نقوس المهدي
كاتب
وما أدراك ما الاسترقاق! (2/3)
نواصل رحلتنا مع كتاب مالك شبل "الاسترقاق في أرض الإسلام":
الغلمان والعبيد المحاربون
تاريخ الأسر الحاكمة الإسلامية مليء بالقصص حول استرقاق الغلمان، الذي أسس العباسيون لقواعده بدءا من القرن الثامن كما يحكي أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني.
الحلقة الأولى
وقد لجأت كل الأسر الحاكمة الكبرى لاستخدام العبيد المحاربين، أساسا من الشراكسة أو الأتراك أو الأفارقة المجلوبين من مناطق بين السنغال والسودان. أمويو قرطبة كان لديهم بدءا من سنة 750 ما لا يقل عن 30 ألف عبد محارب، بينما كان لدى العباسيين في بغداد (750ـ1250) عشرة أضعاف هذا. وفي نفس الوقت، قام حكام مصر من الطولونيين (868ـ905) باستخدام العبيد المحاربين بطريقة هائلة، فكان هناك 80 ألف لدى ابن طولون، غالبيتهم من الأتراك والسود. وفيما بعد قام الفاطميون (909ـ1171) بنفس الشيء.
هكذا، فمن الهند حتى المغرب لم تكن هناك أرض إسلامية لم تلجأ لاستغلال دماء العبيد في الحروب أو لعرقهم في الزراعة وتسوية الأراضي والصباغة وغيرها. وهؤلاء أطلق عليهم "غلمان" في الهند وفارس، و "مماليك" في مصر.
أكبر أعداد العبيد المحاربين كان ميليشيات المماليك، الذين كانوا يُشترون أو يُسبون خلال المعارك الدائرة على أطراف الإمبراطورية الإسلامية ـ أي من روسيا والمجر وحول بحر قزوين أو البحر الأسود. وبدءا من عصر صلاح الدين (1138ـ1193)، بدأ التحول الكبير في نظام العبيد المحاربين الذين كان السلاطين يجندونهم لحمايتهم والدفاع عنهم، إذ بدأ استخدام أجيال عديدة من العبيد المجلوبين كجنود في جيوشه، بينما تمتعت الرتب العليا منهم بالمزايا والنفوذ. وبعدها بأقل من قرن تحول المماليك إلى أرستقراطية عسكرية مهيبة واستولوا على السلطة السياسية في مصر وسوريا لثلاثة قرون (1250ـ1517) لحين تدهورهم تحت ضربات القوة العثمانية.
المخصي أو العبد بالكامل
كانت الصين الدولة الأكثر خبرة في هذا الميدان واستفاد منها الآخرون، بينما يعود التقليد إلى الإغريق الذين أطلقوا على المخصي "حارس السرير" (eunoukhos) ومنها التعبير في اللغات الأوروبية (eunuque, eunuch) وتعبير "النخاسة" بالعربية الذي امتد استعماله لكي يشمل كافة أنواع تجارة العبيد.
كان استخدامهم منتشرا في أروقة العالم الإسلامي في مهام مختلفة. بجانب مخصيي الحريم (الموكل إليهم مهام حراسة ورعاية الحريم، إذ أن وجود الخصيان في الحريم لا يلزم المرأة المسلمة على التحجب)، كان هناك مخصيو الديوان الحكومي. وأيضا استُخدموا حول الأماكن المقدسة للفصل بين جموع المؤمنين بحسب الجنس.
كانت هناك مراكز (مصانع!) للإخصاء حتى نهاية القرن 19 حيث يقوم الأطباء، عادة من اليهود، بالعملية للأولاد العبيد (بين 10 و 15 سنة) الذين يباعون بعدها في الأندلس (حتى سقوطها) وباقي أنحاء العالم الإسلامي. وكانت العملية دقيقة وشديدة الخطورة إذ تقترب من مراكز حيوية، وكثيرا ما تؤدي للموت، بنسبة النجاح لا تزيد عادة عن 10%. وفي نموذج نادر لتكافل أتباع الديانات التوحيدية، اشترك في هذه الجريمة التاريخية التاجر أو المستهلك العربي والطبيب اليهودي وأيضا راعي الفنون المسيحي (استُخدم الخصيان في روما وبيزنطة في القرن 16 كمغنين ذوي أصوات حادة بدلا عن النساء، وبعدها كمغنين أوبرا).
طرق الاستجلاب
كانت هناك خمس طرق رئيسية: 1) بطول الساحل الأفريقي من زنجبار حتى جيبوتي لتغذية أسواق مصر وما بين النهرين وفلسطين؛ 2) أو حول شبه الجزيرة نحو الخليج الفارسي ثم الهند؛ 3) من جنوب ليبيا (تشاد وفزان) حتى ساحل البحر الأبيض ثم بالمراكب إلى صقلية وفينيسيا وشرق البحر الأبيض؛ 4) من حوض السودان الغربي ومالي والنيجر عبر نواكشوط (موريتانيا) نحو المغرب؛ 5) مصادر العبيد البيض السلاف أو الصقالبة من القوقاز والأناضول والبلقان والمجر وروسيا وبولندا عبر طرق برية وبحرية نحو اسطنبول. وكان يجري البحث والخطف كذلك على شواطيء البحر الأدرياتيكي والبحر الأسود.
خلال الفترة بين القرن 15 و17 كان البحر الأبيض المتوسط أخطر بحار العالم لانتشار القراصنة الذين يهاجمون المراكب ويستولون على حمولتها ويبيعون كل من عليها كعبيد. ومن أشهرهم عروج بارباروسا (أي "ذي اللحية الحمراء" 1474ـ1515) وأخوه خير الدين (1476ـ1546) وكانوا يعملون من الجزائر.
الأعداد والأسعار
الاسترقاق ظاهرة فضيحة، والمبدأ فيه أهم من العدد. لكن درجة رعبه تتبدى في الأرقام والاتساع المكاني والزماني للممارسة وكونها عادية لا تثير الاهتمام. وهي الخصائص التي ميزته في العالم الإسلامي إذ دام قرونا وراح ضحيته أعداد هائلة من العبيد المباعين والمشترين أو المسلوبين خلال غزوات، أو المولودين كعبيد (القن والقنة والقنان). ولم تشكل الأخلاقيات التي حث عليها القرآن أي عائق أمام انتشاره. بل إن بعض الملوك والسادة في أراضي أفريقيا قد ساهموا في اصطياد وبيع بني جلدتهم.
يقول باحثون (بناء على توثيق تاريخي بأساليب مختلفة) أن ما بين 15 و30 مليون من العبيد السود قد تركوا القارة الأفريقية منذ بدء الاسترقاق الشرقي (العربي) وحتى نهاية القرن 16، ويقول آخرون أن رقم العبيد المجلوبين للمغرب فقط في القرن 16 وحده ربما بلغ 2 مليون. وهناك تقديرات أخرى تضع الرقم الإجمالي بين 21 و22 مليونا.
في سوق تومبوكتو، بمالي، (القرن 19): كان الصبي (4ـ10 سنين) يساوي 50ـ80 فرنك ذهب والصبية 80ـ160 والغلام (11ـ 16 سنة): 150ـ200 والفتاة 200ـ250 والبالغ يساوي من 100ـ300 حسب جودته. أما في السعودية في سنة 1958 فقد كانت الفتاة تباع بـما يعادل 400 ألف فرنك (أي حوالي 620 يورو، بعملة هذه الأيام لكن بأسعار ذلك الزمن)، وهو ضعف ثمن الرجل. وكان بعض الحجاج يتركون عبيدهم في الحجاز باعتبارهم "زكاة".
فقه الاسترقاق عند العرب
يقول المؤلف أن من أكثر ما أدهشه عند إعداد كتابه، أمرٌ مزعج ومحبط لم يكن يود اكتشافه: وهو وجود عدة مجموعات فقهية مختلفة حول الرق، تشترك في ذات الاهتمام بكيفية تقنينه وتحديد السعر ومعاقبة الغشاشين في البضاعة ومطاردة ومعاقبة العبيد الهاربين وحسابات الإرث أو تكاليف العتق.
وقد ترك العديد من المؤلفين، أشهرهم المختار ابن الحسن ابن بطلان (ت 1063)، كتابات مفصلة جدا تساعد المشترين على عدم الوقوع في أخطاء ومراجعة أدق التفاصيل حيث يبين كيفية اختيار العبد ومقاساته وعمره وجنسه ولونه وتعليمه واستخداماته. وأسدى صاحب مقدمة ابن خلدون (1332ـ1406) النصائح: إذ كان يرى أن هناك أربعة أنواع من الخدم العبيد: الشاطر والأمين، لا هذا ولا ذاك، أو أحد الأمرين؛ ويعدد فوائد وعيوب كل حالة.
وقد أمكن لأشهر علماء الدين المسلمين أن يخطوا بأيديهم شروط العبودية مما يدل على أن المسجد لم يكن محايدا أمام هذه الجريمة. وبدلا من أن يهاجم جذورها، أي جشع التجار وإجرامية المالكين، قدم لهم السبل القانونية لممارسة تجارة أصبحت، نتيجة لهذا، عادية جدا. وكان القبول بالاسترقاق، عجزا عن إمكانية إصلاحه أو إلغائه، هو في حد ذاته أمرا شاذا. أما كتابة قوانين للاسترقاق (حتى لو اشتملت على مواد حول العتق) فهو أعلى درجات التشوه الأخلاقي.
نشأ كل هذا في قصور الخلفاء منذ نهاية القرن السابع، ما لم يكن منذ عهد عمر بن الخطاب نفسه (كما تذكر عدد من المصادر المستقلة مثل المصري منصور فهمي في أوائل القرن العشرين). وكان تأثير التجار قويا، إذ سعوا إلى وضع قناع أخلاقي على تجارتهم.
ويلاحظ أن تجارة الرقيق عبر الأطلنطي بعد اكتشاف أمريكا كانت مركزة زمنيا (من نصف القرن 15 إلى 18) وكان الرق اقتصاديا اقتصر على الحاجات الملحة للوقت، كما لم يكن هناك قانون "أسود" بمعنى الكلمة. بينما في الإسلام السني كان هناك منظومة من القوانين والتعاليم المتشعبة التي تعالج المسألة من كافة الجوانب مثل الزواج والطلاق والتجارة والإرث. هذا الفقه المتكامل يمكننا من أن نتفهم بدقة العقلية الاسترقاقية السائدة في القرون الأولى للهجرة، عبر فحص وضع العبيد في ضوء مسائل الجهاد؛ الاعتراف والحنث باليمين والغش؛ البيع للمسلمين والغير؛ والجنس.
وقد استند الفقه إلى نصوص دينية تتعلق بقواعد الزواج مع الجواري وأسرى الحرب ـ القتل الخطأ ـ قواعد العتق ـ أسرى النبي ـ شراء المأسورين ـ عدم المساواة بين الأفراد ـ زواج المحارم ـ الطبقات ـ حكم العبد الذي يحاول التحرر (يكفر).
هناك العديد من الأمور، مثل: إرث عبد كافر، إذا مات بعد عتقه، هو للمسلمين إذا مات على دينه، أو لسيده السابق (مولاه) إذا مات مسلما. العبد المذنب يعاقب بنصف عقوبة الحر، خمسون جلدة بدل مئة في حالة الزنا، وثمانون بدل 160 في حالة شهادة الزور (40 للجارية). أما الدية فقد اختلف حولها الفقهاء. في زمن الحرب يستخدم العبد كثمن يقايض به أو دية، طبقا لشريعة العين بالعين، أو يصبح بديلا للنقود في زمن السلم.
أما عن قواعد العتق، فإن العبد المسلم يُعتق إذا قام بعمل بطولي في خدمة سيده أو الأمة، أو إذا وُلد كابن (معترف به) لأب حر وأم جارية. من قتل مؤمنا بدون أن يعرف أنه مسلم عليه عتق عبد أو دفع دية لأسرته (سورة 4 آية 92). وفي حالة شهادة الزور (سورة 5ـ92) على المذنب إطعام عشرة فقراء أو عتق عبد أو صوم ثلاثة أيام.
هناك مجموعات فقه الرق: أهمها، وعينات سريعة مما تشمله:
أولا: مدونة ابن القاسم التي دققها الفقيه المالكي صحنون في القيروان (776ـ854)، وفيها يستعين بعدد من تعليقات الإمام الشافعي (767ـ820)، وتقع في 68 مادة. أهم الأبواب:
ـ في الجهاد. حماية عبد المسلم في الحرب. إذا آمن عدو ثم جاء لأرض الإسلام فإن كل ما تركه وراءه (بما في ذلك ذويه) يظل "فيئا" (سليبة حرب) للمسلمين. العبد المحارب ليس له نصيب في سلائب الحرب، لكن للحاكم أن يهبه جزءا.
ـ في أهل الذمة: عموما يصرح لهم باقتناء العبيد، بشرط ألا يكونوا مسلمين أو أن يعطي الذمي ملجأ لعبد هارب من سيد مسلم. الذمي الذي ينقض عهد الذمة ويصبح محاربا ثم يقبض عليه يصبح فيئا (؟)
ـ حالة عبد لعدو دخل الإسلام وهو في أرض العدو ثم بيع لمسلم، يبقى عبدا. لكن إذا أخذ فيئا (سليبة حرب) للمسلمين يُعتق.
ـ إذا زنت الجارية تُجلد ولا تُرجم مثل الحرة (طبقا لحديث شريف).
ـ كتاب الاعتراف وشهادة الزور. إذا كذب العبد يمكن أن يقدم كفارة بالصوم (مثل الحر).
ـ دية العبد هي ثمنه.
ـ كتاب البيع والبيع المشروط بالنفاذ بعد فترة زمنية محددة.
ـ كتاب التجارة في أرض العدو. لا يمكن لذمي أن يمتلك مسلما. يمكن بيع عبد مسيحي لمسيحي لكن ليس لوثني. وإذا تحول أحد عبيد الذمي للإسلام يجب عرضه في السوق لبيعه بأعلى سعر لسيد مسلم. إذا كان العبد المتحول مرهونا ففي الأمر قولان. قواعد السن التي يمكن عندها فصل الأم عن طفلها ـ لكن لا يعتد بالقاعدة عند شراء كافرة أجنبية. إذا تحول أحد زوجين من العبيد الذميين للإسلام، يصبح الأولاد القصر مسلمين.
ـ كتاب الغش. شراء عبد على أنه من جنس معين ويتضح أنه من آخر يعتبر غشا.
ـ كتاب الملكية الجنسية: السيد يمتلك عورات الجارية وبطنها (جنينها) وظهرها (جهدها). العبد لا يمكنه الزواج بدون إذن سيده، لكن لا يمكن للسيد أن يجبره على زواج معين. ليس من حق العبد تزوج أكثر من امرأتين (وليس أربعة). العبد لا يحق له التسري. حق التطليق يقتصر على مرتين بدل ثلاثة وعدة الطالق شهرين بدل أربعة، وفي حالة موت الزوج عدتها النصف أي ستة أسابيع. لا يمكن لجارية أن تشارك زوجة حرة في زوجها. نصيب الجارية (في عدد الليالي) نصف الحرة. ابن الجارية عبد لسيده (إذا اعترف ببنوته). لا يوجد حد لعدد السرايا (مما ملكت الأيمان).
ثانيا: مختصر القدوري (974ـ1039) عن الفقه الحنفي (ابن حنيفة 699ـ768):
ـ كتاب العبد الهارب: إذا هرب عبد ووجده شخص ثم رده لسيده من مسافة ثلاثة أيام سير أو أكثر، من حقه مكافأة أربعين درهم. تقل المكافأة تناسبيا مع المسافة، لكن إذا كانت قيمة العبد أقل من أربعين درهما تكون المكافأة هي ثمن العبد ناقص درهم واحد.
ـ كتاب العبد المأذون له بالتجارة
ـ كتاب العتق. يكون العتق قانونيا إذا قام به شخص حر كامل العقل. ويكفي أن يقول "أنت معتوق" حتى لو لم يكن ينوي العتق. لكن إذا قال له "ليس لي حق امتلاكك" يصح العتق فقط إذا كان ينويه. إذا عتقت جارية حامل يعتق الجنين معها. لكن إذا اعتق السيد الجنين وحده فلا يسري العتق على الأم.
ـ عن العتق المربوط بوفاة السيد: يصبح العبد "مدبرا" لا يمكن بيعه أو وهبه.
ـ كتاب الولاء: بعد عتق العبد يصبح من موالى سيده السابق. إذا تزوج عجمي من جارية عربية معتوقة يصبح أطفالها منه من موالي المرأة.
وقد قدم المؤلف، كأحد ملاحق الكتاب، عددا من الآيات المتعلقة مباشرة بالرق مثل 2ـ177 و 2ـ178 و 2ـ221 و 4ـ3 و 4ـ24 و 4ـ25 و 4ـ92 و 5ـ89 و 8ـ70 و 9ـ60 و 16ـ73 و 23ـ1 إلى 7 و 24ـ32 و 24ـ33 و 24ـ58 و 30ـ28 و 33ـ50 إلى 55 و 43ـ32 و 47ـ4 و 58ـ3 و 70ـ19 إلى 31 و 76ـ8 و 90ـ10 إلى 16.
***
وإلى مقال ثالث وأخير
نواصل رحلتنا مع كتاب مالك شبل "الاسترقاق في أرض الإسلام":
الغلمان والعبيد المحاربون
تاريخ الأسر الحاكمة الإسلامية مليء بالقصص حول استرقاق الغلمان، الذي أسس العباسيون لقواعده بدءا من القرن الثامن كما يحكي أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني.
الحلقة الأولى
وقد لجأت كل الأسر الحاكمة الكبرى لاستخدام العبيد المحاربين، أساسا من الشراكسة أو الأتراك أو الأفارقة المجلوبين من مناطق بين السنغال والسودان. أمويو قرطبة كان لديهم بدءا من سنة 750 ما لا يقل عن 30 ألف عبد محارب، بينما كان لدى العباسيين في بغداد (750ـ1250) عشرة أضعاف هذا. وفي نفس الوقت، قام حكام مصر من الطولونيين (868ـ905) باستخدام العبيد المحاربين بطريقة هائلة، فكان هناك 80 ألف لدى ابن طولون، غالبيتهم من الأتراك والسود. وفيما بعد قام الفاطميون (909ـ1171) بنفس الشيء.
هكذا، فمن الهند حتى المغرب لم تكن هناك أرض إسلامية لم تلجأ لاستغلال دماء العبيد في الحروب أو لعرقهم في الزراعة وتسوية الأراضي والصباغة وغيرها. وهؤلاء أطلق عليهم "غلمان" في الهند وفارس، و "مماليك" في مصر.
أكبر أعداد العبيد المحاربين كان ميليشيات المماليك، الذين كانوا يُشترون أو يُسبون خلال المعارك الدائرة على أطراف الإمبراطورية الإسلامية ـ أي من روسيا والمجر وحول بحر قزوين أو البحر الأسود. وبدءا من عصر صلاح الدين (1138ـ1193)، بدأ التحول الكبير في نظام العبيد المحاربين الذين كان السلاطين يجندونهم لحمايتهم والدفاع عنهم، إذ بدأ استخدام أجيال عديدة من العبيد المجلوبين كجنود في جيوشه، بينما تمتعت الرتب العليا منهم بالمزايا والنفوذ. وبعدها بأقل من قرن تحول المماليك إلى أرستقراطية عسكرية مهيبة واستولوا على السلطة السياسية في مصر وسوريا لثلاثة قرون (1250ـ1517) لحين تدهورهم تحت ضربات القوة العثمانية.
المخصي أو العبد بالكامل
كانت الصين الدولة الأكثر خبرة في هذا الميدان واستفاد منها الآخرون، بينما يعود التقليد إلى الإغريق الذين أطلقوا على المخصي "حارس السرير" (eunoukhos) ومنها التعبير في اللغات الأوروبية (eunuque, eunuch) وتعبير "النخاسة" بالعربية الذي امتد استعماله لكي يشمل كافة أنواع تجارة العبيد.
كان استخدامهم منتشرا في أروقة العالم الإسلامي في مهام مختلفة. بجانب مخصيي الحريم (الموكل إليهم مهام حراسة ورعاية الحريم، إذ أن وجود الخصيان في الحريم لا يلزم المرأة المسلمة على التحجب)، كان هناك مخصيو الديوان الحكومي. وأيضا استُخدموا حول الأماكن المقدسة للفصل بين جموع المؤمنين بحسب الجنس.
كانت هناك مراكز (مصانع!) للإخصاء حتى نهاية القرن 19 حيث يقوم الأطباء، عادة من اليهود، بالعملية للأولاد العبيد (بين 10 و 15 سنة) الذين يباعون بعدها في الأندلس (حتى سقوطها) وباقي أنحاء العالم الإسلامي. وكانت العملية دقيقة وشديدة الخطورة إذ تقترب من مراكز حيوية، وكثيرا ما تؤدي للموت، بنسبة النجاح لا تزيد عادة عن 10%. وفي نموذج نادر لتكافل أتباع الديانات التوحيدية، اشترك في هذه الجريمة التاريخية التاجر أو المستهلك العربي والطبيب اليهودي وأيضا راعي الفنون المسيحي (استُخدم الخصيان في روما وبيزنطة في القرن 16 كمغنين ذوي أصوات حادة بدلا عن النساء، وبعدها كمغنين أوبرا).
طرق الاستجلاب
كانت هناك خمس طرق رئيسية: 1) بطول الساحل الأفريقي من زنجبار حتى جيبوتي لتغذية أسواق مصر وما بين النهرين وفلسطين؛ 2) أو حول شبه الجزيرة نحو الخليج الفارسي ثم الهند؛ 3) من جنوب ليبيا (تشاد وفزان) حتى ساحل البحر الأبيض ثم بالمراكب إلى صقلية وفينيسيا وشرق البحر الأبيض؛ 4) من حوض السودان الغربي ومالي والنيجر عبر نواكشوط (موريتانيا) نحو المغرب؛ 5) مصادر العبيد البيض السلاف أو الصقالبة من القوقاز والأناضول والبلقان والمجر وروسيا وبولندا عبر طرق برية وبحرية نحو اسطنبول. وكان يجري البحث والخطف كذلك على شواطيء البحر الأدرياتيكي والبحر الأسود.
خلال الفترة بين القرن 15 و17 كان البحر الأبيض المتوسط أخطر بحار العالم لانتشار القراصنة الذين يهاجمون المراكب ويستولون على حمولتها ويبيعون كل من عليها كعبيد. ومن أشهرهم عروج بارباروسا (أي "ذي اللحية الحمراء" 1474ـ1515) وأخوه خير الدين (1476ـ1546) وكانوا يعملون من الجزائر.
الأعداد والأسعار
الاسترقاق ظاهرة فضيحة، والمبدأ فيه أهم من العدد. لكن درجة رعبه تتبدى في الأرقام والاتساع المكاني والزماني للممارسة وكونها عادية لا تثير الاهتمام. وهي الخصائص التي ميزته في العالم الإسلامي إذ دام قرونا وراح ضحيته أعداد هائلة من العبيد المباعين والمشترين أو المسلوبين خلال غزوات، أو المولودين كعبيد (القن والقنة والقنان). ولم تشكل الأخلاقيات التي حث عليها القرآن أي عائق أمام انتشاره. بل إن بعض الملوك والسادة في أراضي أفريقيا قد ساهموا في اصطياد وبيع بني جلدتهم.
يقول باحثون (بناء على توثيق تاريخي بأساليب مختلفة) أن ما بين 15 و30 مليون من العبيد السود قد تركوا القارة الأفريقية منذ بدء الاسترقاق الشرقي (العربي) وحتى نهاية القرن 16، ويقول آخرون أن رقم العبيد المجلوبين للمغرب فقط في القرن 16 وحده ربما بلغ 2 مليون. وهناك تقديرات أخرى تضع الرقم الإجمالي بين 21 و22 مليونا.
في سوق تومبوكتو، بمالي، (القرن 19): كان الصبي (4ـ10 سنين) يساوي 50ـ80 فرنك ذهب والصبية 80ـ160 والغلام (11ـ 16 سنة): 150ـ200 والفتاة 200ـ250 والبالغ يساوي من 100ـ300 حسب جودته. أما في السعودية في سنة 1958 فقد كانت الفتاة تباع بـما يعادل 400 ألف فرنك (أي حوالي 620 يورو، بعملة هذه الأيام لكن بأسعار ذلك الزمن)، وهو ضعف ثمن الرجل. وكان بعض الحجاج يتركون عبيدهم في الحجاز باعتبارهم "زكاة".
فقه الاسترقاق عند العرب
يقول المؤلف أن من أكثر ما أدهشه عند إعداد كتابه، أمرٌ مزعج ومحبط لم يكن يود اكتشافه: وهو وجود عدة مجموعات فقهية مختلفة حول الرق، تشترك في ذات الاهتمام بكيفية تقنينه وتحديد السعر ومعاقبة الغشاشين في البضاعة ومطاردة ومعاقبة العبيد الهاربين وحسابات الإرث أو تكاليف العتق.
وقد ترك العديد من المؤلفين، أشهرهم المختار ابن الحسن ابن بطلان (ت 1063)، كتابات مفصلة جدا تساعد المشترين على عدم الوقوع في أخطاء ومراجعة أدق التفاصيل حيث يبين كيفية اختيار العبد ومقاساته وعمره وجنسه ولونه وتعليمه واستخداماته. وأسدى صاحب مقدمة ابن خلدون (1332ـ1406) النصائح: إذ كان يرى أن هناك أربعة أنواع من الخدم العبيد: الشاطر والأمين، لا هذا ولا ذاك، أو أحد الأمرين؛ ويعدد فوائد وعيوب كل حالة.
وقد أمكن لأشهر علماء الدين المسلمين أن يخطوا بأيديهم شروط العبودية مما يدل على أن المسجد لم يكن محايدا أمام هذه الجريمة. وبدلا من أن يهاجم جذورها، أي جشع التجار وإجرامية المالكين، قدم لهم السبل القانونية لممارسة تجارة أصبحت، نتيجة لهذا، عادية جدا. وكان القبول بالاسترقاق، عجزا عن إمكانية إصلاحه أو إلغائه، هو في حد ذاته أمرا شاذا. أما كتابة قوانين للاسترقاق (حتى لو اشتملت على مواد حول العتق) فهو أعلى درجات التشوه الأخلاقي.
نشأ كل هذا في قصور الخلفاء منذ نهاية القرن السابع، ما لم يكن منذ عهد عمر بن الخطاب نفسه (كما تذكر عدد من المصادر المستقلة مثل المصري منصور فهمي في أوائل القرن العشرين). وكان تأثير التجار قويا، إذ سعوا إلى وضع قناع أخلاقي على تجارتهم.
ويلاحظ أن تجارة الرقيق عبر الأطلنطي بعد اكتشاف أمريكا كانت مركزة زمنيا (من نصف القرن 15 إلى 18) وكان الرق اقتصاديا اقتصر على الحاجات الملحة للوقت، كما لم يكن هناك قانون "أسود" بمعنى الكلمة. بينما في الإسلام السني كان هناك منظومة من القوانين والتعاليم المتشعبة التي تعالج المسألة من كافة الجوانب مثل الزواج والطلاق والتجارة والإرث. هذا الفقه المتكامل يمكننا من أن نتفهم بدقة العقلية الاسترقاقية السائدة في القرون الأولى للهجرة، عبر فحص وضع العبيد في ضوء مسائل الجهاد؛ الاعتراف والحنث باليمين والغش؛ البيع للمسلمين والغير؛ والجنس.
وقد استند الفقه إلى نصوص دينية تتعلق بقواعد الزواج مع الجواري وأسرى الحرب ـ القتل الخطأ ـ قواعد العتق ـ أسرى النبي ـ شراء المأسورين ـ عدم المساواة بين الأفراد ـ زواج المحارم ـ الطبقات ـ حكم العبد الذي يحاول التحرر (يكفر).
هناك العديد من الأمور، مثل: إرث عبد كافر، إذا مات بعد عتقه، هو للمسلمين إذا مات على دينه، أو لسيده السابق (مولاه) إذا مات مسلما. العبد المذنب يعاقب بنصف عقوبة الحر، خمسون جلدة بدل مئة في حالة الزنا، وثمانون بدل 160 في حالة شهادة الزور (40 للجارية). أما الدية فقد اختلف حولها الفقهاء. في زمن الحرب يستخدم العبد كثمن يقايض به أو دية، طبقا لشريعة العين بالعين، أو يصبح بديلا للنقود في زمن السلم.
أما عن قواعد العتق، فإن العبد المسلم يُعتق إذا قام بعمل بطولي في خدمة سيده أو الأمة، أو إذا وُلد كابن (معترف به) لأب حر وأم جارية. من قتل مؤمنا بدون أن يعرف أنه مسلم عليه عتق عبد أو دفع دية لأسرته (سورة 4 آية 92). وفي حالة شهادة الزور (سورة 5ـ92) على المذنب إطعام عشرة فقراء أو عتق عبد أو صوم ثلاثة أيام.
هناك مجموعات فقه الرق: أهمها، وعينات سريعة مما تشمله:
أولا: مدونة ابن القاسم التي دققها الفقيه المالكي صحنون في القيروان (776ـ854)، وفيها يستعين بعدد من تعليقات الإمام الشافعي (767ـ820)، وتقع في 68 مادة. أهم الأبواب:
ـ في الجهاد. حماية عبد المسلم في الحرب. إذا آمن عدو ثم جاء لأرض الإسلام فإن كل ما تركه وراءه (بما في ذلك ذويه) يظل "فيئا" (سليبة حرب) للمسلمين. العبد المحارب ليس له نصيب في سلائب الحرب، لكن للحاكم أن يهبه جزءا.
ـ في أهل الذمة: عموما يصرح لهم باقتناء العبيد، بشرط ألا يكونوا مسلمين أو أن يعطي الذمي ملجأ لعبد هارب من سيد مسلم. الذمي الذي ينقض عهد الذمة ويصبح محاربا ثم يقبض عليه يصبح فيئا (؟)
ـ حالة عبد لعدو دخل الإسلام وهو في أرض العدو ثم بيع لمسلم، يبقى عبدا. لكن إذا أخذ فيئا (سليبة حرب) للمسلمين يُعتق.
ـ إذا زنت الجارية تُجلد ولا تُرجم مثل الحرة (طبقا لحديث شريف).
ـ كتاب الاعتراف وشهادة الزور. إذا كذب العبد يمكن أن يقدم كفارة بالصوم (مثل الحر).
ـ دية العبد هي ثمنه.
ـ كتاب البيع والبيع المشروط بالنفاذ بعد فترة زمنية محددة.
ـ كتاب التجارة في أرض العدو. لا يمكن لذمي أن يمتلك مسلما. يمكن بيع عبد مسيحي لمسيحي لكن ليس لوثني. وإذا تحول أحد عبيد الذمي للإسلام يجب عرضه في السوق لبيعه بأعلى سعر لسيد مسلم. إذا كان العبد المتحول مرهونا ففي الأمر قولان. قواعد السن التي يمكن عندها فصل الأم عن طفلها ـ لكن لا يعتد بالقاعدة عند شراء كافرة أجنبية. إذا تحول أحد زوجين من العبيد الذميين للإسلام، يصبح الأولاد القصر مسلمين.
ـ كتاب الغش. شراء عبد على أنه من جنس معين ويتضح أنه من آخر يعتبر غشا.
ـ كتاب الملكية الجنسية: السيد يمتلك عورات الجارية وبطنها (جنينها) وظهرها (جهدها). العبد لا يمكنه الزواج بدون إذن سيده، لكن لا يمكن للسيد أن يجبره على زواج معين. ليس من حق العبد تزوج أكثر من امرأتين (وليس أربعة). العبد لا يحق له التسري. حق التطليق يقتصر على مرتين بدل ثلاثة وعدة الطالق شهرين بدل أربعة، وفي حالة موت الزوج عدتها النصف أي ستة أسابيع. لا يمكن لجارية أن تشارك زوجة حرة في زوجها. نصيب الجارية (في عدد الليالي) نصف الحرة. ابن الجارية عبد لسيده (إذا اعترف ببنوته). لا يوجد حد لعدد السرايا (مما ملكت الأيمان).
ثانيا: مختصر القدوري (974ـ1039) عن الفقه الحنفي (ابن حنيفة 699ـ768):
ـ كتاب العبد الهارب: إذا هرب عبد ووجده شخص ثم رده لسيده من مسافة ثلاثة أيام سير أو أكثر، من حقه مكافأة أربعين درهم. تقل المكافأة تناسبيا مع المسافة، لكن إذا كانت قيمة العبد أقل من أربعين درهما تكون المكافأة هي ثمن العبد ناقص درهم واحد.
ـ كتاب العبد المأذون له بالتجارة
ـ كتاب العتق. يكون العتق قانونيا إذا قام به شخص حر كامل العقل. ويكفي أن يقول "أنت معتوق" حتى لو لم يكن ينوي العتق. لكن إذا قال له "ليس لي حق امتلاكك" يصح العتق فقط إذا كان ينويه. إذا عتقت جارية حامل يعتق الجنين معها. لكن إذا اعتق السيد الجنين وحده فلا يسري العتق على الأم.
ـ عن العتق المربوط بوفاة السيد: يصبح العبد "مدبرا" لا يمكن بيعه أو وهبه.
ـ كتاب الولاء: بعد عتق العبد يصبح من موالى سيده السابق. إذا تزوج عجمي من جارية عربية معتوقة يصبح أطفالها منه من موالي المرأة.
وقد قدم المؤلف، كأحد ملاحق الكتاب، عددا من الآيات المتعلقة مباشرة بالرق مثل 2ـ177 و 2ـ178 و 2ـ221 و 4ـ3 و 4ـ24 و 4ـ25 و 4ـ92 و 5ـ89 و 8ـ70 و 9ـ60 و 16ـ73 و 23ـ1 إلى 7 و 24ـ32 و 24ـ33 و 24ـ58 و 30ـ28 و 33ـ50 إلى 55 و 43ـ32 و 47ـ4 و 58ـ3 و 70ـ19 إلى 31 و 76ـ8 و 90ـ10 إلى 16.
***
وإلى مقال ثالث وأخير