نقوس المهدي
كاتب
يتمثَّل الإنسان في قطبيه: الرجل والمرأة؛ ويصل الحب والمحبة بين هذين القطبين. والجنس هو محبة الإنسان لنفسه، ذلك لأن الإنسان – كلَّ إنسان – رجلٌ وامرأة معًا. وتُعتبَر هذه المحبة الصلةَ بين قطبي الحياة لتوليد الحياة أو للتعبير عنها. وهكذا تتولد الحياةُ وتتحقق في الوصال الجنسي الذي يتم بين الرجل والمرأة على نحو حبٍّ ومحبة.
تشير هذه الحقيقة إلى أن وجود الإنسان وتحقيق ولادته عن طريق الجنس لم يكن وليد نزوة طارئة أو لذة عابرة. ونحن نعتقد أن ثمة طاقةً ما تفعل في الإنسان، كأية طاقة حيوية أخرى كامنة في جسده، تجعله يقوم بواجب معيَّن عن طريق عضو من الأعضاء. وفي الجنس، تتمثل هذه الطاقة في انجذاب بين قطبي الإنسان لكي تتحقق فعلاً، أي تنتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. ويتمثل الجنس في هذا الانجذاب الحاصل بين قطبي الإنسان، فيكون اندفاعًا وانفعالاً أو نزوة أو لذة أو هياجًا عندما يضل عن غايته، إذ لا يفعل فيه الوعيُ والإرادة، فينقاد إلى الأنا ويعبِّر عنها. وتخلو الحياة الجنسية عندئذٍ من فعل المحبة، وتعبِّر عن الأنا وتلقائيتها وتأثرها اللاواعي بالجانب المادي وحده.
وفي هذه الحال، ينقاد الإنسان إلى هذه التلقائية انقيادًا أعمى أشد من انقياد الحيوان إلى دافعه الغريزي. فالحيوان لا يمارس الجنس إلا في سبيل الإنجاب، ولا يقترب ذكرٌ من أنثاه عمومًا ما لم تسمح هي بذلك الاقتراب وفق نواميس طبيعية منظمة غاية التنظيم؛ فتكون عملية الجنس منظمة عند الحيوان. وبما أن هذه العملية غير منظمة في الإنسان، فإنه يمثل درجة أحط من الحيوان عندما يعبِّر عن انفعال المادة أو الأنا، أي عندما يفتقر إلى قاعدة وعي. فلو كان الجنس في الإنسان منظَّمًا، كما هو لدى الحيوان، لما كان إنسانًا. فليس تنظيمه في الحيوان سوى دافع غريزي وعدم تنظيمه في الإنسان إلا حرية.
يُعَدُّ الجنس في الإنسان تعبيرًا عن فعل الكيان ككل. لذا يتأثر الجنس في الإنسان بعوامل نفسية واجتماعية. فهو، كما قال پول شوشار، الاختصاصي الفرنسي في فسيولوجيا الجهاز العصبي، “جنس نفسي”.
تقودنا هذه المقدمة الوجيزة إلى بحث موضوع الدافع الغريزي والدافع الحيوي الواعي.
فما الغريزة؟ وما الدافع؟ وما الفارق بينهما؟
نحن نعلم أن ولادة الإنسان تعني وجود الدافع والتلقائية. فالطفل يطلب الطعام والماء منذ ولادته، وذلك على الرغم من عدم معرفته بما يطلب. ولذا نقول إن الدوافع تولد مع الإنسان. وكما يبدو، فإن الدوافع تتنوع، ويتدرَّج ظهورُها على التوالي؛ فهي إذًا كامنة في صميم الكائن الحي. فهل هي تتفق مع العقل أم أنها تتناقض معه؟
يهدف كلُّ دافع إلى تحقيق غاية. وتُعَدُّ كلُّ غاية في جوهرها فعلاً عقليًّا؛ لذا يتناسب الدافع مع العقل والوعي. فالدافع طاقة كامنة في الإنسان، تنسجم مع العقل وتعبِّر عنه إنْ هي تحققت بمقتضى الغاية التي من أجلها وُجِدَتْ. وهكذا يكون الدافع عقلاً متى حقَّق الغاية من وجوده.
في المقابل، تُعَدُّ الغريزةُ في الحيوان عقلاً متدنِّيًا؛ إذ لا تتفق هذه الغريزة مع العقل الإنساني. ولقد أظهر العالِم الفرنسي تِلار دُه شاردان أن العقل كامن في كلِّ شيء، ويتدرَّج من الأدنى إلى الأعلى في تفتح مستمر. ولما كان يُعرَّف به بأنه درجة عقلية دنيا في الحيوان، فإننا ندعوه غريزة أو تلقائية. فالغريزة طاقة لا تعقل ذاتها، بينما الدافع طاقة تعقل ذاتها، لأنه يحقق ذاته، يحقق غاية؛ فهو عقل متى أدرك ووعى.
وفي هذا المجال، نقدم أمثلة على الدافع والغريزة: العاطفة دافع، لكن انحرافها يشير إلى الغريزة أو الرغبة؛ والعقل لا يعي موضوعه لحظةَ ينحرف الدافعُ إلى غريزة. والطعام دافع، لكن انحرافه يسمَّى شهوة أو شهية، أي غريزة. والشجاعة دافع، لكن انحرافها انفعال وتمرد ورعونة. والجنس دافع، لكن انحرافه غريزة تفقد غايتها وعقلانيتها. لذا كانت الغريزة سلوكًا يجري وفق نواميس محددة فطريًّا؛ فتكون عقلاً أدنى، وتلقائية لا تعي ذاتها.
الجنس الإنساني فريد من نوعه، ذلك لأنه يتجاوز الحاجة البيولوجية. وقد اتفق الكثير من العلماء والحكماء على أنه ليس في الإنسان حاجات بيولوجية صرف. لذا لا نستطيع تقسيم الإنسان أو تجزئته إلى كيانين متباعدين: نفسي وجسدي. فالطعام والجنس، مثلاً، حاجتان نفسيتان–جسديتان. الطعام في الإنسان يتحول إلى أفكار؛ ولكنه في الحيوان أو النبات لا يتخطَّى حدود الغذاء. والإنسان لا يحيا بالطعام وحده، وبالتالي لا يفكر من خلاله فقط؛ فالموسيقى والقراءة والتأمل إلخ عوامل هامة في تشكيل أفكاره. لذلك يُعتبَر الطعام حاجة بيولوجية–نفسية. والجنس في الإنسان يتحول إلى عواطف ومشاعر وأفكار ومُثُل وتصورات، تشيع جميعًا في الإنسان لترفعه وتسمو به إلى مدارك عليا. وتُعتبَر هذه كلها عوامل نفسية.
إن تسامي الإنسان على الحيوان يشير إلى أن الجنس أكثر من حاجة بيولوجية فقط. وبما أن الجنس يقع فيما وراء اللذة، فإنه يتجاوز الغريزة إلى حقول الشعور والعاطفة والفكر. ولما كانت العوامل النفسية والتصورية تلعب دورًا كبيرًا في الجنس الإنساني، فإننا نقول بأنه إخفاق تام عندما نسعى إليه كغريزة أو كإشباع كمِّي محض.
وهكذا نرى أن الجنس عند الإنسان يختلف عن الجنس عند الحيوان، وذلك لأن تطور الحياة من الأدنى إلى الأعلى، من الغريزة – وهي عقل متدنٍّ – إلى العقل الواعي، يواكبه تطورٌ في الجنس. ونقصد بهذا التطور تطورًا من الصعيد البيولوجي إلى الصعيد الفكري والنفسي. وهذا ما يؤكد عليه كتاب الجنس ومعناه الإنساني لمؤلِّفه كوستي بندلي. فالإنسان، كما نرى وكما يرى هذا المؤلِّف المبدع، يتأرجح بين الغريزة وأسمى القيم؛ فهو يحيا في الدافع كما يحيا في الوجدان. ومما لا شك فيه أن الجنس يشير إلى حقيقتين تظهر من خلالهما عظمةُ الكائن الحي في نزوعه نحو الكمال.
فالجنس تعبير عن واقعين اثنين:
1. نزوع إلى اتصال حميمي بالآخر، لأنه يقيم علاقة عاطفية مع هذا الآخر، ويعبِّر عن حقيقة وجودية ما. فهو، إذن، حركة تدفع إلى لقاء الآخر من أجل اكتمال الكائن الحي.
2. تعبير عن الشخصية الإنسانية ككل: فالرغبة الجنسية تتأثر بعوامل عديدة، وتختلف كليًّا عن العوامل الفسيولوجية البحتة، نذكر منها عوامل الخيال والعاطفة والشعور بالغير وبالقيمة وسائر العوامل النفسية. لذا لا نستطيع القول إن الجنس مجرَّد حاجة بيولوجية، ذلك لأن الانفراج العضوي البحت – ونعني العلاقة الجنسية – يترك شعورًا بعدم الارتياح. ولكن هذا الشعور يضمحل متى اقترنت العلاقة بالعوامل النفسية الأخرى. فالجنس لقاء مع الآخر يعبِّر عن الكيان الواحد.
تشير هذه العبارة الأخيرة إلى أن الجنس يجعل من المرأة والرجل كيانًا واحدًا؛ فمتى تم وصالٌ بينهما تحقَّق الكيان الواحد الكامن في كليهما. وفي هذا الصدد يجب علينا أن نذكر ما قالتْه الأساطير الأولى – ومازال العلم يردِّده – من أن الإنسان الأول كان واحديَّ الجنس، كامل الجنس، لأنه لم يكن ذكرًا أو أنثى، بل أندروجينوس Androgynous أو هرمافروديتوس Hermaphrodite، لكنه انفصم إلى وجودين متكاملين، إلى قطبين تمثَّلا بالرجل والمرأة. ولا يعود هذا الكيان إلى ما كان عليه من وحدة سابقة إلا بهذا الوصال الذي يتم بين قطبي الحياة: الرجل والمرأة. ففي البدء كان الرجل والمرأة جسدًا واحدًا. ولا تتحقق سرَّانية هذا الجسد الواحد إلا بالزواج، أي بتحقيق الطاقة الحيوية الشاملة.
يؤسفنا أن أقول إن اللاهوت التقليدي وبعض الفلسفات مسؤولة عن فصم كيان الإنسان وجعلِه اثنين: روحًا وجسدًا. الإنسان في الأصل كيان واحد قائم بذاته: الرجل إنسان تام، والمرأة إنسان تام. والمادة والروح كذلك حقيقة واحدة، ذلك لأن الإنسان يعجز عن القول كيف يكون فعله، جسديًّا أم روحيًّا. لكننا في الزواج نجد حقيقة مطلقة تشير إلى تناقض ظاهري وإلى انسجام داخلي. وتذكر بعض الآراء المثالية القديمة – الباطنية بصفة خاصة – أن الرجل يمثل الروح وأن المرأة تمثل المادة. وفي هذا التعبير لا يُساء إلى حقيقة المرأة، لأن فكرة المرأة–المادة تشير إلى المبدأ الأول للوجود، الهيولى الأولى أو الجوهر، الذي هو المادة الأولى الطاهرة النقية قبل تعيُّنها، حاملة الحياة والروح، التي يُرمَز إليها في الأساطير بمبدأ الأرض–الأم Gaia.
إذا كنَّا نأخذ هنا بهذا المبدأ، فلكي نشير إلى أن الكيان الإنساني لا يتم ولا يكتمل إلا بانسجام الروح والجسد في كيان واحد نسمِّيه الإنسان. والإنسان هذا رجل وامرأة، روح وجسد، لا يتضادان إلا ظاهريًّا، ويتكاملان داخليًّا في كيان واحد متَّحد. وهما في حقيقتهما يشيران إلى سرِّ الوجود، إلى حقيقة التكوين. فاجتماع الرجل والمرأة، أو ما ندعوه بـ”الاتصال الجنسي”، يشير إلى سرٍّ عميق، إلى وحدة الوجودين الظاهري والباطني، المادي والروحي، في وحدة لا تنفصم عراها ولا تنحلُّ أبدًا. فالزواج سرٌّ عميق ينطوي على حقيقة التكوين، فيما الإباحية الجنسية خروج عن هذه الحقيقة، لأنها الجنس مفسَّرًا بمصطلحات بيولوجية صرف.
هذا هو الخطأ الذي وقع فيه تسيغموند فرويد ومدرسته. فالجنس أساسًا ليس حاجة بيولوجية تنطلق من دافع عضوي. ولما كان الإنسان كلاًّ متحدًا، أو كثرة في واحد، فإن كلَّ عاطفة أو شعور أو إحساس فيه إنما يعبِّر عن كل. ففي الجسد الإنساني مراكز وظيفية عديدة تسمَّى “أعضاء”. ويقوم كلُّ عضو بواجبه ليعبِّر عن إرادة الكل. فالقلب لا يُعتبَر عضوًا قائمًا بذاته قيامًا مجردًا أو معزولاً؛ والرئتان لا تُعتبَران عضوين قائمين بذاتيهما قيامًا مجردًا؛ والدماغ لا يُعتبَر عضوًا قائمًا بذاته قيامًا معزولاً، والعضو الجنسي–التناسلي لا يُعتبَر عضوًا قائمًا بذاته قيامًا مجردًا. والحق أن ألكسي كاريل ألمع إلى هذه الحقيقة في كتابه الممتاز الإنسان ذلك المجهول.
العضو بؤرة تشع في كلِّ اتجاه حيوي؛ فهو فرد يعبِّر عن كلٍّ متَّحد. ولما كان كل عضو في الجسد يقوم بعمله ليعبِّر عن كل، فإن الجسد يعمل ككل من خلال العضو الفرد؛ وليس العضو إلا تعبيرًا عن كلٍّ متحد. إذن، هنالك كل متَّحد، هو الإنسان، معبَّر عنه بالجسد–الروح، أو بالشعور الكلِّي – هذا الشعور الذي نسميه النفس. وعند ذاك يُعَدُّ العضو وسيلةً أو أداةً أو مركزًا أو بؤرةً يتم ظهور الكلِّ فيها، فيكشف هذا الكل عن ذاته من خلاله. ولهذا فقد وُجِدَتْ في الجسد الإنساني طاقات حيوية قائمة في مراكز؛ وتعبِّر كل طاقة عن حقيقة الجسد في اتجاه معيَّن: فالمعدة تعبِّر عن اتجاه الجسد لتحقيق غاية معينة؛ وكذلك يفعل القلب والكبد وسائر الأعضاء. فلا يستطيع عضو أن يعبِّر عن ذاته بذاته لأنه متصل بالكلِّ اتصالاً صميميًّا، وينسجم مع الكلِّ في وحدة لا تعرف الانفصام، هي طاقة حيوية كلِّية. وبالمثل، لا يُعتبَر الجنسُ فعلاً عضويًّا صرفًا، أي حاجة محض بيولوجية، بل تعبير عن كلٍّ متَّحد متكامل هو الإنسان. وإذا كانت هذه الحقيقة واضحة، كان الجنس طاقة كلِّية تتوزع في متَّحَد الجسد–النفس كلِّه لتعبِّر عن الإنسان. فهو أسمى من أن يكون مجرَّد حاجة عضوية، ذلك لأن الإنسان ليس عضوًا منفردًا؛ إذ هو، بالإضافة إلى ذلك، طاقة عميقة تعمل في الإنسان لتحقيق غاية من خلال إرادة. لذا كان الجنس تعبيرًا عن الشخصية الإنسانية كلِّها.
يدل هذا البحث أن الجنس تحقيق للمطلق على مستوى كوكب الأرض لأنه تحقيق للحياة من خلال قطبي الحياة: الرجل والمرأة. ولما كان الإنسان يمثل الكل – المادة كلَّها والروح كلَّها – ويمثل الحقيقة السامية، فإن الجنس تعبير متكامل عن تحقيق هذه الحقيقة السامية وتجلٍّ وظهور لها. ولما كان الرجل والمرأة يلتقيان لتأليف الحياة، فإن لقاءهما يشكِّل نقطة ابتداء الوجود. فكما أن الحقيقة السامية انطوت في المادة، منذ البدء، والتفَّت فيها وتغلفت بها وتخلَّلتْها، كذلك الرجل ينطوي في المرأة ويلتف فيها ويتغلف بها ويتخلَّلها. فالمرأة جسد الرجل، ولقاؤهما يعيِّن انبثاق الوجود. وليس هذا اللقاء الذي يحقق الحقيقة السامية إلا ما ندعوه الجنس: الوسيلة التي يتحقق بها الوعي الكوني اللازمني في الوجود الزمني.
الجنس، كما يفيدنا كارل يونغ، هو الطاقة الحيوية الكلِّية الباحثة عن هدف النمو. وفي هذا يختلف يونغ عن فرويد في تعريف الرغبة الجنسية Libido: فالليبيدو، في نظر يونغ، هي الطاقة الحيوية الشاملة التي تظهر في الدوافع الحيوية الكلِّية. وتتَّسم هذه الطاقة ببُعدها النفسي والكلِّي. أما الليبيدو في نظر فرويد، فهي مسألة عضوية وحسب. والكبت repression، وفقًا لهذا القول، هو عدم تصعيد هذه الطاقة الدافعة. والتصعيد sublimation، كما يشير الواقع، لا يكفي لإقامة توازن في صميم هذه الطاقة الحيوية.
هنا نتساءل: ما هي هذه الطاقة المشتركة بين الروح والمادة؟ إنها طاقة روحية–مادية معًا؛ فهي تشترك في الروح والمادة–الجسد من خلال النفس. ونتساءل أيضًا: ما هي النفس؟
النفس صلة الوصل بين المادة والروح. فعندما حلَّتِ الروحُ في الجسد تشكَّلت النفسُ بفعل طبيعة هذا التجسُّد. وتتركز النفس في المراكز العصبية والأعصاب وفي الغدد والدم. النفس هي اللحمة التي تجمع أعضاء الجسد كلَّها في وحدة متكاملة؛ هي وسيلة الإحساس التي تنقل كلَّ شعور في الجسد. وتتخلَّل النفسُ الجسدَ كلَّه، لأنها كلٌّ روحي وكلٌّ مادي في آنٍ معًا.
ولما كانت النفس صلة الوصل بين الروح والجسد، فإن جميع المفاهيم والقيم تتركز فيها. وتتصف هذه المفاهيم بالروحانية والمادية معًا: فهي مادية إنْ خضعت للأنا، وروحية إنْ خضعت للكيان. فالغضب السلبي انفعال مادي، والهدوء فعل روحي؛ والحقد انفعال مادي والتسامح فعل روحي؛ والحب انفعال الأنا والمحبة فعل روحي؛ والكبرياء انفعال مادي والتواضع فعل روحي؛ والجهل انفعال مادي والمعرفة فعل روحي؛ والشهوة انفعال تلقائي والفضيلة وعي روحي. أما الجنس فيشاهَد في عمله المادي والروحي معًا.
تتركز هذه المفاهيم جميعًا في النفس، وتعبِّر عن الحالة التي يحقِّقها الإنسان، مادية و/أو روحية. وتعبِّر جميع الانفعالات السلبية، مثل الهياج والحقد والكبرياء والجنس العضوي البحت، عن مفاهيم مادية أو عن انفعال الأنا في المادة؛ لذا لا تتصف بالعقلانية، كما أنها لا تعبِّر عن غاية سامية.
يأخذ الجنس، الذي تشترك فيه الروح والمادة معًا، شكلاً جديدًا، يتحول فيه الحبُّ إلى محبة. فهو مادي، يعبِّر عن اندفاع لاواعٍ، هو الجانب البيولوجي؛ وهو روحي يعبِّر عن غاية يعمل في سبيل تحقيقها العقلُ والإرادة. وعندما يتحول الحب إلى محبة، يحافظ الجنس على قاعدته المادية، لكنه لا يعبِّر عن الانفعال والاندفاع التلقائي، بل عن عمل تقوم به المادة لكي تحقق الغاية من وجودها.
إن محبتنا لأبنائنا وأزواجنا تبرِّر فعلنا الجنسي وترفع من قيمته. ويصبح الجنس، في هذه المحبة، فعلاً روحيًّا بامتياز، وليس فعلاً ماديًّا بحتًا، ذلك لأن الثمرة الناتجة عنه تمثِّل الحياة. وإن اعتقادنا بأننا نمثل صورة الحقيقة السامية، وبأننا نشاهد هذه الصورة التي تتحقق بالفعل الجنسي، دليل على أن الجنس هو الوسيلة التي حققت هذه الحياة تحقيقًا لا تعبِّر فيه عن انفعال منحطٍّ. فقد ساعدت هذه الوسيلة على تكوين أنبل كائن وأعظم مثال على كوكب الأرض، هو الإنسان. وإذا كنَّا على يقين من أننا نمثل الحقيقة السامية على هذا الكوكب، فإننا نرفض الاعتقاد أن الجنس عمل منحط أو أنه حاجة محض بيولوجية.
الجنس مسألة روحية :
يشبَّه الجنس بغيبوبة أو نشوة؛ وتتم عملية التكوين في أثناء هذه “النشوة”. ولما كانت النشوة أو الغيبوبة أرفع وأرق من الإحساس العادي، فإن الجنس يأبى أن يكون قضية مادية بحتة. وهذا يعني أن النشوة الجنسية، في ذروتها، غوصٌ إلى عالم الروح، الذي هو لاوعي يتحول إلى وعي عند لحظة إدراكه، واستغراق عقلي ووجداني في هذا العالم.
وهنا نتساءل: ماذا يتحقق في العملية الجنسية؟ يمر الإنسان في حالة حسِّية، ثم ينتقل إلى حالة شعورية، أي نفسية. إذن، فالجنس شعور رقيق، يعبِّر عن نشوة ينقطع فيها الإنسانُ عن الحالة الحسِّية ويستغرق في عالم الروح.
الجنس طاقة لا يُستساغ استعمالُها استعمالاً سيئًا أو مبتذلاً، على نحو تلقائي، أي بعقل متدنٍّ هو غريزة. الجنس طاقة واعية هادفة، أوجدتْها فكرةٌ سامية، وتحقِّقها إرادة. لذا يُعتبَر الزواجُ سرًّا عميقًا، تظهر فيه رقةُ الحياة ودقَّتُها. والحق أن الإنسان الذي يسيء استعمال قواه الجنسية يسيء إلى نفسه، إلى الوجود، إلى الآخر، وإلى الحقيقة السامية. فالإنسان – ذلك الكائن النبيل – ما كان ليأتي إلى الوجود الأرضي إلا عن طريق الجنس.
أخطأ فرويد في نظريته الجنسية:
أخطأ فرويد لأنه لم يدرك الجنس إلا من الناحية المادية فقط. ويُعتبَر تحليلُه صحيحًا من الوجهة العضوية وحدها؛ فيما يبطل هذا التحليل عندما نعتبر الإنسان كيانًا روحيًّا–ماديًّا. لقد حثَّ فرويد، من حيث يدري أو لا يدري، على تنمية الغريزة وإبطال العقل. وتُعتبَر نظرتُه إلى العلاقة بين الابن وأمِّه (عقدة أوديپ) وبين الابنة وأبيها (عقدة إلكترا) خطأ في الأساس – وهذا لأنه جهل العلاقة القائمة بين الإنسان وحبِّه لذاته، متمثلاً في الرجل والمرأة على حدٍّ سواء.
لما كان الجنس يثير موضوع الحب، فإننا نلتزم ببحث فكرة الحب والمحبة ونميِّز بينهما. تختلف ماهية المحبة Agapê عن مفهوم الحب Eros. في الحب شيء من المحبة لأنه وجهها المادي – صحيح؛ لكنه، مع ذلك، يشير إلى التجاذب، إلى الحنين والتوق التلقائي الذي يخلو من الوعي.
تظهر غريزة الجنس وانفعالاته في الحب؛ لذا تتجرد من الوعي إذا اقتصرت على البُعد الجسدي وحده. فالحب العضوي انفعال مادي، لا يتضمن الفهم والإدراك والوعي؛ هو انجذاب مادة إلى مادة دون تحقيق وعي أو غاية، هو شوق طارئ وانقياد أعمى لغريزة لا تعقل، هو نزوة تنقضي وتخلِّف الألم وراءها، وذلك لأنها لذة عابرة. كذلك فإن “حب” المال انفعال ينتج عن انقياد الإنسان إلى الأنانية وإلى شهوة العنف وتحقيق الرغبات؛ و”حب” السيطرة انفعال يُحدِث توافقًا بين مادة الإنسان وقواه اللاواعية؛ و”حب” الانتقام هو انجذاب الإنسان إلى عمق مادته وتلقائيتها العمياء والانفعال بها دون إدراك الخير؛ والكبرياء انفعال مادي لا يخضع لقوى العقل والحكمة. إذن فالحب هو الوجهة المادية لماهية المحبة. وكلُّ عملية حبٍّ لا تؤدي مبدئيًّا إلى محبة ما لم ترافقها عمليةُ إدراك ومعرفة. أما إذا ما رافقتْها المعرفة والإدراك، بَطُلَ الحب أن يكون انفعالاً، وتحول إلى طاقة داخلية عميقة، فاعلة، هي المحبة، تعمل في الإنسان لإيقاد قوة الحياة الروحية والتعبير عن اتجاه العقل نحو الحقيقة.
المحبة تعي، والحب لا يعي؛ المحبة دائمة، لا تتزعزع أركانُها، لأنها تطبِّق نواميس العقل والروح، والحب آني، مؤقَّت، سريعًا ما ينقضي، لأنه لذة عابرة. وكثيرًا ما يتحول الحب إلى كراهية وبغضاء، وذلك لأن عدم الوعي يقف من ورائه. أما المحبة فإنها لا تتحول إلى كراهية لأنها تعبِّر عن قوة الروح وثبات العقل. فالمحبة هي ثبات الإنسانية في الإنسان، وثبات الإنسان في إنسانيته – ثبات الإنسان في الآخر، وثبات الآخر في الإنسان. المحبة تردعني عن الاشتهاء، والحب يحرضني على الشهوة؛ المحبة تعلِّمني أن أحترم جسد الإنسان، المرأة، بينما الحب يحثني على استغلاله وإذلاله.
عندما يتحول الحب إلى محبة يرتفع الإنسان إلى درجة عليا على سلَّم كيانه، وتصبح المحبة تعاطفًا بين روح وروح، بين عقل وعقل، ومشاركة بين المادة وروحانيتها. وعندئذٍ، يكون العمل المادي تعبيرًا عن فكر أو عن غاية يظهر في النتيجة أنها روحية.
هنالك طاقة تفعل في الإنسان وتتجلَّى في مظهرين:
أولهما مادي وثانيهما روحي. ويتخذ الأول صفة الحب، بأشكاله كلِّها، بينما يتخذ المظهر الآخر صفة المحبة، بأشكالها كلِّها. ويتراءى لنا الحب في كلِّ عملية تظهر فيها الأنانية والانفعال. فالأناني “يحب”، لكن حبَّه مبتذل لا يسمو؛ والمتكبِّر “يحب”، والمتذمِّر “يحب”، ومحب المال يحب المال، وفاعل الشر يحب الخديعة، ومحب الجسد يحب الجسد ويفتتن بلذته، والمشتهي يحب موضوع شهوته. ولكن أنواع الحبِّ المذكورة مادية، غير واعية، تعبِّر عن لاعقلانية الإنسان وعن انفعال الأنا الضيقة فيه.
ومن ناحية أخرى، تظهر في الإنسان المتكامل أنواع المحبة بشتى صورها. وتتبلور هذه المحبة في كلِّ تَسامٍ للطاقة المادية. فالأنانية تتحول إلى أنانة، إلى تضحية، والغريزة تتحول إلى وعي. وعندئذٍ، تكون المحبة المظهر الوحيد للطاقة الإنسانية، المادية والروحية معًا.
ولا يتوانى الإنسان المتكامل عن استعمال أيِّ مفهوم مادي، بل يعمل في المادة – المادة المتسامية والمثالية – ويُرَوْحِنُها.
ويكون الجنس، وفقًا لهذا المنظور، محبة تعبِّر عن طاقة حيوية شاملة، تتجلَّى في حبٍّ يعبِّر عن ذاته في حنين وتوق إلى المطلق في الذات والآخر.
.
تشير هذه الحقيقة إلى أن وجود الإنسان وتحقيق ولادته عن طريق الجنس لم يكن وليد نزوة طارئة أو لذة عابرة. ونحن نعتقد أن ثمة طاقةً ما تفعل في الإنسان، كأية طاقة حيوية أخرى كامنة في جسده، تجعله يقوم بواجب معيَّن عن طريق عضو من الأعضاء. وفي الجنس، تتمثل هذه الطاقة في انجذاب بين قطبي الإنسان لكي تتحقق فعلاً، أي تنتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. ويتمثل الجنس في هذا الانجذاب الحاصل بين قطبي الإنسان، فيكون اندفاعًا وانفعالاً أو نزوة أو لذة أو هياجًا عندما يضل عن غايته، إذ لا يفعل فيه الوعيُ والإرادة، فينقاد إلى الأنا ويعبِّر عنها. وتخلو الحياة الجنسية عندئذٍ من فعل المحبة، وتعبِّر عن الأنا وتلقائيتها وتأثرها اللاواعي بالجانب المادي وحده.
وفي هذه الحال، ينقاد الإنسان إلى هذه التلقائية انقيادًا أعمى أشد من انقياد الحيوان إلى دافعه الغريزي. فالحيوان لا يمارس الجنس إلا في سبيل الإنجاب، ولا يقترب ذكرٌ من أنثاه عمومًا ما لم تسمح هي بذلك الاقتراب وفق نواميس طبيعية منظمة غاية التنظيم؛ فتكون عملية الجنس منظمة عند الحيوان. وبما أن هذه العملية غير منظمة في الإنسان، فإنه يمثل درجة أحط من الحيوان عندما يعبِّر عن انفعال المادة أو الأنا، أي عندما يفتقر إلى قاعدة وعي. فلو كان الجنس في الإنسان منظَّمًا، كما هو لدى الحيوان، لما كان إنسانًا. فليس تنظيمه في الحيوان سوى دافع غريزي وعدم تنظيمه في الإنسان إلا حرية.
يُعَدُّ الجنس في الإنسان تعبيرًا عن فعل الكيان ككل. لذا يتأثر الجنس في الإنسان بعوامل نفسية واجتماعية. فهو، كما قال پول شوشار، الاختصاصي الفرنسي في فسيولوجيا الجهاز العصبي، “جنس نفسي”.
تقودنا هذه المقدمة الوجيزة إلى بحث موضوع الدافع الغريزي والدافع الحيوي الواعي.
فما الغريزة؟ وما الدافع؟ وما الفارق بينهما؟
نحن نعلم أن ولادة الإنسان تعني وجود الدافع والتلقائية. فالطفل يطلب الطعام والماء منذ ولادته، وذلك على الرغم من عدم معرفته بما يطلب. ولذا نقول إن الدوافع تولد مع الإنسان. وكما يبدو، فإن الدوافع تتنوع، ويتدرَّج ظهورُها على التوالي؛ فهي إذًا كامنة في صميم الكائن الحي. فهل هي تتفق مع العقل أم أنها تتناقض معه؟
يهدف كلُّ دافع إلى تحقيق غاية. وتُعَدُّ كلُّ غاية في جوهرها فعلاً عقليًّا؛ لذا يتناسب الدافع مع العقل والوعي. فالدافع طاقة كامنة في الإنسان، تنسجم مع العقل وتعبِّر عنه إنْ هي تحققت بمقتضى الغاية التي من أجلها وُجِدَتْ. وهكذا يكون الدافع عقلاً متى حقَّق الغاية من وجوده.
في المقابل، تُعَدُّ الغريزةُ في الحيوان عقلاً متدنِّيًا؛ إذ لا تتفق هذه الغريزة مع العقل الإنساني. ولقد أظهر العالِم الفرنسي تِلار دُه شاردان أن العقل كامن في كلِّ شيء، ويتدرَّج من الأدنى إلى الأعلى في تفتح مستمر. ولما كان يُعرَّف به بأنه درجة عقلية دنيا في الحيوان، فإننا ندعوه غريزة أو تلقائية. فالغريزة طاقة لا تعقل ذاتها، بينما الدافع طاقة تعقل ذاتها، لأنه يحقق ذاته، يحقق غاية؛ فهو عقل متى أدرك ووعى.
وفي هذا المجال، نقدم أمثلة على الدافع والغريزة: العاطفة دافع، لكن انحرافها يشير إلى الغريزة أو الرغبة؛ والعقل لا يعي موضوعه لحظةَ ينحرف الدافعُ إلى غريزة. والطعام دافع، لكن انحرافه يسمَّى شهوة أو شهية، أي غريزة. والشجاعة دافع، لكن انحرافها انفعال وتمرد ورعونة. والجنس دافع، لكن انحرافه غريزة تفقد غايتها وعقلانيتها. لذا كانت الغريزة سلوكًا يجري وفق نواميس محددة فطريًّا؛ فتكون عقلاً أدنى، وتلقائية لا تعي ذاتها.
الجنس الإنساني فريد من نوعه، ذلك لأنه يتجاوز الحاجة البيولوجية. وقد اتفق الكثير من العلماء والحكماء على أنه ليس في الإنسان حاجات بيولوجية صرف. لذا لا نستطيع تقسيم الإنسان أو تجزئته إلى كيانين متباعدين: نفسي وجسدي. فالطعام والجنس، مثلاً، حاجتان نفسيتان–جسديتان. الطعام في الإنسان يتحول إلى أفكار؛ ولكنه في الحيوان أو النبات لا يتخطَّى حدود الغذاء. والإنسان لا يحيا بالطعام وحده، وبالتالي لا يفكر من خلاله فقط؛ فالموسيقى والقراءة والتأمل إلخ عوامل هامة في تشكيل أفكاره. لذلك يُعتبَر الطعام حاجة بيولوجية–نفسية. والجنس في الإنسان يتحول إلى عواطف ومشاعر وأفكار ومُثُل وتصورات، تشيع جميعًا في الإنسان لترفعه وتسمو به إلى مدارك عليا. وتُعتبَر هذه كلها عوامل نفسية.
إن تسامي الإنسان على الحيوان يشير إلى أن الجنس أكثر من حاجة بيولوجية فقط. وبما أن الجنس يقع فيما وراء اللذة، فإنه يتجاوز الغريزة إلى حقول الشعور والعاطفة والفكر. ولما كانت العوامل النفسية والتصورية تلعب دورًا كبيرًا في الجنس الإنساني، فإننا نقول بأنه إخفاق تام عندما نسعى إليه كغريزة أو كإشباع كمِّي محض.
وهكذا نرى أن الجنس عند الإنسان يختلف عن الجنس عند الحيوان، وذلك لأن تطور الحياة من الأدنى إلى الأعلى، من الغريزة – وهي عقل متدنٍّ – إلى العقل الواعي، يواكبه تطورٌ في الجنس. ونقصد بهذا التطور تطورًا من الصعيد البيولوجي إلى الصعيد الفكري والنفسي. وهذا ما يؤكد عليه كتاب الجنس ومعناه الإنساني لمؤلِّفه كوستي بندلي. فالإنسان، كما نرى وكما يرى هذا المؤلِّف المبدع، يتأرجح بين الغريزة وأسمى القيم؛ فهو يحيا في الدافع كما يحيا في الوجدان. ومما لا شك فيه أن الجنس يشير إلى حقيقتين تظهر من خلالهما عظمةُ الكائن الحي في نزوعه نحو الكمال.
فالجنس تعبير عن واقعين اثنين:
1. نزوع إلى اتصال حميمي بالآخر، لأنه يقيم علاقة عاطفية مع هذا الآخر، ويعبِّر عن حقيقة وجودية ما. فهو، إذن، حركة تدفع إلى لقاء الآخر من أجل اكتمال الكائن الحي.
2. تعبير عن الشخصية الإنسانية ككل: فالرغبة الجنسية تتأثر بعوامل عديدة، وتختلف كليًّا عن العوامل الفسيولوجية البحتة، نذكر منها عوامل الخيال والعاطفة والشعور بالغير وبالقيمة وسائر العوامل النفسية. لذا لا نستطيع القول إن الجنس مجرَّد حاجة بيولوجية، ذلك لأن الانفراج العضوي البحت – ونعني العلاقة الجنسية – يترك شعورًا بعدم الارتياح. ولكن هذا الشعور يضمحل متى اقترنت العلاقة بالعوامل النفسية الأخرى. فالجنس لقاء مع الآخر يعبِّر عن الكيان الواحد.
تشير هذه العبارة الأخيرة إلى أن الجنس يجعل من المرأة والرجل كيانًا واحدًا؛ فمتى تم وصالٌ بينهما تحقَّق الكيان الواحد الكامن في كليهما. وفي هذا الصدد يجب علينا أن نذكر ما قالتْه الأساطير الأولى – ومازال العلم يردِّده – من أن الإنسان الأول كان واحديَّ الجنس، كامل الجنس، لأنه لم يكن ذكرًا أو أنثى، بل أندروجينوس Androgynous أو هرمافروديتوس Hermaphrodite، لكنه انفصم إلى وجودين متكاملين، إلى قطبين تمثَّلا بالرجل والمرأة. ولا يعود هذا الكيان إلى ما كان عليه من وحدة سابقة إلا بهذا الوصال الذي يتم بين قطبي الحياة: الرجل والمرأة. ففي البدء كان الرجل والمرأة جسدًا واحدًا. ولا تتحقق سرَّانية هذا الجسد الواحد إلا بالزواج، أي بتحقيق الطاقة الحيوية الشاملة.
يؤسفنا أن أقول إن اللاهوت التقليدي وبعض الفلسفات مسؤولة عن فصم كيان الإنسان وجعلِه اثنين: روحًا وجسدًا. الإنسان في الأصل كيان واحد قائم بذاته: الرجل إنسان تام، والمرأة إنسان تام. والمادة والروح كذلك حقيقة واحدة، ذلك لأن الإنسان يعجز عن القول كيف يكون فعله، جسديًّا أم روحيًّا. لكننا في الزواج نجد حقيقة مطلقة تشير إلى تناقض ظاهري وإلى انسجام داخلي. وتذكر بعض الآراء المثالية القديمة – الباطنية بصفة خاصة – أن الرجل يمثل الروح وأن المرأة تمثل المادة. وفي هذا التعبير لا يُساء إلى حقيقة المرأة، لأن فكرة المرأة–المادة تشير إلى المبدأ الأول للوجود، الهيولى الأولى أو الجوهر، الذي هو المادة الأولى الطاهرة النقية قبل تعيُّنها، حاملة الحياة والروح، التي يُرمَز إليها في الأساطير بمبدأ الأرض–الأم Gaia.
إذا كنَّا نأخذ هنا بهذا المبدأ، فلكي نشير إلى أن الكيان الإنساني لا يتم ولا يكتمل إلا بانسجام الروح والجسد في كيان واحد نسمِّيه الإنسان. والإنسان هذا رجل وامرأة، روح وجسد، لا يتضادان إلا ظاهريًّا، ويتكاملان داخليًّا في كيان واحد متَّحد. وهما في حقيقتهما يشيران إلى سرِّ الوجود، إلى حقيقة التكوين. فاجتماع الرجل والمرأة، أو ما ندعوه بـ”الاتصال الجنسي”، يشير إلى سرٍّ عميق، إلى وحدة الوجودين الظاهري والباطني، المادي والروحي، في وحدة لا تنفصم عراها ولا تنحلُّ أبدًا. فالزواج سرٌّ عميق ينطوي على حقيقة التكوين، فيما الإباحية الجنسية خروج عن هذه الحقيقة، لأنها الجنس مفسَّرًا بمصطلحات بيولوجية صرف.
هذا هو الخطأ الذي وقع فيه تسيغموند فرويد ومدرسته. فالجنس أساسًا ليس حاجة بيولوجية تنطلق من دافع عضوي. ولما كان الإنسان كلاًّ متحدًا، أو كثرة في واحد، فإن كلَّ عاطفة أو شعور أو إحساس فيه إنما يعبِّر عن كل. ففي الجسد الإنساني مراكز وظيفية عديدة تسمَّى “أعضاء”. ويقوم كلُّ عضو بواجبه ليعبِّر عن إرادة الكل. فالقلب لا يُعتبَر عضوًا قائمًا بذاته قيامًا مجردًا أو معزولاً؛ والرئتان لا تُعتبَران عضوين قائمين بذاتيهما قيامًا مجردًا؛ والدماغ لا يُعتبَر عضوًا قائمًا بذاته قيامًا معزولاً، والعضو الجنسي–التناسلي لا يُعتبَر عضوًا قائمًا بذاته قيامًا مجردًا. والحق أن ألكسي كاريل ألمع إلى هذه الحقيقة في كتابه الممتاز الإنسان ذلك المجهول.
العضو بؤرة تشع في كلِّ اتجاه حيوي؛ فهو فرد يعبِّر عن كلٍّ متَّحد. ولما كان كل عضو في الجسد يقوم بعمله ليعبِّر عن كل، فإن الجسد يعمل ككل من خلال العضو الفرد؛ وليس العضو إلا تعبيرًا عن كلٍّ متحد. إذن، هنالك كل متَّحد، هو الإنسان، معبَّر عنه بالجسد–الروح، أو بالشعور الكلِّي – هذا الشعور الذي نسميه النفس. وعند ذاك يُعَدُّ العضو وسيلةً أو أداةً أو مركزًا أو بؤرةً يتم ظهور الكلِّ فيها، فيكشف هذا الكل عن ذاته من خلاله. ولهذا فقد وُجِدَتْ في الجسد الإنساني طاقات حيوية قائمة في مراكز؛ وتعبِّر كل طاقة عن حقيقة الجسد في اتجاه معيَّن: فالمعدة تعبِّر عن اتجاه الجسد لتحقيق غاية معينة؛ وكذلك يفعل القلب والكبد وسائر الأعضاء. فلا يستطيع عضو أن يعبِّر عن ذاته بذاته لأنه متصل بالكلِّ اتصالاً صميميًّا، وينسجم مع الكلِّ في وحدة لا تعرف الانفصام، هي طاقة حيوية كلِّية. وبالمثل، لا يُعتبَر الجنسُ فعلاً عضويًّا صرفًا، أي حاجة محض بيولوجية، بل تعبير عن كلٍّ متَّحد متكامل هو الإنسان. وإذا كانت هذه الحقيقة واضحة، كان الجنس طاقة كلِّية تتوزع في متَّحَد الجسد–النفس كلِّه لتعبِّر عن الإنسان. فهو أسمى من أن يكون مجرَّد حاجة عضوية، ذلك لأن الإنسان ليس عضوًا منفردًا؛ إذ هو، بالإضافة إلى ذلك، طاقة عميقة تعمل في الإنسان لتحقيق غاية من خلال إرادة. لذا كان الجنس تعبيرًا عن الشخصية الإنسانية كلِّها.
يدل هذا البحث أن الجنس تحقيق للمطلق على مستوى كوكب الأرض لأنه تحقيق للحياة من خلال قطبي الحياة: الرجل والمرأة. ولما كان الإنسان يمثل الكل – المادة كلَّها والروح كلَّها – ويمثل الحقيقة السامية، فإن الجنس تعبير متكامل عن تحقيق هذه الحقيقة السامية وتجلٍّ وظهور لها. ولما كان الرجل والمرأة يلتقيان لتأليف الحياة، فإن لقاءهما يشكِّل نقطة ابتداء الوجود. فكما أن الحقيقة السامية انطوت في المادة، منذ البدء، والتفَّت فيها وتغلفت بها وتخلَّلتْها، كذلك الرجل ينطوي في المرأة ويلتف فيها ويتغلف بها ويتخلَّلها. فالمرأة جسد الرجل، ولقاؤهما يعيِّن انبثاق الوجود. وليس هذا اللقاء الذي يحقق الحقيقة السامية إلا ما ندعوه الجنس: الوسيلة التي يتحقق بها الوعي الكوني اللازمني في الوجود الزمني.
الجنس، كما يفيدنا كارل يونغ، هو الطاقة الحيوية الكلِّية الباحثة عن هدف النمو. وفي هذا يختلف يونغ عن فرويد في تعريف الرغبة الجنسية Libido: فالليبيدو، في نظر يونغ، هي الطاقة الحيوية الشاملة التي تظهر في الدوافع الحيوية الكلِّية. وتتَّسم هذه الطاقة ببُعدها النفسي والكلِّي. أما الليبيدو في نظر فرويد، فهي مسألة عضوية وحسب. والكبت repression، وفقًا لهذا القول، هو عدم تصعيد هذه الطاقة الدافعة. والتصعيد sublimation، كما يشير الواقع، لا يكفي لإقامة توازن في صميم هذه الطاقة الحيوية.
هنا نتساءل: ما هي هذه الطاقة المشتركة بين الروح والمادة؟ إنها طاقة روحية–مادية معًا؛ فهي تشترك في الروح والمادة–الجسد من خلال النفس. ونتساءل أيضًا: ما هي النفس؟
النفس صلة الوصل بين المادة والروح. فعندما حلَّتِ الروحُ في الجسد تشكَّلت النفسُ بفعل طبيعة هذا التجسُّد. وتتركز النفس في المراكز العصبية والأعصاب وفي الغدد والدم. النفس هي اللحمة التي تجمع أعضاء الجسد كلَّها في وحدة متكاملة؛ هي وسيلة الإحساس التي تنقل كلَّ شعور في الجسد. وتتخلَّل النفسُ الجسدَ كلَّه، لأنها كلٌّ روحي وكلٌّ مادي في آنٍ معًا.
ولما كانت النفس صلة الوصل بين الروح والجسد، فإن جميع المفاهيم والقيم تتركز فيها. وتتصف هذه المفاهيم بالروحانية والمادية معًا: فهي مادية إنْ خضعت للأنا، وروحية إنْ خضعت للكيان. فالغضب السلبي انفعال مادي، والهدوء فعل روحي؛ والحقد انفعال مادي والتسامح فعل روحي؛ والحب انفعال الأنا والمحبة فعل روحي؛ والكبرياء انفعال مادي والتواضع فعل روحي؛ والجهل انفعال مادي والمعرفة فعل روحي؛ والشهوة انفعال تلقائي والفضيلة وعي روحي. أما الجنس فيشاهَد في عمله المادي والروحي معًا.
تتركز هذه المفاهيم جميعًا في النفس، وتعبِّر عن الحالة التي يحقِّقها الإنسان، مادية و/أو روحية. وتعبِّر جميع الانفعالات السلبية، مثل الهياج والحقد والكبرياء والجنس العضوي البحت، عن مفاهيم مادية أو عن انفعال الأنا في المادة؛ لذا لا تتصف بالعقلانية، كما أنها لا تعبِّر عن غاية سامية.
يأخذ الجنس، الذي تشترك فيه الروح والمادة معًا، شكلاً جديدًا، يتحول فيه الحبُّ إلى محبة. فهو مادي، يعبِّر عن اندفاع لاواعٍ، هو الجانب البيولوجي؛ وهو روحي يعبِّر عن غاية يعمل في سبيل تحقيقها العقلُ والإرادة. وعندما يتحول الحب إلى محبة، يحافظ الجنس على قاعدته المادية، لكنه لا يعبِّر عن الانفعال والاندفاع التلقائي، بل عن عمل تقوم به المادة لكي تحقق الغاية من وجودها.
إن محبتنا لأبنائنا وأزواجنا تبرِّر فعلنا الجنسي وترفع من قيمته. ويصبح الجنس، في هذه المحبة، فعلاً روحيًّا بامتياز، وليس فعلاً ماديًّا بحتًا، ذلك لأن الثمرة الناتجة عنه تمثِّل الحياة. وإن اعتقادنا بأننا نمثل صورة الحقيقة السامية، وبأننا نشاهد هذه الصورة التي تتحقق بالفعل الجنسي، دليل على أن الجنس هو الوسيلة التي حققت هذه الحياة تحقيقًا لا تعبِّر فيه عن انفعال منحطٍّ. فقد ساعدت هذه الوسيلة على تكوين أنبل كائن وأعظم مثال على كوكب الأرض، هو الإنسان. وإذا كنَّا على يقين من أننا نمثل الحقيقة السامية على هذا الكوكب، فإننا نرفض الاعتقاد أن الجنس عمل منحط أو أنه حاجة محض بيولوجية.
الجنس مسألة روحية :
يشبَّه الجنس بغيبوبة أو نشوة؛ وتتم عملية التكوين في أثناء هذه “النشوة”. ولما كانت النشوة أو الغيبوبة أرفع وأرق من الإحساس العادي، فإن الجنس يأبى أن يكون قضية مادية بحتة. وهذا يعني أن النشوة الجنسية، في ذروتها، غوصٌ إلى عالم الروح، الذي هو لاوعي يتحول إلى وعي عند لحظة إدراكه، واستغراق عقلي ووجداني في هذا العالم.
وهنا نتساءل: ماذا يتحقق في العملية الجنسية؟ يمر الإنسان في حالة حسِّية، ثم ينتقل إلى حالة شعورية، أي نفسية. إذن، فالجنس شعور رقيق، يعبِّر عن نشوة ينقطع فيها الإنسانُ عن الحالة الحسِّية ويستغرق في عالم الروح.
الجنس طاقة لا يُستساغ استعمالُها استعمالاً سيئًا أو مبتذلاً، على نحو تلقائي، أي بعقل متدنٍّ هو غريزة. الجنس طاقة واعية هادفة، أوجدتْها فكرةٌ سامية، وتحقِّقها إرادة. لذا يُعتبَر الزواجُ سرًّا عميقًا، تظهر فيه رقةُ الحياة ودقَّتُها. والحق أن الإنسان الذي يسيء استعمال قواه الجنسية يسيء إلى نفسه، إلى الوجود، إلى الآخر، وإلى الحقيقة السامية. فالإنسان – ذلك الكائن النبيل – ما كان ليأتي إلى الوجود الأرضي إلا عن طريق الجنس.
أخطأ فرويد في نظريته الجنسية:
أخطأ فرويد لأنه لم يدرك الجنس إلا من الناحية المادية فقط. ويُعتبَر تحليلُه صحيحًا من الوجهة العضوية وحدها؛ فيما يبطل هذا التحليل عندما نعتبر الإنسان كيانًا روحيًّا–ماديًّا. لقد حثَّ فرويد، من حيث يدري أو لا يدري، على تنمية الغريزة وإبطال العقل. وتُعتبَر نظرتُه إلى العلاقة بين الابن وأمِّه (عقدة أوديپ) وبين الابنة وأبيها (عقدة إلكترا) خطأ في الأساس – وهذا لأنه جهل العلاقة القائمة بين الإنسان وحبِّه لذاته، متمثلاً في الرجل والمرأة على حدٍّ سواء.
لما كان الجنس يثير موضوع الحب، فإننا نلتزم ببحث فكرة الحب والمحبة ونميِّز بينهما. تختلف ماهية المحبة Agapê عن مفهوم الحب Eros. في الحب شيء من المحبة لأنه وجهها المادي – صحيح؛ لكنه، مع ذلك، يشير إلى التجاذب، إلى الحنين والتوق التلقائي الذي يخلو من الوعي.
تظهر غريزة الجنس وانفعالاته في الحب؛ لذا تتجرد من الوعي إذا اقتصرت على البُعد الجسدي وحده. فالحب العضوي انفعال مادي، لا يتضمن الفهم والإدراك والوعي؛ هو انجذاب مادة إلى مادة دون تحقيق وعي أو غاية، هو شوق طارئ وانقياد أعمى لغريزة لا تعقل، هو نزوة تنقضي وتخلِّف الألم وراءها، وذلك لأنها لذة عابرة. كذلك فإن “حب” المال انفعال ينتج عن انقياد الإنسان إلى الأنانية وإلى شهوة العنف وتحقيق الرغبات؛ و”حب” السيطرة انفعال يُحدِث توافقًا بين مادة الإنسان وقواه اللاواعية؛ و”حب” الانتقام هو انجذاب الإنسان إلى عمق مادته وتلقائيتها العمياء والانفعال بها دون إدراك الخير؛ والكبرياء انفعال مادي لا يخضع لقوى العقل والحكمة. إذن فالحب هو الوجهة المادية لماهية المحبة. وكلُّ عملية حبٍّ لا تؤدي مبدئيًّا إلى محبة ما لم ترافقها عمليةُ إدراك ومعرفة. أما إذا ما رافقتْها المعرفة والإدراك، بَطُلَ الحب أن يكون انفعالاً، وتحول إلى طاقة داخلية عميقة، فاعلة، هي المحبة، تعمل في الإنسان لإيقاد قوة الحياة الروحية والتعبير عن اتجاه العقل نحو الحقيقة.
المحبة تعي، والحب لا يعي؛ المحبة دائمة، لا تتزعزع أركانُها، لأنها تطبِّق نواميس العقل والروح، والحب آني، مؤقَّت، سريعًا ما ينقضي، لأنه لذة عابرة. وكثيرًا ما يتحول الحب إلى كراهية وبغضاء، وذلك لأن عدم الوعي يقف من ورائه. أما المحبة فإنها لا تتحول إلى كراهية لأنها تعبِّر عن قوة الروح وثبات العقل. فالمحبة هي ثبات الإنسانية في الإنسان، وثبات الإنسان في إنسانيته – ثبات الإنسان في الآخر، وثبات الآخر في الإنسان. المحبة تردعني عن الاشتهاء، والحب يحرضني على الشهوة؛ المحبة تعلِّمني أن أحترم جسد الإنسان، المرأة، بينما الحب يحثني على استغلاله وإذلاله.
عندما يتحول الحب إلى محبة يرتفع الإنسان إلى درجة عليا على سلَّم كيانه، وتصبح المحبة تعاطفًا بين روح وروح، بين عقل وعقل، ومشاركة بين المادة وروحانيتها. وعندئذٍ، يكون العمل المادي تعبيرًا عن فكر أو عن غاية يظهر في النتيجة أنها روحية.
هنالك طاقة تفعل في الإنسان وتتجلَّى في مظهرين:
أولهما مادي وثانيهما روحي. ويتخذ الأول صفة الحب، بأشكاله كلِّها، بينما يتخذ المظهر الآخر صفة المحبة، بأشكالها كلِّها. ويتراءى لنا الحب في كلِّ عملية تظهر فيها الأنانية والانفعال. فالأناني “يحب”، لكن حبَّه مبتذل لا يسمو؛ والمتكبِّر “يحب”، والمتذمِّر “يحب”، ومحب المال يحب المال، وفاعل الشر يحب الخديعة، ومحب الجسد يحب الجسد ويفتتن بلذته، والمشتهي يحب موضوع شهوته. ولكن أنواع الحبِّ المذكورة مادية، غير واعية، تعبِّر عن لاعقلانية الإنسان وعن انفعال الأنا الضيقة فيه.
ومن ناحية أخرى، تظهر في الإنسان المتكامل أنواع المحبة بشتى صورها. وتتبلور هذه المحبة في كلِّ تَسامٍ للطاقة المادية. فالأنانية تتحول إلى أنانة، إلى تضحية، والغريزة تتحول إلى وعي. وعندئذٍ، تكون المحبة المظهر الوحيد للطاقة الإنسانية، المادية والروحية معًا.
ولا يتوانى الإنسان المتكامل عن استعمال أيِّ مفهوم مادي، بل يعمل في المادة – المادة المتسامية والمثالية – ويُرَوْحِنُها.
ويكون الجنس، وفقًا لهذا المنظور، محبة تعبِّر عن طاقة حيوية شاملة، تتجلَّى في حبٍّ يعبِّر عن ذاته في حنين وتوق إلى المطلق في الذات والآخر.
.
صورة مفقودة