حمودة اسماعيلي - سيكولوجية المومس

المومس كشخصية والبغاء كظاهرة، تناولتها العديد من الدراسات والبحوث، وتجلّت في العديد من الكتابات، الروائية منها والشعرية،

وبرزت في فن السينما والتلفزيون من خلال أفلام ومسلسلات تُظهر المومس كدور ثانوي غالباً وكدور رئيسي أحياناً، وذلك نظرا لما تمثله هذه الشخصية في البنية السوسيوثقافية والاقتصادية للمجتمع.

تختلف النظرة للمومس، فهناك من يرونها في كل امرأة تركب سيارة الغير باستمرار أو تملك مالاً من مصدر مجهول لهم، أو حتى تتجول مع رجل أو رجال في الشارع. وهذا ما يَدخل ضمن الهوس الجنسي.

فئة أخرى من الذكور تطلق لقب مومس على كل امرأة ترفض طلب إقامة علاقة، كرد دفاعي يهدف الذكر فيه حماية نرجسيته، "لأنه لا ينظر إلى جوابها السلبي على أنه ممارسة لحق من حقوقها، بل يعده جُرحاً لكبريائه ومساً بكرامته ورجولته."(1) فيتم تأويل سبب الرفض غِياب المقابل المادي .

نظرة الأديان لا تختلف كثيرا عن المنظور الشعبي التي تعتبر أي علاقة جنسية خارج مؤسسة الزواج بغاء، نلحظ ذلك جلياً في استنكار المجتمع اليهودي لحمل مريم بالمسيح، باعتبار أن "العذراء ربما واجهت الكثير من الهزء والافتراء بسبب حملها، كما أن خطيبها يوسف أراد أن يفك خطوبته سرًا لما علم بالأمر"(2)، كما يظهر ذلك بوضوح على لسان نبي القرآن : "لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا"(3).

كما ترى بعض المذاهب الأصولية المومس في كل امرأة تمتهن التمثيل، الرقص، الموضة والفيديو كليب.

تختلف النظرة للمومس كشخصية، لكن تتفق النظرة للبغاء كظاهرة في اعتبارها أقدم مهنة في التاريخ رغم أنها ليست كذلك، فأقدم مهنة تاريخية هي الصيد ثم الزراعة، أما البغاء فيمكن اعتباره من أقدم التضحيات الدينية علما بأنه ارتبط بطقوس عبادة منح المتعة من طرف كاهنات المعبد للمريدين، إما مجاناً أو بمقابل مادي لفائدة المؤسسة الدينية، فكان دور مومسات المعبد رمزا للفخر والخدمة الدينية، أشهرهن في ذلك العشتاريات المقدسات.

تغيرت النظرة للبغاء من المقدس إلى المدنس مع تغير المجتمع الأمومي القديم وسيطرة النظام الأبيسي على المؤسسات السياسية والقتصادية والدينية للمجتمعات، فصار الرجل هو المشرع وتم فصل البغاء الغير المؤسسي ووصمه بالمدنس عن البغاء المقدس(المُشرَّع) الذي اتسمر تحت مسميات كثيرة مختلفة كسرايا الحروب، ملكة اليمين، زواج المتعة أو المسيار.

عندما نقول بَغاء نحدد بذلك العلاقة الجنسية في إطار تقديم الجسد للمتعة لقاء مقابل مادي، ما يعرف في التشريعات القانونية "بالدعارة" وهي مبادلة المال بالممارسة الجنسية أو الجماع. تُحوِّل هنا المومس جسدها لسِلعة تُقدَّم مُؤقتاً للزبون المُهيء للدفع نقداً، حسب قانون العرض والطلب.

.

تتعدد الأسباب التي تدفع بالأنثى لامتهان البغاء لكن الهدف واحد وهو المال، مع العلم أن هناك بدائل كثيرة للحصول على المال لكنه يتم اختيار هذا الطريق لأنه "عالم يوحي بالسعادة الوهمية التي تغري النساء غير المؤهلات لخوض الحياة العملية وماتفرضه من منافسة وكد، يجلبهنّ بريقه وسهولة الحصول على المال"(4) أي نساء يعانين من نقص مادي أو معنوي يحاولن تعويضه بإبراز تفوق اقتصادي، مهما كانت الوسيلة لتحقيق ذلك طالما أن النتيجة هي جلب الربح والاهتمام، يساعدها في ذلك المجتمع الاستهلاكي الذي يُقيم الأفراد حسب مايملكون بغض النظر عن الوسائل، تجد المومس هنا أقرب الطرق وأسهلها للتحقيق المكانة الاجتماعية، أفضل تعبير عن هذه الوضعية نجده عند إميل زولا في رواية "نانا".

تظل مشاعر الاحتقار مطاردة للمومس بسبب الوعي الجمعي الذي ينظر للبغاء نظرة دونية، فتَخلُق حيلة دفاعية لتحقيق توازن نفسي عن طريق الانتقام من المجتمع متمثلا في الرجل بأن "تسلب الرجل مصدر قوته(المال) بينما لا يحصل منها على شيء"(5) لأنها "تحقق انفصالاً تاماً عن جسدها، إنه الجسد/السلعة الذي يقدم إلى الآخر في إطار من الامبالاة"(6) ما يجعلها بالنسبة له "موضوعا جنسيا ناقصاً ومؤقتاً كذلك"(7) فالشق الوجداني غائب هنا ما يجعل العلاقة "لا تبلغ إشباعا كاملا إلا إذ أَشْبعت في فعل واحد كلا من الدافع الجنسي وحاجات الأنا، ومن بين هذه الأخيرة ذلك المطلب الذي ندعوه بالعاطفة"(8) لأن العلاقة "تحتاج من الاثنين معا التبادل الإنساني، بحيث ينظر كل منهما إلى الآخر على أنه إنسان مثله تماما، وليس هناك من هو أقل من الآخر أو أدنى"(9).

تُخلي المومس المسؤولية عن نفسها بإلقاء اللوم على الفقر، أو الأب، أو التفكك الأسري، ف"تحاول تجنب الخزي والعار على السلوك البغيض بنسبه إلى أسباب قاهرة"(10)، لكن علينا ألا ننسى أنه "تحت نفس الظروف الاجتماعية السيئة قد يتحول البعض إلى جانح وبعضهم يختار القلق، ويبقى لبعضهم الثالث بعض السبل البناءة"(11) وإلا سيصبح البغاء النتيجة الحتمية لكل امرأة تمر بظروف سيئة وهذا مالا نجده في الواقع.

تدفع مشاعر الذنب المومس إلى محاولة تغيير واقعها بتأسيس علاقة سوية يعمل طرفها الآخر على معاملتها "كامرأة وليس حاوية فضلات لمنيه"(12)، ويلزم هذا الطرف كذلك مساعدتها على تجاوز ماضيها، وذلك بعدم نبشه وتعييرها به إثر أي خلاف، وبتعبير أوضح تحويل ماقاله نزار قباني إلى واقع ملموس :

أتُحبّني . بعد الذي كانا؟

إني أحبّكِ رغم ما كانا

ماضيكِ. لا أنوي إثارتَهُ

حسبي بأنّكِ ها هُنا الآنا..

تَتَبسّمينَ.. وتُمْسكين يدي

فيعود شكّي فيكِ إيمانا..

عن أمسِ . لا تتكلّمي أبداً..

وتألّقي شَعْراً.. وأجفانا

أخطاؤكِ الصُغرى.. أمرّ بها

وأحوّلُ الأشواكَ ريحانا..

لولا المحبّةُ في جوانحه

ما أصبحَ الإنسانُ إنسانا.. (13)



بقلم : حمودة إسماعيلي

.............................

ـ هوامش :

1 : صادق العظم - في الحب والحب العذري ـ المدى، ص99

2 : التفسير التطبيقي للعهد الجديد - مجموعة من الاهوتيين ـ تاندل للنشر، ص201

3 : القرآن - سورة مريم، الآية 27 و28

4 : فاطمة أزرويل - البغاء أو الجسد المستباح ـ أفريقيا اشرق، ص18

5 : نجية محمد - سيكولوجية البغاء ـ مكتبة الخانجي بالقاهرة، ص59

6 : فاطمة أزرويل - المصدر السابق، ص18

7 : نجية محمد - المصدر السابق، ص59

8 : ثيودور رايك - سيكولوجيا العلاقات الجنسية؛ ترجمة: ثائر ديب ـ المدى، ص263

9 : نوال السعداوي - الرجل والجنس ـ ص192

10 : ب.ف.سكينر - تكنولوجيا السلوك الإنساني؛ ترجمة: عبد القادر يوسف ـ عالم العرفة، ص46

11 : عبد الستار إبراهيم - العلاج النفسي الحديث ـ عالم المعرفة، ص43-44

12 : عماد ابو حطب - صديقتي المومس/قصة قصيرة ـ موقع الحوار المتمدن

13 : نزار قباني - قصيدة بعدَ العَاصِفَة ـ موقع الموسوعة العالمية للشعر
 
أعلى