نقوس المهدي
كاتب
تاريخ العرب مليء بالشهوات، في جميع العصور، والمجتمعات الجاهلية والاسلامية لم تخل من انصهار هذين العالمين فيما بينهما، بحيث يشكل الخطاب الجنسي حضورا مشتعلا، ويصل في كثير من الأحيان إلى هذا الصراع بين الجنسانية والقداسة، فكيف يتم الجمع بين العالمين؟ ولماذا ما زالا يتعايشان إلى حد الان؟ خطاب الجنس يشكل خطاب الجنس في المجتمعات العربية حضورا ملتبسا، فهو من جهة مصادر من الحديث والتجلي، ومقموع وممارس في الخفاء، وهو من جهة أخرى يحتل مكانة داخل المجتمعات، بحيث أن تاريخ الأمة لا يمر دون وجود هذا الخطاب المستعر حتى لو مورس في سريته التامة. وقد عرف تاريخ الأدب هذه الثنائية بين الحب العذري والحب الجسدي، بحيث أن الأدب كان دوما تصريحا بالشهوة أو كتما لها، وفي كلتا الحالتين كان الجنس الفاعل في العالمين. فالمنع يؤجج الرغبة دون أن يتم التصريح بها، والتصريح بها سواء عبر شعر المجون، أو شعر المتصوفة يضع هذه الشهوة قائمة وحاضرة في تاريخ الانسانية ومحركة لغرائزها، بل إنها تضيف عليها نوعا من اللوعة على مستوى التلقي والكلام. ورغم ذلك فإن تاريخ الجنس يكشف عن سيطرة السلطة وتوجيهها له بشكل من الأشكال، ويرى الباحث الأردني هيثم سرحان في كتابه “خطاب الجنس” أن الحضارات التي مارست قمعا تجاه الجنس وصادرت خطابه تمتاز بكونها حضارات مضطربة سلوكيا ومعرفيا الأمر الذي يعني أن مجتمعات هذه الحضارات ستظل تعاني قمعا واضطرابا في سلوكها الاجتماعي والسياسي والديني” . إن الاعتراف بالجنس لم يكن خطابا حديثا، فالمجتمعات القديمة سواء الإسلامية أو الغربية كانت تعترف بالجنس وتتحدث عنه بشكل من الأشكال، وحتى في عصرنا الحالي، نجد الفكر والأدب والعديد من الدراسات حول هذا الخطاب ما زال يثير ردود أفعال متنافرة بين من يقبله كخطاب يناقش ونتعايش معه، وبين من يصنفه في دائرة القدسي ويحصره في الخطاب الديني ويتكتم عنه من الظهور، في حين يتعايش الخطابان ويتجاوران ويساهم كل منهما في إعطاء الشرعية إلى الآخر. ولكن كيف حفل الخطاب القديم بهذا المكبوث الجنسي وكيف كان ينفس عنه؟ ولماذا ظهر في تاريخ المسلمين ظاهرة الجواري في تجاور تام مع النساء الحرائر، وكيف تعايشت الشهوة الحرة والشهوة المقيدة بنظام؟ وأي الشهوتين كانت أبلغ في الحضور وفي النظام وفي تاريخ أسرار الشعوب؟ شهوة السبي: لقد عرفت الثقافة العربية ظاهرة الرقيق، وأسفرت هذه الظاهرة عن تواجد العديد من الثنائيات، بحيث تعرضت العديد من النساء للسبي، ورغم ذلك فإن السبي لم يكن فعلا مدمرا بالنسبة للعديد من النساء. ويرى الباحث هيثم سرحان أن السابي كان يعمد إلى قتل زوج المسبية حتى يستطيع السابي أن يمارس معها الجنس دون أن يكون لزوجها حضور في ذهنها أو هيمنة عليه، ولذا يتم قتل الصورة التي تجعل للعلاقة جذوتها وجنونها الخاص، بحيث كانت كثير من النساء تعشق السابي وتعشق سلطته الجنسية وقوة فحولته، وقد تناقل التاريخ على لسان الرجال أحاديث النساء وهن يحكين علاقتهن بالسابي| الفاعل والغازي وكأنه مرغوب فيه، بحيث يتحدثن عن ذلك كنوع من الحياة الجنسية المشتهاة، كأن الشهوة عبر السبي تضاعف الجانب الحسي لدى المرأة، خاصة وأن السابي يسعى إلى الحصول على مكامن الغزو في جسد المسبية، فيذيقها عسيلته، وتذيقه عسيلتها، وتشعر بالطمأنينة لذلك، كونها مفعولا به، لكنها في نفس الآن راغبة أيضا، ورغم ما يحتويه هذا الخطاب من خطورة، بحيث أن المرأة تحذر السابي من زوجها، وكأنها تنتقل إلى الجانب الآخر للغازي وتتحدث عنه فيما بعد بمتعة، فإن هذا الجانب يحضر في الثقافة العربية ويتم الحديث عنه كخطاب يذكي شهوة النساء ويشعل أسرارا إضافية. وقد عرفت الثقافة أيضا حضور ظاهرة الجواري التي هيمنت إزاء النساء الحرائر، بحيث شكلا انسجاما لدى مخيلة الرجل العربي وحضورا يجمع بين المتعة والقيد في آن معا. الشهوة بين المتعة والقيد: يشكل هذا الخطاب ثنائية تتعايش في مخيلة الرجل العربي منذ القديم، وقد تطورت إلى أن أصبح لها وجود حديث يزاوج بين الزوجة والخليلة، فبينما تشكل الزوجة الصرامة والجدية والحضور المقدس، تمثل الخليلة عالما من الحرية والمتعة والمدنس، ويتعايش الجانبان في ذهن الرجل بشكل لا يقبل الجدل، المهم أن يطغى في هذا الجانب نوع من السرية والكتمان، وفي الخطاب القديم كان هناك وضوح في هذا الجانب، بحيث مثلت ظاهرة الجواري حضورا سائدا ومهيمنا وضروريا للحياة الشهوانية للرجل، رغم وجود النساء الحرائر أي المرأة الحرة التي تصلح للزواج، وقد قدم الباحث التونسي عبد الوهاب بوحديبة كتابه الهام عن “الاسلام والجنس” وهو يفصل بين العالمين في ذاكرة الرجل العربي، بحيث يقسم عالمه إلى قطبين اثنين، الحرائر بما يمثلنه من جانب السيادة المطلقة وغير القابلة للانقسام والمرأة التي يغار عليها، والجارية التي تفتح طاقات الشهوة وتضيء عالمه السري والفاحش، والتي يمكن أن تكون مشاعا، ويفرق الباحث أيضا بين ظهور الجواري والقيان، بحيث أن القيان حظين بمرتبة خاصة في المجالسة والعشرة وكن يتعلمن الشعر والأدب ويرتقين من الناحية الثقافية والمعرفية والجمالية، كما يتقن الغواية مما يزيد من حظوتهن. والمثير في الأمر هو تعايش هذين العالمين في مكان واحد، والذي لا يمكن أن يخلو من اشتعال باطني يزاوج بين اللذة والألم في آن واحد سواء عند المرأة المتزوجة أو الجارية، فكلاهما ينظر إلى مكانة الآخر. ويرى الباحث عبد الوهاب بوحديبة أنه “على المرء أن يطلق عنان فكره محاولا تصور ما قد يفعله وجود جوار فاتنات يظللهن والزوجات الحرائر سقف دار واحدة. لا بد أن الغيرة فعلت الأفاعيل بهؤلاء الحرائر اللائي أسقط في أيديهن وأخضعن نفوسهن لتقبل اقتسام الزوج وخيراته مع من يفقنهن فتنة ودهاء.” العشق والمنع: ترى الباحثة رجاء بن سلامة في كتابها ” العشق والكتابة” على أن العشق في الاسلام ممنوع من الناحية الشرعية، فهو يعتبر أذى للنفس، كما في الآية:” وأما من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى”، ورغم ذلك نجد خطابا آخر يقول:” زين للناس حب الشهوات من النساء”، بحيث يظل هذا الخطاب غير محدود، خاصة في أمور النكاح التي تظل مفتوحة والتي تمتد من أربع نساء أو ما ملكت الأيمان، من ثم فإن النكاح يظل غير محدود، لكنه يصير له وضع آخر حين يتعلق الأمر بامرأة العزيز وهي تراود يوسف عن نفسه، تقول الآية:”قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم”. فيوسف يظل في القداسة خاصة بعد أن”همت به وهم بها”، لكنه رأى برهان ربه، وانتصرت القداسة على الشهوة، من ثم صارت صورة الكيد ملصقة بالمرأة وما زالت إلى الآن مهيمنة في التصورات الذهنية ومسيرة للعديد من المواقف. وبرغم ما في هذه الآية من نزاع بين امرأة العزيز والنبي يوسف والجماعة التي تلوم فعل العشق، فإن هذه المراودة كانت تنم عن عاطفة قوية في العديد من المفردات الجياشة، رغم أنها ألحقت العديد من النعوت بالمرأة كصورة الكيد والخيانة والمكر إلى غير ذلك، إلا أن العشق له مكانته أيضا. وقد أول المفسرون هذا العشق كون العزيز كان يعاني من العقم والعنة لذا تبحث امرأته عما يمتلكه يوسف مما تطمح إليه كل امرأة من تعويض عاطفي وجسدي جياش. الفحولة القلقة: يرى الباحث اللساني عبد المجيد جحفة على أن الأير في الثقافة العربية هو مكمن القوة ومبعث الفخر والاعتزاز والتواجد الفحولي، لذا هو سيف وقلم، إنه”كيان حي، وليس عضوا فحسب. ولكنه كيان يستنجد لعظيم الأمور، كما في قول راشد: لعهدي بأيري ما يذم اختباره إذا استنجدوه للعظيم من الخطب يثور فيلقي عسكر النيك وحده لقاء صدوق الناس مختبر القلب” إن الفحولة رغم ذلك تظل شيئا مرغوبا فيه، فهي تثير الحياة، في حين يثير غيابها الفزع كما يرى باسكال كينيار في كتابه”الجنس والفزع”، حيث الشهوة المقلقة، والشهوة المرعبة وهي بمثابة”جرح خفي بالنسبة للرجال”، غير أن المرأة مرفوضة في المبادرة الجنسية وملعونة من إبداء الشهوة، فهي دوما كائن مفعول به، لذا نجد النساء اللواتي تمردن على الأب وقتلن سلطته يعانين كونهن نساء خارج المنظومة المعدة سلفا للمرأة كمفعول به وليست فاعلا. الجنس والتمرد: تحفل العديد من الكتب بالرفض النسواني لتعاليم الدين والتقاليد والمنظومة الاجتماعية، وقد شكل هذا الخطاب رفضا للعديد من الصور الجاهزة التي ينبغي للمرأة أن تمتثل لها. ويذكر الباحث هيثم سرحان حمل ابنة الخس من زنى ومباهاتها بهذا الحمل الذي يلعن التقاليد ويخالف التعاليم الاسلامية، ويخط صورة مخالفة لجنسانية المرأة التي تقدم خطابا آخر يخالف الخطاب الخطي للفاعل والمفعول، تقول ابنة الخس: أشم كغصن البان جعد مرجل شغفت به لو كان شيئا مدانيا ثكلت أبي إذ كنت ذقت كريقه سلافا ولا ماء من المزن صافيا فأقسم لو خيرت بين فراقه وبين أبي لا خترت أن لا أبا ليا إن الثنائية هنا بين العشق والموت، ويمثل الأب منظومة ينبغي أن تموت في ذهن الشاعرة التي تخترق الأب، وتقتله ذهنيا وجسديا لكي تعيش الحياة مع عشيقها، وهو نوع من التخلي عن كل النظام الذي ينظمه المجتمع والأعراف. الشهوة والزمن الحديث: هل غابت هذه التصورات من أزمنتنا الحديثة، أم أنها مازالت تتنفس نفس الهواء، نفس الازدواجية؟ نفس الروح بين الحضور والغياب؟ يتعايش الخطابان معا، خطاب الشهوة وخطاب المنع، ويحضر الأدب كتعبير عن المجتمع وهو يعيد هذه الثنائية التي تتعايش في الخطاب اليومي، ففي المجتمعات الاسلامية تحتل الروح والبدن ثنائية غريبة تفضي إحداهما إلى الأخرى وهما يتجادلان ويتصارعان في الخطابات اليومية ويحاول كل خطاب قهر الخطاب الآخر، لكن كل خطاب يبحث عن منفذ ليسكن الآخر وينسجم معه. ويبدو أن الخطابات الآن وهي تبحث عن تحرير الجسد من المنظومات التي تسود عليه تحاول أن تجد تحريرا للشهوة من كل القيود، إلا أنها أيضا تجد خطاب الذات التي تبعد وتنهى عن الهوى مسيرة لخطاب آخر يبعد اللحم من قائمة الطلب اليومي، غير أن الجانب الشهواني ما زال مهيمنا سواء في صيغة القداسة أو اللاقداسة، فهو فعل قلق، محير، لغزي، يثير الغرائز ويجعل الشهوات تتكاثر سواء عبر النسل، أو عبر الاباحية. ولأن هذين الخطابين يتعايشان في هذا الجدل القلق، يظلان منفتحين على هذه الثنائية التي تهيمن في كل العصور، والتي تظل منفتحة على أسئلة أخرى
.
.
صورة مفقودة