محمد أبو عوف - قلة الأدب في الأدب

منذ فترة ليست ببعيدة، تم سحب نسخة قديمة أعيد طبعها من ألف ليلة وليلة لاحتوائها على ألفاظ خادشة للحياء ومشاهد جنسية من شأنها إفساد أخلاق المجتمع.
وقامت الدنيا ولم تقعد بسبب تصريح الفنانة انتصار بأنها تشاهد أفلام البورنو، كما تتم الآن محاكمة كاتب نشر فصول من روايته في إحدى الصحف، ومازال نزار قباني وإحسان عبد القدوس تُقام لهم المحاكم وتقطع رؤوسهم لأن كتاباتهم بها كلام الجنسي (أبيح)، كما يتهم دائما ممثلي السبعينيات بأنهم أفسدوا أجيالا متتالية، ولم يتبق من أفلامهم الممنوعة من العرض إلا بعض المشاهد المتقطعة على اليوتيوب كلها تبدأ عنوانيها بــ(مشاهد ساخنة وشاهد بالمايوه، وفضيحة الفنانة فلانة).
ولإننا أمة تخاف الله، وتضع العادات والتقاليد على رأس القائمة، فعدت إلى تراثنا العربي لأرى ماذا كان كتب القدماء، وما هو الموجود في كتبنا العربية.
سيُصدم من لا يعرف الحقيقة، ويندهش ويتساءل كيف في وجود العلماء والفقهاء – حراس الأخلاق والعقيدة من وجهة نظره - ووجود خليفة المسلمين أن يُقال مثل هذا الكلام ويتداوله الناس ويقصونه فيما بينهم دون حرج أو خوف.
الجاحظ كمثال: توفي عام 255 هجرية أي أنه عاش في فترة الدولة العباسية ومن أشهر الخلفاء الذين عاصرهم هو المأمون، وكتب في أخريات حياته كتابا أسماه الحيوان وهو مكون من 7 أجزاء خصص الجزء الأول منه للتحدث عن (الخصاء) ومن موضوعات فهرس الجزء الأول: باب ذكر ما يعتري الإنسان بعد الخصاء وكيف كان قبل الخصاء، ذكر ما جاء في خصاء الدواب، وتتنوع الموضوعات بين (صوت الخصي) و(شَعر الخصي) و(أثر الخصاء في الذكاء).
ويقول الجاحظ في الجزء الأول ص 174:وكان أبوعبد الله الجماز يتعشق جارية لآل جعفر يقال لها طغيان، وكان لهم خصي يحفظها إذا أرادت بيوت المغنيين، وكان الخصي أشد عشقا لها من الجماز، وكان قد حال بينه وبين كلامها، والدنو منها فقال الجماز (وكان اسم الخادم سنانا):
ما للمقيت سنانا = وللظباء الملاح
لبئس زان خصي = غاز بغير سلاح
وقال أيضا فيه وفيها:
نفسي الفداء لظبي = يحبنى وأحبه
من أجل ذاك سنان = إذا رآني يسبه
هبه أجاب سنانا = ينيكه أين زبه
وقال أيضا فيهما:
ظبي سنان شريكي = فيه فبئس الشريك
فلا ينيك سنان = ولا يدعنا ننيك
المثال الثاني: الإمام السيوطي:لايوجد من بيننا من لا يعرف السيوطي العالم الديني، الذي يذكر اسمه كثيرا في خُطب الجمعة، وبالبحث السريع عن مصنفات الإمام نجد (الإفصاح في أسماء النكاح)، (نواضر الأيك في معرفة النيك)، (ضوء الصباح في لغات النكاح).
جميع هذه الكتب ظاهرة من عنوانها، وفي كتاب (نواضر الأيك) صفحة 37، النيك أربعة:
الأول شهوة، والثاني: لذة، والثالث: شقاء، والرابع: داء.
وفي نفس الكتاب صفحة 45: قيل لامرأة: أي شيء أوقع في القلوب وقت النكاح؟
قالت: موضع لا يسمع فيها إلا الشخير، وشهيق يجلب الماء من غشاء الدماغ ومخاخ العظام.
هذه أمثلة بسيطة عن الكتب التي كتبت في الجنس في ذلك العهد، الذي يتصوره البعض كان الناس فيه لا يتحدثون إلا بالقرآن والأحاديث النبوية، لكن الحقيقة غير ذلك، وكون السيوطي كتب في النكاح، فهذا حجة على كل الأخلاقيين والجهلاء الذين يدعون ما لا يفهمون.
وإذا ذهبنا إلى الأندلس سنجد الإمام ابن حزم يؤلف كتاب (طوق الحمامة) وهو كتاب في الحب، الحب بين الرجل والمرأة، ليس الحب الحلال الذي ينتظره الجميع، ومن أبواب الكتاب كما ذكرها ابن حزم (باب فيه ذكر من أحب من نظرة واحدة) و(باب الإشارة بالعين) و(باب الوصل) و(باب طي السر) و(باب الوفاء)، ومما ورد في الكتاب صفحة 103 (باب علامات الحب، وللحب علامات يقفوها الفطن، ويهتدي إليها الذكي، فأولها إدمان النظر؛ والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها، والمعربة عن بواطنها، فترى الناظر لا يطرف، ينتقل بتنقل المحبوب وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال، كالحرباء مع الشمس)
وفي حديثهم عن الخمريات فحدث ولا حرج، فهناك قسم كبير من أقسام الشعر العربي يسمى الخمريات، ومن أشهر شعرائه أبونواس، وفي كتاب محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء للراغب الأصبهاني صفحة221: (قيل لبعض الحكماء صف لنا صف لنا خصائص الأشربة فقال فأما الخمر فمزاج الروح وصفية النفس، وقيل لأعرابي أتحب الخمر:فقال أي والله، فإنها تسرح في بدني، بنورها وفي قلبي بسرورها).
ولن نذهب بعيدا عن النبي محمد-ص- نفسه فحسان بن ثابت له خمرية مشهورة قال فيها يوم فتح مكة:
إذا ما الأسرباتُ ذكرنَ يوماً = فَهُنّ لِطَيّبِ الرَاحِ الفِدَاءُ
نُوَلّيَها المَلامَة َ، إنْ ألِمْنَا = إذا ما كانَ مغثٌ أوْ لحاءُ
ونشربها فتتركنا ملوكاً = وأسداً ما ينهنهنا اللقاءُ
لن أتناول الآن الهجاء بشكل موسع، ولا الغزل بالمذكر (المثلية الجنسية) لكن يكفيني أن أذكر أن الفقهاء والأئمة قالوا الشعر في الغزل بالمذكر، كما أن كل من كان له خادم صغير ينصحه الأقربون بعدم اصطحابه في كل مكان حتى لا يُظن به الظنون.
العرب قديما كانوا يتعاملون مع لغتهم باعتبارها لغة صالحة للتعامل لا يوجد بها ما يشين، وموضوعاتهم تتناول حياتهم، لا وجود لمصطلحات مثل الأدب النظيف، أو الشعر النظيف، إنما هو فن يكتبه المبدع كيفما شاء.
فعيب على الفنان أن يتبرأ من عمل فني كتبه لأن الأزهر هاجمه، وعيب على الشيوخ تظهر في التليفزيون تدعو فلانا للتوبة، أو يتعبون حناجرهم لسحب كتاب من السوق.
فسحب الكتب والدعوات الأخلاقية التي تنادي بالحفاظ على قيم المجتمع وآدابه ويُخدش حيائها من المايوهات، لم تستطع أن تمحو أي كتاب أتيت به في هذا المقال، فالأدب باق، والكتابة باقية، والفن خالد، وفلم يستطع جميع شيوخ وسلاطين وحكام أن يمحوا قول أبي نواس:
دع المساجد للــعباد تسكنها = وطف بنا حول خمار ليسقينا
ما قال ربك ويل للذين سكروا = ولكن قال ويل للمـصلينا
 
أعلى