منقول - أيها الشاعر لاتمزح مع النار

كنت ومازلت طائشا، أبحث عن شيخ أعمي، يقف علي قارعة الطريق، وعندما يسمع خطواتي، يناديني لكي أعبر به إلي الجانب الآخر، ولما يمسك يدي اليمني بيده اليسري، أرجوه ألا يضغط باطن كفي، فلا يلتزم، وأضطرب، وأعلم أنني كنت ومازلت مفتونا ببشار بن برد، وبشعره، وبالإيروتيكا التي ظلت تتنازع مع قوي أخري داخل النص الواحد، حتي إيروتيكا عشيق الليدي تشاترلي وهنري ميلر ومورافيا، حتي إيروتيكا أنا يبس نن ونابوكوف وأبي نواس والتيفاشي وجوستين وغورفيدال، لكنني الآن أصبحت يائسا من إيروتيكا أيامنا، بعد أن انفردت بالنص، واستولت عليه، وطردت منه كل القوي الأخري، ففقدت الإيروتيكا سحرها الأسطوري، وأصبحت مثل طعام زائد متروك علي المائدة ومحفوف بالذباب، وأصبح الأعمي بلا عصا، وبلا دليل، وبلا صوت ينادي به أحد المارة ليساعد وللعلم البوليتيكا مثل الإيروتيكا، كلاهما شاب وطاعن في السن، كلاهما حائر بائر إذا استبد بالأدب، وها أنذا، وكأنني عراف فاشل وحزين، أستطيع أن أزعم، دون خوف من خراتيت الجبلاية والجزيرة وحواف النيل والقاهرة القديمة ومصر العليا، أستطيع أن أزعم أن الأدب الإيروتيكي طغي واستكبر، ولما طغي واستكبر جنح حتي أصبح موضة غالبة تعني انحباس الأدب الإيروتيكي داخل إيروتيكيته، فأصبح، أعني هذا الأدب الخاضع للموضة، أصبح مخلوقا ضخم الأنف والأذن والذراعين والقدمين، والعضو السري، عاريا، ومملا، وميكانيكيا، ورتيبا، وغير مثير، غير واقعي، غير خيالي، أصبح وكأن عينه عين إبرة، أو كأنه العين الوحيدة القادرة والمطلة علي كل شيء، علي الإنسان، وعلي الحلم، وعلي الأوهام الساذجة، وعلي باروكة الزمن، وها أنذا مثل عراف فاشل وحزين، أستطيع أن أزعم أن المصير الأسود الذي لحق بروايات الجاسوسية، وألحق بها النسيان وطواها تحته، فلم يبق منها إلا بعض ظلال وآليات عملت في خدمة أدب ليس جاسوسيا، في خدمة الأدب علي عمومه، وكمثل هذا المصير جاء مصير الروايات البوليسية ومصير ظلالها وآلياتها، التي عملت في خدمة الأدب علي عمومه وهكذا كما يقف المصير ذاته بباب روايات الخيال العلمي، فانه يجلس مثل فضولي ليراقب روايات الأدب الايروتيكي وأشعاره قبل أن ينقض عليها ويفرمها لأن تبويب الآداب يضعها داخل عيون مفقوءة، عيون غير قادرة علي الرؤية والرؤيا، أما العين السليمة فهي تتدرب علي أن كل أدب عظيم لايمكن أن يخلو من الإيروتيكي أو البوليسي، لكنه لايقبل أن يكون إيروتيكيا خالصا، أجسادنا نعرف جغرافيتها بأيدي الآخرين، نعرف تاريخها بأيدي الأخرين أجسادنا بمفردها عمياء، فلا يمكن لكائن أن يدغدغ بطنه بأصابعه ويضحك، كما لايمكن للإيروتيكا أن تطير إلي أعلي إلا بأجنحة القوي الأخري داخل النص الواحد، في الروايات والقصائد الشابة التي أطالعها، أقف بلا يدين أمام تلك الزهور الايروتيكية قصيرة العمر، حتي أنني أحس، وفي أثناء قراءتها، أنني أراها وهي تذبل، وأدرك أنها ستموت قبل أن أنصرف عنها، وأنها اذا ماتت لن تترك غير الحسرة، وبعض الحنين إلي مسايرة الموضة ومجاراتها ليكون الشاعر الذي أنشأها شاعرا عصريا، شاعر عصري ومع ذلك أعترف أنني كنت ومازلت مفتونا بالإيروتيكا التي ظلت تتنازع مع قوي أخري داخل النص الواحد، وأعترف الآن أنني أشم دبيب أنفاس شعراء شبان لم أعرفهم بعد، وأتخيل أن بعض هذه الأنفاس، أن قليلها الممسوس باليقظة والجنون سوف يدلني في المستقبل علي طرق وأسماء واجيال أخري، فالأجيال تتأخر كثيرا قبل أن تبدأ في اعلان وجودها الحق، جيل الستينيات ظلت شمسه البيضاء خافتة وضعيفة، ولم تصل إلي قلب السماء العالية، إلا في الثمانينات أو ما بعدها، ومثل شمس الستينيات المتأخرة عن موعدها، سطعت شمس السبعينيات والتسعينيات، متأخرة ايضا عن موعدها، بما لايقل عن عمر شاب في أول نضوجه، بما لايقل عن عقدين، والعقدان هما فترة ما يمكن اعتباره مدة حضانة الجيل، شعراء هذه الأيام سنراهم إذن، بعد سنوات عدة، إذا بالطبع أطاعتنا قوة العمر، وأيدتهم قوة الأشياء، علي الرغم من أن الزمن أصبح متسرعا أكثر، عجولا أكثر، وعلي الرغم من أننا نريد أن نري هؤلاء الشباب في أقرب وقت، ومع ذلك يمكننا ان نستعيد ذكرياتنا مع سابقيهم، وأن نستعيد تلك الخفة والطيش والفرح والاستغراب والشك والحنان والحب والعنف والشهوة وكل المشاعر اللواتي قرأنا بها ديوان إيمان مرسال (ممر معتم لتعلم الرقص) وديوان محمد متولي (حدث ذات مرة أن) وديوان عماد أبي صالح (كلب ينبح ليقتل الوقت) وأول ديوان لعلاء خالد، لم يكن بمقدورنا أن نميز ونمايز ملامح وجوههم، من منهم سيكون وجهه وجه شاعر خائن، ومن منهم سيظل وجهه وجه شاعر ثائر، ومن منهم سيصبح رأسا بلا وجه، الآن وبعد طويل زمن أعترف بأن ايمان مرسال وأصحابها حفروا أسماءهم بقوة خياناتهم، وليس بضوضاء ثوراتهم، الشعراء جميعا يبدأون كثوار، طفولتهم الشعرية ثورية، وأمارة الثوار الكبري أن يندمجوا في جماعات، لذا سيقطعون الطرقات من أول تمرين شعري إلي قصائدهم الناضجة متساندين يدا بيد، وبعد فترة من النضج ينقسمون إلي أغلبية مخلصة مستمسكة بثوريتها، واقلية منبوذة موصومة بالخيانة، الأكيد أننا فيما بعد سنكتشف أن الثوار المخلصين، كل الثوار المخلصين، يسعون دائما إلي إنشاء مؤسسات بديلة تحمل أسماءهم، فاذا لم ينجحوا انسحب أقلهم وقاحة ولزم بيته وفراشه، أما الأكثر وقاحة فإنهم في الخاتمة سيحرصون علي الالتحاق بالمؤسسات التي سبق أن رجموها بالحجارة، الأكيد أننا فيما بعد سنكتشف أن الخونة فقط هم الأحرار دائما، هم الخوارج بلا حدود، كلنا نذكر مؤسساتنا ومؤسساتهم، مع التأكيد علي أن الخونة بلا مؤسسات، مؤسساتنا هي مؤسسة جيل السبعينيات، مؤسسة جيل التسعينيات، مؤسسة قصيدة النثر، مؤسسة كتابة البنات، مؤسسة كتابة الجسد، وهي مؤسسات فقدت مع الوقت براءة اختراعها، هي مؤسسات اذا لم تتحلل ويتحول شعراؤها إلي أفراد متمايزين، اذا ظلت قائمة لن تختلف عن مؤسساتهم، ومؤسسات لجنة الشعر، وبيته وأوهامه ووجاهته وأسفاره وجوائزه وبقية امتيازاته، بل قد تكون الاكثر تعفنا، الأكثر غطرسة، لأنها ستصبح آنذاك مسدودة بإيديولوجياتها الخانقة، وهوائها المعلب، أخطأنا عندما اعتقدنا أن الشاعر والثائر قرينان أنهما وجه لعملة واحدة، واسألوا البياتي قبل أن تسألوا سميح القاسم، أخطأنا كل مرة اعتقدنا فيها أن الشاعر والثائر هما هما، الآن سنسعي لتصويب الخطأ، الثائر مرحلة عابرة اذا استمرت اكثر أصابها العطب والعطن، فيما الخائن هو طيف الشاعر وظله، والشاعر هو طيف الخائن وظله، لأنه يأتي دائما من أماكن لانعرفها، ولأنه لايبحث عن رصيف ليستريح، لا يبحث عن وظيفة ليستقر، ولايحب تابعيه، ولايحب أية سلطة، ولايمتدحها، ولا ينوب عن أحد، ولا ينيب عنه أحدا، ويحترف البحث عن صديقه، والهروب من خلله، ويحترف فرديته، فهو يبصر الديدان المرئية السارية في عصب المؤسسات الرسمية، والديدان غير المرئية السارية في عصب المؤسسات البديلة اذا استمرت، الخائن هو الشاعر بامتياز، لانه بلا ماض، وبلا مستقبل، لأنه أحيانا يكون علي هيئة سعدي يوسف أو سركون بولص أو الماغوط، وأحيانا علي هيئة زكي مبارك وابراهيم المازني، أو علي هيئة حسين مردان وربما عبدالحميد الديب، إن الشعراء الذين أحببناهم، أو الذين سوف نحبهم، يهبطون علينا هكذا من خارج الأسوار، يأتون دون لمعان، أحذيتهم ليست لامعة مثل حذاء الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي، وعصا كل منهم، وبدلاتهم، وابتساماتهم، ورؤوسهم كلها ليست لامعة، إنهم يكرهون اللمعان، يحسبونه أكسير الشهرة، ويحسبون الشهرة أكسير التدجين، والتدخين اكسير أن تكون الشاعر الكبير، والشاعر الكبير كما اعتدناه دائما هو ظل السلطة، كل سلطة، والسلطة تستعمر السورين وما بين السورين، اللذين أحدهما يجلس تحته الشعراء المكتملون، حيث يتهيأ لكل واحد منهم أنه الشاعر الأخير، مادام يحتمي بثقافة لاتستريح إلا اذا اتكأت علي كلمة الاخير، الدين الاخير والجيل الأخير، والنبي الأخير واليوتوبيا الأخيرة، كلهم، أي شعراء هذا السور، يتصورون أن العالم ينتهي بنهاياتهم، والوجود بعدهم وهو مجرد مرآة تعكس صورتهم طول الوقت، السور الآخر يجلس تحته الشعراء في طور التكوين، الشعراء الذين يوشكون أن يبدأوا، حيث يتهيأ لكل منهم، أنه الشاعر الاول، مادام يحتمي بثقافة تطرب، اذا سمعت كلمة الأول، الرائد الأول، المؤسس الاول، النبي الأول، المعلم الأول، اليوتوبيا الأولي، كلهم يتصورون أن الوجود قبلهم عدم، أنه علي أكثر تقدير كان تمهيدا لوجودهم، وأن العالم يبدأ ببداياتهم، عندما نعود ومعنا دهشتنا ومرحنا إلي ممر ايمان مرسال للمعتم، وذات مرة محمد متولي وكلب عماد أبي صالح الذي ينبح، وأول علاء خالد، ثم نقرأ مخفورين بالدهشة والفرح والترقب بعض ما جاء بعدهم من أشعار لجرجس شكري وچيهان عمر ونجاة علي ورنا التونسي، والآخرين، نكتشف أن السورين خادعان، وأن الأرض مهما اشتدت لن تستطيع أن تخفي عن عيوننا شياطنيها المختبئة في كل مكان، والتي فجأة وفي أية لحظة تصنع طوفانا، أي الشياطين والتي لاتشبه عصافير تطير وهي مربوطة بخيوط قصيرة، أي الشياطين، تلك العصافير تخيفها تلك الشياطين، التي تخيف أيضا طابور الشعراء الثوريين سواء كانوا شعراء مؤسسات رسمية أو مؤسسات بديلة، سواء كانوا تجار الألم القومي أو الوطني أو الفلسطيني، أو تجار أسلحة أو وصيفات وكهنة الشعراء الخونة محكومون بالضياع، تفزعهم صلوات البياتي والبردوني والفيتوري ومظفر النواب وحتي الحاوي حتي الدراويش، وصلوات سواهم حتي ولو كانت تكبيرات وتهليلات وهتافات وضجيجا، فهم يعرفون أنها محض صلوات لإله من معدن، الجيل الشعري الأخير لم ينكشف بعد، لم تظهر عورته علي الملأ، هو بريء في طور طفولته الشعرية، في طور ثوريته، في طور حركته الجماعية، لم يتميز بعد ويكشف عن ثواره النظاميين وألاعيبهم وانقلاباتهم وبحثهم الدائم عن إطار يسكنونه، ويموتون داخله، كأنه اطار الخلود، لم يتميز بعد ويكشف عن ثواره اليائسين الذين يموتون فوق أسرتهم دون أن تراهم عيون الكاميرا، وأخيرا لم يتميز بعد ويكشف عن أقليته التي ننتظرها، يكشف عن الخونة المستحقين للقب الشاعر، وهو لقب فادح يكره الثوار أن يمنحوه لسواهم، منعوه ذات فترة عن ايمان مرسال ومحمد متولي وعماد أبي صالح وعلاء خالد، وسوف يكرهون أن يمنحوه لخونة كل جيل، ولخونة آخر جيل، كنت ومازلت طائشا، أبحث عن شيخ أعمي، يقف علي قارعة الطريق، وعندما يسمع خطواتي يناديني لكي أعبر به إلي الجانب الآخر، ولما يمسك بيده اليسري يدي اليمني، أرجوه ألا يضغط باطن كفي فلا يلتزم، وأضطرب، وأتركه في نهر الشارع، غير أن ايمان مرسال ظهرت فجأة، وأمسكت يده، وأعادته إلي مكانه الاول، ثم مشت بجدية كأنها ذاهبة لتكشف جرح الفضاء المجروح، لتكشف دمه السائل، خطواتها أربكت قدرتنا علي الحسم، هل الأرض كلها أمامها، أم الأرض كلها خلفها، ولماذا يطل الشعراء الجدد من النوافذ، ويراقبون الاعمي، يراقبونه كأنه شيخ الوقت، كأنه الشاعر، ولايرون سواه، البعض يزعم أنهم أصبحوا لايرونه، من منا يجرؤ أن يقول لهم إن الشعر لايحب الشاعر المبصر تماما كأنه يري الأشياء في عرائها، ولايحب الشاعر الأعمي تماما كأنه يري ذاته فقط في عرائها، إنهم غيمة في حقل وخلخال من الأعشاب، والخونة منهم ذكورهم ذكور النحل، والإناث أيضا، يمكنك إذا لم تحب كلمة الخيانة ، أن تحل محلها (الثورة الدائمة)، فقط إحذر أن يكون البديل هو (الثورة ذات البعد الواحد) ثورة الأنا السفلي، ثورة خصوة السلطة لأنهم عبيدها، ثورة الثوريين .

.

أيها الشاعر لاتمز ح مع النار
نشر في أخبار الأدب يوم 25 - 12 - 2010
 
أعلى