أحمد فريد - أمتع ثمرات الزمان

غشي جبينه المقطب سحابة رقيقة من الحزن ، برقت مسامه من العرق المتحلب وهو يقطع بناظريه صفحات من الأوراق المكدسة التى احتشدت أمامه، خلع نظارته ثم دسها في فتحة قميصه الأرجواني ، أرسل نظرات دقيقة لسيل من الأشعة افترش امامه على منضدة الفحص ،زرع الطريق مابين غرفة الفحص والأشعة ذهاباً وأياباً ،عرك جبهته المقطبة، وقد ندت من محياه نظرات إستياء وحزن ، ارتدى نظارته على عجل ، ثم أشار لرجل قريب منه برفقة زوجته التي كانت متلهفة للأطمئنان على صحة طفلها ..
- إجلسا .. لا أخفى سراً عليكما .. الثقب لم يلتئم بعد .. وهناك إحتمالية حدوث تجلط للدماء.. إضافة للضمور الناتيء في المخ، وهو المسبب للطاقة الزائدة وحالة الصرع التي تنتابه..
خلع نظارته التى ظن أنها تعيق نظراته وأطلق زفرة ساخنة، ثم مط شفتيه الغامقتين.. واستطرد
- على كر الأيام والليالي سيذبل مثل الزهرة التي اصطلحت عليها الرياح والأعاصير .. لن تتحمل عضلته القلبية ظمأ الدماء المحمل بالأكسجين .. سيتجلط الدم وسيطفو كالصفائح الثلجية العائمة فوق المياة الساخنة ..
كان وقع الكلمات على الأم كالنصل الحاد الذي يطعن الأحشاء، ويقشط الدماء والعظام شرائح ثم ينشرها على سكين الألم .. كلماته النازفة صارت كمن يقطر ألماً وينشب سكينا غائراً يقتلع لحم قلبها بأظافره .. إنكفأ الطبيب يسرد تفاصيل دقيقة عن الحالة الصحية المتردية للطفل ويشرح بأسلوب دقيق تداعيات المرض وتفاقم الحالة الصحية داخل الجسد .. أخذتها العبرات.. فأغرورقت عيناها بالدموع ، وهي تلحظ إلى طفلها المسكين الممدد كالملاك الوديع على منضدة الفحص لاحول له ولا قوة .. يجول ببصره في أرجاء الغرفة ، يرسل إلى فضاء الغرفة ابتسامات واهنة .. منحته بسمة مصطنعة باهته مسبغة بالألم ، وانكفأت تخنق صوتها عن البكاء .. أطلقت تنهيدة مشوبة بالمرارة كأن ثقلا يطأ صدرها وينشب إلى عظامها فيهشم ماتبقى من أضلاع خاوية ، أطلقت غصات ناشبة في حلقها، ثم أجهشت بالبكاء وجرت الدموع على خدها ونحرها ، وطفق لسانها يلهج بسيل من الدعاء يستدر الرحمات .. تماسك الأب الذي ارتجف جسده ، وتحلب العرق من مسامه، وترشح حتى ابتل قميصه ، انسابت دمعة حارة ابتلعها بطرفه قبل أن تمرق وتهيج العبرات سيل الدموع في مآقيها .. نظر الطبيب إلى الطفل .. ثم أشار لوالديه .. أرجو أن تغفرا لي صفاقتي ، فلست أقل منكم جزعاً على حالته ، لم يكن لدي خيار .. حتى تثمنوا اللحظات التي سيعيشها معكم... من الأن قد انتهى دور الطبيب ...
- لامزيد من الفحوص .. لامزيد من السفر ، دعوه يهنأ بحياته .. لقد توقف دور العلم هنا... وليس لدينا خيار سوى أن تستدر السماء برحماتها .. وهناك دور الإيمان واللجوء إلى الخالق ..
ولم ينتهي زمن المعجزات بعد !!..
غادرا المشفى وقد استسلما لخطى القدر، وطفقا يطلقان الزفرات ، ويجتران أثقال الحزن والألم الموبوء على عاتقيهما ..انكفأت الأم تلثم وجه طفلها وابلا مدراراً من القبلات، كشؤبوب فاض من الغيث .. مرت شهور قليلة .. والأب يخط في كتيب صغير بضعة أسطر يصف المعاناة التي يعيشونها وهما يعتصران ألما ، ويسيلان شوقاً لما بعد الفراق فما بقي في قلبيهما من مهجة إلا ذابت شجى ، ولا مقلة إلا أسبلت أسى وإنهما ليسيلان كالشمعة تحت اللهيب ... عكفا على إستغلال تلك اللحظات المتبقية فشرع يروحان عنه بالذهاب تارة لمدينة الملاهي ، يمرحان سوياً ، ويرتشفان العصائر ، ويهرولان في الحديقة ، ثم يتمددا فوق العشب الأخضر ، ويختبئ بين ألفاف الأشجار والدوح ... وتنكفئ الأم في البحث عنهما ثم يفرشا العشب بكساء أبيض ، فتوضع أطايب الطعام من صحائف الفاكهة ، والمشويات من الأسماك والدجاج المتبل ويشرعا في إلتهام الطعام ، فتحلق السعادة فوق رؤوسهما ، فيحدج إلى أبيه ويرمقه بنظرة ماكرة ، تعودا على صنعها ثم يبتسمان سوياً .. ينهض الصغير من مجلسه ، ليحضر الكرة ، فتمرق الدموع من عينيه وتنساب إلى نحره وهو يلحظ إلى طفله يتمنى أن يوقف عجلة الزمن عن دورانها ، فتحاول الأم أن تهديء من روعه فيقول بصوت مسبغ بالألم
- وددت لو لم يغض طرفي طيلة حياتي ، فتظل صورته مخبأة ، فلا أرى غيره .. يهرول الصغير إليهما ، يتأبط الكرة يلحظ إلى بقايا الدموع ، وقد برقت على نحره .. فيلقي بنفسه في أحضان والده..وتمتزجا دموعهما ...
وبينما يتأهب أول خيط أبيض ينسل من عباءة الليل الداجية ، كان نضال ذو الثانية عشر من عمره رابضا خلف النافذة الزجاجية، يرقب بزوغ الشمس من خدرها الأرجواني ، وزخات المطر الخفيفة تلثم زجاج النافذة ، وتنساب على جدرانها، ثم يمرق رشاحها إلى قعر الفناء الملاصق للحديقة، ويتسرب كالخيوط في جداول صغيرة حتى يتجمع في بؤر راكدة احتفرها العشب الأخضر ، يداعب نضال زخات المطر بأنامله، ثم يدلي لسانه القاني ليرتشف قطرات المطر، وهي تنزلق على جدران الزجاج ، يعرك ما بين عينيه ، ثم تغشاه ابتسامة شاحبة ، ويطلق ضحكة واهنة من صدره الموبوء بالعلل ثم يدلف إلى فراشه ينتظر جنية الأحلام .. هنيهات وتتسرب خيوط الضوء تزيل الفوضى التي طالت من تثاؤب الليل الثقيل ، ثم ينشق جلباب البحر ، ليرتقي قرص الشمس منصة الأفق .. كان الوالدان ينتظران ذلك اليوم المشؤوم ويحصيان الأيام والشهور، يعدان العدة ليوم سيسود فيه النعيب المتقطع ، وقد احتفرا قبره داخل حديقتهما الغناء .. وأظلاه بسور من أشجار الدوح العالية ونثر على حافتيه زهور الأضاليا، وأجرى جدولا من الماء يتهادى فوق العشب الأخضر ليروي العشب ودالية الحديقة ، والنخيل الباسق ، ونبتت الألفاف واستطال بعضها وتوسدت كالأرائك المرمرية بعدما نشبت أوراقها في لحاء الدوح السامق ، وتسامى بعضها وتسور جدران واسوار الحديقة ..
.كل يوم يغدو إلى الشاطيء الرابض خلف فنائهم الفسيح بصحبة والديه .. يملأ رئتيه بنسيم البحر ويتمطى من ترهل الليل ثم يتجرد من ملابسه وقد أرخى جسده مقرفصاً يحزم ركبتيه بيديه ويقتعد الرملَ البليل وينظر للشمسِ التي سكبت حمرتها على صفحة الماء.. تحوطه نظراتهما ، ويحصيان أمتع اللحظات برفقته .. تنسال الكاميرا بين أيد والده العاري وهو يلتقط مشاهد الذكريات ، قرب الشاطيء ، وبين الموج ، وفوق الرمال المبتلة .. والدموع تنساب كالخيوط فوق عدسة الكاميرا ، فيكفكفها ببنان أنامله الذابلة .. ثم يحمله فوق عنقه يركل الأمواج العصية، ويعبث بأعرافها وذوائبها ، وسيل من الضحكات البريئة ينطلق يمخر في عباب الفضاء ثم يرتد حاسراً إلى فؤاده المكلوم ، لتلثم الغصص الناشبة في أعماقه المترعة بالحنان ، لهيب الحزن وألم الفراق .. سالت نفسيهما حزنا وكمداً وضنيت على كر الأيام ، وفاضت روحه البريئة ، وحلقت إلى بارئها ، وأسبلت الدموع على خديهما وابلاً مدراراً .. ومضت السنون في خرطها للزمان والأحداث، حتى ضج فناء المنزل بالأطفال ، وبريق السعادة يغشى جبينهم وهما يرمقان خلف النافذة تلك الغيمة المثقلة بالمطر ، وقد ألقت طرحها فوق دالية الحديقة ، فاغتبطا وتشابكت أيديهما ، وهما يشاهدان أطفالهما يرقصا تحت المطر ، غاصت يده في جيبه، فاستخرج صورته فندت دمعة حزينة انحدرت على نحريهما ، وأخذتهما العبرات فدخلا في نشيج مرير حتى اخضلت ملامح الصورة، فدسها في صدره ولثماته الحارة تسح عليها كشؤبوب فاض من الغيث والدموع تختلج في جوف مآقيهم الشاحبة ، وطفق يلهج لسانه بكلمات لايفتأ أن يعيدها مراراً: وددت لو لم يغض طرفي طيلة حياتي ، فتظل صورته مخبأة ، فلا أرى غيره، ومازالت تلك الثمرة هي أمتع ثمرات الزمان
 
أعلى