتماعية الموروثة. ولكن للمرأة فيه حرمة مقدسة وقالت إحدى نساء هذه القبيلة «فينا التعفف والعفاف وهذا يورثنا رقة القلب والعشق يفني آجالنا».
ويقول قيس إلى ليلى:
الله يعلم أن النفس هالكة
باليأس منك ولكني أمنيها
فنظرة الحب العذري للمرأة على أنها الفردوس المنهوب أو المفقود وهي جوهر السكن النفسي والمرأة روح قبل أن تكون جسداً. ونرى لديهم توحيداً بين الذات المحبة والذات المحبوبة لدرجة الاتحاد والذوبان والانصهار، والعاشق مخلص لمن يحب وفي يحترم المرأة التي أحبها حاضرة أم غائبة. وهؤلاء العذريون لا يعتقدون أن الحب معصية ما دام فيه تعفف وصدق، لذلك يشهدون الله على حبهم ويعتقدون نفسهم ضحايا القدر. يقول جميل بثينة:
لقد لامني فيها أخ ذو قرابة
حبيب إليه في ملامته رشدي
فقلت له: فيها قضى الله ما ترى
علي وهل في ما قضى الله من رد
للحب عند العرب منازل ومراتب متعددة، أول مراتبه: الهوى، وهو الميل إلى المحبوب، ويليه: الشوق، وهو نزوع المحب إلى لقائه، ثم الحنين : وهو شوق ممزوج برقة، ويليه الحب، وهو أول الألفة، ثم الشغف، وهو التمني الدائم لرؤية المحبوب، ويليه الغرام، وهو التعلق بالمحبوب تعلقاً لا يستطيع المحب الخلاص منه، ثم العشق، وهو إفراط في الحب
فمن خصائص وسمات وجوهر وطبيعة هذا الحب:
- موضوع الحب هو الحبيبة والصدق في المحبة.
- الإفراد في المحبة، حيث يتعلق المحب العذري بمحبوبة واحدة فقط ويرى فيها الغاية القصوى للجمال والجلال الأنثوي.
- يعرف المحب العذري غالباً مقروناً بمحبوبة مثل (جميل بثينة) و(قيس ليلى).
- الحرارة الملتهبة، حيث يهزأ المحب من برودة العقل ويغمره غليان المشاعر. إنه حب يذهب بالعقل ولا يدع مجالاً لتفسيراته.
- العفة المحصلة: فهو حب لا يعرف للشهوة سبيلاً، فنرى العفة في سجاياهم والصدق في طباعهم ونلمس نفوسهم الأبية وأخلاقهم الشريفة.
- التذلل في الحب والمعاناة والألم والحزن والتشاؤم والبكاء من الحرمان، فهو حب تمنع فيه العادات الاجتماعية عند العرب من الزواج بالحبيبة. لذلك يقنعون باليأس والتضرع والنجوى، ومن طبيعة الحب العذري أيضاً أن القتيل يبكي قاتله ولا يحقد عليه، نستشهد على ذلك بقول جميل:
خليلي فيما عشتما، هل رأيتما
قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي؟!
- المحب العذري يخلق لمحبوبته شمائل وقوة روحية تسيطر على هداه.
- الديمومة.
- الحب قضاء من الله لا مفر منه وهو سنة الحياة. يقول جميل بثينة:
فلا تكثروا لومي فما أنا بالذي
سننت الهوى في الناس أو ذقته وحدي
- صراع مع رغائب النفس والعفة وغلبة البيئة الدينية وغالباً ما يكون الخروج من هذا الصراع هو الجنون أو الموت. وكما أن الجهاد هو الصورة المشرفة في الإسلام والجهاد خير الدنيا وخير الآخرة. وبما أن الجهاد النفسي والديني ينبعان من المعاناة الشديدة واحتمال الأذى. كذلك المحب العذري لجأ للجهاد النفسي مكان الجهاد الديني فأصبح شهيد الحب. مثل جميل بثينة عندما عبر عن عواطفه القلقة والثائرة والمتلظية وعبر عن جهاد النفس بمداراة رغباته المكبوتة وعواطفه الملتهبة حيث قال:
يقولون: جاهد يا جميل بغزوة وأيُّ جهاد غيرهن أريد؟!
لكل حديث عندهن بشاشة
وكل قتيل بينهن شهيد
فهو حب حتى الموت، وإذا بدأ فلا نهاية له إلا بنهاية الحب، والموت يمثل لهم انعتاقاً من الألم والخلاص من هذا العذاب الشديد عذاب الحرمان.
يقول جميل بثينة:
يهواك ما عشت الفؤاد فإن أمت
يتبع صداي صداك بين الأقبر
- العالم الخارجي صورة لعالمهم الداخلي وانعكاس له.
- الطيف أو الخيال يساعد العذري على التماسك الداخلي لأن القهر لا يمكن أن يقهر الخيال.
والحب العذري يعكس التمزق بين المثال والحاجة أو بين رغبات المجتمع ورغبات الفرد وحاجاته، أي أن الحب العذري ناتج عن التصادم بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع في نفسية العذري.
فالحب العذري تجسيد للذات التي كبتت متطلباتها الغرائزية، مع أن النفس ذات طبيعة غرائزية تشكل ضغطاً من أجل إشباع حاجاتها.
وهذا الوجع الحسي نتيجة استجابة الفرد للنواهي الاجتماعية والدينية وموقفه من المحارم يثير في نفسه القلق والخوف من الإثم، فالطبيعة العذرية تكبت غرائزها الفطرية فتبدو لنا ملامح الانشطار الداخلي عند المحب العذري «كلما اصطدم طلب اللذة بمقتضيات الواقع».
كيف نشأ الحب العذري
عُرِفَ المجتمع الجاهلي بقبليته واعتماده على الصيد والخروج للصحراء وشرب الخمر ولعب الميسر حتى ساد الشعر اللاهي الذي كان يصور غير مبالٍ زيارة المحبوبة ليلاً والتصريح الشعري الفج لمفاتن الجسد، ومن رواد هذا الاتجاه:امرؤ القيس، وفي نفس الوقت (العصر الجاهلي) ظهرت طائفة من الشعراء سموا بالمتيمين، تتخذ من الغزل العفيف وجهة لها وأساس أشعارها حتى صار الحب العفيف مقصد كل قصائدهم. كاتجاه مضاد للاتجاه الحسي في الجاهلية. ونما هذا الاتجاه وازدهر في ظل العصر الأموي، وسمى آنذاك بالحب العذري.
هؤلاء المتيمون أول من وضع السمات الرئيسية لهذا الحب من حيث ارتباط اسم العاشق بصاحبته وفنائه في حبها وما يرتبط بهذا من هجر وفراق ولوعة وسقم بل حتى الموت ومن ثم نما هذا الحب وترسخت أشعاره الغزلية العفيفة في العصر الأموي علي يد العذريين.
والحب العذري سمي بهذا الاسم نسبة إلى قبيلة «عذرة» في إرجاء البادية، إذ ظهر في هذه القبيلة عشاق عُدوا النماذج الصحيحة لهذا الحب والمثل العليا له بكل سماته المميزة وطابعة الخاص. وبنو عذرة من قضاعة التي يصل نسبها إلى حِمير اليمنية أو معد العدنانية على اختلاف بين النسابين في ذلك. وكان بنو عذرة ينزلون في البادية العربية شمالي الحجاز (وادي القرى)، وهو واد طويل بين تيماء وخيبر، فيه قرى منثورة وفيه زروع ونخيل، وفيه يقول جميل:
ولقد أجرُّ الذيل في وادي القُرَى
نشوان بين مزارع ونخيلِ
وفي هذا الوادي الممرع الخصب كان بنو عذرة يتنقلون بخيامهم، وقد رزقهم الله من الثمرات ما جعل حياتهم رغدة هانئة بالقياس إلى قبائل الصحراء الذين كانوا يقاسون غير قليل من الشظف، حين تجدب مراعيهم، فتموت القطعان ويهلك الناس. فلم تكن حياة بني عذرة قاسية، ولا كان فيها هذا الجدب المهلك، إنما كان فيها خصب ونماء هيأ لشيء من الفراغ كما هيأ لشيء من الاستقرار وأن تجرى الحياة هادئة، فليس فيها منازعات القبائل على المراعى وما صحب هذه المنازعات من حروب دائرة لا تنقطع. وكان لذلك أثره فيما خلفت بنو عذرة من شعر، فإننا لا نجد عندها شعر الحماسة والفخر والزهو الذي كان منتشراً بين قبائل نجد، وإنما نجد عندها نمطا آخر من شعر غنائي قوامه التعبير عن آلام النفس إزاء الحب وكأنهم لما فرغوا لأنفسهم أو هيأت لهم حياتهم أن يفرغوا لأنفسهم، أخذوا يغنونها هذا الضرب من الشعر الوجداني.
وفي السنة السابعة للهجرة تم دخولهم في الإسلام، ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن النعمان بن هوذة بصدقات قومه الذين اشتركوا في غزوة مؤتة، وكان أحد سادتهم (قطبة بن قتادة) على ميمنة الجيش في حرب القادسية، كما تولى أحد أبطالها (خالد بن عرفطة) الميسرة.
وكان للإسلام أثره في نمو هذا الهوى، بما فرض على الناس من أن يغضوا أبصارهم ولا يأتوا بفاحشة ولا ينتهكوا الحرمات، ولم يقف تأثير مثالية الإسلام عند بني عذرة، فقد أخذت هذه المثالية تطبع شعر البدو في نجد بطوابع واضحة من البراءة والطهارة والتسامي، فلم نعد نقرأ شعر الحب الإباحي الذي كان يردده امرؤ القيس وغيره من شعراء نجد في الجاهلية، إنما أخذنا نقرأ شعراً عفيفاً، فيه نبل، وفيه هذا الحزن الذي يصدر عن نفس ملتاعة تخاف الله فيما تأتى من قول وفعل. وهيأت لهذا الحزن أيضاً بيئة الصحراء وما يخيم عليها من سكون وصمت في لياليها المقمرة الشاحبة، ولذلك لم يكن من الغريب أن تستهل القصيدة العربية حتى في الجاهلية بالبكاء على الأطلال والديار، فطبيعة البيئة الصحراوية تبعث على الشجا والحزن والألم.
-الصحراء والإسلام إذن هما اللذان أعدا لظهور هذا الغزل العفيف الحزين وما طوي فيه من حب نبيل شريف، وهو غزل يعبر عن أسمى العواطف التي يفيض بها القلب الإنساني، غزل نحس فيه لذع الحرمان وأن الرجل يتهيب الاقتراب من المرأة، فهي كائن ملائكي تحول قدسيته دون لمسه، وحتى هي إن وصلته لا يزال يشعر شعوراً عميقاً بالألم واليأس، بل قد يفضى به حبه إلى الجنون أو إلى الموت، وهو لا يأتي ذلك وحده، بل تأتيه المرأة أيضاً سعيدة قريرة العين.
وقد ساعدت رقة مشاعر شعرائها وقوة عاطفتهم على التصاق هذا اللون (الحب العذري) بهم، حتى ليصل العاشق في أحيان كثيرة منهم للموت، لدرجة أن قال رجل منهم: «لقد تركت بالحي ثلاثين شاباً قد خامرهم السل وما لهم داءٌ إلاّ الحب» وسئل آخر: ممن أنت؟ فقال: من قوم إذا أحبوا ماتوا، فقالت جارية سمعته: «عذري ورب الكعبة». حتى إن نساء القبيلة لا يخجلن منه ويصرحن به وكأنه عادة تورث أو تقليد يحاكى وذلك حين سئلت امرأة عذرية بها هوى يدنيها من الموت: ما بال العشق يقتلكم معاشر عذرة من بين أحياء العرب؟ قالت: فينا تعفف، والعفاف يورثنا رقة القلوب والعشق يفني آجالنا.
الحب العذري إذاً، حل وسط بين الحب والدين. وحررت العذرية الحب من إسار الغريزة، وحولته إلى نوع من الجمال والشفافية المطلقة. لذلك دعا بعض العارفين إلى فكرة جديدة، وهي أن العشق العذري وسيلة إلى العشق الإلهي، إذ يقول بعض الصوفيين: «كما أن النساء حبائل الشيطان فهن حبائل العرفان، إذ قد يتوصل العاشق من عشقه إلى معرفة مبدعه لأن المقدمات الصحيحة تنتج الأغراض الصحيحة ومن أمعن النظر في مخلوق زائل ترقى عنده معرفة الفاعل الدائم».
والحب العذري حب مهد الإسلام الحنيف السبيل له، وخلع عليه من قيمه السامية، ما جعله حباً يبعد العاشق عن الانحراف الجنسي، بل يجعله عفاً. وهذا النوع من الحب يأخذ بعداً قلما نجده في أي مجتمع آخر غير إسلامي.
فالعاطفة في الحب العذري تتحد في إطار واحد هو النأي عن الابتذال والابتعاد عما يخدش الحياء أو يدغدغ العواطف أو يثير الغرائز، بل يجعل عاطفته مشبوبة بعاطفة أخرى سامية هي عاطفة الإسلام، الذي يحدد للإنسان مسار خلق قويم ليلتزمه.
وما المحب العذري إلا صوفي خالص، صوفي في ظمئه الذي لا ينتهي إلى رؤية الحبيب ولقائه، وصوفي في تغنيه بعشقه الجامح الذي يملك كل قلبه وكل أهوائه وعواطفه ومشاعره، وصوفي تعييه الحيلة وتعوزه الوسيلة إلى لقاء المحبوب، وإنه ليسير في طريق لا نهاية لها ولا سبيل إلى الدنو من غايتها إلا بإسلام الروح، وصوفي في ارتفاعه عن كل صغائر الحياة، لعله يقترب من قدس الأقداس، وصوفي في ابتهاله وذله وضراعته، وما أشبه شعره بالتراتيل الدينية. لذلك كله لا نغلو إذا قلنا إن هذا الحب العذري هو الذي أتاح لنا هذه الثروة البديعة من الحب الصوفي السامي.
- على هذا قسم الصوفيون الحب إلى حب يملؤه حيّز بشري أو إنسي، وآخر يملؤه حيّز آخر هو الحيز القدسي، حب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وآخر مطلق هو حب الخالق عز وعلا.
صورة المرأة العربية في الحب العذري
حتى صورة المرأة العربية الحبيبة أو المحبة مختلفة تمام الاختلاف عن صورة المرأة الأفلاطونية، فهي هنا يبدو عليها الحياء والوقار والخوف من الله ومن عقاب الآخرة، واحترام العادات والتقاليد العربية الأصيلة. وقد يعشق الرجل المرأة ولا ينالها فيتألم وينتظر أن يلقاها في جنة الخلد فيقول لحبيبته:
نعم المحبة يا سؤلي محبتكم
حب يجر إلى خير وإحسان
إلى نعيم وعيش لا زوال له
في جنة الخلد خلد ليس بالفاني
وقد وصل العذريون إلى مرتبة سامية في هذا الحب من عفة النفس وصدق الحديث. (هنا يجب إيضاح لفظ العفة في اللغة العربية والتي ليس لها مثيل في لغات العالم.فالعفافة: هي بقية اللبن في الشكوة (وعاء من الجلد)، وقد تطلق على ما يبقى في الضرع بعد الحلب.. وهي شيء قليل. ومن رضي بالقليل (هذا اللبن) فهو على خُلق ما.
وقد أجمع العرب على تسميته بالعفة، ومنها تولد معنى العفاف، وهو الرضا بما تيسر حفظاً للكرامة وصوناً للنفس، والعفيف من كان ذلك نعته، ومنه جاء الاسم «عفان» أبو عثمان الخليفة الراشد رضي الله عنه على وزن فعلان من عف، كعطشان من عطش).
كان للإسلام أثره في نمو هذا الهوى، بما فرض على الناس من أن يغضوا أبصارهم ولا يأتوا بفاحشة ولا ينتهكوا الحرمات، ولم يقف تأثير مثالية الإسلام عند بني عذرة، فقد أخذت هذه المثالية تطبع شعر البدو في نجد بطوابع واضحة من البراءة والطهارة والتسامي، فلم نعد نقرأ شعر الحب الإباحي الذي كان يردده امرؤ القيس وغيره من شعراء نجد في الجاهلية
يقول جميل بن معمر واصفاً روحه الهائمة في المحبوب بعزة نفس وعفة قلب ورفعة روح وسمو ويفخر بهذا الموقف الروحي الذي يترفع عن دنايا الحياة ويسمو محلقاً عن الفواحش والخطايا:
لا والذي تسجد الجباه له
ما لي بما دون ثوبها خبر
ولا بفيها ولا هممت به
ما كان إلاّ الحديث والنظر
ما إن دعاني الهوى لفاحشة
إلا نهاني الحياء والكرم
فلا إلى محرم مددت يدي
ولا مشت بي لزلة قدم
وهذا شيخ العشاق قيس بن الملوح يقول:
تتوق إليك النفس ثم أردها
حياء ومثلي بالحياء خليق
وشعر العذريين كلهم - من دون استثناء - وأخبارهم تضوع بهذا العطر النقي الصافي، عطر الطهر والعفة والفضيلة، يقول جميل:
وكان التفرق عند الصباح
على مثل رائحة العنبر
خليلان لم يقربا ريبة
ولم يستخفا إلى منكر
وإذا تفاقمت الخطوب في مواجهة الشاعر لوصال الحبيبة واحتشدت العثرات وصار الهوى جداراً حائلا بينه وبينها، يلوذ بصمته ويهفو بروحه إلى لقاء الحبيبة في الآخرة، حيث لا رقيب ولا موانع تقف في مواجهته. ويقول معبراً عن ذلك:
لئن منعوني في حياتي زيارة
أحامي بها نفسا تملكها الحبُ
فلن يمنعوني أن أجاور لحدها
يجمع جسمينا التجاور والتربُ
ويقول عبد الرحمن ابن أبي عمار الناسك – القس- صاحب سلامة:
أهابك أن أقول بذلتُ نفسي
ولو أنى أطيع القلبَ قالا
حياءً منكِ حتى سُلَّ جسمي
وشَقَ عليَّ كتمانى وطالا
أما العباس بن الأحنف، صاحب فوز، فيقول:
أتأذنون لصب في زيارتكم
فعندكم شهواتُ السمع والبصرِ؟
لا يضمر السوءَ إن طال الجلوسُ به
عَفُّ الضمير ولكن فاسقُ النظر
وهذا هو الشاعر العذري المعاصر عبد الرحمن العشماوي في قصيدته «الرؤى الباسمات» يقول:
يموت الخؤون على حقده
ويرقى بعفته المسلمُ
وفي قصيدته «قراءة في وجه الصمت» يقول:
وهل يكون الحب ذا قيمة إذا خلا من لذة الطهر؟!
هكذا ارتبط وجود الحب العذري بقصائد الشعراء ارتباطاً وثيقاً حتى لنرى أن الشعر العفيف هو لسان حال العاشق العذري، ومن هنا نشأ التوحد بين الشعر العفيف وبين الحب العذري حتى امتزجا معاً فصار القصد واحداً.
وأرقى أنواع الحب كافة هو الحب العذري الذي يناجي فيه الحبيب معشوقته مناجاة خالصة من شوائب عاطفة الجسد. حتى يكاد يرتفع بصاحبه لمرحلة التصوف المجرد من غاية الحس والمادة.
أما أقدم قصص الحب العذري فهي قصة «عروة وعفراء» حيث باعد عمه بينهما حتى تزوجت عفراء فظل يناجيها فأصابه السقم، ومات فبلغها النبأ، فظلت تندبه حتى ماتت بعده، ودفنت بجانبه حيث قيل بأن شجرتين غريبتين ظلتا تنموان بجانب قبرهما حتى التفت إحداهما على الأخرى تحقيقاً لأمنيتهما، ومن شعر عروة:
وإني لتعرونى لذكراك هزة
لها بين جلدي والعظام دبيب
وقد ظلت الأجواء العذرية رداءً هاماً ترتديه قصائد شعراء ما بعد عذرة، فنرى مثلاً الأخطل الصغير (بشارة الخورى) والذي توج أميراً للشعر العربي بعد شوقي في 4 يونيو 1961م، يقف من شعراء عذرة موقف المُبارك لهم، الوفي لحبهم، حاملاً الصبابة إلى القلوب العذرية عندما قال:
أنا وفد أبناء الصبابة ساجدِ
من ترب عذرة في أذل مكانِ
فتصوغ في أذني (جميل) رنتي
وتطيب نفس (كُثير) ببياني
حتى إنه قد صاغ قصة حب عروة وعفراء في مطولة شعرية متسمة بتوهج الحب العذري لقلوب المحبين، وذلك عندما استهل مطولته قائلاً:
مهد الغرام ومسرح الغزلان
حيث الهوى ضرب من الإيمان
يتعانق الروحان فيه صبابة
ويعف أن يتعانق الجسدان
ويبقى قول الشاعر العذري المحب:
وما الحب في الإنسان إلاّ فضيلة
تلطف أخلاقاً له وتدمث
ذلك هو الحب العذري بطبيعته وخصائصه التي تختلف عن طبيعة الحب الأفلاطوني وهو يعد جلاء القلوب وصقل الأذهان ما لم يُفرط فإذا أفرط عاد سقماً قاتلاً ومرضاً منهكاً».
أما الحب الأفلاطوني المثالي فإنه لا يعترف بحق الجسد إنما يعترف بالروح فقط وهذا ليس حباً لأن الحب ظاهرة إنسانية متأصلة في النفس البشرية فإن أحب الإنسان روحياً فقط فلن يوصف بإنسان وإن أحب جسدياً فقط فلن يوصف أيضاً بإنسان لأن الإنسان جسد وروح فالحب الحقيقي هو أن نسمو بالحبين معاً «الروحي والجسدي».
إذاً ليست المثالية في التشبه بالملائكة، فللملائكة صفات وللبشر صفات والسمو الحقيقي هو أن نسمو بإنسانيتنا وبمحبتنا.
مفردات ذات علاقة وثيقة بالحب العذري لا توجد في أي لغة عالمية أخرى:
من المفردات التي يتقارب معناها ويتقاطع وتصبح من المفردات المترادفة أو المتقاربة في هذا الموضوع والقابلة للتأويل والانتقال من حال إلى حال مما يَشي بعبقرية اللغة العربية:
– الحب، العشق، الهوى، الغرام، الغزل، الوجد
-?الحب: فالحبّ على ما ورد في لسان العرب للإمام العلاّمة ابن منظور ( 630هـ - 711 هـ) « نقيض البغض، والحب الوداد والمحبّة. والجذر (ح.ب) ينطوي على معني الإقامة. يقال حـبَّ إذا وقف، وحبّ إذا تودّد»
-?العشق: أما العشق فمن الجذر (ع ش ق) فهو « فرط الحبّ» والعشق لزوم الشيء لا يفارقه.
ولذلك سمي الكلِف عاشقاً للزومه هواه. سئل أبو العباس أحمد بن يحي: عن الحب والعشق أيهما أحمد؟ فقال: الحبّ، لأن العشق فيه إفراط. وسمي العاشق عاشقاً لأنه يذبل من شدّة الهوى كما تذبل العشقة إذا قطعت. والعشقةُ شجرة تخضر ثم تدق وتصفرّ.
-?الهوى: الهوى العشق يكون في مداخل الخير والشرّ. قال اللغويون: الهوي محبّة الإنسان الشيء وغلبته على قلبه. قال الله عزّ وجلّ في كتابه (.. ونهى النفس عن الهوى) (النازعات: 40)، (وما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحى) ( النجم: 3)، لذلك فغالباً ما يأتي الهوى موصوفاً ويحدد الوصف له معناه.
- الغرام: الغرام هو الولوع، من الجذر (غ ر م)، غرم الرجل حمل ديناً. منه قوله عزّ وجل (.. والغارمين وفي سبيل الله) (التوبة: آية 60) وقد أغرم بالشيء أولع به وهو الحبّ والعشق، مرتبط بالعذاب الدائم والشرّ اللازم. قال تعالي في كتابه (إن عذابها كان غراماً» (الفرقان: 65)، تقول العرب: «إن فلاناً لمغرم بالنساء إذا كان مولعاً بهن»
-?الغزل: الغزل جذر (غ ز ل) حديث الفتيان مع الفتيات، رجل غزِل متغزّل بالنساء. يقال: هو أغزل من امرئ القيس، وقال ابن سيدة: الغزل اللهو مع النساء فيه معني الضعف والفتور.
-?الوجد: الوجد يقال للحب الشديد، وله صلة بمعنى الحزن، وصلة باليسار والسعة.
وعلى الإجمال ومما له علاقة مباشرة بموضوعنا: لو وضعنا «الحب» في وسط هذه المنظومة من المفردات، لرأينا أنه مرتبط بالإقامة والألفة. لذلك سمّى العلامة ابن حزم الأندلسي كتابه في الحب – والذي استهللنا موضوعنا هذا بذكره – «طوق الحمامة في الألفة والألاف» والهوى أدنى مرتبة من الحب، لأنه ينطوي علي معنى (سقط) ويكون في مداخل الخير والشرّ. أما العشق ففي مرتبة أعلى من الحب لأنه من فرط الحب وملازمته. وأما الوجد فتصعيد في الحب و مرتبة أعلى من العشق. والغزل يغلب عليه الحديث واللهو. وأن الغرام يحمل شيئاً من الغرم وفيه عذاب أو شرّ.