فاضل الربيعي - الزواج المقدس وطقوس الحب والعقاب

تأملات في نصب وثني قديم.. الزواج المقدس وطقوس الحب والعقاب
تقول أسطورة عربية قديمة، تداولتها قبائل شمال الجزيرة العربية، أن إساف ونائلة– كانا رجلاً وامرأة من قبيلة جرُهُم اليمنية - وانهما جاءا للحج، فوجدا خلوة في البيت الحرام بمكة، وأن إساف (زنا) بنائلة فمسخهما الله حجرين، ثم نصبتهما القبائل الوثنية بين الصفا والمروة، وأنهما عبدا لزمن طويل حتى كسرا يوم الفتح.

تكمن أهمية هذه الأسطورة في أمرين رئيسسين، أولهما، أنها تروي قصة حبّ استثنائية لعاشقين جاءا حاجين إلى مكة من اليمن، ولكنهما تحولا إلى حجرين بعدما افتضح أمرهما. وفي هذا الجانب القصيي من الأ سطورة كل العناصر الغرائبية المشوقة، الخالية من أي تسلسل منطقي للأحداث والزمن، وبما يسمح برؤيتها كأسطورة حقيقية لا مجرد مروية من تلفيق رواة الأخبار في الجاهلية. وهذا رأي سائد في الثقافة العربية المعاصرة، ينبني على فرضية زائفة تقول، أن هذا النوع من الأساطير هو من مختلقات الإخباريين المسلمين، ولا أساس له في العقل الأسطوري العربي القديم. وثانيهما، أنها، ومن خلال روايتها لقصة الحب الكبرى، تروي جزءاً من التاريخ المسكوت عنه في الرواية السائدة عن البيت الحرام القديم، كما تروي جزءاً هاماً من تاريخ تطور الوثنية في الجزيرة العربية، وهو جزء عضوي تعرض للبتر والتلاعب والنسيان. ويبدو أن قصة اللقاء الحميمي هذه كانت موضع خلاف بين الرواة، إذ اختلفوا في توصيف طبيعته وحدوده، كما اختلفوا حول طبيعة المسخ، هل مسخا إلى حجر أم نحاس؟ وربما التبس عليهم فعل الزنا نفسه، وما إذا كان الرجل العاشق (فجرَ بحبيبته) أم أنه (قبلها) وحسب، فارتأى بعض هؤلاء أنه فجر بها. والفعل فجر له دلالة قاسية تتجاوز حدود الزنا، لأن الفجار يتضمن نوعاً من التعبير عن إنحطاط في نظام القيم الاجتماعية في لحظة الاحتدام والتصادم، بينما ارتأت روايات أخرى أنه زنا بها (وقع عليها). لكن روايات أخرى، مستندة إلى مضمون الأسطورة الأصلي، زعمت أنه (قبّلها) وأنهما لهذا السبب مُسخا حجرين، أي تحولا إلى صنمين بفعل قبلة في المكان المقدس، ثم تقادم الزمن فعُبدا في جملة الأصنام.

وجُرْهُم التي يُزعم أنها نصبته، هي قبيلة يمنية قحطانية، هاجرت من اليمن إلى شمال الجزيرة العربية، وتمكنت من طرد العماليق حكام مكة، ثم سيطرت عليها في وقت ٍ ما من التاريخ، وأحلت فيها عبادات وطقوساً ومعتقدات دينية، مخالفة لمعتقدات الحجازيين عرب الشمال، فثارت عليها خزاعة وحلفاؤها من إياد ومضر وقامت بطردها. لكن، وبعد عقود من ثورتها ورفضها لدين الجُرْهُميين وعاداتهم وعباداتهم وطقوسهم وأوثانهم، لم تتمكن خزاعة من إبطال شعائر وطقوس التقرّب إلى هذا المعبود الجُرْهُمي، فتواصلت عبادة إساف ونائلة وقتاً طويلاً في الجاهلية. فإذا فرغ الحاج من طوافه ختم بنائلة فاستلمها، فكانا كذلك حتى كان يوم الفتح، فكسرهما رسول الله –ص- مع ما كسر من الأصنام.

يقول الأزرقي: فأخرجا من جوف الكعبة وعليهما ثيابهما، وكان يطرح بينهما ما يُهدى للكعبة، وكانت ثيابهما كلما بليت أخلفوا لهما ثياباً. ثم أخذ الذي بلصق الكعبة فجعل مع الذي عند زمزم، وكانوا يذبحون عندهما ولم تكن تدنو منهما امرأة طامث).

وبإجماع الرواة كذلك، فقد كانت العرب تقوم في كل موسم حج، بإكساء نصب إساف ونائلة بالبرود والوصائل اليمنية الثمينة، وهو ما يشير إلى التأثير العميق الذي تركته طقوس التقرّب إلى هذا المعبود؛ إذ لا يجوز للمرأة في حالة الطمث الاقتراب منه.

هذا هو بإيجاز شديد مضمون الأسطورة. ومن الهام ملاحظة أن التحول المذهل الذي حدث في بنيتها، يكمن في نطاق تحولٍ أعمّ، حدث قبل ذلك في مفهوم الزنا وفي نظرة العرب الدينية له، بما فرض تحولاً مماثلاً في سرد الأسطورة، وجرى بموجبه تقيد صارم من جانب الرواة بمضمونها الجديد الذي يركز على عقاب الزاني، أدّى إلى تسجيلها في نهاية المطاف وهي مليئة بما يبدو معطيات متناقضة، ذلك أن تسلسل إنقلاب البشريّ إلى حجر لا يبدو منسجماً ومتناغماً مع فكرة التقديس؛ فإذا كان الحاجان اليمنيان تبادلا الحب في الكعبة، فمُسخا حجرين، فإن هذا الخرق الديني للمكان المقدس، لا يكافأ بعبادتهما. لكن الأسطورة كما نعلم، تنبني على شروط تحطيم أي تسلسل منطقي للأحداث والزمن، وهي لا تتقيد بأي تبريرات، كما أن ساردها لا يستطيع مهما كانت رغبته في التعديل والإضافة، أن يقوم بتحريف مسارها ومنطوقها الديني أو الثقافي، فهذا أمر يفوق طاقته وقدرته وربما يصبح امراً خارج نطاق عمله، ولذلك فقد وصلت إلينا وهي تعجّ بما يبدو لنا تناقضات لا سبيل إلى حلها. ومع هذا، فمن المؤكد أن مرويات إساف ونائلة سارت في الطريق الصحيح الذي اختطتّه، بوصفها أسطورة واحدة بتنوعيات مختلفة وحتى متناقضة، وليست تاريخاً. ولأنها كذلك، فقد روت جزءاً منسياً من عقيدة تقديس الزنا عند عرب الجاهلية. لقد كان هناك بكل تأكيد، ما يشير أو يُفهم منه، أنه شرعة دينية تجيز الزنا، وبفضل هذه الشرعة وتقاليدها فقط، سجل الإخباريون العرب هذه الأسطورة على النحو ذاته الذي وصلنا. ولذلك، يجب أن يُفهم من سياق النص القائل، أن جُرْهُم طغت في الحرم، وأحلت فيه أموراً غريبة، أن المقصود على وجه الحصر، أن الجُرهُميين (الجنوبيين) نقلوا شرعة تقديس الزنا من اليمن إلى قلب الجزيرة العربية، وأن قبائل الشمال تقبلت هذه العقيدة وعملت بها. وفي نطاق هذه الفكرة الجزئية وحسب، يجب أن يُفهم سلوك قبيلة خزاعة، حين فرض زعيمها عبادة الحاجين الزانيين المنقلبين إلى حجر، فهي تقبلت عقيدة أو شرعة كانت سائدة.

ودون أدنى شك؛ فإن الأشعار التي جرى دمجها تالياً وادراجها ضمن بنية الأسطورة، أدّت في الغالب، دوراً حيوياً على مستوى تعميق الإشارات والرموز، وبشكلٍ أخص تلك المتعلقة بمفهوم وسلوك الأضحيات. إن التناظر المدهش بين صور الدم، حيث الأضحيات تنحر في مذبح الإله الوثني إساف- فيما يُحظر على المرأة الطامث ان تقترب منهما- وكذلك صور احتفالات إكساء المَعبوديْن ثياباً بشرية في كل موسم حج- يكشف عن مستوى مسكوت عنه من الدلالات، فالدم الذي يراق تحت قدمي المعبود المزدوج يكتسب قدسيته الكاملة وفقط حين يراق، بينما يُمنع على المرأة في حالة الطمث، أي في حالة نزف الدم البشري، أن تقترب منه لأنه دم بشري فاسد، مدنس ويوجب الطهارة منه. وفي حيز التنافس والصراع بين المقدس والمدنس، يصبح دم الأضحية (القربان الحيواني) في لحظة إراقته، موضوعاَ طقوسياً يتكامل مع احتفالات ارتداء المعبودين ثياباً بشرية، وتتكرّس قداستهما كمعبودين كبشريْين متحجريْن.

والغريب أن الأسطورة الشائعة، تصور المعبود كإله واحد، اندمجت فيه أنثاه، وتماهت معشوقته فيه وإلى الدرجة التي حل جسدها في جسده. أليس أمراً لافتاً ومدهشاً أن الإله الوثني الوحيد عند العرب، كان يُكسى كل عام وفي موسم الحج، ثياباً ووصائل يمنية ثمينة في احتفال ديني مهيب؟ ومن دون أن تكون هناك إمكانية للتمييز بين الثياب الذكورية والأنثوية؟ أليس غريباً كذلك، أنهما يرتديان الثوب ذاته، أي الوصائل اليمنية الثمينة التي يتشبث بها طلاب الغوث والمعونة من الفقراء والضعفاء والنساء؟ وكلما بلي الثوب ارتديا ثوباً شبيهاً ؟ أليس غريباً أيضاً، أن العرب لم يكونوا راغبين في وضع حدود رمزية فاصلة بين الإلهين بواسطة الثياب؟ فهما ذكر وأثنى اندمجا في كتلة جسدية حجرية؟ لكن، لماذا استذكر العرب الأصول البشرية لهذا المعبود، بعدما استنكروا فعلتهما في الحرم وتحولا نهائياً إلى وضعيتهما الحجرية؟ إن هذه الاستعادة لماضي المعبود المزدوج الذكري والأنثوي، تخفي دلالات هامة كثيرة، من بينها أن العرب، ربما كانوا يدركون في لاوعيهم الجمعي، البعد البشري في المعبود. ولأن جُرْهُم، اليمنية الأصول والجذور هي التي فرضت في الحجاز كله، نظاماً دينيا ً مغايرا ً لمّا ألفه عرب الشمال من العدنانيين، فقد تلازم حضورها في مكة كقوة سياسية واجتماعية مرهوبة الجانب، مع صرامة الدين الذي فرضته.

لكن ما هو بالضبط هذا الدين؟ وهل كان المعبود رجلاً وامرأة مُسخا حجرين، أم أنهما كانا نصباً دينياً يمثل رمز الزواج المقدس؟


- د. فاضل الربيعي / الزواج المقدس وطقوس الحب والعقاب

الزواج المقدس وطقوس الحب والعقاب
 
أعلى