نقوس المهدي
كاتب
في كتابه «المُستحمّات في ينابيع عشتار» (دار المدى)، يطرح شاكر لعيبي مادةً جديدة قلّما جذبت الباحثين العرب. يضيء الكاتب العراقي على تقاليد الأعراس في العالم العربي التي ترقى الى حضارة بلاد الرافدين. جزء من الطقوس الإيروتيكية الرمزية العائدة الى عشتار ـــ الأنثى الرمز ـــ لا تزال حاضرة، ولو بفعل التورية في التراث الغنائي الشعبي.
لا يهدف صاحب «أنطولوجيا الشعر الإيروتيكي النسوي الشفاهي في العالم العربي» الى تقديم دراسة توثيقية، بل يعمل على قراءة أشعار الاستحمام العشتارية فيرصد رمزياتها في القصائد الشعرية العربية التي حفظتها الذاكرة الشعبية وتناقلتها. تشكل عشتار الرافدينية المُفعمة بالصور الرمزية المتناقضة، أي صورة الأنثى الشبقة التي تمزج بين الروحي والترابي، بين المقدس والأرضي، القاعدة الأساسية للكتاب، إذ تتخذ معاني متعاكسة، فهي تمثل الابتهاج بالعشق الجسدي، وتعبّر عن الحب الإيروتيكي الذي يقطع مع أنموذج الأنثى/ الأم في حضارة الفراعنة.
لا يعمل الكاتب على رصد الطقوس العشتارية وقصائدها الشعبية المُغناة التي تمّ تهذيبها في الذاكرة الشعبية فحسب، بل يدرس المنحوتات الرافدينية والمصرية. الأولى امتلكت لغة إيروتيكية مباشرة، لا تنطوي على أي استعارات عبر تقديس عشتار، ربة الحب والعشق والخصوبة، والثانية تبرهن على النمط المحافظ الذي يقدس الأنثى الأم، ويعلي من شأن رب الخصوبة المصري «مين» الذكوري، الرب القضيبي كما تصفه المرجعيات الفرعونية.
ينم الاستحمام عن رمزية تطهيرية وإيروتيكية معاً. يحاول لعيبي تعقّب طقوسه في الأعراس العربية. بعض التقاليد العرسية عندنا تضرب بجذورها في الأصول الرافدينية، سواء عبر غسل جسد العروس وتجميله بالحنّاء أو عبر حمل العروس على الهودج (أو التصدير) رمز عشتار. أنثروبولوجيا الاغتسال العُرسيّ يعكس تجذر الذاكرة العربية التي استحضرت عشتار خلال إعداد العروس ليوم الزفاف. تحمل نصوص الاستحمام النسائية الراهنة خصائص رافدينية خضعت للترميز والتهذيب، لكنها في العمق تكشف عن وجه آخر، وجه العشق المباشر في اللاوعي الجمعي. التقاليد العُرسيّة العشتارية تتخذ اتجاهين: الأول تنصيب العروس على هودج، والثاني تزيينها بالحُليّ والحناء، ما يجعل الجسد الأنثوي أكثر إغراءً واشتهاءً، رغم انطوائه على لعبة الإخفاء.
لا يدرس الكاتب الأبعاد العشتارية في الأشعار العربية الراهنة وطقوس الاستحمام فحسب، بل يعود بنا الى مرحلة تاريخية سابقة، فيكشف عن التأثير الرافديني في الحضارة المصرية القديمة، رغم عدم وجود ربّة فرعونية كبيرة تشبه عشتار، اللعوب والشبقة. النزعة المتديّنة في مصر الفراعنة، دفعت الى ما يسمّيه الكاتب تمصير الصور الإيروتيكية التي حملتها عشتار من دون أن تلغي سياقها الخصوبي، لكنّها أزالت الطابع الجنسي المباشر الذي احتفت به حضارة بلاد الرافدين. يخلص الكاتب الى أن أصول الأغاني العُرسيّة الحالية في مصر مُستلهَمة من الحضارة الرافدينية وامتداداتها عبر الفينيقيين والقرطاجيين في الشمال الأفريقي.
يفكك صاحب «الأدنى والأقصى» بعض الرموز الإيروتيكية وحضورها الراهن في تقاليد الأعراس والاحتفاء بالعروس، من زاوية تفسير المنحوتات في الحضارتين الفرعونية والرافدينية. مثلاً، يرمز نبات الخس وهو القربان المُقدم الى الإله «مين» الفحولي/ المصري القادم من أصل سومري، الى القوة الجنسية، وهذا الابتهال السومري بالخس بقي حاضراً في الأغنية الشعبية المصرية حتى اليوم، وتُردد هذه الأغنية في صعيد مصر حين تخرج العروس من حمامها. يجري لعيبي مقارنة بين سرير الزواج المقدس الرافديني والسرير الإخصابي الفرعوني (وهما منحوتتان) ليخلص الى أنّ ثمة شيئاً دينياً في العمل المصري، وشيئاًَ دنيوياً في الرافديني. العراقي عُرسي ملتذّ مشحون بالمفارقة الشكلانية التي تربط اللذة الحسية بالروحي، والمصري لا يقترب من هذه المفارقة إلا قليلاً.
الجزء الأكبر من الكتاب خصصه لعيبي لأشعار الاستحمام المنتشرة اليوم في الدول العربية، وقد حملت لغة إيروتيكية غير مباشرة وشديدة الرمزية، لكن الكاتب اكتفى بتوثيق هذه الأشعار وتفصيحها.
يبقى أنّ أهمية الكتاب تنهض على مادته الأنثروبولوجية، والأهم من ذلك هذا الامتداد الإيروتيكي المتجذر لعشتار في الشعر العُرسي الشفهي في العالم العربي، وخصوصاً في الريف، بعدما اتخذ شكلاً جديداً، وإن كان غير صريح وملتبساً، وهو إن دل على شيء فعلى ممارسة الجماعات لطقوسها من خلال لغة الرموز وعملية التورية المدججة بالمباهج الجنسية.
ريتا فرج
المصدر: الأخبار
لا يهدف صاحب «أنطولوجيا الشعر الإيروتيكي النسوي الشفاهي في العالم العربي» الى تقديم دراسة توثيقية، بل يعمل على قراءة أشعار الاستحمام العشتارية فيرصد رمزياتها في القصائد الشعرية العربية التي حفظتها الذاكرة الشعبية وتناقلتها. تشكل عشتار الرافدينية المُفعمة بالصور الرمزية المتناقضة، أي صورة الأنثى الشبقة التي تمزج بين الروحي والترابي، بين المقدس والأرضي، القاعدة الأساسية للكتاب، إذ تتخذ معاني متعاكسة، فهي تمثل الابتهاج بالعشق الجسدي، وتعبّر عن الحب الإيروتيكي الذي يقطع مع أنموذج الأنثى/ الأم في حضارة الفراعنة.
لا يعمل الكاتب على رصد الطقوس العشتارية وقصائدها الشعبية المُغناة التي تمّ تهذيبها في الذاكرة الشعبية فحسب، بل يدرس المنحوتات الرافدينية والمصرية. الأولى امتلكت لغة إيروتيكية مباشرة، لا تنطوي على أي استعارات عبر تقديس عشتار، ربة الحب والعشق والخصوبة، والثانية تبرهن على النمط المحافظ الذي يقدس الأنثى الأم، ويعلي من شأن رب الخصوبة المصري «مين» الذكوري، الرب القضيبي كما تصفه المرجعيات الفرعونية.
ينم الاستحمام عن رمزية تطهيرية وإيروتيكية معاً. يحاول لعيبي تعقّب طقوسه في الأعراس العربية. بعض التقاليد العرسية عندنا تضرب بجذورها في الأصول الرافدينية، سواء عبر غسل جسد العروس وتجميله بالحنّاء أو عبر حمل العروس على الهودج (أو التصدير) رمز عشتار. أنثروبولوجيا الاغتسال العُرسيّ يعكس تجذر الذاكرة العربية التي استحضرت عشتار خلال إعداد العروس ليوم الزفاف. تحمل نصوص الاستحمام النسائية الراهنة خصائص رافدينية خضعت للترميز والتهذيب، لكنها في العمق تكشف عن وجه آخر، وجه العشق المباشر في اللاوعي الجمعي. التقاليد العُرسيّة العشتارية تتخذ اتجاهين: الأول تنصيب العروس على هودج، والثاني تزيينها بالحُليّ والحناء، ما يجعل الجسد الأنثوي أكثر إغراءً واشتهاءً، رغم انطوائه على لعبة الإخفاء.
لا يدرس الكاتب الأبعاد العشتارية في الأشعار العربية الراهنة وطقوس الاستحمام فحسب، بل يعود بنا الى مرحلة تاريخية سابقة، فيكشف عن التأثير الرافديني في الحضارة المصرية القديمة، رغم عدم وجود ربّة فرعونية كبيرة تشبه عشتار، اللعوب والشبقة. النزعة المتديّنة في مصر الفراعنة، دفعت الى ما يسمّيه الكاتب تمصير الصور الإيروتيكية التي حملتها عشتار من دون أن تلغي سياقها الخصوبي، لكنّها أزالت الطابع الجنسي المباشر الذي احتفت به حضارة بلاد الرافدين. يخلص الكاتب الى أن أصول الأغاني العُرسيّة الحالية في مصر مُستلهَمة من الحضارة الرافدينية وامتداداتها عبر الفينيقيين والقرطاجيين في الشمال الأفريقي.
يفكك صاحب «الأدنى والأقصى» بعض الرموز الإيروتيكية وحضورها الراهن في تقاليد الأعراس والاحتفاء بالعروس، من زاوية تفسير المنحوتات في الحضارتين الفرعونية والرافدينية. مثلاً، يرمز نبات الخس وهو القربان المُقدم الى الإله «مين» الفحولي/ المصري القادم من أصل سومري، الى القوة الجنسية، وهذا الابتهال السومري بالخس بقي حاضراً في الأغنية الشعبية المصرية حتى اليوم، وتُردد هذه الأغنية في صعيد مصر حين تخرج العروس من حمامها. يجري لعيبي مقارنة بين سرير الزواج المقدس الرافديني والسرير الإخصابي الفرعوني (وهما منحوتتان) ليخلص الى أنّ ثمة شيئاً دينياً في العمل المصري، وشيئاًَ دنيوياً في الرافديني. العراقي عُرسي ملتذّ مشحون بالمفارقة الشكلانية التي تربط اللذة الحسية بالروحي، والمصري لا يقترب من هذه المفارقة إلا قليلاً.
الجزء الأكبر من الكتاب خصصه لعيبي لأشعار الاستحمام المنتشرة اليوم في الدول العربية، وقد حملت لغة إيروتيكية غير مباشرة وشديدة الرمزية، لكن الكاتب اكتفى بتوثيق هذه الأشعار وتفصيحها.
يبقى أنّ أهمية الكتاب تنهض على مادته الأنثروبولوجية، والأهم من ذلك هذا الامتداد الإيروتيكي المتجذر لعشتار في الشعر العُرسي الشفهي في العالم العربي، وخصوصاً في الريف، بعدما اتخذ شكلاً جديداً، وإن كان غير صريح وملتبساً، وهو إن دل على شيء فعلى ممارسة الجماعات لطقوسها من خلال لغة الرموز وعملية التورية المدججة بالمباهج الجنسية.
ريتا فرج
المصدر: الأخبار