نقوس المهدي
كاتب
من المفارقات العجيبة في الحب كتجربة يسعى فيها الإنسان للارتقاء والسمو ذاتيا، وذلك بالاقتران بذات أخرى تتوفر فيها الشروط المساعدة لبلوغ ذلك. نرى حصول العكس، فبدل أن يُقدَّر المحب ويُجَل، فإنه يُذَل ويُهان. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل نرى استمتاعه بهذه المهانة، حتى ليصير من شروط الحب أن يتذلل المحب، كما نلمس ذلك في رأي الشاعر: "ولَوْلاَ الهَوَى ما ذَلَّ في الأَرضِ عاشقُ وَلكِنْ عَزِيزُ العاشِقِينَ ذَلِيلُ"(1).
إن استمتاع الإنسان بالمهانة، ومن المعلوم أن الإهانة تسبب ألما نفسيا لصاحبها، مايعني استمتاع الإنسان بالألم. الأمر الذي يجعله شخصية مازوخية، أي شخصية توافق الانطباع المؤلم بأُشْعور اللذة. فنجد الشخص يفتخر بالذل و يتغنى به:
"ليس التذلل في الهوى يستنكر = فالحب فيه يخضع المستكبر
لا تعجبوا من ذلتي في حالة = قد ذل فيها قلبي المستبصر
ليس الحبيب مماثلاً ومكافياً = فيكون صبرك ذلة إذ تصبر"(2).
إن رفع المُحب للمحبوب لدرجة التّأليه حتى يبدو له ككائن أسطوري، هو ما يجعل أي رد فعل يتلقاه هذا المحب بما فيه التجاهل والتكبر، شرفا بالنسبة له. وهذا مايظهر من خلال قوله: "وإني لأقلى بذل غيرك فاعملي، وبخلك في صدري ألذ وأطيب"(3). فصعوبة الحصول على المحبوب تجعل منه صيدا ثمينا، فما إن يتم الإيقاع به في شراك وهوى المحب حتى يتحقق لهذا الأخير التماهي مع الأبطال الملحميين، من قاسو العذاب ومروا بمآسي لتحقيق أهدافهم. ونظرا لأن تراجيديات الأبطال تستثير مشاعر الناس وتستهويهم فيُعجبون بهذه الشخصيات، نلمح العاشق هنا يجعل من تجربته تجربة تراجيدية مشابهة، يعاني فيها ويقاسي لبلوغ المرام. لهذا نرى غالبا ارتباط الحب بالعذاب والمعاناة، كما يبين لنا ذلك ابن الملوح بقوله: "إن الشقاء عناق كل خريدة كَالْخيْزُرَانة ِ لا نمَلُّ عِناقَهَا"(4).
يبدو أن هذه النوعية من العشق تحقق لصاحبها رفعة، فبمعاناته يصير كالقديس الذي يسمو عن البشر العاديين ويتميز عنهم بقدرته على تحمل البلاء و الصبر على الشقاء. وطالما أن العاشق هنا يهدف في الأخير لتحقيق غاية السمو كما ذكرنا، فإنه يرى الذل والمهانة من زاوية إيجابية، يراها كأدوات مساعدة لبلوغ الغاية، يصف لنا الشاعر الأمر بوضوح في قوله: "فإنْ صـرتُ مَخفـوضَ الجنـابِ، فحبُّهـا لِقَـدْرِ مَقـامـي ،فــي المحـبَّـةِ، رافِــعُ"(5)، كما يرتفع القديس بحب الرب.
لكن ما إن يصفعه المحبوب برفض حبه، حتى يستيقظ المحب من غفوته وأحلامه منبّها نفسه:
"سَلا القلبَ عَمّا كان يهْوى ويطْلبُ = وأصبحَ لا يشكو ولا يتعتبُ
صحا بعدَ سُكْرٍ وانتخى بعد ذِلَّة ٍ= وقلب الذي يهوى ْ العلى يتقلبُ
إلى كمْ أُداري من تريدُ مذلَّتي = وأبذل جهدي في رضاها وتغضبُ"(6).
فيُنزِل المحبوب من سماء التأليه إلى أرض الواقع، ليتبدى له الموقف على حقيقته: ""معذورةٌ انتِ ان أجهضتِ لي أمليْ لا الذنب ذنبك بل كانت حماقاتي"(7).
منذ أن يبدأ الإنسان في الإحساس بانجذاب عاطفي/جنسي نحو الجنس الآخر، ينطلق في رسم صورة لهذا الطرف الذي يريد الاقتران به، وذلك بتجميع مواصفات يقتنيها من بيئته الإجتماعية، مواصفات جمالية جسدية ومعنوية وحتى اقتصادية يُساعده طبعا على ذلك الإعلام. فما إن يقابل شخصا يجد فيه تلك المواصفات أو بعضٍ منها، حتى ينبهر ويصيبه سهم كيوبيد، مايُسمى في الثقافة الشعبية بالحب من أول نظرة أو الاستعداد الانفعالي بتعبير ثيودور رايك. فيصبح همه هو كسب مودة هذ المحبوب، حتى تكتمل اللوحة المتخيلة بتجميع صورة هذا المحبوب بصورته التي كان يرسمها أيضا عن نفسه، كي تخرج هذه اللوحة للوجود وتصير واقعا. لكن الإشكال يقع عندما نجد المحبوب شخصية نرجسية مريضة، وكطريقة للشعور بقيمتها تقوم بتذليل المحب الذي يهيم بها، فتستعذب هذا الدور الجديد الذي تهرب فيه من الإحساس بوضاعتها تاركةً ذلك المخبول معلقا بالشكل الذي ذكرناه سابقا، بدل وضع حد لهذه المهزلة السادية بالقبول أو الرفض. وقد فطِن الشاعر لهذه المسألة بطلبه من محبوبته الجواب القاطع: " إختاري الحبَّ.. أو اللاحبَّ فجُبنٌ ألا تختاري.. لا توجدُ منطقةٌ وسطى ما بينَ الجنّةِ والنارِ.. إرمي أوراقكِ كاملةً.. وسأرضى عن أيِّ قرارِ"(8)، ليهدم بذلك أسلوبها في المماطلة.
فاستمرار مثل هذه العلاقات المريضة تحت اسم الحب، يشوه مفهومه الذي يسعى فيه الإنسان للسعادة والمرح بدل المعاناة والانتقام، فكثير من النساء بحكم التهميش الذي يقع عليهن في المجتمعات الذكورية، يجدن في مثل هذه العلاقة فرصة للانتقام من الرجل بتذليله وجعله في تلك الصورة المضحكة، بل حتى بعض الرجال المحرومين من الحب يفتخر الواحد منهم بإذلال امرأة أحبته، ليتبث لنفسه أنه هو من يرفض النساء وليس هن.
عندما يُهان الإنسان في الحب أو يُذل فعن أي حب يتكلم؟! فمن يحبك لن يجعلك تصل إلى تلك الدرجة، فبحُكم حبّه يصعب عليه أن يراك في تلك الصورة. والمحب بدوره يلزمه أن يحب نفسه قبل أن يحب الآخر، فكيف يمكنه أن يُعامِل الآخر باحترام وهو يعامل نفسه بمهانة ويرضى لها الذل؟ علما بأن المحبة احترام قبل كل شيء.
ف"لابد أن نحب أنفسنا حتى نفرق كبشر بين الحب الإيجابي أو الصحي الذي يسعدنا، وبين الحب السلبي أو المرضي الذي يدمرنا"(9). فالحديث عن الحب حديث عن عاطفة متطورة وراقية لدى الإنسان، "لذلك حين نروي قصة حب إنما نروى أيضا أحسن ما في الطبيعة البشرية" (10)، لا أن نصف "التَّفَرْوُحَ" العقلي والأمراض النفسية تحت مسميات الحب العذري والخُبْلي، فنخلط بين العاشق والأبله الهائم. فرغم أن الحب بجنونه يكشف لنا على مستوى الخطاب، عن براعة الشاعر في الوصف واستخدام الاستعارة. إلا أنه على مستوى الواقع كما تقول الروائية ف.مرشيد لايحتاج لكل هذا التعقيد. ف"أحبّيني .. بلا عُقدِ" (11).
.........................
هوامش
1: البحتري - قصيدة بكل سبيل للنساء قتيل ـ موقع أدب.. الموسوعة العالمية للشعر
2: ابن حزم الأندلسي - طوق الحمامة، مكتبة عرفة بدمشق ـ ص40
3: البحتري - قصيدة ألم تعلمي يا علو أني معذب ـ موقع أدب..
4: قيس بن الملوح - قصيدة إن الغواني قتلت عشاقها ـ موقع أدب..
5: ابن الفارض - قصيدة أبَرْقٌ بـدا
6: عنترة بن شداد - قصيدة سَلا القلبَ عَمّا كان يهْوى ـ موقع أدب..
7: حسن المرواني - قصيدة أنا وليلى! ـ موقع أدب..
8: نزار قباني - قصيدة إختاري ـ موقع أدب..
9: فاتحة مرشيد - مخالب المتعة، المركز الثقافي العربي ط2 2010م ـ ص100
10: سلامة موسى - الحب في التاريخ، سلامة موسى للنشر ط2 1946م ـ ص8
11: نزار قباني - القصيدة المتوحشة ـ موقع أدب..
.
إن استمتاع الإنسان بالمهانة، ومن المعلوم أن الإهانة تسبب ألما نفسيا لصاحبها، مايعني استمتاع الإنسان بالألم. الأمر الذي يجعله شخصية مازوخية، أي شخصية توافق الانطباع المؤلم بأُشْعور اللذة. فنجد الشخص يفتخر بالذل و يتغنى به:
"ليس التذلل في الهوى يستنكر = فالحب فيه يخضع المستكبر
لا تعجبوا من ذلتي في حالة = قد ذل فيها قلبي المستبصر
ليس الحبيب مماثلاً ومكافياً = فيكون صبرك ذلة إذ تصبر"(2).
إن رفع المُحب للمحبوب لدرجة التّأليه حتى يبدو له ككائن أسطوري، هو ما يجعل أي رد فعل يتلقاه هذا المحب بما فيه التجاهل والتكبر، شرفا بالنسبة له. وهذا مايظهر من خلال قوله: "وإني لأقلى بذل غيرك فاعملي، وبخلك في صدري ألذ وأطيب"(3). فصعوبة الحصول على المحبوب تجعل منه صيدا ثمينا، فما إن يتم الإيقاع به في شراك وهوى المحب حتى يتحقق لهذا الأخير التماهي مع الأبطال الملحميين، من قاسو العذاب ومروا بمآسي لتحقيق أهدافهم. ونظرا لأن تراجيديات الأبطال تستثير مشاعر الناس وتستهويهم فيُعجبون بهذه الشخصيات، نلمح العاشق هنا يجعل من تجربته تجربة تراجيدية مشابهة، يعاني فيها ويقاسي لبلوغ المرام. لهذا نرى غالبا ارتباط الحب بالعذاب والمعاناة، كما يبين لنا ذلك ابن الملوح بقوله: "إن الشقاء عناق كل خريدة كَالْخيْزُرَانة ِ لا نمَلُّ عِناقَهَا"(4).
يبدو أن هذه النوعية من العشق تحقق لصاحبها رفعة، فبمعاناته يصير كالقديس الذي يسمو عن البشر العاديين ويتميز عنهم بقدرته على تحمل البلاء و الصبر على الشقاء. وطالما أن العاشق هنا يهدف في الأخير لتحقيق غاية السمو كما ذكرنا، فإنه يرى الذل والمهانة من زاوية إيجابية، يراها كأدوات مساعدة لبلوغ الغاية، يصف لنا الشاعر الأمر بوضوح في قوله: "فإنْ صـرتُ مَخفـوضَ الجنـابِ، فحبُّهـا لِقَـدْرِ مَقـامـي ،فــي المحـبَّـةِ، رافِــعُ"(5)، كما يرتفع القديس بحب الرب.
لكن ما إن يصفعه المحبوب برفض حبه، حتى يستيقظ المحب من غفوته وأحلامه منبّها نفسه:
"سَلا القلبَ عَمّا كان يهْوى ويطْلبُ = وأصبحَ لا يشكو ولا يتعتبُ
صحا بعدَ سُكْرٍ وانتخى بعد ذِلَّة ٍ= وقلب الذي يهوى ْ العلى يتقلبُ
إلى كمْ أُداري من تريدُ مذلَّتي = وأبذل جهدي في رضاها وتغضبُ"(6).
فيُنزِل المحبوب من سماء التأليه إلى أرض الواقع، ليتبدى له الموقف على حقيقته: ""معذورةٌ انتِ ان أجهضتِ لي أمليْ لا الذنب ذنبك بل كانت حماقاتي"(7).
منذ أن يبدأ الإنسان في الإحساس بانجذاب عاطفي/جنسي نحو الجنس الآخر، ينطلق في رسم صورة لهذا الطرف الذي يريد الاقتران به، وذلك بتجميع مواصفات يقتنيها من بيئته الإجتماعية، مواصفات جمالية جسدية ومعنوية وحتى اقتصادية يُساعده طبعا على ذلك الإعلام. فما إن يقابل شخصا يجد فيه تلك المواصفات أو بعضٍ منها، حتى ينبهر ويصيبه سهم كيوبيد، مايُسمى في الثقافة الشعبية بالحب من أول نظرة أو الاستعداد الانفعالي بتعبير ثيودور رايك. فيصبح همه هو كسب مودة هذ المحبوب، حتى تكتمل اللوحة المتخيلة بتجميع صورة هذا المحبوب بصورته التي كان يرسمها أيضا عن نفسه، كي تخرج هذه اللوحة للوجود وتصير واقعا. لكن الإشكال يقع عندما نجد المحبوب شخصية نرجسية مريضة، وكطريقة للشعور بقيمتها تقوم بتذليل المحب الذي يهيم بها، فتستعذب هذا الدور الجديد الذي تهرب فيه من الإحساس بوضاعتها تاركةً ذلك المخبول معلقا بالشكل الذي ذكرناه سابقا، بدل وضع حد لهذه المهزلة السادية بالقبول أو الرفض. وقد فطِن الشاعر لهذه المسألة بطلبه من محبوبته الجواب القاطع: " إختاري الحبَّ.. أو اللاحبَّ فجُبنٌ ألا تختاري.. لا توجدُ منطقةٌ وسطى ما بينَ الجنّةِ والنارِ.. إرمي أوراقكِ كاملةً.. وسأرضى عن أيِّ قرارِ"(8)، ليهدم بذلك أسلوبها في المماطلة.
فاستمرار مثل هذه العلاقات المريضة تحت اسم الحب، يشوه مفهومه الذي يسعى فيه الإنسان للسعادة والمرح بدل المعاناة والانتقام، فكثير من النساء بحكم التهميش الذي يقع عليهن في المجتمعات الذكورية، يجدن في مثل هذه العلاقة فرصة للانتقام من الرجل بتذليله وجعله في تلك الصورة المضحكة، بل حتى بعض الرجال المحرومين من الحب يفتخر الواحد منهم بإذلال امرأة أحبته، ليتبث لنفسه أنه هو من يرفض النساء وليس هن.
عندما يُهان الإنسان في الحب أو يُذل فعن أي حب يتكلم؟! فمن يحبك لن يجعلك تصل إلى تلك الدرجة، فبحُكم حبّه يصعب عليه أن يراك في تلك الصورة. والمحب بدوره يلزمه أن يحب نفسه قبل أن يحب الآخر، فكيف يمكنه أن يُعامِل الآخر باحترام وهو يعامل نفسه بمهانة ويرضى لها الذل؟ علما بأن المحبة احترام قبل كل شيء.
ف"لابد أن نحب أنفسنا حتى نفرق كبشر بين الحب الإيجابي أو الصحي الذي يسعدنا، وبين الحب السلبي أو المرضي الذي يدمرنا"(9). فالحديث عن الحب حديث عن عاطفة متطورة وراقية لدى الإنسان، "لذلك حين نروي قصة حب إنما نروى أيضا أحسن ما في الطبيعة البشرية" (10)، لا أن نصف "التَّفَرْوُحَ" العقلي والأمراض النفسية تحت مسميات الحب العذري والخُبْلي، فنخلط بين العاشق والأبله الهائم. فرغم أن الحب بجنونه يكشف لنا على مستوى الخطاب، عن براعة الشاعر في الوصف واستخدام الاستعارة. إلا أنه على مستوى الواقع كما تقول الروائية ف.مرشيد لايحتاج لكل هذا التعقيد. ف"أحبّيني .. بلا عُقدِ" (11).
.........................
هوامش
1: البحتري - قصيدة بكل سبيل للنساء قتيل ـ موقع أدب.. الموسوعة العالمية للشعر
2: ابن حزم الأندلسي - طوق الحمامة، مكتبة عرفة بدمشق ـ ص40
3: البحتري - قصيدة ألم تعلمي يا علو أني معذب ـ موقع أدب..
4: قيس بن الملوح - قصيدة إن الغواني قتلت عشاقها ـ موقع أدب..
5: ابن الفارض - قصيدة أبَرْقٌ بـدا
6: عنترة بن شداد - قصيدة سَلا القلبَ عَمّا كان يهْوى ـ موقع أدب..
7: حسن المرواني - قصيدة أنا وليلى! ـ موقع أدب..
8: نزار قباني - قصيدة إختاري ـ موقع أدب..
9: فاتحة مرشيد - مخالب المتعة، المركز الثقافي العربي ط2 2010م ـ ص100
10: سلامة موسى - الحب في التاريخ، سلامة موسى للنشر ط2 1946م ـ ص8
11: نزار قباني - القصيدة المتوحشة ـ موقع أدب..
.
صورة مفقودة