نقوس المهدي
كاتب
لم يكن تينيسون الشاعر الذي كان تي أس أليوت يكن له الكثير من الحب، مع أن اليوت كان حصيفاً ومعتدلاً في تقييماته: «عنده ثلاث سمات يندر اجتماعها إلا عند الشعراء العظام: الغزارة والتنوع والمقدرة التامة». (يعني أليوت «يجب أن يكونوا مثل دانتي»). و«كانت عنده أفضل أذن من أي شاعر إنجليزي منذ ميلتون» – رأي يفقد حماسته عندما نتذكر ما قاله أليوت في مكان آخر عن ميلتون. (امتلاك أذن ممتازة ليس كافياً). وعندما يدخل أليوت الى تفاصيل تينيسون، مثلاً فيمُود Maud، يجد الكثير مما لا يحبه، معلناً «هذيانات عاشق على حافة الجنون» و»خوارات عدوانية» ولأنها «زائفة»: تفشل «في أن تجعل جسد المرء ينسل منه بصدق». ولكن في ذكرى In Memoriam يختلف الأمر؛ فهناك فقط يجد أليوت أن تينيسون ينجز «تعبيراً كاملاً». ويصدر باصرار تام تحذيره المعروف: يجب أن تكون القصيدة «مفهومة ككل».
إلا أنه، كما يبدو، يجوز لنا أن نتذكر هذا الجزء من شعر تينيسون:
بيت معتم، أقفُ مرة أخرى الى جانبه
هنا في هذا الشارع الطويل الكريه
عند الأبواب، حيث قلبي كان معتاداً على الخفقان
بسرعة كبيرة، بانتظار يد،
يد للمصافحة لا أكثر –
امسكني، فأنا لا أستطيع النوم،
وأنسل مثل شيء مذنب
في الصباح الباكر الى الباب.
فهو ليس هنا؛ بل هو بعيد
وضجيج الحياة يبدأ من جديد
حيث يخرق رذاذ المطر
المتساقط على الشارع الأجرد اليوم الشاحب.
يقول أليوت «هذا شعر عظيم، فيه اقتصاد في الكلمات واحساس عام يرتبط بمكان محدد؛ وهو يمنحني الرعشة shudder التي فشلتُ في الحصول عليها في مود ككل». ومن المستغرب أن تصدر «رعشة» من الوقور أليوت، حتى لو كانت التجربة التي يشير اليها قد تكون مألوفة تماماً في بعض أشكالها. وهو بالتأكيد قد مر بتلك التجربة أو بشيء ما وضعه أو وضعنا في مناخها. وقد تستعمل الكلمة كمعادل لـ«frisson» (ويبدو أنه ليس بمقدور المعجميين تجنب shudder عند تعريفهم frisson). ويمكننا القول إن استدانة هذا المعنى جاءت من الفرنسية، فعلى الأرجح كان الشعراء الإنكليز في تلك السنوات يتأثرون، كما هي الحال مع أليوت، ببودلير وغيره. وعندما رفض قراءة تسعينيات القرن الثامن عشر لبودلير، جعل أليوت من نفسه بالفعل مفسره الرئيس بوصفه مؤلفاً أخلاقياً عنيفاً فضلاً عن كونه شاعر «المدينة القبيحة l’mmonde cite»؛ الكتاب الذي له حصته من الأهوال والرعشات والأشباح.وكان أليوت معجباً بهيسمانس Huysmans، أحد أتباع بودلير، الذي يستحق أن يصل عمله ضد الطبيعة A Rebours الى القائمة القصيرة لأية مسابقة ارتعاش، خصوصاً عندما يقدم fremir دعماً الى frissonner. وقد استعان اوسكار وايلد، بوصفه معجباً بهيسمانس أيضاً، بالـ«رعشة» في صورة دوريان غراي. وتوجد أمثلة كثيرة عن الرعشة في تعبيرات عادية مثل «أرتعش من الفكرة» أو «رعشة مرت خلال»،وأياً كان الأمر فهذه الأمثلة تبين ببساطة أن هذه الكلمة عرضة للتبسيط على رغم قوتها الأصيلة. ولكن بقيت الكلمة قادرة على توصيف هول أو حتى جمال استجابة جسد ما الى محفز عنيف. وأعجب أليوت بالصدمة والمفاجأة، وبحث عن مميزاتهما في شعره الخاص، وحكم على نجاح آخرين، كما فعل مع تينيسون، في تقديمهما. ويتكلم باتر Pater عن ميل كوليردج الى «الخارق للطبيعة» بوصفه «حنيناً الى الرعشة التي أسعفت، بشكل مباشر،المدرسة الرومانتيكية بألمانيا واشتقاقاتها بإنكلترا وفرنسا». إلا أن ارتعاشاً مراوغاً بعض الشيء يرد في قصيدة كريستبال Christable لكوليردج:
تحت القنديل انحنت السيدة
وببطء قلّبت عينيها
سحبت نفساً عالياً
مثل أمرئ مرتعش
ثم حلت الطوق من تحت صدرها:
رداؤها الحريري
قميصها الداخلي
سقطاعلى قدميها
وبديا للعيان
انظر! صدرها ونصف جانبها –
مشهد كالحلم، لا يوصف!
آه وقِها! وقِ كريستبال الجميلة!
ولم نخبر عمّا حدث لاحقاً، لكن تلك الرعشة الى جانب التفاصيل الأخرى توحي بأن كريستبال ربما كانت على وشك أن تخوض تجربة تسيء الى رومانتيكيتها. وقد تجد النسخ المبتذلة لمثل هذه اللقاءات مكاناً لها في «مجلات الفظاعة» الاميركية وكذلك في الكتابات المنحدرة من بو Poe. وطبقاً لويكيبيديا، فهذه المجلات تعرف تجارياً بـ «مجلات الإثارة».
ويمكن لأودن، في ليلة باردة ببروكسل، أن يحقق ذلك متحدياً البرد بالرعشة اللبيدية: «وبخمسين فرنكاً سيكسبُ حقاً غريباً / حاضناً المدينة المرتعشة بين ذراعيه». وسمعتُ من مدة قريبة شخصاً يقرأ دراكولا في الراديو بنكهة تبدو وكأنها رعشة تستمر الى حين قطافها. وبروزها في جماليات أدورنو يبين استعمالها التخصصي. والأكثر إثارة في هذا السياق تعليقات دارون على فسلجة الرعشة المدونة في التعبير العاطفي في الإنسان والحيوان (1872) الذي يحوي فصلاً تحت عنوان «مفاجأة- دهشة- خوف- رعب». ومن بين الاستجابات لحافز مناسب ما رفع الحاجبين ونتوء الشفتين وانتصاب الشعر وتقلص عضلة الـبلازما. وتقلص هذه العضلة التي تتمدد على طول الترقوة في أعلى كل جانب من العنق يمكن أن يغير من الملامح كثيراً: إذ ينخفض الخد ويتسع بؤبؤ العين وهلم جرا. فالشعور الأولي بالخوف أو تصور شيء ما مرعب عادة ما يثيران رعشة وتقلص البلازما بشكل عفوي. ومن دون الاستشهاد بدارون، يعرف معجم أكسفورد للغة الانجليزية هذه الكلمة بأنها سلوك عضلي ينم عن استجابة ما لخوف أو رعبأ و ألم، أو الخوف من هذا الألم، أو ألم الآخرين، أو الغضب، أو الاشمئزاز أحياناً.
ويبدو أن البايولوجي ينظر الى الرعشة، على رغم شيوعها كثيراً، بوصفها مسألة عاطفية جداً تهتم عميقاً بأفعال الخيال، فضلاً عن اهتمامها بأكثر ردود الأفعال عادية مثل البرد أو الخوف. ومن ثم، فيسهل تصور أن فعل القراءة هو فعل يلازمه ارتعاش، ويبدو ذلك في سياق تعليقات أليوت على تلك الأبيات من في ذكرى. ويبدوأنه بالكاد قد استعمل كلمة «رعشة»، ولكن كان استعماله لها يتعلق دائماً على الأرجح بتجارب لا يفضل المرء المرور بها، وتتناقض تقريباً مع لحظات النشوة. ويقول «في مسرح منتصف القرن السابع عشر المشاكس تحرك فكر شكسبير وشعوره وتجربته الشخصية المثيرة للارتعاشكل على انفراد ومن دون تشويه». فما هي الكيفية التي عرف بها أليوت عن تجربة شكسبير «الشخصية المثيرة للارتعاش»؟ ويقين أليوت بأن معرفة الشاعر تتأتى من النداء الباطني vocation، برغم أن هذا المفهوم عرضة للهجوم، سيتفق مع ما يسميه رونالد تشوتشارد Schuchard في كتابه الملاك المعتم عند أليوت «الصلة الوثيقة في شعر أليوت بين لحظات النشوة النادرة ولحظات الرعب المتواترة». ويحدد أليوت حضور اللحظات الأخيرة في رواية تشارلس ويليمز عشية عيد جميع القديسين حيث يدعي بأنه ليس هناك «استغلال لقوى فوق طبيعية من أجل رعشة فورية». نعم ثمة صور رعب تنتجها الرعشة في مسرحية أليوت جمع شمل العائلة؛ أشكال من الكوابيس والرغبة لكن بين الفينة والفينة يتحرك كلّ شيء نحو مستوى أعمق؛ حيث الرعشة ، كما في عشية عيد جميع القديسين، ليست «فورية» بل هي بالأحرى واسطة للدخول الى محفزات مختلفة، أو ربما نشوة، أو ذاكرة لنشوات متعددة.
ومن الواضح أن كلمة «رعشة» تنتمي الى مجموعة كلمات تشمل «خوف» و«رعب» وترتبط باستجابة جسدية قوية. وفي مقالة حديثة عن فرانسس بيكون في نيويورك ريفيو أوف بوكس يعيد فيها جون ريتشاردسون الى الأذهان بأن هدف لوحاته عن صديقه جورج داير هو رسمه في «حالة متوترة»، ويضيف أن معجبة أخبرته أن اللوحات بالفعل انتجت «رعشة عميقة». ووصف الرعشة بالاستجابة الجسدية العنيفة مع العامل الجنسي القوي سيذكرنا حتماً بقصيدة ييتس «ليدا والبجعة»:
رعشة في الأعضاء التناسلية تنشأ هناك
حيث الجدار المكسور
البرج والسقف المحترقان
وموت أجاممنون
وفي قصيدة قديمة، «عن إمرأة»، ربط ييتس في صورة مؤثرة شدة العلاقة بين سليمان وبلقيس مع رعشة الحديد المتفجرة عند نقله من النار الى الماء:
شدة شهوتهما
جعلتهما يتمددان بنعاس
فالمتعة تأتي مع النوم
والرعشة جعلت منهما واحداً ...
وبينما «ليدا والبجعة» قصيدة رعشة حديثة عظيمة، إلا أن الرعشة الواردة فيها هي استجابة جنسية لرؤيا نبوئية، ولاغراء هو كذلك بدوره نوع من أنواع البشارة. وتُصاحب الرعشة الجنسية أو تُمثل بدمار كوني؛ الجدار المكسور والسقف المحروق وبرج طروادة، و«موت أجاممنون». وسنشعرُ بهذه الفاجعة في عودتنا الى أجسادنا الخاصة، رعشاتنا الداخلية. فلا تُفهم حادثة تاريخية ضخمة بهذا العرض الكارثي الا هناك. فكلمة مثل هذه لم تعلن آنياً عن مشاعر جنسية قوية، إلا أن طموح ييتس الهائل يتطلب مثل هذا المعنى. وربما تستمد معناها من خزين عميق من الاحاسيس التي تتعلق بالقلق والشعور بالذنب في مرحلة الصبا.
ومن ثم، ماذا بخصوص رعشة أليوت؟ وشعره يقدم أمثلة عديدة عن الذعر والفزع وخرق الطبيعة. ففي قصائده الأولى كان هناك «تعذيب وبهجة» في «أغنية حب سانت سيباستيان»، ونرسيسوس الذي «ذعر من جماله « في «موت سانت نرسيسوس» . وكانت هناك فنتازيا قاتلة في جمع شمل العائلة. وشخصية سويني، التي تظهر في قصائد عديدة، شخصية كابوسية، ونساء كانتير بيري في جريمة قتل في الكاتدرائية المليئات بالذعر للغاية:
ما هذه الرائحة الكريهة، البخار؟ الضوء الأخضر الداكن من غيمة على شجرة يابسة؟ ترتفع الأرض كي تضع ذرية الجحيم. ما هذا الطل اللزج الذي يتشكل على ظهر يدي؟
فأليوت كان متحسس اًلتجليات خارقة للطبيعة بعينها، ولأنواع من الذعر مسببة للرعشة. ويجب أن نسأل الأن سؤالاً أكثر صعوبة: لماذا أثرت تلك الأبيات من «في ذكرى» بأليوت بشكل استثنائي وجعلته يستعمل «الرعشة» مصطلحاً نقدياً للمديح؟ وسنقول بالطبع أن فيكتور هوغو فعل ذلك من قبل عندما أخبر بودلير أنه بكتابته أزهار الشر Les Fleurs du mal كان قد ابدع «un frisson nouveau رعشة جديدةً» وكثير منا يتذكر تلك الأيام التي كان مصطلح «الرعشة الميتافيزيقية» يتداول فيها في النقاش عن دون Donne ومعاصريه. ولكن في مقطع «في ذكرى» لم تكن الرعشة ميتافيزيقية. وعلى حد علمي، ففي مقاله الوحيد عن تينيسون كان أليوت يقصد، بالتأكيد،الثناء. والإشارة الأولى على الحماسة كانت لبيت أو شذرة من بيت من «ماريانا» التي يعتقد أنها تقدم شيئاً ما «جديداً للغاية»: «الذبابة الزرقاء قد غنت على زجاج النافذة». وحتى تلك الآن فإن الشاب تينيسون قد تفوق بوصفه نظّاماً، إلا أن نسبةصفات العظمة إليه كانت من دون استحاق تام لها. ومع ذلك يقول أليوت أن هذا البيت أو الشذرة «تكفي لإخبارنا أن شيئاً مهماً فيها». وبما أنلهذا البيت مميزات عديدة وواضحة، منها أنه ينقل المالنخوليا بصورة مميزة، والمزاج القلق للانتظار؛ وربما يصح القول، كما يقول اليوت، إن تأثيره يعتمد في النهاية على قراءة «sung» بدلاً من «غنّى sang». فهذا البيت ينتمي الى قصيدة جيدة تستحق المديح ككل؛ ولكن ما يزال هناك شيء ما يميزها، وهو: إنها فرضت نفسها. والتفسير الوحيد الذي قدمه أليوت هو أن «شيئاً مهماًفيها».
وأصر أليوت بقوة على وجوب معالجة النصوص بوصفها كلاً، مشيراً الى هذه المسألة بوضوح في مقاربته في ذكرى، كما فعل تماماً في بحث قدمه عام 1929 عن دانتي: «قصيدة دانتي قصيدة متكاملة ... يجب عليك في النهاية أن تفهم كل أجزاء القصيدة من أجل أن تفهم أي جزء منها»، أو «لا يمكننا استخلاص الدلالة النهائية لأي جزء من دون معرفة الكل»؛ عقيدة ربما تعلمها من بودلير عندما طبقهاعلى كلّ أزهار الشر: «أكرر يجب أن يُحكم على الكتاب بوصفه كلاًّ». ولكن «الذبابة الزرقاء قدغنت على زجاج النافذة»؛ بيت واحد قُدِر على مميزاته الخاصة؛ بيت صاف الى درجة أن تغيير جزء منه سيغير من حالته الأصلية. ومع أنه لا شيء قيل صراحة بشأن هذه القصيدة الممتازة ككل ما عدا أنه لا ينبغي لنا تفضيل بعض المقاطع على الأخرى، أو نجاهر باختيار «عينة مقبولة». ومع ذلك فإن المقاطع التي اختارها أليوت، وأبياتها التي تنتج الرعشة،قد عوملت بشكل فردي كما هو واضح، واختيارها يبرره اسهامها في تجربة اليأس الديني (الذي ينطبق على كل القصيدة) وتبرره كذلك مهارتها الفنية التي يجب أن تدرس في حالاتها الخاصة، وربما سيكافئها القارئ برعشة الاكتشاف.
وتكمن أهمية أليوت النقدية، في نظري، في استجاباته الرائعة للخصوصية التي تنطوي عليها مثل هذه الحالات، وليس في قلقه من الكمال الفلسفي أو اللاهوتي. وفي مقطع اقتبسته من في ذكرى يثير اعجابنا تعبير «شيء مُذْنِب»، المأخوذ من وردزورث – لكن أبيات وردزورث عن «الغرائز العليا، التي كانت قبل حياتنا الفانية/ ارتعشت مثل شيء مذنب أُخِذ فجأة» لا تشفع لنفسها الآن، فلم تعد هناك «حقائق تقوم/ كي تبقى الى الأبد». واشارة تينيسون المشذبة كانت جديرة بتقدير أليوت نفسه، وعلى هذا النحو فثمة معنى مزدوج لـ «بل هو بعيد»، حيث نبدأ عبر تحديد اشارة غياب صديق تينيسون آرثر هالام الذي كتبت هذه القصيدة في ذكراه. ولكن سرعان ما ينتقل تعبير «بل هو بعيد» الى جملة أخرى، فما يُسمع في الأخير هو «ضجيج الحياة». وفي النهاية، فإننا نواجه تعاسة الضجيج، المطر البارد والشارع الكئيب؛ ونواجه كذلك في رباعية التفاعيل الاخيرة انحراف موضع كلمتي «الأجرد» و«الشاحب»، وأيضاً الرعشة الأخيرة. وكان عند أليوت نوع من فسلجة الشعر. ففي محاضرته «ثلاثة أصوات للشعر» اتفق مع غوتفريد بين Gottfried Benn في حديثه عن اجتماع افتراضي بين «جرثومة الابداع» واللغة؛ إذ ليس بمقدور الشاعر «معرفة الكلمات التي يريدها حتى يجدها».والقصيدة الوليدة عبء يتبعه ارتياح ما بعد الولادة: فالشاعر «ربما يمر بحالة من الارهاق، ومن الرضا، ومن التبرئة، ومن شيء ما يقترب كثيراً من التدمير». وهنا نجد مزيجاً رائعاً من الرضا المادي والروحي ويقترب من البشري، ويجب أن نتذكر بأن هذه الاستعارة التوليدية التي لها ظلال ولادة خطرة تسبب الارتعاش. واتفق أليوت مع هاوسمان Houseman في كلامه عن صلة المرض بالإبداع؛ فعلاج الملنخوليا، مثلاً، طوره فنانو عصر النهضة.
وقد أجمل أليوت هذه الاعراض في قراءة ابداعية أخرى. فيقول في رسالة الى ستيفن سبندر عن الموضوع نفسه أصبحت مشهورة منذ نشرها في عام 1966: «حتى لو أن اللحظة المُحيرة هي فقط مَن يؤخذ في الحسبان؛ ينبغي أن تقطع الأمل من نفسك، ومن ثم اشفها، وفي اللحظة الثالثة سيكون عندك شيء ماتقوله، وقبل أن تنسى تماماً كلا الاستسلام والعلاج، فلن تكون بالطبع النفس البليلة أبداً كحالها من قبل».
وستقودنا «اللحظة المحيرة» الى التساؤل عن ضرورة أن يقطع القارئ الأمل من نفسه! ووجد أليوت هذا التعبير خلال دراساته المبكرة المفيدة والرائعة في الدراما الجيمسية. وهنا بعض الأسطر من تراجيديا المنتقم لتونيور (أوميدلتُن)، وهذه الأسطر معروفة الآن لاهتمام أليوت بها، ولأنه أشار الى أهميتها في الوقت نفسه؛ فهي معروفة فقط للقارئ الذي له اهتمام خاص بما يُسمّى أحيانا الكتابة «الرمزية decadent»؛ وكما قال فإن هذا «المقطع الغريب الى حد ما جدير بعناية جديدة»:
هل تنشر دودة القز خيوطها الصفراء من أجلكم؟
هل تحطم نفسهامن أجلكم؟
هل تباع ألقاب السادة كي تصان ألقاب السيدات
من أجل مصلحة بائسةللحظة محيرة؟
يخاطب المتكلم هنا شخصاً ما؛ ومن بين الكلمات التي نطقها جذبت كلمة «محيرة bewildering» أليوت التي لم يكن لها تبرير نصي –فالأصل هو كلمة «bewitching ساحرة». ولكن أليوت وجد أن «محيرة» كلمة أكثر غنى فشرع بسرقتها. وحسب ظني، فإن السند النصي الوحيد لكلمة «محيرة» قدمه الباحث الفيكتوري المزور جون باين كولير، وبوسعنا القول إن أليوت اختار هذه القراءة التي يعرف أنها مزيفة لا لشيء إلا لأنه يفضلها. (تحتاج مثل هذه القراءة الى شرعية، وأليوت كان عنده بعض منها: ينظر قبول المعاجم الانجليزية كلمة juvescence؛ الخطأ الذي لم يصححه أبداً؛ فينبغي أن تغيير اللغة من نفسها كي تسمح بدخول المحدَث). وظهرت كلمة «محيرة» مرة أخرى في مقال لأليوت عن تورنيور نشر فيما بعد في كتابه بحثاً عن آلهة غريبة. إلا أنه ألقى الضوء عليها أكثر في رسالته المذكورة الى سبيندر حيث «اللحظة المحيرة» هي لحظة واحدة يخضع خلالها القارئ الى إثارة المقطع ورعشته، وبعد ذلك يجب على الناقد أن يخرج من السحر ويتأمل تجربته. واعترفُ بأن أليوت عمل وفق هذه القاعدة. ويمكننا تقديم أسباباٌأخرى عن شغف أليوت الكبير بـكلمة «محيرة» منها،على وجه الخصوص، الشعور بالفساد الجنسي لأن العامل الجنسي وتبعاته تقع هنا ضمن منطقة الاعتراض والتأديب. فأليوت أراد لأشخاصه العظماء أن يتعذبوا جراء أخطائهم: برونيتو وفرانشيسكا في الجحيم، والزوجة المخطئة في إمرأة قتلت بلطف، وفي نصوص بودلير.
ومن الواضح أن أليوت كان قادراٌ على أن يمط نظرية شاملة تختص بالشعر والنقد معاً على كلمة مسروقة، لكنها تمتلك قوة الارتعاش. واختطاف مثل هذه الكلمة يرتبط بالرعشة وإلا لماذا يسرقها؟ وعلى مقربة من نهاية «جيرونشون» نقرأ عن «دي بلحاج، فريسكا، السيدة كاميل، هامت/ الى أبعد من طوفان الدب المرتعش/في ذرات متشظية». هذا الدب هو استيراد آخر من القرن السابع عشر وجِد، كما بيّن أليوت في كتابه فائدة الشعر وفائدة النقد، في بوسي دامبوا لجورج تشابمان: «طر الى حيث يشعر الناس/ حيث جذع الشجرة المحترق، وأولئك الذين يعانون/ تحت عربة الدب الثلجي». لاحظ أن دب تشابمان «ثلجي» بينما دب أليوت «مرتعش». ويقال أن كوكبة الدب «تدور حول القطب»؛ في طوفان بارد وثلجي. ويستحضر تشابمان هنا نقيضي الحر والبرد. وبطل سينيكا، في فقرة من مسرحية جنون هرقل Hercules Furens التي تنبع من جذر تلك الاشارات، يسأل» أين أنا؟هل أنا تحت الشمس المشرقة، أم تحت محور الدب الجليدي؟وتشابمان قدم «ثلجي» في مقابل «جليدي»؛ إلا أن أليوت بفضل انحرافه المعتاد عن الأصل يصل من دون شك الى فكرة أن يكون الدب بارداً و«مرتعشاً».
ورصدنا لأليوت وهو يقتبس أو يسيء اقتباس المقطع نفسه مراراً وتكراراً يؤكد لنا صدمته من الأصول ، وكما هو واضح في المرحلة الأولى من وصفته: استسلام، ثم تأمل، ثم عمل شيء ما عنه. وتبرز تلك التعديلات «الشعراء المحترفون يسرقون» في طرق أخرى أكثر تميزاً. وعلى سبيل المثال، هنا مقطع مفضل آخر ولكن هذه المرة من الخائن لميدلتون. ففي نهاية المسرحيةوعندما يخسر الكل تخاطب بياترس-جوانا أبيها:
أنا دمك ذلك الذي أُخِذ منك
فمن أجل صحتك؛ لا تبحث عنه بعد الآن
والقه على الأرض دونما اكتراث
دع المجاري العامة تقضي على وجاهته.
والآن بعد أن عرفنا ما عرفنا، يمكننا إدراك الكيفية التي كانت عليها ردة فعل أليوت (ارتعاشية على ما أعتقد) على هذا الخطاب اللافت. فيقتبسه بإعجاب في بحثه عن ميدلتون ويحيل الى سياقه في أمكنة أخرى مثل «التقاليد والموهبة الفردية» و«فيليب ماسنجر». وقد أعجبته صراحة اللغة التي استعملت لتؤكد ذنب بياترس-جوانا، وربطه في السطر الأخير بين «المجاري» و«الوجاهة» معاً. فالتفرد البغيض للمرء في مواجهة فكرة الآخر الغامضة يمكنهالحصول على مرتبة عالية في أية منافسة من منافسات الرعشة. وقد كانت ميزة تحسب لأليوت في أنه دائماً يمدح: «ذلك التغيير الطفيف المستمر للغة، حيث تتجاور الكلمات في تراكيب جديدة ومفاجئة على الدوام»، ويسمح بانصهار «فكرتين متباينتين أو أكثر» في تركيب واحد، كما هي الحال، مثلاً، في «شرك جمالها المتين» لشكسبير.
ولم يكن المقطع الذي أقتبسه أليوت من مسرحية ميدلتون، ومعناه أيضاً، صحيحاً تماماً؛ فقد حول أليوت الكلام لأهدافه الخاصة. فالصحيح أن السطر الأول «I am that of your blood» وليس «I that am of your blood» (كما عند أليوت). وتبعاً لذلك يفترض أليوت في تفضيله النسخة الخطأ أن تلك الأسطر عن شرف العائلة، بينما القراءة الصحيحة تجعل الأمر واضحاً بأن في بال بياتريس-جوانا شيئاً مختلفاً: فسفك دمها يشبه فعل إراقة الدماء، الفصد، عملية فتح الوريد طبياً، وليس دماً يضحى به لإرضاء شرف العائلة. فجرف المجاري مقداراً ما من الدم الفاسد من شأنه المساعدة في العلاج. وقد أضعف الخطأ المقطع وقلل من قوة «امتيازه» بربطه بشكل ضيق مع «الدم» بمعنى الشرف؛ ولكن عندما نقرأه «I am that of your blood» يكون لـهذا «الامتياز» قوة ميتافيزيقية. ويظهر الأمر نفسه كذلك في «العنقاء والسلحفاة» مع فكرة «امتيازان، دونما انفصال». أي: بدد الدم، واجعله يمتزج من دون تمييز مع ما تحتويه المجاري؛ «المجاري العامة» التي تصرف أوساخ المدينة بأكملها. أعترفُ بأن القراءة «الخاطئة» تحوم قريباً مني.
وقد تكون الرعشة الأولى،أحياناً، قوية لدرجة هز قبضة القارئ على اللغة التي يتفاعل معها. وهكذا يسيء أليوت اقتباس ميدلتون مرة أخرى في المشهد نفسه من الخائن: دي فلوريس «أنا أحب هذه المرأة على رغم قلبها» يقرأه «على رغم قلبي». وهناك أخطاء أخرى أقل إثارة؛ فهي من النوع الذي تصنعه القراءات العنيفة الأخرى لا سيما تلك المتحصنة بمواقع دفاعية.
ويمكن أن تنتج الرعشة بوساطة صدمة الاستعارة – في شكلها المتطرف، التصوّر conceit،الذي صنف بصورة خطيرة بوصفه مسبباً للقهقهة أكثر منه للرعشة. وكما عرف الدكتور جونسون والآخرون، فإن التصوّر «الميتافيزيقي» ربما يكون أكثر قليلاً من مزحة أو ومضة من الطرافة. ولنأخذ المثال الأول الذي يأتي الى الذهن وهو عندما يصف ابراهام كولي Abraham Cowley مقتل أبيل على يد كين في قصيدته الملحمية Davideis: «رأيته يقذف الحجر، كما لو أنه كان يعني / في الوقت نفسه جريمته وتمثاله». فهذه البراعة لا تستدعي الرعشة، إنها براعة فحسب. ومع ذلك، فهناك تصوّرات تمتلك درجة عالية من الجمال والجدية. وفي يوم من الأيام، وقعت عيناي مصادفة على تصوّر خيالي بآلية طريفة لكنها جادة بشكل مذهل. يقول توم غون Thom Gunn في قصيدةتأملية طويلة نشرت فقط في كتابه Boss Cupid في عام 2000:
صورة واحدة تدفقت
والتصقت بالرأس العنيد:
مثل ناي خجول
المِسْعر الذي التقطتْه
في فمها
تنفست ثقوبه المتراصفة
وامتلأت بالموسيقى
حتى صمتت.
لا أعرف إذا ما كانت مِساعر الغاز لا تزال موجودة. فما كتب لهذه النكتة القاسية – بالتأكيد أنها تصلح أن تكون تصوّراً ميتافيزيقياً–النجاح هو أن مسعر النار يستدعي الناي في شكله الذي يتخلله صف من الثقوب، غير أنالغاز في مثل هذه الحال، لا التنفس البشري، تدفق خلال الثقوب في الفم المنتحر في موسيقى صامتة رهيبة. هذا جاد للغاية وبعيد جداً عن أن يكون مزحة.
ولاحظ أحد ما أن أليوت سيجد بيتاً مثل بيت دون «سوار شعر ساطع حول الجسد» شديد الإغواء. وفي مراحل أخرى منعمل دون يحتمل أن نجد أن انتاج الرعشة يقل فيه لصالح الابتسامة، مع الأخذ بعين الاعتبار البراعة. إلا أنه كانت لدون، بالتأكيد، قوة في تعميق التصورات المسلية وتحويلها الى قصائد ذات أعماق وتعقيدات فذة؛ قصائد في مصاف «مقطوعة ليلية عن عيد القديسة لوسي» أنا المولود ثانية/ من الغياب، الظلام، الموت؛ أشياء لم تكن»؛ فثمة عدم يفكر بطريقته الخاصة كي يصير وجوداً أبعد من أي «عدم عادي»:
لو عدماً عادياًكنتُ
مثل خيال، مثل ضوء،
جسداً كما ينبغي أن يكون
لكنني لم أكن
ولم تشرق شمسي من جديد.
وبشكل مذهل سمح مزاج المرحلة أن تجمع قصائد سوداوية وغنية في آن كهذه القصيدة، أو «هواء وملائكة»، وأخرى تبدو أنها مجرد قصائد اجتماعية تتخللها نكات جنسية عن المجتمع، ليست أقل ذكاء بل أقل سوداودية، في البحث عن القهقهة أكثر من الرعشة.
إلا أن أليوت فقد حبه لدون لأن حبه لدانتي استحوذ عليه. ويؤكد تعاطفه مع ذلك الشاعر اقراره بالتلمذة لمعظم حياته. وربما سيضع دانتي في مقابل غوته، أو أكثر من ذلك بقليل في مقابل شكسبير. وانجاز أليوت لم يكن منح القارئ الانجليزي فكرة واضحة عن عظمة دانتي بوصفه شاعراً فحسب، بل توضيح الكيفية التي تصاحب فيها الاستعارة السرد كي تنتج قصائد ايطالية مُعَدة لتجهيز ما حدده هو من مراحل الادراك الشعري كافة. فمن الواضح أن أليو تجرّب ارتعاش الرغبة عندما كتب عن لقاء دانتي استاذه القديم برونيتو لاتيني في النشيد 15 من الجحيم.ويقال أن برونيتو وفي حالة من الاحباط في الجحيم كان يشبه أحد اولئك الذين يتسابقون من أجل الراية الخضراء في فيرونا؛ «ومنهم بدا كالذي يفوز، وليس كالذي يخسر». وبالنسبة الى نجاح هذه الصورة الشعرية التي تصور حالة الكبرياء خلال الاحباط، والتي قدمت كما يبدو كصورة زائدة أو زخرفية، قال أليوت أنه لم يكن «مهيأً للاقتباس أو الاشارة». فأكتشفها لنفسه ولنا منوهاً أنها تمتلك «صفة الدهشة التي صرح بو Poe بأنها أساسية للشعر». وتسبب الدهشة ردة فعل مثل الرعشة. ويقول أليوت «لا يحتاج المرء أن يعرف كل شيء عن سباق يخص لفافة من القماش الأخضر، حتى تضربه هذه الأبيات».
وكنتُ على وشك أن أنجح في تجنب كلمة «تضربه»، لولا أن الشاعر الذي استعملها كان يعزو أهمية كبيرة للحظة المبكرة الأولى التي هي فريدة في صدمتها ودهشتها وحتى رعبها ... لحظة لا يمكن نسيانها أبداً، ومع ذلك لا يمكن إعادتهابالتمام والكمال، وستكون بلا أهمية إذا لم تبق حية على مدى المجموع الأكبرللتجربة، وذلك عبر عيشها داخل الشعور الأعمق. ويمكن للمرء التخلص من أكثرية القصائد ويبقى على قيد الحياة، كما يمكن له التخلص من أكثرية طموحاته الانسانية ويبقى حياً. إلا أنه معدانتيلا يسع المرء سوى الأمل في أن يبقى الى نهاية المطاف. وهذا ثناء رائع ليس فقط للشعر الذي سبب الضربة التي سببت الرعشة فحسب، بل للكمال الذي فرض مكانه.
وأفترض، وهذا طبيعي، بأن اهتمام الشعراء بالقوى العليا، سيمنح بعضهم وليس كلهم لحظات من الرعشة. كما هو الأمر مع مقطع برونيتو. ومن المفترض أن تكون تلك الأبيات معروفة الى درجة كبيرة في أواسط الجمهور المثقف بايطاليا. ولهذا الأمر أهميته إذ يمكن للاعتياد المفرط منع الرعشة الى حد أن «غداً وغداً وغداً» قد تقلصت، بالنسبة الينا، الى مثل. فإننا نحتاج الى لمسة من السرية.
وفي مقطع رائع يحتوي أبياتاً تصور المشهد الأخير من أنطونيو وكليوباترا، يقارن أليوت معالجة شكسبير لموضوع موت كليوباترا بأبيات كتبها درايدَن عن الموضوع نفسه في مسرحيته كل شيء من أجل الحب. وقد اعتمد كلا الكاتبين على كتاببلوتارك Plutarch حياة انطونيو. كليوباترا ميتة. ففي نسخة شكسبير يدخل جندي روماني ليرى الملكة ميتة ويسأل مرافقة كليوباترا، تشارمين: «ما العمل هنا، تشارمين؟ هل تم الأمر على أحسن صورة؟ ترد تشارمين: تم الأمر على أحسن صورة، ويليق بأميرة/ سليلة ملوك ملكيين كثر/آه، أيها الجندي! ثم تموت هي أيضاً. بينما يجعل درايدن تشارمين تُجيب كالآتي: نعم، تم على أحسن صورة، ومثلما آخر ملكة/ لسلالتها العظيمة. سأتبعها».
ولعلنا نتفق على أنه إذا كانت هناك «ضربة»ها هنا فهي في الكلمات الآتية «آه، أيها الجندي!» وينظر أليوت باحترام الى نسخة درايدَن التي ليس فيها «آه، أيها الجندي!»؛ الكلمات التي أضافها شكسبير الى بلوتارك. و»لم أتمكن من نفسي». ويقول أليوت: صغْ بالكلمات الفرق الذي اشعر به في هذا المقطع اذا كانت تلك الكلمات «آه، أيها الجندي!» قد مسحت. ولكنني أعرف بأن هذا الفرق لا يمكن صنعه سوى شكسبير. ويعلق كريستوفر ريكس Ricks على هذا بأنه إذا «كان له التمثيل بمقطع واحد من أليوت للتدليل على أنه كان ناقداً عظيماً»، لكان هذا المقطع.
فهذا ثناء كبير يجيزه على الأكثر وجود بعض الرعشات. ولكن هناك مسألة لها أهمية أكبر تثيرها الكلمات الآتية: «تم الأمر على أحسن صورة، ويليق بأميرة/سليلة ملوك ملكيين كثر». فليست هناك حاجة لوصف الملوك بالملكيين؛ فهم يصبحون ملكيين عندما يتم اقرارهم كملوك. ولكن «ملكيين» كانت زيادة رائعة مكنت البيت من الضربة. وعند بلوتارك كانت «ملوك نبلاء» زيادة ليست جيدة بما فيه الكفاية؛ وكانت ملاحظة الجندي ضبابية: «أحد الجنود (ناظراً لتشارمين) قال بغضب لها هل تم الأمر على أحسن وجه؟»، بينما جندي شكسبير مضطرب ولكن لا يبدو عليه الغضب. وهذا المشهد، كما فهمه شكسبير جيداً، مثل لحظة نقدية في تاريخ العالم وربما كان الجندي الروماني بضمنها. وقد يكون الجندي عنصراً جوهرياً في فعل الرعشة. وعلى الأرجح أن شروح كلمات تشارمين وتأوهاتها ستكون معقدة ومعمقة.
وعندنا مثال آخر قريب من ختام المسرحية يبين حاجة أليوت الى مثل هذه تعليقات أليوت. فعندما يشاهد أوكتافيوس جسد الملكة يقول متعجباً:
آه أيها الضعف النبيل!
لو كانوا شربوا السم
لظهرعلى شكل انتفاخ خارجي
لكنها تبدو كنائمة
كما لو أنها ستأسر أنطونيو آخر
في شرك جمالها المتين.
ويخبرنا بلوتارك أن القيصر، برغم ما حدث، كان «حزيناً الى درجة عجيبة» لموت كليوباترا؛ «وتعجب من نبل عقلها وشجاعتها». ولمناقشة هذه اللحظة، يذكرنا أليوت بداية بمقطع مفضل آخر منالجحيم: حشد في الجحيم يحدق في دانتي «كخياط عجوز يحدق في ثقب إبرته». إنه بيت مدهش، ذكرنا به كذلك ييتس وبرعشة بعض الشيء.
ولكن أليوت يقول إن «الغاية من هذا النوع من التشبيه هي، فقط، لجعلنا رؤية المشهد بصورة أكثر تحديداً». ومن ثم يقتبس أبيات شكسبير مبتغياً تبيان اختلافها عن أبيات دانتي في كونها ليست تفسيرية و«مترهلة expansive». ويعبر أليوت، بعد ذلك، عن اعجابه بقصة باولو وفرانشيسكا (وكما لاحظتُ، فيظهر أن الشخصيات الجميلة والملعونة معاً كانت موضع إعجابه، وتأتي عنده في نسق لاهوتي)، ويدعي أن قراءة مسرحية شكسبير كاملة تمكننا من الحصول على القدر نفسه في ما يخص القصة نفسها. وعلى الأكثر، فيبدو أن الأساس الذي بنى عليه هذا الاعتقاد هو أن كل الكوميديا يتألف من قطعة واحدة، بينما يصعب العثور على نموذج في بساط شكسبير بسبب نطاق مسرحياته وتنوعها، والتي، كما يعتقد أليوت، يجب النظر اليها بوصفها عملاً عظيماً واحداً. وواقع الأمر كما يبدو لي أن تلك المقارنات الدانتية تبعد الاهتمام عن مقاطع شكسبيرية مثل ردة فعل أوكتافيوس على جسد كليوباترا.
وبالتأكيد، فإن هذه الأبيات دليل قوي على العبقرية بقدر قوة كلمات تشارمين الى الجندي. ويتحدث بلوتارك عن خيبة أمل أوكتافيوس في فقدان كليوباترا الحية، ونقل شكسبير كلماته في شعر يعبر عن الفقدان وبلغة تجمع ردة فعل ضابط يبحث عن دليل يتعلق بقضية الموت من جهة أولى، ومن جهة أخرى فإن قصر التعبير كان يمكن أن يبطل صدمته: «كما لو أنها ستأسر أنطونيو آخر/ في شرك جمالها المتين». وكما يبدو، فإن عنفاً مايقلّص اللغة التي، كما أشار أليوت، تقدم «انصهاراً ... في تعبير واحد» لـ «لانطباعين مختلفين أو أكثر». وحقاً يمكننا أن نفكر بـ«الجمال» بوصفه شركاً، أما اللعبة الجنسية مع أنطونيو فقد خرجت بعيداً وبشكل مفاجئ عن أن تكون استعارة عادية. ويقر اليوت بأن صورة شكسبير «منسوجة تماماً في نسيج الفكر»؛ ويدرك، بالتاكيد، قوة تلك الأبيات وتعقيدها: «فقد استحضرت كل قوى كليوباترا الكارثية على الناس والامبراطوريات». ومع ذلك، يفضل أليوت عمل دانتي لأنه يحوي ما يدعوه «الضرورة العقلانية»؛ الأمر الذي يفتقده عند شكسبير.
ولم يستعمل شكسبير نفسه كثيراً كلمات مثل «رعشة» و«ارتعاش».
وليس عجباً أنيحتاج تايمون الى واحدة منهما، بينما خرجت الآخرى من فم بورشا في تاجر البندقية. وبالخبرة أيضاً كلنا يعرف صدمات المقاطع التي تمتلك قوة استثنائية في المباغتة والتي «تجعل جسد المرء ينسل منه بصدق».
ودعني آخذ مثالاً اخيراً من قصة الشتاء؛ العمل الذي يحتوي على سلسلة بلاغية ولسانية طويلة. فالتائب ليونتس تعذبه الاشارات الخافتة وربما الخادعة للحياة في تمثال زوجته الميتة المفترض، ويقول: «مع ذلك يبدو لي/ أن ثمة نفساً ينبعث منها. فأي إزميل فاخر/ بمقدوره أبداً أن يُقطّعه؟».ولكن الفاخر هو العامل، وليس باستطاعة التمثال المصنوع التنفس؛ ومع ذلك فإننا نعيش روعة تلك المرحلة التي تتوسط سحر الحجر المصقول وتنفسه وحضور وحي هَرمايني، وهذه معجزة أخرى أكثر عظمة سيأتي ذكرها فيما بعد.
.
إلا أنه، كما يبدو، يجوز لنا أن نتذكر هذا الجزء من شعر تينيسون:
بيت معتم، أقفُ مرة أخرى الى جانبه
هنا في هذا الشارع الطويل الكريه
عند الأبواب، حيث قلبي كان معتاداً على الخفقان
بسرعة كبيرة، بانتظار يد،
يد للمصافحة لا أكثر –
امسكني، فأنا لا أستطيع النوم،
وأنسل مثل شيء مذنب
في الصباح الباكر الى الباب.
فهو ليس هنا؛ بل هو بعيد
وضجيج الحياة يبدأ من جديد
حيث يخرق رذاذ المطر
المتساقط على الشارع الأجرد اليوم الشاحب.
يقول أليوت «هذا شعر عظيم، فيه اقتصاد في الكلمات واحساس عام يرتبط بمكان محدد؛ وهو يمنحني الرعشة shudder التي فشلتُ في الحصول عليها في مود ككل». ومن المستغرب أن تصدر «رعشة» من الوقور أليوت، حتى لو كانت التجربة التي يشير اليها قد تكون مألوفة تماماً في بعض أشكالها. وهو بالتأكيد قد مر بتلك التجربة أو بشيء ما وضعه أو وضعنا في مناخها. وقد تستعمل الكلمة كمعادل لـ«frisson» (ويبدو أنه ليس بمقدور المعجميين تجنب shudder عند تعريفهم frisson). ويمكننا القول إن استدانة هذا المعنى جاءت من الفرنسية، فعلى الأرجح كان الشعراء الإنكليز في تلك السنوات يتأثرون، كما هي الحال مع أليوت، ببودلير وغيره. وعندما رفض قراءة تسعينيات القرن الثامن عشر لبودلير، جعل أليوت من نفسه بالفعل مفسره الرئيس بوصفه مؤلفاً أخلاقياً عنيفاً فضلاً عن كونه شاعر «المدينة القبيحة l’mmonde cite»؛ الكتاب الذي له حصته من الأهوال والرعشات والأشباح.وكان أليوت معجباً بهيسمانس Huysmans، أحد أتباع بودلير، الذي يستحق أن يصل عمله ضد الطبيعة A Rebours الى القائمة القصيرة لأية مسابقة ارتعاش، خصوصاً عندما يقدم fremir دعماً الى frissonner. وقد استعان اوسكار وايلد، بوصفه معجباً بهيسمانس أيضاً، بالـ«رعشة» في صورة دوريان غراي. وتوجد أمثلة كثيرة عن الرعشة في تعبيرات عادية مثل «أرتعش من الفكرة» أو «رعشة مرت خلال»،وأياً كان الأمر فهذه الأمثلة تبين ببساطة أن هذه الكلمة عرضة للتبسيط على رغم قوتها الأصيلة. ولكن بقيت الكلمة قادرة على توصيف هول أو حتى جمال استجابة جسد ما الى محفز عنيف. وأعجب أليوت بالصدمة والمفاجأة، وبحث عن مميزاتهما في شعره الخاص، وحكم على نجاح آخرين، كما فعل مع تينيسون، في تقديمهما. ويتكلم باتر Pater عن ميل كوليردج الى «الخارق للطبيعة» بوصفه «حنيناً الى الرعشة التي أسعفت، بشكل مباشر،المدرسة الرومانتيكية بألمانيا واشتقاقاتها بإنكلترا وفرنسا». إلا أن ارتعاشاً مراوغاً بعض الشيء يرد في قصيدة كريستبال Christable لكوليردج:
تحت القنديل انحنت السيدة
وببطء قلّبت عينيها
سحبت نفساً عالياً
مثل أمرئ مرتعش
ثم حلت الطوق من تحت صدرها:
رداؤها الحريري
قميصها الداخلي
سقطاعلى قدميها
وبديا للعيان
انظر! صدرها ونصف جانبها –
مشهد كالحلم، لا يوصف!
آه وقِها! وقِ كريستبال الجميلة!
ولم نخبر عمّا حدث لاحقاً، لكن تلك الرعشة الى جانب التفاصيل الأخرى توحي بأن كريستبال ربما كانت على وشك أن تخوض تجربة تسيء الى رومانتيكيتها. وقد تجد النسخ المبتذلة لمثل هذه اللقاءات مكاناً لها في «مجلات الفظاعة» الاميركية وكذلك في الكتابات المنحدرة من بو Poe. وطبقاً لويكيبيديا، فهذه المجلات تعرف تجارياً بـ «مجلات الإثارة».
ويمكن لأودن، في ليلة باردة ببروكسل، أن يحقق ذلك متحدياً البرد بالرعشة اللبيدية: «وبخمسين فرنكاً سيكسبُ حقاً غريباً / حاضناً المدينة المرتعشة بين ذراعيه». وسمعتُ من مدة قريبة شخصاً يقرأ دراكولا في الراديو بنكهة تبدو وكأنها رعشة تستمر الى حين قطافها. وبروزها في جماليات أدورنو يبين استعمالها التخصصي. والأكثر إثارة في هذا السياق تعليقات دارون على فسلجة الرعشة المدونة في التعبير العاطفي في الإنسان والحيوان (1872) الذي يحوي فصلاً تحت عنوان «مفاجأة- دهشة- خوف- رعب». ومن بين الاستجابات لحافز مناسب ما رفع الحاجبين ونتوء الشفتين وانتصاب الشعر وتقلص عضلة الـبلازما. وتقلص هذه العضلة التي تتمدد على طول الترقوة في أعلى كل جانب من العنق يمكن أن يغير من الملامح كثيراً: إذ ينخفض الخد ويتسع بؤبؤ العين وهلم جرا. فالشعور الأولي بالخوف أو تصور شيء ما مرعب عادة ما يثيران رعشة وتقلص البلازما بشكل عفوي. ومن دون الاستشهاد بدارون، يعرف معجم أكسفورد للغة الانجليزية هذه الكلمة بأنها سلوك عضلي ينم عن استجابة ما لخوف أو رعبأ و ألم، أو الخوف من هذا الألم، أو ألم الآخرين، أو الغضب، أو الاشمئزاز أحياناً.
ويبدو أن البايولوجي ينظر الى الرعشة، على رغم شيوعها كثيراً، بوصفها مسألة عاطفية جداً تهتم عميقاً بأفعال الخيال، فضلاً عن اهتمامها بأكثر ردود الأفعال عادية مثل البرد أو الخوف. ومن ثم، فيسهل تصور أن فعل القراءة هو فعل يلازمه ارتعاش، ويبدو ذلك في سياق تعليقات أليوت على تلك الأبيات من في ذكرى. ويبدوأنه بالكاد قد استعمل كلمة «رعشة»، ولكن كان استعماله لها يتعلق دائماً على الأرجح بتجارب لا يفضل المرء المرور بها، وتتناقض تقريباً مع لحظات النشوة. ويقول «في مسرح منتصف القرن السابع عشر المشاكس تحرك فكر شكسبير وشعوره وتجربته الشخصية المثيرة للارتعاشكل على انفراد ومن دون تشويه». فما هي الكيفية التي عرف بها أليوت عن تجربة شكسبير «الشخصية المثيرة للارتعاش»؟ ويقين أليوت بأن معرفة الشاعر تتأتى من النداء الباطني vocation، برغم أن هذا المفهوم عرضة للهجوم، سيتفق مع ما يسميه رونالد تشوتشارد Schuchard في كتابه الملاك المعتم عند أليوت «الصلة الوثيقة في شعر أليوت بين لحظات النشوة النادرة ولحظات الرعب المتواترة». ويحدد أليوت حضور اللحظات الأخيرة في رواية تشارلس ويليمز عشية عيد جميع القديسين حيث يدعي بأنه ليس هناك «استغلال لقوى فوق طبيعية من أجل رعشة فورية». نعم ثمة صور رعب تنتجها الرعشة في مسرحية أليوت جمع شمل العائلة؛ أشكال من الكوابيس والرغبة لكن بين الفينة والفينة يتحرك كلّ شيء نحو مستوى أعمق؛ حيث الرعشة ، كما في عشية عيد جميع القديسين، ليست «فورية» بل هي بالأحرى واسطة للدخول الى محفزات مختلفة، أو ربما نشوة، أو ذاكرة لنشوات متعددة.
ومن الواضح أن كلمة «رعشة» تنتمي الى مجموعة كلمات تشمل «خوف» و«رعب» وترتبط باستجابة جسدية قوية. وفي مقالة حديثة عن فرانسس بيكون في نيويورك ريفيو أوف بوكس يعيد فيها جون ريتشاردسون الى الأذهان بأن هدف لوحاته عن صديقه جورج داير هو رسمه في «حالة متوترة»، ويضيف أن معجبة أخبرته أن اللوحات بالفعل انتجت «رعشة عميقة». ووصف الرعشة بالاستجابة الجسدية العنيفة مع العامل الجنسي القوي سيذكرنا حتماً بقصيدة ييتس «ليدا والبجعة»:
رعشة في الأعضاء التناسلية تنشأ هناك
حيث الجدار المكسور
البرج والسقف المحترقان
وموت أجاممنون
وفي قصيدة قديمة، «عن إمرأة»، ربط ييتس في صورة مؤثرة شدة العلاقة بين سليمان وبلقيس مع رعشة الحديد المتفجرة عند نقله من النار الى الماء:
شدة شهوتهما
جعلتهما يتمددان بنعاس
فالمتعة تأتي مع النوم
والرعشة جعلت منهما واحداً ...
وبينما «ليدا والبجعة» قصيدة رعشة حديثة عظيمة، إلا أن الرعشة الواردة فيها هي استجابة جنسية لرؤيا نبوئية، ولاغراء هو كذلك بدوره نوع من أنواع البشارة. وتُصاحب الرعشة الجنسية أو تُمثل بدمار كوني؛ الجدار المكسور والسقف المحروق وبرج طروادة، و«موت أجاممنون». وسنشعرُ بهذه الفاجعة في عودتنا الى أجسادنا الخاصة، رعشاتنا الداخلية. فلا تُفهم حادثة تاريخية ضخمة بهذا العرض الكارثي الا هناك. فكلمة مثل هذه لم تعلن آنياً عن مشاعر جنسية قوية، إلا أن طموح ييتس الهائل يتطلب مثل هذا المعنى. وربما تستمد معناها من خزين عميق من الاحاسيس التي تتعلق بالقلق والشعور بالذنب في مرحلة الصبا.
ومن ثم، ماذا بخصوص رعشة أليوت؟ وشعره يقدم أمثلة عديدة عن الذعر والفزع وخرق الطبيعة. ففي قصائده الأولى كان هناك «تعذيب وبهجة» في «أغنية حب سانت سيباستيان»، ونرسيسوس الذي «ذعر من جماله « في «موت سانت نرسيسوس» . وكانت هناك فنتازيا قاتلة في جمع شمل العائلة. وشخصية سويني، التي تظهر في قصائد عديدة، شخصية كابوسية، ونساء كانتير بيري في جريمة قتل في الكاتدرائية المليئات بالذعر للغاية:
ما هذه الرائحة الكريهة، البخار؟ الضوء الأخضر الداكن من غيمة على شجرة يابسة؟ ترتفع الأرض كي تضع ذرية الجحيم. ما هذا الطل اللزج الذي يتشكل على ظهر يدي؟
فأليوت كان متحسس اًلتجليات خارقة للطبيعة بعينها، ولأنواع من الذعر مسببة للرعشة. ويجب أن نسأل الأن سؤالاً أكثر صعوبة: لماذا أثرت تلك الأبيات من «في ذكرى» بأليوت بشكل استثنائي وجعلته يستعمل «الرعشة» مصطلحاً نقدياً للمديح؟ وسنقول بالطبع أن فيكتور هوغو فعل ذلك من قبل عندما أخبر بودلير أنه بكتابته أزهار الشر Les Fleurs du mal كان قد ابدع «un frisson nouveau رعشة جديدةً» وكثير منا يتذكر تلك الأيام التي كان مصطلح «الرعشة الميتافيزيقية» يتداول فيها في النقاش عن دون Donne ومعاصريه. ولكن في مقطع «في ذكرى» لم تكن الرعشة ميتافيزيقية. وعلى حد علمي، ففي مقاله الوحيد عن تينيسون كان أليوت يقصد، بالتأكيد،الثناء. والإشارة الأولى على الحماسة كانت لبيت أو شذرة من بيت من «ماريانا» التي يعتقد أنها تقدم شيئاً ما «جديداً للغاية»: «الذبابة الزرقاء قد غنت على زجاج النافذة». وحتى تلك الآن فإن الشاب تينيسون قد تفوق بوصفه نظّاماً، إلا أن نسبةصفات العظمة إليه كانت من دون استحاق تام لها. ومع ذلك يقول أليوت أن هذا البيت أو الشذرة «تكفي لإخبارنا أن شيئاً مهماً فيها». وبما أنلهذا البيت مميزات عديدة وواضحة، منها أنه ينقل المالنخوليا بصورة مميزة، والمزاج القلق للانتظار؛ وربما يصح القول، كما يقول اليوت، إن تأثيره يعتمد في النهاية على قراءة «sung» بدلاً من «غنّى sang». فهذا البيت ينتمي الى قصيدة جيدة تستحق المديح ككل؛ ولكن ما يزال هناك شيء ما يميزها، وهو: إنها فرضت نفسها. والتفسير الوحيد الذي قدمه أليوت هو أن «شيئاً مهماًفيها».
وأصر أليوت بقوة على وجوب معالجة النصوص بوصفها كلاً، مشيراً الى هذه المسألة بوضوح في مقاربته في ذكرى، كما فعل تماماً في بحث قدمه عام 1929 عن دانتي: «قصيدة دانتي قصيدة متكاملة ... يجب عليك في النهاية أن تفهم كل أجزاء القصيدة من أجل أن تفهم أي جزء منها»، أو «لا يمكننا استخلاص الدلالة النهائية لأي جزء من دون معرفة الكل»؛ عقيدة ربما تعلمها من بودلير عندما طبقهاعلى كلّ أزهار الشر: «أكرر يجب أن يُحكم على الكتاب بوصفه كلاًّ». ولكن «الذبابة الزرقاء قدغنت على زجاج النافذة»؛ بيت واحد قُدِر على مميزاته الخاصة؛ بيت صاف الى درجة أن تغيير جزء منه سيغير من حالته الأصلية. ومع أنه لا شيء قيل صراحة بشأن هذه القصيدة الممتازة ككل ما عدا أنه لا ينبغي لنا تفضيل بعض المقاطع على الأخرى، أو نجاهر باختيار «عينة مقبولة». ومع ذلك فإن المقاطع التي اختارها أليوت، وأبياتها التي تنتج الرعشة،قد عوملت بشكل فردي كما هو واضح، واختيارها يبرره اسهامها في تجربة اليأس الديني (الذي ينطبق على كل القصيدة) وتبرره كذلك مهارتها الفنية التي يجب أن تدرس في حالاتها الخاصة، وربما سيكافئها القارئ برعشة الاكتشاف.
وتكمن أهمية أليوت النقدية، في نظري، في استجاباته الرائعة للخصوصية التي تنطوي عليها مثل هذه الحالات، وليس في قلقه من الكمال الفلسفي أو اللاهوتي. وفي مقطع اقتبسته من في ذكرى يثير اعجابنا تعبير «شيء مُذْنِب»، المأخوذ من وردزورث – لكن أبيات وردزورث عن «الغرائز العليا، التي كانت قبل حياتنا الفانية/ ارتعشت مثل شيء مذنب أُخِذ فجأة» لا تشفع لنفسها الآن، فلم تعد هناك «حقائق تقوم/ كي تبقى الى الأبد». واشارة تينيسون المشذبة كانت جديرة بتقدير أليوت نفسه، وعلى هذا النحو فثمة معنى مزدوج لـ «بل هو بعيد»، حيث نبدأ عبر تحديد اشارة غياب صديق تينيسون آرثر هالام الذي كتبت هذه القصيدة في ذكراه. ولكن سرعان ما ينتقل تعبير «بل هو بعيد» الى جملة أخرى، فما يُسمع في الأخير هو «ضجيج الحياة». وفي النهاية، فإننا نواجه تعاسة الضجيج، المطر البارد والشارع الكئيب؛ ونواجه كذلك في رباعية التفاعيل الاخيرة انحراف موضع كلمتي «الأجرد» و«الشاحب»، وأيضاً الرعشة الأخيرة. وكان عند أليوت نوع من فسلجة الشعر. ففي محاضرته «ثلاثة أصوات للشعر» اتفق مع غوتفريد بين Gottfried Benn في حديثه عن اجتماع افتراضي بين «جرثومة الابداع» واللغة؛ إذ ليس بمقدور الشاعر «معرفة الكلمات التي يريدها حتى يجدها».والقصيدة الوليدة عبء يتبعه ارتياح ما بعد الولادة: فالشاعر «ربما يمر بحالة من الارهاق، ومن الرضا، ومن التبرئة، ومن شيء ما يقترب كثيراً من التدمير». وهنا نجد مزيجاً رائعاً من الرضا المادي والروحي ويقترب من البشري، ويجب أن نتذكر بأن هذه الاستعارة التوليدية التي لها ظلال ولادة خطرة تسبب الارتعاش. واتفق أليوت مع هاوسمان Houseman في كلامه عن صلة المرض بالإبداع؛ فعلاج الملنخوليا، مثلاً، طوره فنانو عصر النهضة.
وقد أجمل أليوت هذه الاعراض في قراءة ابداعية أخرى. فيقول في رسالة الى ستيفن سبندر عن الموضوع نفسه أصبحت مشهورة منذ نشرها في عام 1966: «حتى لو أن اللحظة المُحيرة هي فقط مَن يؤخذ في الحسبان؛ ينبغي أن تقطع الأمل من نفسك، ومن ثم اشفها، وفي اللحظة الثالثة سيكون عندك شيء ماتقوله، وقبل أن تنسى تماماً كلا الاستسلام والعلاج، فلن تكون بالطبع النفس البليلة أبداً كحالها من قبل».
وستقودنا «اللحظة المحيرة» الى التساؤل عن ضرورة أن يقطع القارئ الأمل من نفسه! ووجد أليوت هذا التعبير خلال دراساته المبكرة المفيدة والرائعة في الدراما الجيمسية. وهنا بعض الأسطر من تراجيديا المنتقم لتونيور (أوميدلتُن)، وهذه الأسطر معروفة الآن لاهتمام أليوت بها، ولأنه أشار الى أهميتها في الوقت نفسه؛ فهي معروفة فقط للقارئ الذي له اهتمام خاص بما يُسمّى أحيانا الكتابة «الرمزية decadent»؛ وكما قال فإن هذا «المقطع الغريب الى حد ما جدير بعناية جديدة»:
هل تنشر دودة القز خيوطها الصفراء من أجلكم؟
هل تحطم نفسهامن أجلكم؟
هل تباع ألقاب السادة كي تصان ألقاب السيدات
من أجل مصلحة بائسةللحظة محيرة؟
يخاطب المتكلم هنا شخصاً ما؛ ومن بين الكلمات التي نطقها جذبت كلمة «محيرة bewildering» أليوت التي لم يكن لها تبرير نصي –فالأصل هو كلمة «bewitching ساحرة». ولكن أليوت وجد أن «محيرة» كلمة أكثر غنى فشرع بسرقتها. وحسب ظني، فإن السند النصي الوحيد لكلمة «محيرة» قدمه الباحث الفيكتوري المزور جون باين كولير، وبوسعنا القول إن أليوت اختار هذه القراءة التي يعرف أنها مزيفة لا لشيء إلا لأنه يفضلها. (تحتاج مثل هذه القراءة الى شرعية، وأليوت كان عنده بعض منها: ينظر قبول المعاجم الانجليزية كلمة juvescence؛ الخطأ الذي لم يصححه أبداً؛ فينبغي أن تغيير اللغة من نفسها كي تسمح بدخول المحدَث). وظهرت كلمة «محيرة» مرة أخرى في مقال لأليوت عن تورنيور نشر فيما بعد في كتابه بحثاً عن آلهة غريبة. إلا أنه ألقى الضوء عليها أكثر في رسالته المذكورة الى سبيندر حيث «اللحظة المحيرة» هي لحظة واحدة يخضع خلالها القارئ الى إثارة المقطع ورعشته، وبعد ذلك يجب على الناقد أن يخرج من السحر ويتأمل تجربته. واعترفُ بأن أليوت عمل وفق هذه القاعدة. ويمكننا تقديم أسباباٌأخرى عن شغف أليوت الكبير بـكلمة «محيرة» منها،على وجه الخصوص، الشعور بالفساد الجنسي لأن العامل الجنسي وتبعاته تقع هنا ضمن منطقة الاعتراض والتأديب. فأليوت أراد لأشخاصه العظماء أن يتعذبوا جراء أخطائهم: برونيتو وفرانشيسكا في الجحيم، والزوجة المخطئة في إمرأة قتلت بلطف، وفي نصوص بودلير.
ومن الواضح أن أليوت كان قادراٌ على أن يمط نظرية شاملة تختص بالشعر والنقد معاً على كلمة مسروقة، لكنها تمتلك قوة الارتعاش. واختطاف مثل هذه الكلمة يرتبط بالرعشة وإلا لماذا يسرقها؟ وعلى مقربة من نهاية «جيرونشون» نقرأ عن «دي بلحاج، فريسكا، السيدة كاميل، هامت/ الى أبعد من طوفان الدب المرتعش/في ذرات متشظية». هذا الدب هو استيراد آخر من القرن السابع عشر وجِد، كما بيّن أليوت في كتابه فائدة الشعر وفائدة النقد، في بوسي دامبوا لجورج تشابمان: «طر الى حيث يشعر الناس/ حيث جذع الشجرة المحترق، وأولئك الذين يعانون/ تحت عربة الدب الثلجي». لاحظ أن دب تشابمان «ثلجي» بينما دب أليوت «مرتعش». ويقال أن كوكبة الدب «تدور حول القطب»؛ في طوفان بارد وثلجي. ويستحضر تشابمان هنا نقيضي الحر والبرد. وبطل سينيكا، في فقرة من مسرحية جنون هرقل Hercules Furens التي تنبع من جذر تلك الاشارات، يسأل» أين أنا؟هل أنا تحت الشمس المشرقة، أم تحت محور الدب الجليدي؟وتشابمان قدم «ثلجي» في مقابل «جليدي»؛ إلا أن أليوت بفضل انحرافه المعتاد عن الأصل يصل من دون شك الى فكرة أن يكون الدب بارداً و«مرتعشاً».
ورصدنا لأليوت وهو يقتبس أو يسيء اقتباس المقطع نفسه مراراً وتكراراً يؤكد لنا صدمته من الأصول ، وكما هو واضح في المرحلة الأولى من وصفته: استسلام، ثم تأمل، ثم عمل شيء ما عنه. وتبرز تلك التعديلات «الشعراء المحترفون يسرقون» في طرق أخرى أكثر تميزاً. وعلى سبيل المثال، هنا مقطع مفضل آخر ولكن هذه المرة من الخائن لميدلتون. ففي نهاية المسرحيةوعندما يخسر الكل تخاطب بياترس-جوانا أبيها:
أنا دمك ذلك الذي أُخِذ منك
فمن أجل صحتك؛ لا تبحث عنه بعد الآن
والقه على الأرض دونما اكتراث
دع المجاري العامة تقضي على وجاهته.
والآن بعد أن عرفنا ما عرفنا، يمكننا إدراك الكيفية التي كانت عليها ردة فعل أليوت (ارتعاشية على ما أعتقد) على هذا الخطاب اللافت. فيقتبسه بإعجاب في بحثه عن ميدلتون ويحيل الى سياقه في أمكنة أخرى مثل «التقاليد والموهبة الفردية» و«فيليب ماسنجر». وقد أعجبته صراحة اللغة التي استعملت لتؤكد ذنب بياترس-جوانا، وربطه في السطر الأخير بين «المجاري» و«الوجاهة» معاً. فالتفرد البغيض للمرء في مواجهة فكرة الآخر الغامضة يمكنهالحصول على مرتبة عالية في أية منافسة من منافسات الرعشة. وقد كانت ميزة تحسب لأليوت في أنه دائماً يمدح: «ذلك التغيير الطفيف المستمر للغة، حيث تتجاور الكلمات في تراكيب جديدة ومفاجئة على الدوام»، ويسمح بانصهار «فكرتين متباينتين أو أكثر» في تركيب واحد، كما هي الحال، مثلاً، في «شرك جمالها المتين» لشكسبير.
ولم يكن المقطع الذي أقتبسه أليوت من مسرحية ميدلتون، ومعناه أيضاً، صحيحاً تماماً؛ فقد حول أليوت الكلام لأهدافه الخاصة. فالصحيح أن السطر الأول «I am that of your blood» وليس «I that am of your blood» (كما عند أليوت). وتبعاً لذلك يفترض أليوت في تفضيله النسخة الخطأ أن تلك الأسطر عن شرف العائلة، بينما القراءة الصحيحة تجعل الأمر واضحاً بأن في بال بياتريس-جوانا شيئاً مختلفاً: فسفك دمها يشبه فعل إراقة الدماء، الفصد، عملية فتح الوريد طبياً، وليس دماً يضحى به لإرضاء شرف العائلة. فجرف المجاري مقداراً ما من الدم الفاسد من شأنه المساعدة في العلاج. وقد أضعف الخطأ المقطع وقلل من قوة «امتيازه» بربطه بشكل ضيق مع «الدم» بمعنى الشرف؛ ولكن عندما نقرأه «I am that of your blood» يكون لـهذا «الامتياز» قوة ميتافيزيقية. ويظهر الأمر نفسه كذلك في «العنقاء والسلحفاة» مع فكرة «امتيازان، دونما انفصال». أي: بدد الدم، واجعله يمتزج من دون تمييز مع ما تحتويه المجاري؛ «المجاري العامة» التي تصرف أوساخ المدينة بأكملها. أعترفُ بأن القراءة «الخاطئة» تحوم قريباً مني.
وقد تكون الرعشة الأولى،أحياناً، قوية لدرجة هز قبضة القارئ على اللغة التي يتفاعل معها. وهكذا يسيء أليوت اقتباس ميدلتون مرة أخرى في المشهد نفسه من الخائن: دي فلوريس «أنا أحب هذه المرأة على رغم قلبها» يقرأه «على رغم قلبي». وهناك أخطاء أخرى أقل إثارة؛ فهي من النوع الذي تصنعه القراءات العنيفة الأخرى لا سيما تلك المتحصنة بمواقع دفاعية.
ويمكن أن تنتج الرعشة بوساطة صدمة الاستعارة – في شكلها المتطرف، التصوّر conceit،الذي صنف بصورة خطيرة بوصفه مسبباً للقهقهة أكثر منه للرعشة. وكما عرف الدكتور جونسون والآخرون، فإن التصوّر «الميتافيزيقي» ربما يكون أكثر قليلاً من مزحة أو ومضة من الطرافة. ولنأخذ المثال الأول الذي يأتي الى الذهن وهو عندما يصف ابراهام كولي Abraham Cowley مقتل أبيل على يد كين في قصيدته الملحمية Davideis: «رأيته يقذف الحجر، كما لو أنه كان يعني / في الوقت نفسه جريمته وتمثاله». فهذه البراعة لا تستدعي الرعشة، إنها براعة فحسب. ومع ذلك، فهناك تصوّرات تمتلك درجة عالية من الجمال والجدية. وفي يوم من الأيام، وقعت عيناي مصادفة على تصوّر خيالي بآلية طريفة لكنها جادة بشكل مذهل. يقول توم غون Thom Gunn في قصيدةتأملية طويلة نشرت فقط في كتابه Boss Cupid في عام 2000:
صورة واحدة تدفقت
والتصقت بالرأس العنيد:
مثل ناي خجول
المِسْعر الذي التقطتْه
في فمها
تنفست ثقوبه المتراصفة
وامتلأت بالموسيقى
حتى صمتت.
لا أعرف إذا ما كانت مِساعر الغاز لا تزال موجودة. فما كتب لهذه النكتة القاسية – بالتأكيد أنها تصلح أن تكون تصوّراً ميتافيزيقياً–النجاح هو أن مسعر النار يستدعي الناي في شكله الذي يتخلله صف من الثقوب، غير أنالغاز في مثل هذه الحال، لا التنفس البشري، تدفق خلال الثقوب في الفم المنتحر في موسيقى صامتة رهيبة. هذا جاد للغاية وبعيد جداً عن أن يكون مزحة.
ولاحظ أحد ما أن أليوت سيجد بيتاً مثل بيت دون «سوار شعر ساطع حول الجسد» شديد الإغواء. وفي مراحل أخرى منعمل دون يحتمل أن نجد أن انتاج الرعشة يقل فيه لصالح الابتسامة، مع الأخذ بعين الاعتبار البراعة. إلا أنه كانت لدون، بالتأكيد، قوة في تعميق التصورات المسلية وتحويلها الى قصائد ذات أعماق وتعقيدات فذة؛ قصائد في مصاف «مقطوعة ليلية عن عيد القديسة لوسي» أنا المولود ثانية/ من الغياب، الظلام، الموت؛ أشياء لم تكن»؛ فثمة عدم يفكر بطريقته الخاصة كي يصير وجوداً أبعد من أي «عدم عادي»:
لو عدماً عادياًكنتُ
مثل خيال، مثل ضوء،
جسداً كما ينبغي أن يكون
لكنني لم أكن
ولم تشرق شمسي من جديد.
وبشكل مذهل سمح مزاج المرحلة أن تجمع قصائد سوداوية وغنية في آن كهذه القصيدة، أو «هواء وملائكة»، وأخرى تبدو أنها مجرد قصائد اجتماعية تتخللها نكات جنسية عن المجتمع، ليست أقل ذكاء بل أقل سوداودية، في البحث عن القهقهة أكثر من الرعشة.
إلا أن أليوت فقد حبه لدون لأن حبه لدانتي استحوذ عليه. ويؤكد تعاطفه مع ذلك الشاعر اقراره بالتلمذة لمعظم حياته. وربما سيضع دانتي في مقابل غوته، أو أكثر من ذلك بقليل في مقابل شكسبير. وانجاز أليوت لم يكن منح القارئ الانجليزي فكرة واضحة عن عظمة دانتي بوصفه شاعراً فحسب، بل توضيح الكيفية التي تصاحب فيها الاستعارة السرد كي تنتج قصائد ايطالية مُعَدة لتجهيز ما حدده هو من مراحل الادراك الشعري كافة. فمن الواضح أن أليو تجرّب ارتعاش الرغبة عندما كتب عن لقاء دانتي استاذه القديم برونيتو لاتيني في النشيد 15 من الجحيم.ويقال أن برونيتو وفي حالة من الاحباط في الجحيم كان يشبه أحد اولئك الذين يتسابقون من أجل الراية الخضراء في فيرونا؛ «ومنهم بدا كالذي يفوز، وليس كالذي يخسر». وبالنسبة الى نجاح هذه الصورة الشعرية التي تصور حالة الكبرياء خلال الاحباط، والتي قدمت كما يبدو كصورة زائدة أو زخرفية، قال أليوت أنه لم يكن «مهيأً للاقتباس أو الاشارة». فأكتشفها لنفسه ولنا منوهاً أنها تمتلك «صفة الدهشة التي صرح بو Poe بأنها أساسية للشعر». وتسبب الدهشة ردة فعل مثل الرعشة. ويقول أليوت «لا يحتاج المرء أن يعرف كل شيء عن سباق يخص لفافة من القماش الأخضر، حتى تضربه هذه الأبيات».
وكنتُ على وشك أن أنجح في تجنب كلمة «تضربه»، لولا أن الشاعر الذي استعملها كان يعزو أهمية كبيرة للحظة المبكرة الأولى التي هي فريدة في صدمتها ودهشتها وحتى رعبها ... لحظة لا يمكن نسيانها أبداً، ومع ذلك لا يمكن إعادتهابالتمام والكمال، وستكون بلا أهمية إذا لم تبق حية على مدى المجموع الأكبرللتجربة، وذلك عبر عيشها داخل الشعور الأعمق. ويمكن للمرء التخلص من أكثرية القصائد ويبقى على قيد الحياة، كما يمكن له التخلص من أكثرية طموحاته الانسانية ويبقى حياً. إلا أنه معدانتيلا يسع المرء سوى الأمل في أن يبقى الى نهاية المطاف. وهذا ثناء رائع ليس فقط للشعر الذي سبب الضربة التي سببت الرعشة فحسب، بل للكمال الذي فرض مكانه.
وأفترض، وهذا طبيعي، بأن اهتمام الشعراء بالقوى العليا، سيمنح بعضهم وليس كلهم لحظات من الرعشة. كما هو الأمر مع مقطع برونيتو. ومن المفترض أن تكون تلك الأبيات معروفة الى درجة كبيرة في أواسط الجمهور المثقف بايطاليا. ولهذا الأمر أهميته إذ يمكن للاعتياد المفرط منع الرعشة الى حد أن «غداً وغداً وغداً» قد تقلصت، بالنسبة الينا، الى مثل. فإننا نحتاج الى لمسة من السرية.
وفي مقطع رائع يحتوي أبياتاً تصور المشهد الأخير من أنطونيو وكليوباترا، يقارن أليوت معالجة شكسبير لموضوع موت كليوباترا بأبيات كتبها درايدَن عن الموضوع نفسه في مسرحيته كل شيء من أجل الحب. وقد اعتمد كلا الكاتبين على كتاببلوتارك Plutarch حياة انطونيو. كليوباترا ميتة. ففي نسخة شكسبير يدخل جندي روماني ليرى الملكة ميتة ويسأل مرافقة كليوباترا، تشارمين: «ما العمل هنا، تشارمين؟ هل تم الأمر على أحسن صورة؟ ترد تشارمين: تم الأمر على أحسن صورة، ويليق بأميرة/ سليلة ملوك ملكيين كثر/آه، أيها الجندي! ثم تموت هي أيضاً. بينما يجعل درايدن تشارمين تُجيب كالآتي: نعم، تم على أحسن صورة، ومثلما آخر ملكة/ لسلالتها العظيمة. سأتبعها».
ولعلنا نتفق على أنه إذا كانت هناك «ضربة»ها هنا فهي في الكلمات الآتية «آه، أيها الجندي!» وينظر أليوت باحترام الى نسخة درايدَن التي ليس فيها «آه، أيها الجندي!»؛ الكلمات التي أضافها شكسبير الى بلوتارك. و»لم أتمكن من نفسي». ويقول أليوت: صغْ بالكلمات الفرق الذي اشعر به في هذا المقطع اذا كانت تلك الكلمات «آه، أيها الجندي!» قد مسحت. ولكنني أعرف بأن هذا الفرق لا يمكن صنعه سوى شكسبير. ويعلق كريستوفر ريكس Ricks على هذا بأنه إذا «كان له التمثيل بمقطع واحد من أليوت للتدليل على أنه كان ناقداً عظيماً»، لكان هذا المقطع.
فهذا ثناء كبير يجيزه على الأكثر وجود بعض الرعشات. ولكن هناك مسألة لها أهمية أكبر تثيرها الكلمات الآتية: «تم الأمر على أحسن صورة، ويليق بأميرة/سليلة ملوك ملكيين كثر». فليست هناك حاجة لوصف الملوك بالملكيين؛ فهم يصبحون ملكيين عندما يتم اقرارهم كملوك. ولكن «ملكيين» كانت زيادة رائعة مكنت البيت من الضربة. وعند بلوتارك كانت «ملوك نبلاء» زيادة ليست جيدة بما فيه الكفاية؛ وكانت ملاحظة الجندي ضبابية: «أحد الجنود (ناظراً لتشارمين) قال بغضب لها هل تم الأمر على أحسن وجه؟»، بينما جندي شكسبير مضطرب ولكن لا يبدو عليه الغضب. وهذا المشهد، كما فهمه شكسبير جيداً، مثل لحظة نقدية في تاريخ العالم وربما كان الجندي الروماني بضمنها. وقد يكون الجندي عنصراً جوهرياً في فعل الرعشة. وعلى الأرجح أن شروح كلمات تشارمين وتأوهاتها ستكون معقدة ومعمقة.
وعندنا مثال آخر قريب من ختام المسرحية يبين حاجة أليوت الى مثل هذه تعليقات أليوت. فعندما يشاهد أوكتافيوس جسد الملكة يقول متعجباً:
آه أيها الضعف النبيل!
لو كانوا شربوا السم
لظهرعلى شكل انتفاخ خارجي
لكنها تبدو كنائمة
كما لو أنها ستأسر أنطونيو آخر
في شرك جمالها المتين.
ويخبرنا بلوتارك أن القيصر، برغم ما حدث، كان «حزيناً الى درجة عجيبة» لموت كليوباترا؛ «وتعجب من نبل عقلها وشجاعتها». ولمناقشة هذه اللحظة، يذكرنا أليوت بداية بمقطع مفضل آخر منالجحيم: حشد في الجحيم يحدق في دانتي «كخياط عجوز يحدق في ثقب إبرته». إنه بيت مدهش، ذكرنا به كذلك ييتس وبرعشة بعض الشيء.
ولكن أليوت يقول إن «الغاية من هذا النوع من التشبيه هي، فقط، لجعلنا رؤية المشهد بصورة أكثر تحديداً». ومن ثم يقتبس أبيات شكسبير مبتغياً تبيان اختلافها عن أبيات دانتي في كونها ليست تفسيرية و«مترهلة expansive». ويعبر أليوت، بعد ذلك، عن اعجابه بقصة باولو وفرانشيسكا (وكما لاحظتُ، فيظهر أن الشخصيات الجميلة والملعونة معاً كانت موضع إعجابه، وتأتي عنده في نسق لاهوتي)، ويدعي أن قراءة مسرحية شكسبير كاملة تمكننا من الحصول على القدر نفسه في ما يخص القصة نفسها. وعلى الأكثر، فيبدو أن الأساس الذي بنى عليه هذا الاعتقاد هو أن كل الكوميديا يتألف من قطعة واحدة، بينما يصعب العثور على نموذج في بساط شكسبير بسبب نطاق مسرحياته وتنوعها، والتي، كما يعتقد أليوت، يجب النظر اليها بوصفها عملاً عظيماً واحداً. وواقع الأمر كما يبدو لي أن تلك المقارنات الدانتية تبعد الاهتمام عن مقاطع شكسبيرية مثل ردة فعل أوكتافيوس على جسد كليوباترا.
وبالتأكيد، فإن هذه الأبيات دليل قوي على العبقرية بقدر قوة كلمات تشارمين الى الجندي. ويتحدث بلوتارك عن خيبة أمل أوكتافيوس في فقدان كليوباترا الحية، ونقل شكسبير كلماته في شعر يعبر عن الفقدان وبلغة تجمع ردة فعل ضابط يبحث عن دليل يتعلق بقضية الموت من جهة أولى، ومن جهة أخرى فإن قصر التعبير كان يمكن أن يبطل صدمته: «كما لو أنها ستأسر أنطونيو آخر/ في شرك جمالها المتين». وكما يبدو، فإن عنفاً مايقلّص اللغة التي، كما أشار أليوت، تقدم «انصهاراً ... في تعبير واحد» لـ «لانطباعين مختلفين أو أكثر». وحقاً يمكننا أن نفكر بـ«الجمال» بوصفه شركاً، أما اللعبة الجنسية مع أنطونيو فقد خرجت بعيداً وبشكل مفاجئ عن أن تكون استعارة عادية. ويقر اليوت بأن صورة شكسبير «منسوجة تماماً في نسيج الفكر»؛ ويدرك، بالتاكيد، قوة تلك الأبيات وتعقيدها: «فقد استحضرت كل قوى كليوباترا الكارثية على الناس والامبراطوريات». ومع ذلك، يفضل أليوت عمل دانتي لأنه يحوي ما يدعوه «الضرورة العقلانية»؛ الأمر الذي يفتقده عند شكسبير.
ولم يستعمل شكسبير نفسه كثيراً كلمات مثل «رعشة» و«ارتعاش».
وليس عجباً أنيحتاج تايمون الى واحدة منهما، بينما خرجت الآخرى من فم بورشا في تاجر البندقية. وبالخبرة أيضاً كلنا يعرف صدمات المقاطع التي تمتلك قوة استثنائية في المباغتة والتي «تجعل جسد المرء ينسل منه بصدق».
ودعني آخذ مثالاً اخيراً من قصة الشتاء؛ العمل الذي يحتوي على سلسلة بلاغية ولسانية طويلة. فالتائب ليونتس تعذبه الاشارات الخافتة وربما الخادعة للحياة في تمثال زوجته الميتة المفترض، ويقول: «مع ذلك يبدو لي/ أن ثمة نفساً ينبعث منها. فأي إزميل فاخر/ بمقدوره أبداً أن يُقطّعه؟».ولكن الفاخر هو العامل، وليس باستطاعة التمثال المصنوع التنفس؛ ومع ذلك فإننا نعيش روعة تلك المرحلة التي تتوسط سحر الحجر المصقول وتنفسه وحضور وحي هَرمايني، وهذه معجزة أخرى أكثر عظمة سيأتي ذكرها فيما بعد.
.