نقوس المهدي
كاتب
كنت تبلغ من العمر ثلاث سنوات ونصف، وأمك الحامل التي كانت تبلغ من
العمر خمسة وعشرين عامًا، اصطحبتك معها في رحلة تسوق إلى متجر في وسط مدينة
نيو يورك. كانت برفقة صديقة لها، والدة الفتى الذي كان يبلغ هو أيضًا ثلاث
سنوات ونصف. في لحظة ما، أنت ورفيقك الصغير تهربان بعيدًا عن أمّيكما
وتشرعان في الركض داخل المتجر. فضاء مفتوح هائل، ولا شك أنها كانت أكبر
غرفة وطأتها أقدامكم يومًا، وثمة انفعال واضح في القدرة على الركض الجامح
في هذه الساحة الداخلية الهائلة. في النهاية، ترتميان، أنت والفتى، على
بطنيكما-وتتزحلقان على طول السطح الأملس، تتزلجان بلا زلاجات، بالطبع، وهذه
اللعبة تحقق متعة ونشوة كبيرتين إلى درجة يتزايد فيها تهوّركما وجرأتكما
في ما كنتما على استعداد لتجريبه. داخل المتجر، تصلان إلى منطقة تجري فيها
أعمال بناء أو ترميم، ودون أن تكلفا نفسيكما عناء التفكير في العقبات التي
قد تواجهانها، تنبطحان على الأرض مرة أخرى وتتزحلقان على طول السطح شبه
الزجاجيّ حتى تجدا نفسيكما تتجهان بسرعة نحو طاولة نجّارين مصنوعة من
الخشب. ظننتَ أنّه بانعطافة طفيفة بجسدك الصغير يمكنك تفادي الاصطدام بساق
الطاولة التي تلوح أمامك، ولكنّك لم تدرك أنه في الثانية التي يتوجب عليك
فيها أن تغيّر مسارك، ثمة مسمار يبرز من الساق، مسمار طويل منخفض بما يكفي
ليكون عند مستوى وجهك، وقبل أن تنجح في التوقّف، يخترق المسمار خدك الأيسر
وأنت تمرّ عنه بسرعة. لقد تمزق نصف وجهك.
بعد ستين عامًا، لا ذكريات لديك عن الحادث. تتذكر على التوالي الركض
والتزحلق على البطن، ولكنك لا تذكر شيئًا عن الألم، عن الدم، عن نقلك إلى
المستشفى أو الطبيب الذي قطبَ خدّك. قام بعمل رائع، كانت أمّك تقول ذلك على
الدوام، ولأنّ صدمة رؤية بكرها بنصف وجهه الممزق لم تفارقها، قالت ذلك في
أوقات متقاربة: شيئًا عن طريقة القطب المزدوجة التي قللت الضّرر إلى الحد
الأدنى، وجنّبتك التشوّه مدى الحياة. كان من الممكن أن تفقد عينك، كانت
تقول لك، أو، حتى أن تُقتل. مما لا شك فيه أنها كانت على حق. تلاشت الندبة
مع السنوات، ولكنك لا زلت تراها كلما بحثت عنها، وسوف تظلّ تحمل شعار حسن
حظّك ( أن العين سليمة! أنّك لم تمت!) حتى موتك.
2
واليوم أيضًا يهطل الثلج، وفيما أنت تغادر السرير وتتّجه صوب النافذة، تبيضّ أغصان أشجار الحديقة الخلفية. تبلغ الثالثة والستين Paul-Auster-Siri-Hustvedt-l-amour-des-lettres_article_landscape_pm_v8من
العمر. ويخطر في بالك أنه طيلة رحلتك الطويلة منذ طفولتك وحتى الآن لم تكد
تمر لحظة واحدة لم تكن فيها عاشقاً. ثلاثون عاماً من الزواج، نعم، ولكن كم
مرة في الثلاثين عامًا التي سبقتها، وقعتَ في الحب وفُتنت، وكم مرة
انفعلتَ وغازلت، وكم مرة اجتاحك هذيان الرغبة ونوبات جنونها؟ منذ بداية
حياتك الواعية وأنت عبد شبق الفتيات اللواتي عشقتَ في صباك، والنساء
اللواتي عشقت في رجولتك، كل واحدة تختلف عن الأخرى، بعضهن مستديرات وبعضهن
نحيلات، بعضهن قصيرات القامة وبعضهن ممشوقات، بعضهن مولعات بالقراءة وبعضهن
رياضيات، بعضهن كئيبات وبعضهن ودودات، بعضهن بيضاوات وبعضهن سوداوات
والبعض آسيويات، لم تكترث بأي شيء ظاهريّ، حسبه النور الداخلي الذي تستجليه
فيها، شرارة التفرُّد، وهج الذات المكشوفة، وهذا النور هو ما كان يجعلها
جميلة في عينيك، حتى لو لم ير الآخرون الجمال الذي رأيته، ثم تشتاق إلى أنْ
تكون بصحبتها، معها، لأنَّ الجمال الأنثوي شيء لم تقو يوما على مقاومته.
منذ أيامك الأولى القصيّة وأنت تلميذ، في صف الحضانة حيث وقعت في حب الفتاة
ذات شعر ذيل الحصان الأشقر الطويل، وعاقبتك مس ساندكويست مرات على خروجك
مع الفتاة الصغيرة التي أحببت، وانفرادكما معًا في ركن ما ، لكنك لم تكترث
بتلك العقوبات، لأنك كنت وقتها عاشقاً، وكان الحبّ أقوى عندك من أيّ شيء
آخر، كما هو الحبّ عندك الآن أقوى من أيّ شيء آخر.
ــــــــ
نص مترجم لاول مرة للعربية خاص بالحلقة الثانية من بيت الخيال ادارة الروائي كمال الرياحي والناقدة ريم غنايم
العمر خمسة وعشرين عامًا، اصطحبتك معها في رحلة تسوق إلى متجر في وسط مدينة
نيو يورك. كانت برفقة صديقة لها، والدة الفتى الذي كان يبلغ هو أيضًا ثلاث
سنوات ونصف. في لحظة ما، أنت ورفيقك الصغير تهربان بعيدًا عن أمّيكما
وتشرعان في الركض داخل المتجر. فضاء مفتوح هائل، ولا شك أنها كانت أكبر
غرفة وطأتها أقدامكم يومًا، وثمة انفعال واضح في القدرة على الركض الجامح
في هذه الساحة الداخلية الهائلة. في النهاية، ترتميان، أنت والفتى، على
بطنيكما-وتتزحلقان على طول السطح الأملس، تتزلجان بلا زلاجات، بالطبع، وهذه
اللعبة تحقق متعة ونشوة كبيرتين إلى درجة يتزايد فيها تهوّركما وجرأتكما
في ما كنتما على استعداد لتجريبه. داخل المتجر، تصلان إلى منطقة تجري فيها
أعمال بناء أو ترميم، ودون أن تكلفا نفسيكما عناء التفكير في العقبات التي
قد تواجهانها، تنبطحان على الأرض مرة أخرى وتتزحلقان على طول السطح شبه
الزجاجيّ حتى تجدا نفسيكما تتجهان بسرعة نحو طاولة نجّارين مصنوعة من
الخشب. ظننتَ أنّه بانعطافة طفيفة بجسدك الصغير يمكنك تفادي الاصطدام بساق
الطاولة التي تلوح أمامك، ولكنّك لم تدرك أنه في الثانية التي يتوجب عليك
فيها أن تغيّر مسارك، ثمة مسمار يبرز من الساق، مسمار طويل منخفض بما يكفي
ليكون عند مستوى وجهك، وقبل أن تنجح في التوقّف، يخترق المسمار خدك الأيسر
وأنت تمرّ عنه بسرعة. لقد تمزق نصف وجهك.
بعد ستين عامًا، لا ذكريات لديك عن الحادث. تتذكر على التوالي الركض
والتزحلق على البطن، ولكنك لا تذكر شيئًا عن الألم، عن الدم، عن نقلك إلى
المستشفى أو الطبيب الذي قطبَ خدّك. قام بعمل رائع، كانت أمّك تقول ذلك على
الدوام، ولأنّ صدمة رؤية بكرها بنصف وجهه الممزق لم تفارقها، قالت ذلك في
أوقات متقاربة: شيئًا عن طريقة القطب المزدوجة التي قللت الضّرر إلى الحد
الأدنى، وجنّبتك التشوّه مدى الحياة. كان من الممكن أن تفقد عينك، كانت
تقول لك، أو، حتى أن تُقتل. مما لا شك فيه أنها كانت على حق. تلاشت الندبة
مع السنوات، ولكنك لا زلت تراها كلما بحثت عنها، وسوف تظلّ تحمل شعار حسن
حظّك ( أن العين سليمة! أنّك لم تمت!) حتى موتك.
2
واليوم أيضًا يهطل الثلج، وفيما أنت تغادر السرير وتتّجه صوب النافذة، تبيضّ أغصان أشجار الحديقة الخلفية. تبلغ الثالثة والستين Paul-Auster-Siri-Hustvedt-l-amour-des-lettres_article_landscape_pm_v8من
العمر. ويخطر في بالك أنه طيلة رحلتك الطويلة منذ طفولتك وحتى الآن لم تكد
تمر لحظة واحدة لم تكن فيها عاشقاً. ثلاثون عاماً من الزواج، نعم، ولكن كم
مرة في الثلاثين عامًا التي سبقتها، وقعتَ في الحب وفُتنت، وكم مرة
انفعلتَ وغازلت، وكم مرة اجتاحك هذيان الرغبة ونوبات جنونها؟ منذ بداية
حياتك الواعية وأنت عبد شبق الفتيات اللواتي عشقتَ في صباك، والنساء
اللواتي عشقت في رجولتك، كل واحدة تختلف عن الأخرى، بعضهن مستديرات وبعضهن
نحيلات، بعضهن قصيرات القامة وبعضهن ممشوقات، بعضهن مولعات بالقراءة وبعضهن
رياضيات، بعضهن كئيبات وبعضهن ودودات، بعضهن بيضاوات وبعضهن سوداوات
والبعض آسيويات، لم تكترث بأي شيء ظاهريّ، حسبه النور الداخلي الذي تستجليه
فيها، شرارة التفرُّد، وهج الذات المكشوفة، وهذا النور هو ما كان يجعلها
جميلة في عينيك، حتى لو لم ير الآخرون الجمال الذي رأيته، ثم تشتاق إلى أنْ
تكون بصحبتها، معها، لأنَّ الجمال الأنثوي شيء لم تقو يوما على مقاومته.
منذ أيامك الأولى القصيّة وأنت تلميذ، في صف الحضانة حيث وقعت في حب الفتاة
ذات شعر ذيل الحصان الأشقر الطويل، وعاقبتك مس ساندكويست مرات على خروجك
مع الفتاة الصغيرة التي أحببت، وانفرادكما معًا في ركن ما ، لكنك لم تكترث
بتلك العقوبات، لأنك كنت وقتها عاشقاً، وكان الحبّ أقوى عندك من أيّ شيء
آخر، كما هو الحبّ عندك الآن أقوى من أيّ شيء آخر.
ــــــــ
نص مترجم لاول مرة للعربية خاص بالحلقة الثانية من بيت الخيال ادارة الروائي كمال الرياحي والناقدة ريم غنايم