ابن السايح الأخضر - بلاغة الجسد، وفاعلية التجسيم الإستعاري

يستيقظ الجسد كالجمرة في الكتابة النسائية، يمدّها بفاعلية التجسيم بوصفه كائنا حسّيا مرئيا موجودا، تتذوّق طعم الأشياء من خلاله، ليتحوّل بعد ذلك من الجسد إلى الإحساس بالأشياء، والاندماج فيها. فالجسد في الكتابة النسائية عنصر محفز لإثارة الأحداث، وتشغيل الذاكرة، باعتباره المرجعية التي تثبت الكينونة والوجود.


1 - بلاغة الجسد وفاعلية التجسيم والإستعارة :

الكتابة قابلية الجسد لتمثيل هذا المكتوب معرفيا ليغدو الجسد بتشكيلته الظاهرة أوّل عتبة نصية للعبور ، فمستوى الوعي الإدراكي المشكّل لموقع الرؤية للرواية يتّخذ من الجسد هويّة ، وتبدأ أسئلة الكتابة من خلال أسئلة الجسد الذي يشخص أكثر الأفعال المصاغة ذاتيا ، والمشبعة بأحاسيس الجسد التي تمثّل موقف السارد أو موقف مؤلف النص .

وخلاصة الأمر "أن الجسد واقعة اجتماعية، ومن ثم، فهو واقعة دالة، يدل باعتباره موضوعا، ويدل باعتباره حجاجا إنسانيا، ويدل باعتباره شكلا، إنه علامة، وككل العلامات، لا يدرك إلا من خلال استعمالاته، وكل استعمال يحيل على نسق، وكل نسق يحيل على دلالة مثبتة في سجل الذات، وسجل الجسد، وسجل الأشياء. إنّ أي محاولة لفهم هذه الدلالات، والإمساك بها، يمر عبر تحديد مسبق لمجموع النصوص التي يتحرك ضمنها، ومعها، وضدها"[1].

وقد تحوّلت اللغة من كائن مسموع إلى كائن موجود بفعل الكتابة ، كما تحوّلت من كائن مجرّد إلى كائن محسوس ومرئي باستعارتها لمعجم الجسد، وتوظيفه كدال لغوي وجودي له دلالات أخرى متعدّدة، تتجاوز الموجود إلى ما هو ذهني وروحي، لينتقل بالجسد من الذات إلى الآخر والعالم.

"لقد تحققت للغة، بدخولها إلى عالم الكتابة، أن دلت على نفسها؛ فصارت بالمكتوب إشارة دالة، انتقلت بكائنها من المضغة إلى الكائن، ومن المسموع إلى المرئي، ومن المنطوق إلى المقروء، وتغلّبت على زوالها، فبرزت شكلا دّالا لمعان لا تنتهي"[2].

إن الجسد في الرواية النسائية، يمثّل فضاء عنكبوتيا، تمتد خيوطه إلى جميع العوالم السردية الأخرى ، فجغرافية الجسد هي جغرافية النص، واستبطان الجسد الأنثوي هو استبطان للفضاء النصّي، وتمثّل لخصائصه.

إنّ الكتابة النسائية تحسن الإصغاء والتلصّص بعينين جائعتين على عوالم جسدها، تستعير للأشياء والأحجام والألوان والظواهر مسمّيات، تستقطرها من جسدها، وحاجاته الكامنة التي تستوطن المخيّلة السادرة، بحسب الأجواء النفسية الراصدة لحالة الجسد، الكاشفة لأحاسيسه.

فالمرأة تكتب نصّها، بناء على آلية الاشتغال العضوي للجسد، وإسقاطاته، ولكن الجسد، حين يدخل عالم الكتابة، ينفلت من معناه المعجمي المنغلق، إلى دلالات احتمالية مضاعفة، يفرضها السياق وتفرضها القرائن المصاحبة المنفتحة على قنوات محايثة للجسد، تحقّق الاستبطان والتمثّل من كون الأشياء، كما تتحوّل أعضاء الجسد إلى كائنات حبلى بالتحولات الدلالّية المتشعّبة التي تغني السرد وتشحنه بالخصب والنماء.

والجدير بالذكر، أن الكتابة النسائية الناضجة فنيا، تجيد في مجملها بلاغة الجسد، وفاعلية التجسيم الإستعاري للأشياء التي تمنحها المرأة تشكيلات الجسد، وتزرع فيها العواطف الآدمية، بوصفها كائنات حيّة نابضة بالحياة، تشارك السارد في توليد السرد وإثرائه.

ومن الأمثلة الدالة على توظيف الجسد، واستعارة أشيائه وتفاصيله، نذكر ما ورد في رواية (فوزية شلابي)، على لسان الساردة "صالحة":



"... مضى أسبوع .. أسبوعان.. ثلاثة.. تلاشى كلّ شيء.. دخلت كل التفاصيل.. رماد الذاكرة القديمة، لكن شيئا واحدا بدأ ينفر من الرماد، ويكون له وهج الجمر: كان شبحا باهتا. ازداد وضوحا، اكتسى معنى وهيئة ونبضا، هي ابتسامته تحاصرني.. أكابدها.. ! .. هي جسر من البهاء والروعة والمودة، فهل أنجو من طوق ياسمين، أو عرجون فل!.. هي ابتسامته تناغيني.. أهيل على وجهها رماد النسيان ! .. هي ابتسامته.. هي ابتسامته.. هي ابتسامته.. ياللورطة اللذيذة[3]"….

بناء على ملاحظتنا للجمل السردية، نشعر بتلك الوقفات الشبحية و الطيفية التي تطرحها رؤيا الساردة بعد أن كاد يطويها النسيان. لكن ما نلاحظه أيضا، هو هذا الطّيف الطليق الذي يغادر جسده، ليتوحّد مع السادرة، أو يحلّ في الأشياء والتفاصيل المحيطة بها: "... لكن شيئا واحدا بدأ ينفر من الرماد، ويكون له وهج الجمر...". هذا الزائر الغريب التي استضاءت الساردة بتحوّلاته، فتعاطت لغة الجسد بعد اقتحامها لعالم المحرّمات والممنوعات.

إنّ الحّيز العاطفي للجسد والمساحة الرومانسية للأشياء، يمثّل الأفعال والوقائع في الكتابة النسائية، التي تلقي بظلالها على السرد الذي يشحن بكمّ هائل من الوحدات السردية المتناسلة من بعضها بعض، تتحدّد بمدى احتوائها لهذا الجسد المغيّب. "... كان شبحا باهتا، ازداد وضوحا، اكتسى معنى وهيئة ونبضا، هي ابتسامته تحاصرني، أكابدها...".

لو حاولنا استقراء المنظور السردي عند (فوزية شلابي)، لوجدنا ظاهرة تمثّل الجسد الغائب، واستعارة تشكيله، ثم زرعه بالحياة، فإذا هو كائن يخرج من الرماد جمرا متوهّجا، آسرا الساردة بابتسامته. "... هي ابتسامته ، هي ابتسامته...". والساردة، في الرواية، شخصية محورية فاعلة في الأحداث، تحقّق في حركتها السردية التوازي بين (زمن السرد) و(زمن الفعل المتخيلّ) إذ لا يكاد السرد يبرح العالم الداخلي للساردة، من خـلال التأكيد على عنصر الفعل المرتبط بالضمير: "... تحاصرني ، أكابدها، تناغيني...".

تفعّل الكتابة النسائية (الرغبة)، فتحيلها كائنا حيّا، يسهم في تلك الإرساليات السردية المشبّعة بالآخر (الحاضر/ الغائب) الذي ينساب إلى عوالم محكيات المرأة. وحين يحضر هذا الآخر، يحضر بكل جسده، وعنفوانه، كما تريده المرأة أن يكون.

آمال مختار ، كاتبة روائية تجيد جماليات الحفر، والعبور، والتواصل الجسدي (من الجسد وإلى الجسد)، حيث تبدو روايتها إنصاتا لهذا الجسد، واستفزازا له، وولوجا لعتباته، وإمساكا لمفاتيحه؛ فمع أحداثها اليومية، ووقائعها السردية، وعوالم محكياتها، تنبع من هذا الجسد المؤنث، وتتخلّق في رحمه، تقتات من تفاصيله، حتى الطبيعة، بمظاهرها المختلفة تصبح كائنا حركيا، يكوّن برنامجه السردي بتواطئه مع هذا الجسد المؤنّث الخصب.

فالجسد ينسجم مع كينونات الطبيعة، ويتلاحم معها، نجده ينسجم مع الريح، والمطر، والشتاء:


"... المطر، الشتاء، الضباب، كلمات تعني عندي الدفء، وبقدر ما يكون الشتاء عاصفا باردا قاسيا، يكون الدفء أدفأ، والعشق أعنف، وأكثر جنونا. أحب أن يبدأ العشق دائما في الخريف، أن يبدأ خجولا، بخدود موردة، ثم يكبر مع عواصفه حتى يصير مجنونا في الشتاء..."[4].

ما يلاحظ في الكتابة النسائية، تلك العناصر الداخلية للجسد، تخاطب العناصر الخارجية للكون، بلغتها المؤنثة، فتجعلها متآلفة متناغمة مع إيقاع جسدها، وفق تواصل متحاور منسجم.

إن الجسد المؤنث يشحن مظاهر الطبيعة بتلك الشحنة المتوقّدة التي يفرزها الجسد المؤنث، عبر سلاسل نصّية، فتتخلّق في السرد، وتتناسل، مساعدة الدلالة على الانطلاق والإنعتاق من قيود المعجم ودلالته المباشرة، إلى فضاء متعدّد لا محدود، تجابه المرأة المبدعة، في أثنائه، شيطان الجسد، بكلّ هيمنته وسلطته وشراسته التي لم تتوقف عن الحضور الطاغي في فضاء الوعي الكاشف غير الآبـه بالمحرّمات والممنوعات.

ها هي (فضيلة فاروق) تنحت روايتها من تخوم الجسد وحفرياته، من خلال العبارات المشخونة التي تنجذب من الجسد وإليه، فيتكلّم بلغته ويستعير معجمه. نلمس ذلك في مثل قولهـا:"... "أيس"، تلك السماء العبوس الملبّدة بالغيوم ، وذلك المطر الشبق الذي يغازل الكون، لم يكن أكثر من رجل، ولكنه في الوقت نفسه، كان أكثر من رجل، وهذا ما لم أفهمه..."[5].

وفي مقطع آخر، يرد على لسان الساردة، في وصف شارع، هو أشبه بوصف جسد رجل: "... شارع (مونبرناس)، في السادسة مساء، تحت قبعة سوداء من الغيوم، يبدو رجلا مشكوكا في أمره، الريح تهبّ كالموسيقى، وبقع الماء في الشارع أغنية مبعثرة..."[6].

وفي أحيان كثيرة، نجد في الرواية النسائية ميلا إلى إخراج الجسد - بشقيه الذكوري والأنثوي - من أسوار الذات إلى فضاء الكون؛ فقد توظف المرأة "المطر" و"الشارع" و"الريح" بالصفة الذكورية، فتمنح له تفاصيل الجسد الذكوري، بينما تختبئ خلف مسميات أخرى كـ "الكون"، مثل: "... ذاك المطر الشبق الذي يغازل الكون...". وأحيانا نجدها هي "الأرض" و"المدينة"، تمارس من خلال ذلك كل التحوّلات، بل تتشاكل مع كينونات طبيعيه ورمزية، وتبقى السياحة متواصلة، والترحال مستمرّ، خاصّة، حين يتوقّف الزمن الخارجي، وتطغى التداعيات الداخلية التي تتيح لهذا الجسد أو ذاك إمكانية التماهي مع مظاهر الطبيعة الحيّة والجامدة، مثل ما ورد في رواية (فضيلة فاروق): "... ولكن باريس جميلة، ومتوهجة في الوقت الذي تنام فيه قسنطينة في حضن رجل شرس، بلا قلب، بلا مخ، بلا صوت، تسرق أنفاسها خلسة من مساء يختنق، وتقول الشعر الذي يجعلنا نبكي، لا الشعر الذي تقوله باريس في صالونات، تضج بالتصفيق..."[7].

إن المغامرة السردية في الكتابة النسائية هي مغامرة للروح والجسد. فالتواصل مع الكون، والفضاء الخارجي، يتم عبر مجموعة من القرائن المحفّزة على التخييل، والتي لا تخرج عن استعارة تفاصيل الجسد الحاضرة عبر الامتداد اللغوي، في جمل سريعة الإيقاع، نقرأ فيها حاضر الجسد، وحاضر الذات. فهي تنطلق من الجسد، وتعود من حيث بدأت، بعد أن زوّدت المعنى بدلالات جديدة، فرضتها شبكة العلاقات الجديدة بين مفردات النص الروائي: " ... ولكن باريس جميلة ومتوهجة، في الوقت الذي تنام فيه قسنطينة، في حضن رجل شرس...".

وما يلاحظ على (فضيلة فاروق) محاكاتها لـ (أحلام مستغانمي) بناءً ولغةً، بل إنّهـا تستعمل لغتها ومسمياتها، وتستخدم رؤيتها للأشياء، بحيث تكاد تكون هذه الرواية "اكتشاف الشهوة" تقليدا أعمى للكاتبة (أحلام) التي تبقى متفوّقة على قريناتها، سواءٌ من حيث المرتكزات المعرفية التي انطلقت منها، أم من حيث البناء وتقنيات السرد، أم بالنظر إلى الإشارات اللغوية، والظواهر الأسلوبية التي تميّز كتابتها.

توظف (أحلام مستغانمي) الجسد الأنثوي، وتستعير جزئياته في رسم لوحتها الزيتية "حنين". وعن طريق السارد الرئيس في رواية "ذاكرة الجسد"، يرد المقطع التالي:


"... ها هي لوحاتي، تستيقظ كامرأة بتلك الحقيقة الصباحية العارية، دون زينة ولا مساحيق ولا رتوش، ها هي امرأة تتثاءب على الجدران، بعد أمسية صاخبة، اتجهت نحو لوحتي الصغيرة -حنين- أتفقدها، وكأنني أتفقدك: "صباح الخير قسنطينة، كيف أنت، يا جسري المعلّق.. يا حزني المعلق منذ ربع قرن؟". ردّت عليّ اللوحة بصمتها المعتاد ، ولكن بغمزة صغيرة هذه المرّة، فابتسمت لها بتواطؤ، إننا نفهم بعضنا، أنا وهذه اللوحة - البلدي يفهم من غمزة - وكانت لوحة بلديّة مكابرة مثل صاحبها، عريقة مثله، تفهم بنصف غمزة..."[8].


فالجسد المؤنث هو الذي يجسّد المتن الروائي، ويربط عناصره، كما يساعد في تكثيف حضور الطاقة الشعرية، وتحقيق ذلك التعاطف المادي، والانجذاب الوجداني. "الجسد الأنثوي، يسع الحياة برمتها، لأن العلاقة بين الجسد وبين العالم، بعد أن كانت علاقة احتواء وترويض وامتلاك، أصبحت علاقة حوار وتناغم وتوحّد"[9].

ويبقى الجسد الأنثوي، في الرواية، هو القابض على خيال القارئ وفكره، وتبقى اللغة التي تعمل على تفجير أشياء الجسد هي السائدة، نظرا للتوتّر الكائن الذي تمثّله المجازات والصور والإيحاءات. فالرواية النسائية تحسن الإنصات إلى الجسد الذي يفعّل الشبكات الدلالية واللغوية، بحيث تصعد بالكائن الحسّي إلى كائن علويّ مجنّح، مزوّد بالمعاني الإضافية المبثوثة، تحقّق للنص سلطة دلالية موجّهة للمعنى، قابلة للتأويل، مثل: "... ها هي لوحاتي تستيقظ كامرأة بتلك الصباحية العارية، دون زينة ولا مساحيق..."

(أحلام مستغانمي) في روايتها "ذاكرة الجسد" تربك قواعد اللعبة السردية، من خلال شعرية الرواية وحرارتها، حين توظّف الجسد الأنثوي مرتعا خصبا لتغذية السرد وتحريكه: "... ردّت عليّ اللوحة بصمتها المعتاد، ولكن بغمزة صغيرة هذه المـرة...". فاللوحة الزيتية "حنين"، تتحوّل إلى امرأة مغرية بأتمّ معنى الكلمة، وهي صورة قد درج عليها الأدباء من قبل، حين عمدوا إلى "تنحية التعبير المنطقي، والتركيز على عمليات الاستثارة العاطفية، بحيث يصبح نقل التوتّر هو المقصد الأوّل"[10]. والملاحظة نفسها يمكن أن تقال في رواية "قلادة قرنفل" للكاتبة الروائية (زهور كرام)، حيث يرد على لسان الساردة، وهي تتكلّم عن ذاتها، وجسدها، وظلّها:


"... لأن ظلّي سرعان ما عاد يستلطفني.. هل أدرك حاجتي إليه هو أيضا.. يحيا من وجودي.. لم أعرف كم من الوقت انصرف في ركوب هذا السفر، يحدث أن أركب مسافات، واحلّق في أجواء، لأجد ذاكرتي جاهزة لاحتضان شرودي ، لاهثـة من فرط تحالفها معي، كأنها تصرّ على استفزازي حتّى لا يتراجع خطوي ، وأضعف أمام انسحاب ظلّي.. أنيسي.. حين تفاجئني الطبيعة مطرا.. مطرا.. وإن كان خفيفا.. خفيفا.. فإنه يواري أنيسي..."[11].


يتحوّل النزوع إلى التوحد بالجسد وبظلّه إلى طرح المرأة من خلال كلّيتها، وهذه الكلّية تتحقّق في الجسد وفي ظلّه الذي يعتبر باعثا لليقين على الكينونة والوجود، فتأكيد الظل هو تأكيد على وجود الجسد الذي تتحقّق بوجوده الاستمرارية، والقدرة على الديمومة والحركة.

إن وجود "الظل" هو دليل على وجود "الجسد"، والجسد كائن يمتلك الشكل، والكائن الذي يمتلك الشكل، حسب تعبير (باشلار) ، "يسود آلاف السنين، لأن كل شكل يستعيد الحياة، والكائنات المتحجّرة، ليست مجرد كائنات عاشت في الماضي، ولكنها ما تزال حيّة، مستغرقة في النوم داخل شكلها"[12].

الجسد يمثّل تحوّل الحياة، وديمومة الحركة، كما يمثّل الجسد الأنثوي شجون الرغبة، بين ما يرسله النص من مفردات لغوية، وما يبحث عنه المتلقي لتبقى سلطة الرغبة في التأويل والكشف قائمة وفق تلك المسافة بين الجسد وظله. هذه المسافة التي تحسنها الكتابة النسائية بامتياز.

وحين نتأمل مثل عبارات: "... يستلطفني.. أركب مسافات الاحتضان.. لاهثة.. المطر..."، وحين نبحث في عالم الألفاظ عن تلك العلاقة المتجاذبة المهيمنة في فضاء النص: كالاستلطاف، والاحتضان، والركوب، واللهاث، والإمطار، تتكون لدينا لوحة تعبيرية مشحونة بتوتر الجسد، هي في الأصل علامات سردية تستدعي التأويل، إنّهـا بلاغة الجسد النابعة من كثافة الرموز المشحونة بالتأويلات.


2- فاعلية الجسد وبلاغته في تشكيل لوحات شعريّة مشفّرة:


يمثّل الجسد بلاغة فنية مكثّفة في الرواية النسائية، يسهم في إنتاج العناصر المشكّلة للإبداع، وتشكيل لوحات شعرية مشفّرة، هذا التميّز في كتابة المرأة، يخلق تلك الخصوصية التي قد تعجز عنها الكتابة الذكورية لنمطية الجسد الأنثوي عند الرجل.

مع تشكيل الجسد عند المرأة، نعيش المباغتة والتحوّل والانشطار، وما يترتّب عنها من تداع للأفكار، وتوليد للدلالات المطلقة، فيتقاطع الذاتي بالموضوعي، ويلتئم المتعدّد بالواحد الكلّي، كما يسمح للطاقة الخيالية بالعبور والتسلّل إلى ما وراء الأشياء.

تسعى الرواية النسائية – دومـا - إلى الاختراق والتجاوز، لكن بنوع من اللين والمرونة، قصد اكتشاف الحقيقة، ومواجهتها عبر الالتحام بالآخر. وظاهرة استحضار (الجسد) في الرواية النسائية تختلف عنها في الرواية الذكورية؛ فالرجل يرى المرأة جسدا ناميا، لا فكرا واعيا، بينما اختلف الأمر في الرواية النسائية، لخصوصية التعاطي الأنثوي مع هذه القضية، والانسجام المتميّز في اللغة التعبيرية عن المرأة التي ترصد أدق الأحاسيس والمشاعر دون خجل أو مواربة، معها يشتبك نبض الجسد مع نبض النص، في لغة متآلفة مبدعة خلاّقة، نلمس فيها فاعلية الجسد، فاعلية الصورة البلاغية المستمدّة منه، وتشكيلات شعرية مشفّرة تضيء أفق النص المؤنث، فتزيل الحجب الفاصلة بين الأنا والآخر، من خلال التشكيل المتجانس الإيقاع والدلالة.

ولتقريب هذا المعطى، نورد مقطعا سرديا من "ذاكرة الجسد"، على لسان السارد "خالد بن طوبال"، وهو يعلّق على اللوحة الزيتية "حنين" ومدى التقارب بينها وبين "حياة":

"... نظرت إليك خلف ضباب الدمع ، كنت أودّ لحظتها لو احتضنتك بذراعي الوحيدة ، كما لم أحضن امرأة.. كما لم أحضن حلما.. ولكنني بقيت في مكاني، وبقيت في مكانك متقابلين هكذا.. جبلين مكابرين، بينهما جسر سري من الشـوق والحنين، وكثير من الغيوم التي لم تمطر، استوقفتني كلمة جسر، وتذكرت تلك اللوحة... نظرت إلى اللوحة، وكأنّك تبحثين فيها عن نفسك. قلت: "أليست هذه قنطرة الحبال؟..". أجبتك: "انها أكثر من قنطـرة .. إنها قسنطينة ، وهذه هي القرابة الأخرى التي تربطك بهذه اللوحة ... يوم دخلت هذه القاعـة، دخلت قسنطينة معك، دخلت في طلّتك، في مشيتك، في لهجتك.. وفي سوار كنت تلبسينه..."[13].


إنّ (أحلام مستغانمي) في رسمها للصورة، تستعير الجسد الأنثوي المشتهى، ليتشاكل عندها، في نظام بديع، مع كينونات رمزية، وطبيعية، وتاريخية، حيث يتناسل الوصف الموضوعي مع الإسهام والهذيان في تشكيل الصورة المستمدّة من الأنثى، أين الدفء والجاذبية والميل الغريزي. وإنّ تحقيق هذا النظام بين دوال الأشياء ومدلولاتها قد لا ينسجم دائما، ذلك أنّ "نظام تشكّل الأشياء واقعا، ونظام تشكّل معنى الأشياء لغة، لا يتلازمان"[14].

تلبس اللغة عند (أحلام مستغانمي) لباسا محجّبا، يخفي نصف الحقيقة، ويظهر النصف الأخر. وإنّ "اللغة لتعيش وجودها في جدل مع الواقع، تجاذبه ويجاذبها في فهم الواقع والتعبير عنه، أو تزويره والانحراف به، أو ولوجه والاستحواذ عليه، لا لسيطرة اللغة عليه، بل لتحويله وإعادة إبداعه تركيبا وصياغة وإنشاء"[15].

تحاول المؤلفة، في تشكيل صورها الشعرية، فتبدأ من الدلالات التي تدخلها في غلالاتها الضبابية: "... نظرت إليك خلف ضباب الدمع...". و"ضباب الدمع" لها مرجعية دلالية، تتمثّل في الحزن الشديد، أو الشوق الذي يحرق القلب، فيكوّن حاجبا حاجزا للرؤية. ولكن مع سياق النص، نعثر على الدلالة الضمنية التي تعبّر عن حميميّة المشاعر التي ألمّت بالسارد "خالد بن طوبال"، وهو يوشك على احتضان حياة: "... كنت أودّ لحظتها لو احتضنتك بذراعي الوحيدة...".

فالصورة السردية المحفّزة هنا هو العناق والالتحام، حيث مشاعر العشق والفيض الوجداني ينزف من جسد ينقصه ذراع. وهذا المشهد المحموم المتوتّر الذي هو في حاجة إلى الالتحام لم يقع، بل بقيت المسافة بين الجسد المؤنث، وظلّ الآخر، تمثّل القوّة الفاعلة في مسار السرد النسائي، حيث البؤرة المحفّزة، والمستقطبة لمحاور السرد الباحثة عن الإشباع وعن الارتواء، فلا تكاد تعثر عليه: "... ولكنني بقيت في مكاني، وبقيت في مكانك، متقابلين، هكذا جبليين مكابرين، بينهما جسر سرّي من الشوق والحنين، وكثير من الغيوم التي لم تمطر...".

تستوقفنا كلمة "جبل"، والجبال من الركائز التي استخدمها سبحانه وتعالى لتثبيت هذه الأرض واستقرارها، فهي من العلامات الدالّة التي لا يمكن أن تتحوّل، ذلك أنّ للجبل من القوة والصلابة ما يجعل الانحراف به أو تزويره أو الاستحواذ عليه أمرا مستحيلا.

بهذا الاستحضار القصدي لـ "الجبل"، فيه صورة الذات وصورة للآخر؛ هذا الآخر الذي تمثله "حيـاة" التي هي "قسنطينة" الوطن والأرض. غير أنّ (الجبل) الآخر سيمثّله السارد "خالد بن طوبال" الرجل المجاهد الذي حمل السلاح دفاعا عن هذا الوطن، وهو الذي تربطه حلْقة وصل وانجذاب بهذا الوطن، هي حلْقة الشوق والحنين.

وتحسن (أحلام مستغانمي) التوليد الدلالي المنسجم مع الإيقاع الصوتي، وهو ما يجعل أسلوبها التعبيري يقترب من الشعرية المكتنزة بالرموز، حيث إن الرؤيا عند الكاتبة تؤطّر لفلسفة الجسد، وتجسيد لآلياته المختبئة وراء اللغة الشعرية المشفّرة الغنية بالتأويل.

فالنص "مكان الذات الذي تتجسد من خلاله رؤاها ومعاناتها وأحاسيسها، في علاقاتها بالكون والكائنات، والنص مكان الذات إذ تتموضع في اللغة، فتجد فيه سكنها، ومن خلال هذا التموضع تجد الذات - أو تحاول أن تجد - هويتها، وهذه الهوية مع الهوية المادية الجسدية هويتان تتحركان في جسد العالم، وفضاءات المكان، وهو تموضع وجودي حتمي؛ لأن المكان الأكبر (الأرض/ الوطن) ، يملك هويته، ويفرض خطابه الاجتماعي والثقافي والحضاري، في علاقة هيمنة وتملك"[16]، فيكتسب الجسد في الرواية النسائية نكهة مغايرة ولغة وليدة تنشأ عنها تحولات وجماليات.

ولعل بلاغة الجسد في تشكيل لوحات شعرية مشفّرة يشير إلى تلك العلاقات التي تبحث عن الالتحام والتوافق، فتصبح هذه الظاهرة سنّة كونية، تشمل الطبيعة ومظاهرها الشاعرية المحفّزة، داخل تشكّل المكونات الأخرى. "إنّ إحالة اللغة على الجسد، والجسد على اللغة، وتماهيهما، تجعل من الضروري التذكير بمفصل الكينونة القديم، والإشارة إلى تلك اللحظة التي أنشأ الله فيها جسد الكون بكلمة (كُـنْ) ، والجسد البشري، أو الكينونة البشرية جزء من هذه الكينونة الجسدية الكبرى، ولعلّ النص الصّريح قي قصّة خلق عيسى (عليه السلام) من كلمة اللّه، يشير بوضوح إلى هذه العلاقة المتجذّرة بين الخلق والجسد واللغة"[17].

وتتقـن (أحلام مستغانمي) أيضا شعرية الكتابة ببلاغة الجسد الذي يمدّها بلغة طافحة بالشعرية، مشحونة بالدلالات، مثيرة لخيال المتلقي، عبر النبش في مخزون الذاكرة والتاريخ، وعبر تفاصيل الجسد، وعوالمه الثريّة المتجدّدة المتناسلة باستمرار، مما يعبّر بصدق عن مهارة الكاتبة وموهبتها السردية، وبلاغة قصّها الذي يؤسّس لكتابة نسائية مغاربية بامتياز.

وللاستدلال والتمثيل على هذا الزعم، نتوقف عند رواية "فوضى الحواس" مرة أخرى، والتي تعدّ محفلا إبداعيا ولغويا، مارست الكاتبة من خلاله غواية اللغة وفتنتها، كما تماهت مع الكتابة، مكوّنة منحوتة شعرية من جسد مؤنّث، غطّى فضاء النص إغراء ومتعة.


"... كنا على مشارف قبلة، عندما جاءت تلك الموسيقى مباغتة لنا، زاحفة نحونا، متباطئة كسلى، ثم متقاربة الإيقاع، بمزاجية الرغبات الطاعنة، تناقضا كخطى راقص على أرصفة الشغف، تحت مطر السماء، كانت الأقدام الحافية، تنقل لنا إيقاعها العشقي، منتعلة خفّة شهوتنا في حضرة زوربا... خلع البحر نظاراته السوداء، وقميصا أسود، وجلس يتأملني.

رجل نصفه حبر، ونصفه بحر، يجردني من أسئلتي، بين مدّ وجزر، يسحبني نحو قدري، رجل نصفه حياة، ونصفه إغراء، يجتاحني بحمى من القبل، بذراع واحدة يضمني، يلغي يدي، ويكتبني، يتأملني وسط ارتباكي، يقول: "إنها أول مرة، أطل فيها من نافذة الصفحة، لأتفرج على جسدك. دعيني أراك أخيرا..."[18].


تظهر الساردة "علامة" أساسية في رواية "فوضى الحواس"، فهي التي تحكي والرجل يستمع، وتبقى الساردة تضيء الأبعاد الدلالية والرمزية، بين الكثافة الشعرية والاسترسال الروائي. إنّهـا تستقطر رحيق الجسد الأنثوي، وتجمع عصارته الجمالية حين ترصف تلك العلاقة الجوّانية بين الـ (هي) والـ (هو)، وتختار حوافزها التي تؤسّس للحبكة الفنية من إيقاع الجسد.

لقد كان جسد الساردة هاجس الرواية، الماسك بأعنّة شخوصها، معه تجسّدت شعرية السرد المؤسّسة لبؤرة الرواية النسائية ونقطة ارتكازها وأرضية توازنها. وهذه الخصوصية التي يتميّز بها السرد النسائي، تتباين - قوة وضعفا - من رواية إلى أخرى، لعلّ (أحلام مستغانمي) كانت أكثرهن تفعيلا لدفء الجسد وعبقه، وعرضا لتواريخه، وكشفا لأسراره.

في رواية "ذاكرة الجسد"، بقي السارد "خالد بن طوبال"، و"حيـاة" متقابلين كجبلين مكابرين، بينهما كثير من الغيوم التي لم تمطر[19]. لكن في رواية "فوضى الحواس" التي هي بمثابة تكملة للرواية الأولى، تمطر الغيوم، ويلتقي الجبلان، ويجتاح أحدهما الآخر عبر نزيف لغوي، نلمس فيه نفس الساردة الساخن بحمّى الكلمات المحبوكة على مقاس الجسد:


"... أحاول أن أحتمي بلحاف الكلمات.. يطمئنني: "لا تحتمي بشيء، أنا أنظر إليك في عتمة الحبر، وحده قنديل الشهوة يضيء جسدك الآن، لقد عاش حبنا دائما في عتمة الحواس".

أود أن أسأله: "لماذا أنت حزين إلى هذا الحد؟". ولكن زوبعة بحرية ذهبت بأسئلتي، وبعثرتني رغوة ... على سرير الشهوة. كان البحر يتقدم، يكتسح كل شيء في طريقه، يضع أعلام رجولته على كل مكان يمر به. مع كل منطقة يعلنها منطقة محتلة، وأعلنها منطقة محررة، كنت أكتشف فداحة خسائري قبله. كمن يتململ داخل قفص الجسد.. أنتفض واقفا، كان يريد أن يغادر ذاته، ويتّحد بي.

أسأله:. "ماذا أنت فاعل بي؟". يجيب: لا تملك الأشجار إلا أن تمارس الحب واقفة. تعالي للوقوف معي" ..."[20].


حين نتأمل المادة اللغوية بوصفها (ملفوظا)، نجد معجم الجسد، وإيقاع الرغبة، وطقوس التلاحم الجارف هو المؤسّس للحيّز الأكبر من المدوّنة. وبعد تأملنا للمقطع السردي المنتخب بعفوية، نجده أقرب إلى المشاهد واللوحات الشعرية المتتابعة، والمتقاطعة أحيانا مع الجسد، المحبوكة والمكتملة بوجود الآخر.

فـ (أحلام مستغانمي) تخط نصا قريبا من جسدها بحيث يتنفّس النص هواءه، ويعيد أصداءه، ويجسّ نبضه. وهذه (الظاهرة الفنية) هي من خصوصية التعبير النسائي المطارد بعلاقات التماثل بين الجسد وبين الرموز والمعاني الكونية ومظاهرالطبيعة الأخرى.

مع (فضيلة فاروق)، نجد تفاوتا واضحا بينها وبين (أحلام مستغانمي) من حيث توظيف الجسد[21]. لذلك فقد أخفقت، حين حاولت محاكاتها، أو منافستها، ليتحوّل الجسد - الذي يمثّل قيمة جمالية وفنية - إلى شيء مبتذل، نلمس فيه التكلّف، وانعدمت التقنية التصويرية له. كما فقد الجسد عند (فضيلة فاروق) تلك الكثافة الدلالية، وذلك الإيقاع العالي والعنيف، وبالتالي، فقد خصوصية العمل الفني،فكشفت عن عدم امتلاك للتقنيات الأسلوبية المؤثّرة في إنتاج النص التي تملكها (أحلام مستغانمي) بتفوّق.

وتوظّف الكاتبة الليبية (فوزية شلابي) الجسد كشخصية وهوية، كما تتحوّل الرؤيا عندها إلى فلسفة للجسد، بموجبه تتشكّل حركية نمو الحدث وتطوره. فالجسد هو الذي يخلق التوتّر الدرامي في الجمل الشعرية، ويمثّل شرايين لا مرئية قويّة الدفع والحركة، والاستعانة بأصوات الجسد وحركاته هو الكفيل بتلك الصور البلاغية التي تجسّد اللوحة الشعرية المبنية على مقاس الجسد في ثورته وصخبه، أو في هدوئه واسترخائه، ذلك الذي ورد على لسان الساردة:


"... العالم، هذا الحوت الضخم المخيف؟ أسنانه حادة وكبيرة، وهذا الخدر... الأشياء تتلاشى.. الجمرة تخبو رويدا رويدا، وأنا أرقص/ أجمح/ أهمهم / أتلوى كأفعى/ أعدو مثل قطة فزعة/ أكشّر عن أنيابي القديمة، ثم أسقط في هذا الخدر اللذيذ.

تعال، أجذبك من يدك، آخذك منهم، أنت لي، لي وحدي، تعال لأهرب بك. أجري وسط جموعهم التي تتفرج مد هوشة وحاقدة، يرجموننا بنظراتهم، وأنت، وأنا نركض. إلى أين..؟ لا أدري، لكنني فقط أعرف أنّك معي، أن أمسك يدك، أريد يدك، ولا أعرف !. أضحك/ أبكى/ أغني/ أبتهل/ أسب !. أقول لك أحبك، أقول لك أبغضك. أقول هيا قبلني، اصفعني. ماذا أريد منك ؟. لا أدري. من أنت؟. لا ادري. متى – أين – كيف – لماذا؟. أرجوك، تسأل أو لا تسأل. أريد سيجارة أخرى. هذا غير معقول. الطرق ملأى بالعربات، والناس، وأكوام القمامة والحفر، والإشارات الضوئية، والمنعطفات، ورجال البوليس، وتقلب الأحوال الجوية، وفضول النوافذ المغلقة، وشفاه السيدات الممطوطة. إيه.. وماذا أيضا؟! ..."[22].


توحي المشاهد والوقفات السردية، بتبعثر الجسد المتشظّي تحت سلطة الرغبة المكبّلة بالإلغاء والمصادرة. فالنص مكتنز بتفاصيل الجسد المشحون بحركية الاجتياز إلى الآخر المعشوق، حيث يوظّف الجسد هنا، ليستوعب تجربة شعورية وشعرية، تعطي أجواء الغبطة الراقصة لهذا الجسد الذي داهمتة خيول الشوق، شوق الآخر الغائب: "... وأنا أرقص/ أجمح/ أهمهم/ أتلوى كأفعى...".

وتواتر ارتباط غبطة الجسد، وشراهته المحمومة بـ (الجمرة) و(القطة) و(الأفعى)، وهي محاولة تدخل في تسمية الأشياء بغير أسمائها ذلك أن "الألفاظ التي يعمل وجودها في نسقها الدلالي على إخراجها من دلالاتها القريبة المباشرة المعروفة، ويحصرها بدلالتها الجنسية الصرفة ، من خلال جعلها تشكّل ثوبا شفافا، وظيفته الأولى: لفت الانتباه إلى المنطقة المثيرة، وليس إلى سترها وتغطيتها[23]."

حين نصغي إلى النص، نشعر برغبة "جسد السادرة"، باعتباره كمون انتظاري، وطاقته كامنة تسمح بالتغّير ولكن إلى أين؟. "... أقول لك: أحبك، أقول لك: أبغضك، أقول: هيا قبلني، أصفعني، ماذا أريد منك...". ما تريد الساردة تحرير الجسد النسائي من المفاهيم المتداولة، وتأكيد الكينونة من خلال الإحساس بالأشياء والاندماج فيها. ويبقى "الجسد بمثابة الحاضن للتحوّل في الدلالات والرؤيا من المستوى الرمزي التجريدي، إلى المستوى الرمزي في الثقافة الشعبية، تماما كما لو أن الجسد أصبح ذلك الوسيط الشفّاف بين قناتي الوعي واللاوعي، وبا لتالي، تتولّد الرؤيا بفعل الصورة أو الهيئة المعطاء للجسد، والمعنى المنبعث منها"[24].

ثم تأتي (زهور كرام)، فتكسر جدار الصمت بتمرّدها وثورتها على الكثير من القيود والعوائق الاجتماعية، ولكنها لا تبرح جسدها؛ فهي تسكنه، وتكتفي بتفاصيله؛ لتكتب منها رواية تسمى: "قلادة قرنفل ".

تغدو الساردة شخصية محورية فاعلة في اختراق (جبّة العمّة).. وقد أحسنت الكاتبة في ذلك التداعي الذي يولّد من الكلمة الواحدة موضوعا من خلال السياق المونولوجي وتداعياته. جاء على لسان الساردة:


"... هو الذي حثّني على السير للقياه، كلّما هاجت نفسي، لكي أرتوي.. لكي أعانقه، أعانقني، أدور في الغرفة.. أرتطم بأشلاء حميميتي.. اختلطت فوق الأرض، تبعثرت، تمزّقت، تعريت، أشعر بالبرودة تلسعني.. برودة العري والفضح.. وأنا منتشرة غسيلا على الأرض، أفتّشني، يستعصى عليّ الأمر، أقلبني ورقة ورقة، أصبح كتابا تافها.. منسيا، ذكرى مخذولة، أين الطريق إليه. هل اغتصبوه.. سرقوه..

انتبهت إلى انسحاب الشمس من الغرفة، خرجت من النافذة دون أن أدري.. انشغلت عنها.. جمعت خيوطها وانصرفت بهدوء.

حسنا فعلت، حيث أضأت نور الغرفة.. مازلت أبحث عن الكتاب عن أثر العشق.. حيث أعياني الدوار.. ارتميت فوق السرير، وعيناي على السقف، فيما أفكر.. لا أدري.. ذهني منشغل... أعرف، أسبح في فضاءات.. أركب صورا، تحضرني كل الأسماء..."[25].


تكتب (زهور كرام) من خلال التوحّد مع جسدها، ومع ذاتها، ومن ثم، كانت الرواية معها هجرة داخل الجسد الذي ما فتئ يقف حائلا دون الصدام العلني، والمواجهة الحقيقية.

ومن أجل استفزاز النص، واستفزاز القارئ من بعد ذلك، تركن الكاتبة إلى نسق سردي تركيبي، عماده وحدات نحوية قصيرة غير مقيّدة دلاليا، تتوسّل بها للتعبير عن آفاق التجربة الإنسانية المفتوحة، ومن هنا، ترد الأفعال الموجّهة إلى الذات، لتتحوّل بعد ذلك إلى (مفعول به)، مثل: "... لكي أعانقه أعانقني، تبعثرت تعريت، تلسعني، ..."، كما نلمس التكرار المعجمي، مثل: "... أركب، أركبني،..."، الذي يتحوّل إلى مؤشّر صوتي متكرّر، يكثّف المدلول الصوتي للألفاظ.

كما نجد الكاتبة تكسّر (نمطية) الخطاب، ومألوف اللغة، فتعتمد على (المجاز)، وهي بهذا توجّه منظور الرؤية ليكون للأشياء بعدها المغاير، ونكهتها المميّزة، مثل: "... انتبهت إلى انسحاب الشمس من الغرفة، خرجت من النافذة دون أن أدري ...".

لقد أحسنت (زهور كرام) في صياغة جملها السردية، حين أقامتها على (شعرية اللغة)، من خلال الانزياح الذي يشغل ذهن المتلقي، ويربك أفق انتظاره.

فذات الساردة تفتّش دوما في الجسد، وتستأنس بظلّه، وتختبئ بداخله، وتنجذب إلى التأمل في الآخر الذي يعتبر عناقـه عناقا لجسدها وذاتها، مثل ذلك، قولها: "... لكي أعانقه أعانقني، أركبني..."

تعمل (زهور كرام) على تحرير (الآخر) بوصفه جزءا جوهريا في تحرير الذات، وتحرير الجسد. وهي بهذا، تحاول تحطيم التراث، من خلال الاختفاء وراء جدران الجسد وجغرافيته، لذا، كان التشابه النحوي والصرفي بين مفردات اللغة التي تعمل على نسق واحد، كون الكتابة يمتزج فيها المشهد المرئي الحسي بمشاعر السادرة الساعية إلى إرباك قواعد اللعبة السردية، من خلال تشتيت البرنامج السردي، من (الثابت) إلى (المتحوّل)، حيث الإفرازات الجديدة المتناسلة للتحولات المتسارعة، قصد تغذية السرد، وتحريكه، مثل تحوّل الساردة إلى غسيل، ثم إلى كتاب.. وهكذا، يبقى مسار التحولات خاضعا لنفسية السادرة، ووضعها الجسدي الباحث عن كيانه، ووجوده.

مع (آمال مختار)، نجد توظّيف الجسد يأخذ طريقة هي أقرب إلى المباشرة والحسيّة، حيث تستبد به الواقعية في صياغة المشهد، ففقد الجسد خلاها شحنته الدلالية، وضاعت رموزه الدالة، جراء سعي الكاتبة إلى الالتقاط المباشر لتلك الفاعلية المشهدية (البصرية) التي تجعل التوظّيف الجسدي ماديا، يفقد سخونته وفتنته، ويخيّب أفق انتظار القارئ، كونه يجهر ويعلن ولا يخفي، لذا، كانت نصوص (آمال مختار) السردية أبلاغية، إخبارية، أكثر من بلاغية، إشارية[26].

وعلى الرغم من ذلك، يبقى الجسد في السرد النسائي، يمثّل الومضة الإبداعية التي تحمل الكثير من الدلالات المشحونة بالاحتمالات المضاعفة، يكفي معها القول إن الجسد غدا قناعا ملازما لإبداع الأنثى، حيث "القناع يتعمّد لفت الانتباه إلى القيمة الخاصة التي تنطوي عليها المنطقة المقنّعة المستشفّة، وهكذا، تتحوّل هذه الكلمات إلى درجة أخرى من درجات البوح، وبعدا من أبعاده، وليس إلى مجرد مجاز لغوي، أو استعارة، أو تورية، أو ما سوى ذلك ممّا هو معروف في علم البلاغة..."[27].


3- جغرافية الجسد فضاء لتأثيث المساحة السردية:


يغدو الجسد (تيمة) دلالية في الرواية النسائية التي توظفه كمادّة حكائية، وكملفوظ تشخيصي وتصويري لجميع المشاهد السردية المنبثقة من الجسد، المتصلة والمنفصلة بينه وبين مظاهر الطبيعة الأخرى التي يحل فيها. نجده في البحر، والشجر، والمطر، والكون.

إن السرد عند المرأة - عموما - موازٍ لأحوال جسدها مدّا وجزرا. هنا تكمن (شعرية) السرد عندها، كون السرد يلامس الجسد، ويلتحم به مكثّفا، مشحونا، غنّيا بحمولته اللفظية التي تغطّي النص النسائي.

كما يمثّل (الجسد) أجواء الغبطة الراقصة المثيرة لذهن المتلقي، باعتباره بؤرة دلالية وإيقاعية ينطلق منها المخيال السردي النسوي، فتنفتح اللغة معه بكل طاقتها الترميزية، ومنتهى إيحاءاتها المجازية على جسد النص تمهيدا لإخصابه. و"إن وصف لغة الصورة السردية بأنها لغة مكثّفة على نحو تبدو فيه بنيتها الداخلية أو حتى شكلها الخارجي أقرب ّإلى مرتبة اللغة الشعرية "[28].

تستمدّ اللغة الشعرية، في الكتابة النسائية، طاقتها من الجسد ، حيث تمنح الفاعلية للمرأة من خلال جسدها الذي يمدها بالاندفاع والحركة تجاه الآخر، وهنا تكمن لذّة الالتحام والاختراق في إطار وعيها بالآخر المذكّر، نلمس –أثناءها - قدرة المرأة المبدعة في استثمار قدرة الجسد لتأثيث مساحتها السردية، بعيدا عن سطوة المجتمع وقيده.

فالمرأة، حين تسرد، تبدأ بنبضات أنوثتها الحالمة، حيث ينبري المخيال ألانزياحي إثرها، في استدعاء صوت الآخر وصورته، هذه الفضاءات الحالمة المهيمنة على السرد النسائي، تجتاح المرأة الكاتبة أثناء فعل سرد، فتجسّد رغبتها الأزلية في الاستئثار بمن تحب، حيث تبقى الفضاءات الترميزية المتاحة للإسقاط الفني رهينة "الجسد".

وكما أن (الذوات/ الأجساد) لا تلتقي، أو تتفاعل إلا بتجسيد أساليب النفاذ والاختراق، لتجسيد ما يمكن أن نطلق عليها (الذات الشعرية الكاملة)، فإنّ من هذا التوحدّ، أو من هذه الكثرة داخل الوحدة، ما يفتح أسئلة الوجود والحياة[29].

يمثل الجسد عند المرأة منطلق الخصوبة، والتوالد، والكينونة، إذ لا تستقيم الكتابة عندها دون هذا الجسد، إنّه الفضاء الذي تتحرّك في جغرافيته. فها هي (آمال مختار)، في روايتها "نخب الحياة"، تسبح في فضاء الجسد الذي اتخذت من جغرافيته فضاء رحبا لتأثيث سردها، تستوقفنا، بمشاهدها السردية التي لا تخرج عن حدود (المرأة / الجسد)، حيث الشهوة وحيث الشبقية المسترسلة:


"... كصبية تذهب إلى الموعد الأول لغرامها الأول.. كعاشقة تمشي في ضباب النشوة.. كصوفيّ في حضرة الإله، دخلت المقهى.. كنت كمن يبحث عن عمره الضائع، وعلى حافة الضياع التقينا.

كان كما رسمته روحي، وانتظرته أعماقي. غصنا من نار تضيء.. ارتبكت وحدست أن الأمر خطير عليّ، على سكوتي، ورتابتي، وكسلي.. لم تكن أبدا أضغاث فراغ، ولا ابتكارات الوحشة والشوق إلى تلك الفوضى التي تعطّل سير خمولي.

منذ متى لم أتجملّ، وكنت أتجمّل كل يوم ؟ .. منذ متى لم أر الكحل في عيني؟ .. منذ متى لم أتردد في اختيار عطري وألواني ؟ .. منذ زمن.. كم عمره؟.. لا أدري .. أذكر فقط أنه مرّ زمن، لم أر وجهي في المرآة.

قبل أن يجيء، انتظرته، وكنت أكره الانتظار، لكن انتظاره متعة أخرى، وكانت ثقتي بقدّومه تعتق متعتي، لحظات كان فيها كلّ من حولي أشباحا، وكنت داخل شرنقتي أشد لهفتي حتى لا تفر، وترّبكني. لم أكن أحب أن أراه قادما؛ يخترق بهو المقهى.. لم أكن أحب أن أرى خطواته تطوي المسافة إليّ، بل أن أراه، وقد انبثق أمامي فجأة، كأنه يطلع في أرضي وردة عطرة..."[30].


إن المتأمّل للمسار السردي النسائي، يجد أن تشكيل حركية نمو الحدث، وتصاعده، يتم في فضاء "الجسد" الذي تتّخذ منه المؤلفة بؤرة لتوليد محكياتها السردية، كما أن الرؤيا، عند المرأة المبدعة، تكاد تكون فلسفة للجسد، إذ "الجسد" هو الوجود، والكينونة، ومن هذا الوجود يتم الأخذ والعطاء.

والسرد الذي يتخذ من الجسد مطيّة، يمتلك القدرة على الاستقبال والتفاعل، حتى مع النصوص والذوات المهاجرة الأخرى، كما أنّ الجسد الأنثوي يملك خاصية متفرّدة، فهو منتج ومتلقٍ، وإذا كان الجنين يتكون نطفة، فمضغة، فعلقة، فجنينا، كذلك حال النصوص، تحبل بالحكاية، وتتحمل عسر الولادة التي تتم داخل الجسد وفي فضاءه. "فالميل والوصال الجسدي يجمع الحواس والأعضاء تأهبا للرعشة الحسية والوجودية، لذلك تقصد المتعة الجنسية لذاتها، ولغيرها، متخذةً من الحواس بؤرةً لتوليد المعاني"الفم، العين، الأذن، الأنف..."[31].

توظف (آمال مختار) الجسد فضاءً لتأثيث "نخب الحياة"، هذه الرواية التي تنحت من جغرافية الجسد، وعالمه، من خلال الساردة المتحررة الباحثة عن الشهوة والجنس، من خلال العلاقات الأنثوية بالآخر؛ فتسرد ثورة الجسد وتفاصيله.

وكما توظّف "الجسد"، توظف المطر، والاغتسال، والمتعة، والحلم والتوحّد، بحيث تكاد تكون مفردات الملفوظ السردي هي المعجم اللغوي الجسدي الذي يشكّل لوحة مؤطّرة لجغرافيته، تحت غطاء البوح، ووجع الأنوثة، والالتحام بالآخر، من هنا تتوالد الوحدات السردية بتوالد الشخصيات، فتسهم في تفعيل العوالم السردية المنتشية بالحلم والحب والجنس، ويبقى صنع الحكاية عن طريق التداعي والأحلام.

ولو أردنا تأمل المحكي الذاتي عند (أمال مختار)، وتمثّلاته في النص، نجد أن هذه التمثّلات لا تكاد تخرج عن "الجسد"؛ فحين تقول الساردة: "...منذ متى لم أتجمّل، وكنت أتجمل كل يوم ؟ .. منذ متى لم أر الكحل في عيني..."، تكون الحكاية بضمير المتكلّم والحاضر، ممثّلة ضمير الفاعل.

تنطلق الروائية من عالمها الحميمي، عالم جسدها، تريد أن تفجّر تلك الرغبات المكبوتة، مما يجعل الحضور السردي، وفق شكلين متطابقين: "أنا الساردة، وأنا الفعل". حيث الفعل يتمثّل في صياغة العالم الداخلي من موقع المرأة الفاعلة في سوغ بناء عالمها التخييلي: " ... قبل أن يجيء، انتظرته.. كنت أكره الانتظار، ولكن انتظاره متعة أخرى.. كانت ثقتي بقدومه تعتق متعتي...".

وتشخّص (آمال مختار) أحداثها التخييلية من موقع كون الساردة تمثّل شخصية محورية في الرواية، وفاعلة في (زمن السرد)، و(زمن الفعل)، من خلال الحكاية عن عالمها الحميمي الذي يستمدّ طاقته من وجع الجسد ورغباته. هذا التزاوج بين السرد والفعل، جاء نتيجة تزاوج العالم (الخارجي) بالعالم (الداخلي) الذي تعيشه الساردة.


إن تجلّي عنصر الأفعال المرتبطة بالضمير، مثل: "...كنت أكره.. لم أتجمل.. لم أتردّد.. لم أره..."، تثبت تمظهرات الحياة الداخلية للساردة، من خلال التأكيد على الفعل المرتبط بنفسية الشخصية التي نجدها ساردة وفاعلة في الأحداث.

(فضيلة فاروق)، لا تختلف عن (آمال مختار)، في روايتها "اكتشاف الشهوة "، حيث توظف جغرافية الجسد في كلّ وحداتها السردية المختلفة حكائيا، والمؤتلفة دلاليا؛ فهي أشبه بتنويعات مختلفة تضرب على وتر واحد مؤتلف هو "الجسد". فالجسد هو الذي يؤطّر هذه الرواية، ومغامرة الجسد هي هاجسها ومرجعها الذي يؤلّف بين وحداتها. ورد على لسان الساردة، الشخصية البطلة في هذه الرواية:


"... قبلة "إيس" كانت تلك أخطر المنعرجات في حياتي.. أخطرها على الإطلاق قبل أن أتحوّل إلى امرأة أخرى تشبه سيل مطر صيفي هائج، لا يفرق بين الحجارة والكائنات. قبلة "أيس" كانت قبلة الصباح الماطر، والبرد الذي غامر من أجل حفنة من الدفء، والرضاب الذي سقى شتائل الشهوة، وأيقظ كل شياطين الدنيا؛ لإقامة حفلة تنكرية مجنونة، في سهل مقفر..."[32].


(فضيلة فاروق) في روايتها، تشكّل سردها من شرايين الجسد الملتهب وتأخذ جميع صورها منه، تضيء نصها بعلاقات التماثل بين الرموز والمعاني، والجسد الذي تطارده ويطاردها في آن واحد، وهذه من خصوصية التعبير النسائي الذي يستمد مادته من الجسد المؤشّر الأولي على الكون والوجود، ومن خلال قراءتها لتضاريس الجسد تقرأ هويتها وأسرارها.

وإذا كان الجسد يستهل مهمّة الوظيفة الشعرية للغة، ويفجّر تلك الطاقة الكامنة، حين تمتزج عناصر الوجود المادي بالكيان الجسدي، فإنّ قانون التماثل عند الساردة يولّد عناصره السردية؛ نلمس ذلك في مثل قولها: "...قبلة الصباح الماطر، والبرد الذي غامر من أجل حفنة من الدفء..."؛ فالصباح، والبرد، والكون، والمطر، والريح، وما شابه ذلك.. تأخذ من الجسد مذاقه ونكهته، لتتحول الكاتبة، من فضاء الجسد وتخومه إلى رحاب الكون والوجود، بل "تحفر اللغة على الجسد، فيصير الجسد لغة في لغة، ومن هنا، تبدو الأبجدية والكتابة ليست سوى تموضع في المكان، فهي وشم في جسد الكون"[33].

لغة الجسد حاضرة في السرد النسائي، تنسج النص من الجسد، بكلّ ما تعنيه الكلمة، (نسيج النص/ نسيج الجسد) هذا المصطلح الذي يرجعه - جان فرانسوا جان ديلو jean – froncois jean dillou - ، إلى أصله الذي يربط النص بالنسيج. إن النص بموجب أصله الإيتيمولوجي (من اللاتينيةtissus وtextus، المشتق من الفعل: texture، أي: نسج، فتل..) حيث يغدو شبيها بالنسج tissage [34].

إنّ سرد المرأة إثبات لحقيقة الذات وكينونتها، كينونة الجسد التي تختبئ داخل ظلّه، وتنجذب إلى التأمل بوجوده، حيث عالم المرأة الأنثوي راقد ساكن في جسدها، قابل للتحرك بحيويتها وانطلاقاتها، وما تقوله المرأة هو من قبيل الحكاية الرامزة بجملة عناصر جسدها المتوازية والمتقاطعة بين نصّها وجسدها.

وها هي (أحلام مستغانمي) تزاوج بين الجسد وشعرية اللغة، تبدأ من تضاريس الكلمات القائمة على تجسيده، حيث نشعر بتلك (الإيروسية) الممتعة بشعرية مكثفة، قائمة على تراسل الدلالات والأشياء في بوتقة التجربة الكلية للجسد. ورد على لسان الساردة التي تغامر وتجازف من أجل هذا الآخر الحبيب والعشيق:


"... ومنذ البدء، كنت أدري تماما أن الأسئلة تورّط عشقي، لم أكن أعرف أنه، مع هذا الرجل بالذات، تصبح الأجوبة – أيضا - انبهارا لا يقل تورطا. أحب أجوبته، وأعترف أنني كثيرا ما لا أفهم ما يعنيه بالتحديد.كثيرا ما يبدو لي، كأنه يحدث امرأة غيري، عن رجل آخر، ولكنني أحب كل ما يقول، ربما لأنني مأخوذة بغموضه.

أقول، وأنا أعبث بيده: " أحبك.. حررني قليلا من عبوديتك".. يحتضنني، ويسحبني نحوه قائلا: "الحب أن تسمحي لمن يحبك بأن يجتاحك، ويهزمك، ويسطو على كل شيء. هو أنت.. لا بأس أن تنهزمي قليلا.. الحب حالة ضعف، وليس حالة قوة، ولكن.. ولكن.. لأنك لم تع هذا.. أنت تكررين خطأ سبق أن ارتكبته في كتاب سابق.

أريد أن أسأله متى حدث هذا، وفي أي كتاب، ولكن شفتيه تسرقان أسئلتي، وتذهبان بي في قبلة مفاجئة.. كأجوبة، فأستسلم لاجتياح شفتيه لي، وكأنني أريد أن أثبت، مع كل مساحة تسقط تحت سطوة رجولته، كم أنا أحبه..."[35].


تراهن (أحلام مستغانمي) على سلطة اللغة، وسطوة الجسد المؤنث؛ فهي تحسن لعبة المجاز والسرد حين تتعامل مع اللغة، بوصفها مجازا محبوكا ومشفّرا، وهو يشتغل على النص الأنثى، والجسد الأنثوي، حيث تجد المساحة الوافرة لمعجمها اللغوي الذي يستمد مادّته من تفاصيل الجسد.

وبما أن النص "بناء لغوي، يتمظهر داخل سلسلة تركيبية ودلالية متعددة المسارات والمستويات"[36]، فإنه يتيح للمرأة أن تكتب نصّها الأنثوي في جسده وفي دلالته، كما نلمس سيطرة البعد العاطفي الخيالي فيه، وانجذابها إلى الآخر المذكّر الذي لا يمكن أن تعيش بدونه. "فالمرأة في صورتها الذهنية الراسخة، كائن اندماجي، وليس مستقلا "[37].

توظف (أحلام مستغانمي) المخيال الانزياجي لتجسّيد ملامح الذات الأنثوية من الجسد الذي يعتبر الفضاء المهيمن على أفق فضاء النص السردي، حيث الرؤية الرامزة المحمّلة بالتأويل الثقافي المؤثّر. وقد وجدت الرؤية النسائية في فضاء الجسد فضاء ملائما للإسقاط الفني، تجتاز الذات المتكلمة به عالمها الراهن، في اتجاه فضاءات باهرة، تمنحها نشوة سرابية، بوصفه فضاءً مناسبا لشعرية السرد واللغة التصويرية.

إنّ ما هو مكتوب موجود في الطبيعية، والمرأة، حين كتبت نصّها، كتبت جسدها المغيّب، ليفرض حضوره وكينونته. فكان نصا أنثويا مثبتا بالكتابة – على حدّ قول (بول ريكور)" نسمي نصا كل خطاب مثبت بالكتابة ، ومن خلال هذا التعريف فإن التثبيت بالكتابة يكون النص ذاته".[38] فالمرأة، حين تكتب نصّها، نجدها فعلا وفاعلا، وأنموذجا ولغة، وقد نلمس "تعامل المرأة مع اللغة، في سبيل التحوّل من كونها موضوع أو مجاز لغوي، أي من مجرد مفعول به إلى فاعل، حيث تدخل تاء التأنيث على الفاعل اللغوي، ويدخل الضمير المؤنّث على المرجع النحوي، وحيث تقلب المرأة أوراق اللعبة؛ فتدخل الرجل معها، في سجن اللغة، ويتقابل المسجون مع السجّان، ويتبارى الرجل والمرأة، في مناورة ما بين الأنوثة والفحولة، وتأتي رواية "ذاكرة الجسد" كمثال على هذا الانقلاب اللغوي"[39].






[1]- سعيد بنكراد، السيمايئات، مرجع سابق، ص.141.
-[2] منذر عياشي، الكتابة الثانية وفاتحة المتعة، مرجع سابق، ص.35.
-[3] فوزية شلابي، رجل لرواية واحدة، ص.65 - 66.
[4]- آمال مختار، نخب الحياة، صص23- 24.
[5]- فضيلة فاروق، اكتشاف الشهوة، ص.32.
-[6] فضيلة فاروق، اكتشاف الشهوة، ص.39.
[7]- فضيلة فاروق، اكتشاف الشهوة، ص.41 - 42.
-[8] أحلام مستغانمي، ذاكرة الجسد، ص.91.
-[9] عبد القادر الغزالي، الصورة الشعرية وأسئلة الذات، ص.148.
[10]- صلاح فضل، أساليب الشعرية المعاصرة، دار الآداب،بيروت، ط.1، 1995، ص.19.
[11]- زهور كرام، قلادة قرنفل، ص. 16 - 17
[12]- غاستون باشلار، جماليات المكان، تر: غالب هلس، ص.145.
[13]- أحلام مستغانمي، ذاكرة الجسد، صص133 - 135.
[14] - منذر عياشي، الكتابة الثانية وخاتمة المتعة، مرجع سابق، ص.47.
[15] - المرجع نفسه، ص. 39 .
[16] - فاطمة الوهيبي، المكان والجسد والقصيدة (المواجهة وتجليات الذات)، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط.1، 2005، ص. 43.
[17] - نفسـه، ص. 13.
[18] - أحلام مستغانمي، فوضى الحواس، ص. 287.
-[19] أحلام مستغانمي، ذاكرة الجسد، ص. 133 - 134 .
[20] - أحلام مستغانمي، فوضى الحواس، ص 288- 289.
-[21]ينظر، فضيلة فاروق، اكتشاف الشهوة،مصدر سابق
[22] - فوزية شلالي، رجل لرواية واحدة، ص. 97.
[23] - صلاح صالح، سرد الآخر (الأنا والآخر عبر اللغة السردية)، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط.1، 2003، ص. 161.
-[24] محمد الحرز، شعرية الكتابة والجسد (دراسات حول الوعي الشعري والنقدي)، مطبعة الانتشار العربي، بيروت، ط.1، 2005، ص. 33.
-[25] زهور كرام، قلادة قرنفل، ص.167.
[26] - آمال مختار، نخب الحياة، مصدر سابق
[27] - صلاح صالح، سرد الآخر، مرجع سابق، ص.161
-[28] عثمان بدري، وظيفة اللغة في الخطاب الروائي الواقعي عند نجيب محفوظ (دراسة تطبيقية)، موفم للنشر والتوزيع، الجزائر، 2000 ،ص. 216 .
[29] - عبد القادر الغزالي، الصورة الشعرية وأسئلة الذات، مرجع سابق، ص. 85.
[30] - آمال مختار، نخب الحياة، صص. 27-28.
[31] - عبد القادر الغزالي، الصورة الشعرية وأسئلة الذات، مرجع سابق، ص. 150.
[32]- فضيلة فاروق، اكتشاف الشهوة، صص. 30 - 31 .
[33] - فاطمة الوهيبي، المكان والجسد والقصيدة، مرجع سابق، ص. 13.
[34]- Jeon – fromcais jendillou, l'analyse textuel, Armand Collin/Masson. Paris, 1997, p.29.
[35]- أحلام مستغانمي، فوضى الحواس، صص 261 - 262 .
[36]- أحمد اليبوري، دينامية النص الروائي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط.1، الرباط، 1993، ص.67.
[37]- عبد الله الغذامي، المرأة واللغة، مرجع سابق، ص. 131.
[38]- Paul Ricoueur, Du texte a l‘action, Edition Seuil, 1986, P15 .
[39] - عبد الله الغذامي، المرأة واللغة، ص. 180.




د/ ابن السايح الأخضر
قسم اللغة العربية / جامعة عمار ثليجي
الأغواط / ولاية الأغواط
الجزائر
 
أعلى