نبيل الحيدري - إبداع شعر الغزل والنسيب مع الفقيه الحبوبى نبيل الحيدرى

محمد سعيد الحبوبى فقيه أديب وشاعر مناضل، ولد فى النجف عام 1849، درس القرآن والعربية والأدب والفقه والأصول. كما صاحب المجدد جمال الدين الأفغانى لأربع سنوات فى دراساته وكانا زميلين لدرس واحد وكان بينهما تأثر وتأثير ولقاء فى المبادئ العامة الإصلاحية (جمال الدين الأفغانى- بيروت دار العلم للملايين -ص 24). اشترك فى ثورة العشرين وقاد جيشا من المتطوعين عام 1914 م وكان دوره كبيرا مع مهدى الحيدرى والخالصى وغيرهم. ما تميز به الحبوبى وشهره أيضا هو شعره الرائع حيث كان موهوبا مبدعا يخلط الفكرة بالإحساس والصورة والتجربة مع الخيال الموسيقى والوجدان فى تكوين عمل أدبى متناسق شامخ فصار من فحوله وأعلامه مازجا ألوانه وأشكاله وهو يحيى موشحاته بين القديم والحديث وهو يعيد عذوبة القديم وصفائه وخياله على جديده وإبداعه ورنينه لتكوين موسيقى تنسق بين اللفظ والمعنى مضيفا حرارة العاطفة وقوة العقل وسمو المعانى مرتفعا به عن ذل السؤال وابتذال التملق ليكون (يوافق ذوق كل عصر ويلائم روح كل زمان) ديوان الحلى الصفحة 387
أخص بالذكر شعره فى الغزل والوصف والنسيب والخمرة. إذ كان لغزله أصالة وجودة وعذوبة ورقة وكأنه يحاكى أبا الطيب المتنبى القائل
إن كان مدحا فالنسيب مقدم، فالحبوبى يقدم النسيب فى مختلف قصائده وأهدافها المتنوعة فى مختلف المجالات
يروى مطرب المقام العراقى محمد القبانجى أنه غنى قصيدة الحبوبى الشهيرة (شمس الحميا) فى مؤتمر القاهرة عام 1932 فأعجب الجميع خصوصا الشاعر أحمد شوقى (المنار فى 5/3/1964 كذلك الجمهورية فى 17/1/1963) وغيرها
ويعد صاحب مدرسة خاصة كما وصفه الجواهرى (السيد الحبوبى كان كان اسمه يرج المجالس والنوادى وهو أول من جدد الشعر القديم ورققه ثم سلمه إلى الطبقة التى بعده من شعراء عصر النهضة وفى الحقيقة هو صاحب المدرسة الوحيدة التى نشأت عليها وهى امتداد للتراث القديم وتخرج منها الكثيرون) الديار/العدد 21/ سنة 1973
وقد تأثر بشعراء كثيرين أهمهم الشريف الرضى وتلميذه مهيار االديلمى حيث حفظ أشعاره وحاكى بعضها وصاغها بطريقته مثل قوله
وامنحوا يا أهل نجد وصلكم
مستهاما يتشكى البرحا
واذكرونى مثل ذكراى لكم
رب ذكرى قربت من نزحا
علما أنه أقام فى نجد فى صباه وأحبها. كما أحب بغداد وقصورها وانفتاحها ونسائها ومدحها وله عدة قصائد منها قصيدة مدح تشبه قصيدة البحترى عند وصفه قصر المتوكل، لذلك يقول الحبوبى فى مدح قصر كبة الذى كان ينزل به فى بغداد مطلعها
فى مشيد من القصور منيف
أوطأته حمراء دجلة كتفا
ورأى ببغداد الكنائس والأديرة فنظم
فبالصليب وأعياد الصليب وبالغر الكرام البهاليل النواميس
ورأى المرأة البغدادية متحضرة مترفة مسفرة جميلة ذات شخصية رائعة فقال
بيضاء ما حل أهلوها على شرف من اليفاع ولا شدوا على عيس
كما رأى المرأة البغدادية تمشى على الحرير رفعة وسموا متأثرا بها وشخصيتها فقال
فرشنا لها حب القلوب فلم يطأ إذا ما مشى إلا الحريرا المحبرا
تغزل بالكثير من النساء مثل ليلى وسلمى وأميمة وسعاد وأسماء والرباب وغيرهن فتميز بالغزل والنسيب، كيف لا وهو القائل
أحبك حبا لست أدرى خواطر
امن الخيل تعرونى لذكراك أم عشق
فأخرس عن نطقى وتجرى محاجرى
بسرى وكاد القلب إذ ذاك ينشق
وقال أيضا
لا تخل ويك ومن يسمع يخل
إنني بالراح مشغوف الفؤاد
أو بمهظوم الحشا ساهي المقل
أخجلت قامته سمر الصعاد
أو بربات خدور وكلل
يتفننّ بقرب وبعاد
إن لي شرفي بداً ضفا هو
من دون الهوى مرتهني
غير أني رمت نهج الظرفا
عفة النفس وفسق الألسن
وفى قصيدة رائعة وهو يصف الخمرة وصفا للسكر والهيام كأنه مغرم فيها وببغداد التى أحبها كثيرا، يقول
لست أدرى وربما كنت أدرى
أى ظبى عشقت من آل فهر
عاقدا للنطاق يعقد فيه
ثقل أردافه بدقة خصر
ما بخديك من وميض سناء
ماء حسن يموج أم ومض جمر
قل لنا أيها البديع جمالا
أببغداد يوسف أم بمصر
لاح كالشمس مشرقا وسقانى
من لماه السلاف من غير عصر
فترانى والسكر سكر هيام
إذ سقانى والخمر خمرة ثغر
فأنا ابن الهوى أجل وأبوه
ما تربى هواك إلا بحجرى
ليس للحب غاية وانتهاء
فهو عيش ما وقتوه بعمر
لايحاججنى العذول عليه
فهو من أول الشبيبة عذرى
وصف الخمرة وصفا دقيقا وفى كثير من ثنايا ديوانه ووصفها ولونها ورائحتها ومذاقها وصفائها وحبابها وآنيتها وأثرها ومجلسها وساقيها وشاربها
تعاطينى على نغم الأغانى
وتنشدنى على نطف الخمرو
حميا عتق العصار منها
مجددة البشاشة والسرور
أضأنا فى سناها واستنرنا
فما ندرى العشية من البكور
كأن حبابها أطفال در
ترقص فوق مهد من سعير
قال بعض كيف يكون مجلس الشراب والغناء والنديم والمغنية ساقية ندماءها بالخمرة التى يشع سناها لتحيل العشاء صباحا خمرة خفيفة ظريفة شفافة ولصفائها تهزأ بالماء النمير وهى ذات حباب راقص رقص أطفال من الدر فوق مهد من النار
بل يرى يراها بيضاء كالشمس حمراء كالياقوت معتقة فى الدير تلطف الأطباع علاج للنفوس والأمراض والتعب والعناء والحزن والمآسىبل الروح التى تعيد الحياة للموتى
قام فيها ناشرا من فى القبور
فهى الروح أعيدت للجسوم...
بل يمزجها الحبوبى أيضا بريق الحبيب والمعشوق
وغدا يمزجها من ريقه
حبذا مزج رحيق برحيق
بل يصعد الحبوبى لجعلها ريق الحبيبة الباردة
فشربت دون الراح ريقتها
والريق أبرد والهوى وهج
وفى قصيدة أخرى يصف العشق والغرام
فلى بين القباب فتاة خدر
يمد لها القنا الخطى ذلا
إذا عانقتها عانقت خودا
منعمة رشوف الثغر كحلا
كان الأقحوانة قبلتها
بمبسمها فأبقت فيه شكلا
وإن سفرت فقد أبدت شقيقا
أجادته يد النعمان صقلا
تريك الصبح غرتها انبلاحا
إذا ما الليل طرتها أطلا
إذا خطرت وإن نظرت نظرنا
لها ولجفنها رمحا ونصلا
وإن نزعت حواجبها قسيا
رمتك فواتر الألحاظ نبلا
وطبع ديوانه الأول عام 1912م ببيروت المطبعة الأهلية وفيه مقدمة رائعة لعبد العزيز الجواهرى قائلا أنه جامعه بقوله لم يبق بيت أو قافية لم يعثر عليها حتى جمعها كما كان لمحمد حسين كاشف الغطاء دور فى مراجعته لكنه يحوى على أخطاء منها نسب الحبوبى إلى الإمام الحسين بينما هو حسنى النسب وأخطاء مطبعية كثيرة كما ينقصه الكثير من قصائد الحبوبى التى جمعها لاحقا حيدر الحلى فى كتابه (العقد المفصل) وكانت الطبعة الثانية ببغداد عام 1980 وهو يضم 44 قصيدة ومقطوعة فى الغزل والنسيب ومنها
بخديك معنى للجمال بديع
ومرعى لعين المستهام مربع
فكل مكان فيه شخصك جنة
وكل زمان أنت فيه ربيع
بجفنيك سيف صلت فيه صبابة
على أنه ماضى الشباة قطيع
ويا رشأ بالخيف أصبح ربعه
لك اليوم فى وسط الفؤاد ربوع
مشى بالسرى خطو البطىوقد مشى
بقابى أوارى الحب وهو سريع
وفى بحر الخفيف يقول الحبونى
أيها البدر أنت بدر السماء
أم غزال لقاعة وعساء
قد قطعت الوصال عنى حتى
ليس يحكيك صارم فى الرمضاء
ويقول غزلا بالمرأة لفظا وروحا
فلى بين القباب فتاة خدر
يمد لها القنا الخطى ظلا
إذا عانقتها عانقت خودا
منعمة رشوف الثغر كحلا
كأن الأقحوانة قبلتها
بمبسمها فأبقت فيه شكلا
وإن سفرت فقد أبدت شقيقا
أجادته يد النعمان صقلا
وتغزل بالمسيحية
أوميض يشع أم مقباس
أم على دير راهب نبراس
معبد أم معبد فيه حلت
فهو فيها كنيسة وكناس
فالحبوبى يحاكى أقاصيص عمر بن أبى ربيعة وكانت واقعية للثانى وربما خيالية للأول كما يفترض بعض الفقهاء والعهدة عليهم لأنهم عودونا على التقية والتورية فى قلب الحقيقة لأمثال هذه الموارد
وفى تحرره من القيود فى بغداد يقول
يا غزال الكرخ وأوجدى عليك
كاد سرى فيك أن ينتهكا
هذه الصهباء والكأس لديك
وغرامى فى هواك احتنكا
فاسقنى كأسا وخذ كأسا إليك
فلذيذ العيش أن نشتركا
أترع الأقداح راحا قرقفا
واسقنى واشرب أو اشرب واسقنى
ولماك العذب أحلى مشرفا
من دم الكرم وماء المزن
وحميا الكاس لما صفقت
أخذت تجلى عروسا بيديه
خلتها فى ثغره قد عتقت
زمنا واعتصرت من وجنتيه
من بروق بالثنايا ائتلقت
فى عقيق الجزع أعنى شفتيه
كشف ستر الدجى فانكشفا
وانجلى الأفق بصبح بين
أكسبتنا إذ سقتنا نطفا
خفة الطبع وثقل الألسن
وهنا يأخذك الحبوبى فى انعتاقها وتحررها إلى آفاق رحبىة
كان بديعا بارعا فى قصائده فيما هو أشبه بموشحات الأندلس منه إلى الشعر العربى العمودى فيما يقرب من نصف ديوانه كما غلب عليها بحر الرمل
لكنه أثار جدلا كبيرا حتى من زملائه ورفاقه فكيف يمكن لفقيه متميز أن يكتب عن العشق والغرام كأنه قد عاشه وعن الخمرة كمن أعتاد على شربها والسكر والإلتذاذ بها وقد اتهم البعض قصر كبة فى بغداد الذى اجتمع فيه الحبوبى مع عوائل معروفة كالسويدى والشاوى والآلوسى والجميل والأزرى وفيهم محمد حسن سميسم ومحمد حسن كبة وحيدر الحلى وجعفر الشرقى وغيرهم واتهم فيه ليالى السمر الحمراء التى نظمت فيها خمرياته وغزله وندماؤه كما كتبها يوسف عز الدين فى الشعر العراقى (من الصفحة 161 إلى 168)، ورد عليه البعض قولا أن القصر للدعابة لا للدعارة حتى أدت الضغوط عليه لترك الشعر تماما خصوصا بعد وفاة صديقه حيدر الحلى وتأثره به ورثاه بقصيدة رائعة لم يرث أحدا رحما أو رفيقا مثلها ثم ترك الشعر مدة ثم عاد إليه شوقا قائلا
تركت نظم القوافى ثم عدت إليه مؤديا لك فرضا كان محتوما
لكنه فى الأربعين من عمره شنت عليه حملة واسعة من الإسلاميين المتشددين ونشر قصيدته( يا غزال الكرخ) وشتمه فى المجالس الدينية مما أجبره على ترك الشعر كليا لادعاء البعض مزاحمتها لعرف الفقهاء حتى عيره كبير الفقهاء فى مجلس دينى عام عندما ذكر الحبوبى رأيه فى مسألة دينية قائلا له (أين أنت من هذا؟ إنما أنت تحسن القول ياغزال الكرخ...) وصمم عندئذ على ترك الشعر (جريدة البلد البغدادية العدد 892 السنة الرابعة مصطفى على) وكان العرف يرى (رأيت الشعر بالعلماء يزرى) انطلاقا من النص القرآنى (وما علمناه الشعر وما ينبغى له) (الشعراء يتبعهم الغاوون) ناسيا تتمة الآية واستدراكها وبهذا العرف والتأويل الخاطئ وسلطة الفقهاء وجبروتهم خسرنا تراثا رائعا متميزا يحكى ثقافة واسعة واطلاعا كبيرا متنوعا تميز به عن رفاق عصره وشكل مدرسة جميلة أثرت الأجيال اللاحقة ومن تأثر بها
حتى عده البعض (رائد الشعر الحديث وطليعته من جانب الأخيلة والأساليب) الموسوعة العربية الصفحة 689
عاش الحبوبى ثلاث مراحل فى حياته الأولى طالبا متعلما ثم شاعرا مبدعا ثم فقيها مجددا ثم ختمها بجهاده ضد الإستعمار الإنكليزى ومرض فمات فى منتصف حزيران 1915 م وهى مسك الختام

نبيل الحيدري
 
أعلى