نقوس المهدي
كاتب
قد يرى البعض في دراسة المقاربات النسوية العربية لموضوع الحب زيغا عن القضايا الجوهرية التي باتت تؤِرّق المجتمعات العربية في هذه الآونة الثائرة، لا سيّما ما تعلّق بالاستبداد السياسي والصراع الطائفي والتأزم الاقتصادي.. وقد يصنّف البعض الآخر هذه المسألة في دائرة أقصى المواضيع النسوية ثانويةً مقارنة بمسألة العنف المسلّط على المرأة أو المطالبة بالمساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الجنسين..بل قد يحصر البعض الآخر الاهتمام بموضوع الحبّ في دائرة البحوث الأدبيّة المهتمّة بتحليل المنظوم والمنثور عن العشق في الموروث الثقافي العربي.
غير أنّ هذه المواقف التي تهمّش مسألة الحبّ في الفكر النسوي العربي وتنكر تصنيفها في دائرة شواغل هذا الفكر إمّا أن تكون غافلة عن خطورة افتقار المجتمعات العربية لهذه العلاقة باعتبارها ثغرة تتوسّع في صميم النسيج الاجتماعي أو أنّها مواقف متواطئة مع سلطة المحاصرة والمصادرة لكل فكر يبحث في الخطابات المدرجة ضمن خانة المخالف والمتمرّد عن الخطابات الرسمية. لذلك يعدّ الحديث في الحب ومن وجهة نظر نسوية مغامرة متعدّدة الأبعاد، إذ يطأ البحث مسألة مازال الخطاب النسوي العربي يدرج خطواته الأولى في مقاربتها، فإذا بنا إزاء فكر يتشكّل. ثمّ إن الوقوف على علاقة الحب من وجهة نظر نسوية تفتح أمامنا أبواب مواجهة منظومة ثقافية عربية تحكم العلاقة بين الجنسين وتضبط شروط حبّ يتناغم ومقوّمات البنيان الاجتماعي.
ولعلّ مرور عقد من الزمن على مغامرة الكتابة في هذه المسألة وذلك في نطاق رسالة الماجستير حول “قضيّة الحب والرغبة في فكر نوال السعداوي”، يجعلني اليوم أتوق إلى خوضها وقد اختلفت المرجعيّة السياسية والاجتماعية والثقافية وتنامى الإحساس بخطورة الكتابة عن أشدّ العلاقات حميمية بين الجنسين. اليوم أتناول القضية من زاوية نظر نوال السعداوي نفسها وقد اعتملت داخلي هواجس الإقصاء لهذا الفكر لأن ما نشهده ـ في تونس ـ من مدّ أصولي وسطوة إفتاء ينافحان عن مقولة الفصل بين الجنسين وضع مقلق ومربك يضاهي ذلك الظرف التاريخي الذي حفّ بكتابة نوال السعداوي (1). وإذا كان من جملة دوافع خطابها تحريرُ المجتمع من تلك الخطابات الذكورية المتلفّعة بالدين والمبررة لعلاقات الهيمنة والميز الجنسوي في النصف الثاني من القرن العشرين، فذلك ما يدفعني إلى اعتباره خطابا فينيقيا ينبعث إلى الحياة ليقاوم قدر اشتعاله بثقافة قيمية موروثة صارمة وصامدة في الظاهر متآكلة من الداخل.
ولعلّ من دواعي اعتلال هذه الثقافة ما تشكوه من مفارقة صارخة بين الاحتفاء البالغ بخطابات الحبّ الموروثة والإجحاف في الشروط المطوّقة والموانع المقننة لهذه العاطفة حتى تكون مشروعة اجتماعيا. وتكشف هذه المفارقة عن الحذر بل الخوف من الحب وما قد يتمخض عنه من إرباك للمجتمع، وهو الخوف الماثل خلف مساحة الكره المعلن حينا والمضمر حينا آخر بين الجنسين وهو أيضا ذلك الخوف الكامن داخل خطابات السلطة الدينية الأخلاقية والقانونية. وبناء على ذلك كان انشغال السعداوي بمسألة الحب مستمرّا وفاعلا في دراساتها العلمية حتّى ما تعلّق منها بتحليل وضع المرأة الاقتصادي والقانوني والسياسي. فكلما سعت إلى تعرية دوافع الصراع الجنسوي داخل المجتمعات العربية وتحديد منابع المساواة التي جُفّفت وفضح محدوديّة التغيير الذي طرأ على وضع المرأة في المجتمعات العربية (2) طفت قضية الحبّ المريض وأعراضه وأسبابه كمصدر عطالة حضارية تعوق إرساء مجتمع دون مركزيات.
فكيف يمكن أن تؤثّر أشد العلاقات خصوصيّة في المسار التقدمي للمجتمع؟ وما مدى القدرة على التخلّص من الطابع التسلطي للحب كي يتحقّق بين طرفين متساويين ومستقلين بعيدا عن صور الحب المشحون بعذاب الشوق وألم الافتقار؟ ثمّ يعودني ذلك السؤال الذي يدفعني بين الفينة والأخرى لمراجعة كتابات السعداوي: ما الذي يمنع هذا التصوّر عن التحقق رغم انقضاء زهاء نصف قرن على الشروع في بلورته؟ هل هو استمرار قصور المعرفة النسوية العربية عن زحزحة المركزيات القائمة، لا سيما وقد تشعبت مرجعياتها واختلفت رؤاها إلى حدّ التضارب أحيانا أم هو لموقف مختلف خطابات الثقافة الرسمية المقصية لهذا الفكر المتمرد أم هو لعجز الكاتبة عن ترجمة خطابها إلى فعل ميداني أو حركة نسوية ثورية تقطع مع سياسة ولاء أغلب الجمعيات النسائية العربية للنظام الأبوي؟
تبدو هذه الأسئلة الباحثة عن عوائق تطوير الخطاب وتجسيد رؤيته على علاقة متينة بمفهوم “التموضع داخل النص”، إذ أنّ من تتوجّه الكاتبة إليهم بالخطاب هم غير الذين تتحدّث عنهم. فإمّا أن يكون القارئ لنصّها من فئة المهيمنين الذين يتشبثون بتلك المراتبية أو هو من القلة المؤمنة بلا جدوى هذا النظام السائد، ولكنّه يتّخذ موقعا متعاليا منعزلا عن غيره داخل البنيان الاجتماعي فإذا هو بين المركز والهامش. ولنفترض أن البعض ممّن كان مدار تحليل يقرأ نصّ السعداوي، فإنّه بلا ريب سينظر إلى صورته محدّقا ومستغربا بشاعتها مستنكفا عن تبيّن ملامحه فيها. ونظرا إلى هذا الإشكال الذي يعتري المقدرة التواصلية للخطاب تتأكد أهمية العكوف على قراءة تلك المتون انطلاقا من رؤية نقدية تركّز على علاقة الذات الكاتبة بالذوات القارئة والذوات المرجع.
وبناء على ذلك فإن الحديث عن تصوّر السعداوي للحب بين الجنسين في المجتمعات العربية ينهض على محورين:
ـ محور أفقي يجمع بين دوائر التسلط والمهيمن عليهم وذلك للبحث في ملامح “الحب المريض” ودواعيه من ناحية وشروط “الحب الحقيقي” من ناحية أخرى.
ـ محور عمودي يقوم على مدى نسوية الرؤية التي تقدمها الكاتبة حول علاقة الحب ومنسوب الحياد العلمي الذي يميّزها.
1 ـ الحب بين الجنسين: الواقع “المريض” والممكن “الحقيقي”
يطالعنا دالّ “الحبّ” عبر ثلاثة عناوين (3) فحسب من جملة ما يفوق سبعين عنوانا آخر وسمت بها السعداوي فصول دراساتها العلمية الخمس. وإذا كان فصل “ما هو الحب؟” ذا طابع تفسيري تحليلي لماهية الحب، فإنّ الفصلين الآخرين يحيلان مباشرة على مساءلة الكاتبة لثقافة الحب السائدة، ثقافة تجعل الحبّ مسكونا بالكره أو ملعونا بقدر الرغبة الآثمة. ولعل الشروع بملاحقة دال “الحب” في مستوى العناوين يبدو في هذه الحالة منطلقا فاشلا بالنظر إلى قلّتها، غير أنّ هذا الغياب هو في حدّ ذاته نصّ استراتيجي يفضح الواقع الذي يغيب فيه الحب. وهو عتبة تسكن داخل العناوين الأخرى الكاشفة عن اختلال العلاقات بين الجنسين، بل هو العنوان المحتجب خلف عملية الفصل بين الرجل والمرأة في العناوين الرئيسيّة لدراسات السعداوي. ولذلك ارتأينا الانطلاق من ملامح وأسباب افتقار الجنسين للحب أو معاناتهما من الحب المريض المشوّه، حتّى يتسنى لنا الإحاطة بطرحها حول مفهوم الحب الحقيقي أو الحب المستحيل.
أ ـ الفحولة تؤثّم الحبّ
تؤكّد السعداوي على أنّ “افتقاد الحب الحقيقي في علاقات البشر رجالا ونساء وأطفالا هو أهمّ عيوب الحضارة الذكورية القائمة على الملكيّة والتوريث والسلطة الأبوية” (4)، وفي هذا الموقف المبني على ثنائية (المفقود/الموجود) تقيم الكاتبة علاقة بين النظام الاجتماعي والاقتصادي وواقع العلاقات الحميمة بين الأفراد. فالواقع الحميمي محكوم بآليات وغايات البنيان القائم على علاقات هيمنة واستغلال، وهو ما يسلبه القدرة على الحبّ المجرّد من النفعية والاستعباد، أو يدفعه إلى وضع علائقي يمسخ الحب بشروط وأحكام تتناسب وعلاقات الهيمنة التي تحكم النظام الاجتماعي.
وتوغل السعداوي في عملية الكشف عن المسخ الذي لحق الحب في منظومة الزواج، باعتبارها المؤسسة الشرعية التي بقدر ما أباحت الحب أقصته. فداخل هذه المؤسسة ينكمش الحب ويخبو وهجه وقد اتخذت المرأة موضعها كمتاع يمتلكه الزوج أو هي واحدة بين نساء الحريم الخاضعات لرغبات الزوج وأهوائه مقابل الحماية والإنفاق عليها: “الأغلبية من الناس لا يحبون حبا حقيقيا ولكنهم يدخلون في علاقات نفعية أجل الحصول على قوة أو مال أو حماية من أي نوع”(5) .
وبقدر الصرامة والقداسة اللتين تميزان رابطة الزواج تجتهد الكاتبة في فضح لا أخلاقية العلاقة التي يغيب فيها العدل والتكافؤ بين الجنسين، ويضطر فيها الاثنان إلى الكذب والنفاق بتكلّف حب يخادع الذات بقدر ما يخدع الآخر. فحب الزوج ينطوي على أنانية المالك وسطوته وحماية أملاكه، أما حب الزوجة فتمسّك منها بالاعتراف الاجتماعي ومغالطة للنفس بوهم الارتياح والسعادة وقمع لرغبة التمرد التي تخامر المقهور أو المستعبد إذا ما طالت واستفحشت عبوديته. لذلك تهاجم الدارسة هذا الحب المشروع باعتباره غلافا مخمليا يستر عيوب النظام الاجتماعي الذي تغيب فيه العدالة، وتبرز ما يعتري العلاقة من شروخ عميقة خلّفتها صفقة الزواج: أليست المرأة سلعة “تشترى بالمهر أو الصداق وتباع بمؤخّر المهر والنفقة(6)؟ وبين صاحب السلعة وسلعته علاقة استغلال وامتلاك يستحيل معها الحب المبني على صلة بين كيانين متكافئين ومستقلين.
ثمّ إن الصبغة التجارية التي يكتسيها الزواج تتيح للكاتبة مقاربة تقوم على تأثيم العلاقة بين الجنسين إذ تلحق بالزوجة صفة المومس الشرعية وإذا كانت البغيّ تقبل بتأجير جسدها فالزوجة تخضع لشروط عقد ملكية: “وإذا كان تعريف المومس إنّها المرأة التي تقبل العلاقة الجنسيّة بالرجل لأسباب تجارية ونفعية فلابدّ أن يسري هذا التعريف على أي امرأة تقبل العلاقة الجنسية بالرجل لأسباب تجارية ونفعيّة”(7).
وتلحّ السعداوي على زيف الحبّ في نطاق الزواج ذي الطابع التجاري بإحالتها على مسألة تعدد الزوجات الذي تجعل من هؤلاء النسوة سلعا متشابهة يستغلها صاحبها بشكل دوري، فأيّ حب يمكن تحقيقه بين المفرد والجمع؟ وأي حب يقبل بوضع المنافسة أو المؤامرة للفوز بالحبيب؟ ففي ظلّ تفضيل الزوج بين زوجاته وفي ظلّ حلول الزوجة في مقام المقارنة وشعورها بالخوف من الإهمال يتبدّد الحب لتعوّضه الحاجة الجنسية المنقضية بالإشباع. وتردّ السعداوي على رافعي شرط العدالة بين الزوجات كأساس للحب باستحالة تحقيق العدل: “لأنّ معنى التعدّد هو التفضيل، تفضيل الزوجة اللاحقة على الزوجة السابقة، ويكفي هذا التفضيل أن جعل العدل مستحيلا على أي رجل وإن كان نبيا [..] ألا أنّ محمدا كان بشرا ولم يكن في وسعه دائما أن يحقّق هذا التقسيم العادل. فقد كان يفضل زوجته عائشة ويحبها أكثر من زوجاته الأخريات” (8) .
وهكذا فالصيغة الوحيدة التي يقبل فيها المجتمع العلاقة الحميمة بين الجنسين هي أشدّ الوضعيات مسخا للحب حسب السعداوي. فهو حبّ يجمع بين ذاتين مغتربتين، إذ يمتثل كلا الطرفان لمعايير النمط الذي يرضاه المجتمع بمرافاته لمقومات الشرف الظاهري ويدير ظهره لصميم مشاعره وصادق رغباته. وإذا بالعلاقة الزوجية مسرحيّة عاطفية يعجز بطلاها عن بلوغ حالة التماهي مع الدور ويكون مآلها البرود والنفور الذين يدفعان إما إلى الطلاق أو إلى الخيانة الزوجية (9).
والحديث عن المآلات الفاشلة للحب داخل مؤسّسة الزواج يلتبس بدلالات جنسية تحيلنا على الوظيفة الأساسية لهذه الصيغة العلائقيّة، فالعلاقة الجنسية تكتسب مشروعيتها أخلاقيا واجتماعيا من خلال الزواج وذلك من أجل التناسل. ولكنّ اختزالها في هذه الوظيفة يلغي منها البعد النفسي والفكري ويجتزئ العملية عند حدودها الجسدية، وهو ما أفرز ضربين من العلاقات المشوهة بين الجنسين، فهي “إمّا علاقات عاطفية بغير جنس أو علاقات جنسية بغير حب وكلا النوعين ناقص بل ضار أيضاً” (10). وتوضح الكاتبة انعكاس هذين الوضعين على الحالة النفسية للطرفين:
• وضع الحب من دون جنس: وهو حبّ تسمه الكاتبة بالرومانتيكي، وتستند في تحليله على تجربة الشعراء العذريين لتبرز ملامح المعاناة والعذاب والحرمان التي قد تدفع إلى الجنون أو الموت عند اليقين من استحالة تبادل الحب في هذا العالم. فالمحب في هذه الحالة يشكو انعدام ثقة بالنفس ويعاني فوبيا الجنس تحت وطأة عقدة الشعور بالذنب ولذلك يُمنع أو يمتنع عن الزواج بحبيبه، لكنه يكابد حالة الشوق والتحرّق للآخر وقد جرّده من وحدته الجسدية، فإذا هو كيان طيفي أو هلامي يعسر تجسيده. وتؤكّد الكاتبة على أن كبت الرغبة بشكل ذاتي ومستمرّ يولّد نزعة مازوشية تمنح صاحبها إحساسا بلذة مؤلمة: “ويترنم العرب بالعذاب في الحب ويتلذذون بألام الفراق والشوق والحرمان، ومن أقوال ابن حزم “والحب داء عياء ومقام مستلذ وعلة مشتهاة، لا يودّ سليمها البرء، ولا يتمنى عليلها الإفاقة””(11).
وفي هذا الإطار تنتقد السعداوي نظرية فرويد التي حصرت المازوشية في شخص المرأة كخاصية طبيعية، واعتبرتها رؤية ذكورية تقوم على منطق فحولي يقر بالمراتبية والهيمنة على أسس فطرية: “وكم أخطأ فرويد حين وضع نظريته عن سيكولوجية المرأة وجعل المازوشية ركنا أساسيا فيها وجزءا من الطبيعة التي ولدت بها، فالمرأة ليست وحدها المازوشية، ولكن الرجل أيضا مازوشي، وكلاهما ضحية تلك الفكرة التي فصلت بين الجسد والروح” (12).
وتبحث السعداوي في ظروف نشأة هذه الفكرة التي تشمل الإنسانية جمعاء لتخلص إلى جذورها التوراتية العاملة في شتى الحضارات الإنسانية حسب رأيها، فتدينها بتكريس فعل الفصل بين الوحدتين (الجسد/ الروح) وإضفاء هالة القداسة على مقولة تخدم مصلحة الأنظمة القائمة على التوريث والملكية، أو بالأحرى تخدم مصلحة الرجل. ومن هذا المنطلق تفسر الكاتبة سرّ ثقل الموروث الأخلاقي الذي يقضي بعزل الجسد عن الروح والعقل في تعاليم التربية، وتستشهد بتجربتها الشخصيّة لتبيّن ازدواجية المشاعر نحو الجنس الآخر تبعا لتلك الثقافة الأسرية التي تؤثّم عاطفة الحب وتحرّم الرغبة خارج نطاق الزواج. ولا تتردّد الدارسة في الاعتراف بأنّها كانت ضحية مرض الرومانتيكية وهي تصوغ طيف الرجل الذي يمكنه إرواء غلّتها ومنحها المتعة المحرمة في الواقع: “إنّه نوع من الشيزوفرينيا أو الانفصام تلحقه الفتاة بالرجل لتهرب من الشعور بالإثم. فهي بحكم التربية والتقاليد السائدة تربط بين الإثم والاتصال بجسد الرجل ويكون الرجل الوحيد الذي يناسب كبتها هو أن تطلق العنان لخيالها وتصنع رجلا وهميا”(13).
ولذلك تعتبر السعداوي مؤسسة الزواج فاشلة في تحقيق الوصل بين الطرفين نظرا إلى اصطدام الزوجة بجسمانية الزوج وجنسانيته المفارقة لذلك المعشوق الطيفي، فما هي إلا جسم أجوف قد اعتوره البرود بعد إعدام الإرادة الفكرية والنفسية، جسم فاقد الرغبة يخضع لإرادة الغير خضوعا ميكانيكيا ويستر سلبيته بدثار العفة والحياء.
إذن، تحمّل الكاتبة منظومة التربية مسؤوليةَ حرمان الفتاة من شعور الحب وتدين جملة الأخلاقيات التي تنتهش إرادتها وتقتصد عواطفها وتختزلها في صورة الأنثى المثيرة بمفاتنها الخِلقية والمحافظة على برقع الحياء وتميمة العذرية. ومثل هذا الوضع القلق الذي يربك المرأة ويدفعها إلى سلوكيات يرتابها المجتمع ويشكّك فيها من تمنّع وتحاش للرجال مواكب لاهتمام مشطّ بالشكل والجمال، يتنافى ومعنى الحب الشريف الذي يقتضي الثقة والاحترام والتكافؤ بين الطرفين كما سنبيّنه لاحقا.
ومادام الرجل طرفا في هذه العلاقة المشوّهة بإملاءات الأخلاق المتناقضة فهو أيضا مشمول بتبعات التربية المتعسّفة كما توضحه الكاتبة عبر مظاهر ازدواج المشاعر. وإذا أُكرهت الفتاة على أن تكون أداة جنس في سياق محدد مع التمثّل المستمرّ لمقولات تأثيم الجنس وازدراء الرغبة واستنكار الحب، فإن الرجل أيضا مدفوع نحو إثبات قوته الجنسية مع زوجة لا يتسنى له حبّها أو هو مضطر إلى نصف معايشة جنسية إذ يفتقد الشعور باللذة. ويعود ذلك حسب الكاتبة إلى سببين:
ـ السبب الطبيعي: وهي تلك المرحلة المبكّرة التي يختبر الطفل فيها علاقته بأمّه، فعمليّة الكبت الثانوي الأوديبي التي تجعل الطفل يخاف تلك الرغبة الجنسية المصاحبة لشعوره بالحب نحو أمّه ويسرع بطيّها في غياهب اللاشعور، هي عمليّة تأسيس للفصل بين الحب والجنس وخاصّة في مستوى علاقة الرجل بمن حلّت موقع الأم أو اضطلعت بدورها في الإنجاب والتربية وتقمّصت شخصيتها بإظهار العفة والقنوت. وبالتالي، لا يستقيم للرجل حبّ حقيقي مع الزوجة ـ الأم الطاهرة بل هي علاقة باردة وإن سادها الاحترام، عاجزة عن تلبية رغبة رجل في إثبات إيجابيته في الجنس أو إرضاء فائض الفحولة الذي خلّفته التربية المحتفية بالأعضاء الجنسية للطفل منذ الولادة.
ـ سبب ثقافي: تعزو الكاتبة توتّر العلاقة الحميمية بين الزوجين إلى رواسب خوف بدائي من الطاقة الجنسية الهائلة للمرأة واعتقاد قدرتها على إهدار سائله المنوي عند الجماع، وهو خوف تغذيه خاصية الانتصاب والارتخاء التي يعرفها عضو الرجل وهوسه بحلم القضيب الدائم الانتصاب: “أثناء الجنس يسلّم عضوه لها وأنها تحتويه داخلها وقد تسحقه”(14) . وبالتالي، ينحسر مدى الحب تحت وطأة تمزق الرجل بين كرهه وافتتانه بموضوع خوفه الجنسي، ويمسي همّه إثبات جدارته بأن يكون مركز عالم زوجته بتلبية رغبتها مع تدرّب على مراقبة نفسه أثناء العلاقة الجنسية: “معظم هذا النوع من الرجال يمارسون الجنس مع النساء بأعضائهم التناسلية فقط، أما بقية أجسادهم وعقولهم ونفوسهم فتصبح كالحارس أو البوليس الذي قد يتدخّل عند اللزوم من أجل الحماية أو العدوان حسب الظروف” (15).
وباجتماع السببين تستنتج السعداوي استحالة الشعور بالحبّ داخل مؤسسة الزواج، بل تؤكّد على استبطان الطرفين للكره والخوف مما يعرقل سعيهما إلى التجاوب والانسجام العاطفيين. وتشكّل هذه العقبة أساس الضرب الثاني من العلاقة بين الجنسين في المجتمعات العربية.
• وضع الرغبة الجنسية من دون حبّ: وهو الوضع الذي يبيحه المجتمع للرجل ويحرّمه على المرأة، بتقنين مؤسّسة البغاء وحقّه في تعدّد الزوجات أو بالسماح بعلاقات زوجية موازية للزواج الشرعي، كزواج المتعة أو الزواج العرفي. فداخل هذه الأطر العلائقية يتمكّن الرجل من التحرر من عقدة الخوف من المرأة بتركيزه على تلبية حاجته الجنسية ومعاملته للطرف الآخر معاملة الوعاء فلا شعور بالحب أو الكره أو الحذر. وفي المقابل تعرض الكاتبة أنماطا مختلفة من محاولات إماتة رغبة المرأة الجنسية كعادة الختان أو قواعد العفة التي تغرس فيها موقف التأثيم للجنس.
فقدر المرأة أن تعيش حرمانا مزدوجا: من الحب والرغبة، وكلّ ما تفقهه هو التظاهر والتخلي عن مشاعرها الحقيقيّة: “تعلّمت المرأة الزيف وعرفت كيف تعامل المجتمع كما يعاملها تعلّمت كيف ترضي الرجل وتمارس معه الجنس دون أن تفقد عذريتها، تعلّمت كيف تبيع نفسها بعقد الزواج وتكبت حبّها الحقيقي إلى الأبد أو تمارسه في الخفاء(16). وفي هذا النطاق تبيّن السعداوي المسالك المحرّمة التي تلتجئ إليها المرأة لإرضاء الرغبة الخالية من الحبّ الحقيقي، وهي التي يصطلح المجتمع على وسمها بالشذوذ الجنسي بممارسة العادة السرية أو السحاق أو الأحلام الجنسية.. وتؤكّد الباحثة على تفشّي هذه الممارسات لدى الذكور والإناث سواء كان ذلك في المجتمعات العربية أو الغربية.
لكنّها لا تلتزم في تعليلها مذهبا ثابتا، إذ تراوح بين تقديم تفسير سيكولوجي بيولوجي وآخر اجتماعي ثقافي، كما تتباين مواقفها من الظاهرة بين تبرير يدعو لتفهّم هذه العلاقات وتعليل يدينها. وقد يعود ذلك إلى جدّة المبحث وجرأته في اقتحام منطقة محمومة من العلاقات الجنسية تأباها المنظومة الفحولية، ممّا يجعل تناول الباحثة له متذبذبا بين التحليل العلمي الموضوعي والمعالجة النقدية الغائية. ومن مظاهر ازدواجية الموقف ما خصّت به الكاتبة الشذوذ الجنسي لدى الرجال، فهو ضرب من العلاقات التي تقوم على خلفية احتقار المرأة واعتبارها جنسا أدنى: “إن بعض الرجال قد يفخرون بشذوذهم الجنسي وكأنما يقولون: نحن نتعامل مع الجنس الأعلى والأقوى وليس الجنس الأدنى والأضعف!” (17) بينما تظهر في تعليقها على انتشار الشذوذ بين النساء الغربيات رفضا مشوبا بالتبرير المثبت لجدوى هذه العلاقات: “وأدركت أنّ المرأة أصبحت تحارب الرجل بنفس أسلحته. ولم أقتنع بأن هذه هي الطريقة المنشودة لتحرير النساء والرجال معا، وإنما هي إحدى الطرق في ظلّ ظروف مجتمع محروم من الحب الحقيقي ومن العلاقات الإنسانية القائمة على التبادل المتساوي وليس الاستغلال” (18).
وبالقدر نفسه من التردّد تعرض السعداوي موقفها من البرود الجنسي الذي تعانيه المرأة في المجتمعات العربية. فتتخذه دليل إدانة ضد التربية الأسرية التي تدفع الفتاة إلى إنكار الجنس حتّى تمسي الرغبة الجنسية دالا بدون مدلول أو مصدر إحساس بالندم واللوم في حالة الاستجابة لها أو الشعور بالقرف والنفور منها. وفي الآن نفسه يطالب المجتمع هذه المرأة بأن تكون زوجة قادرة على التجاوب الجنسي والإثارة وهو ما يضعها أمام مصيرين أحلاهما مرّ فإمّا القدرة على تقمّص الدور وتسخير جسد مفرغ من المشاعر ليكون مجال إرواء رغبة الزوج، وإمّا أن يحكم عليها بالطلاق أو الإهمال والهجر الجنسي: “ويصبح الاستمتاع الطبيعي بالجنس إنّما هو صفة المومسات والعاشقات فحسب ويستمتع كثير من الرجال بهذا الانفصام في شخصياتهم، وتصبح لكل منهم زوجة باردة شبه مهجورة وعشيقة مرغوبة ولكنّها محتقرة” (19) .
لكن القارئ يفاجأ أيضا بموقف الكاتبة وهي تنوّه بالبرود الجنسي كأداة مقاومة للمركزية الذكورية وتعتبره علامة وعي وتمرّد على النمط الذي يرضي نرجسية الرجل: “وبنت أخرى أكثر طموحا وثقة بالنفس تصر على مواصلة الصراع إلى الحدّ الذي تنكر فيه جسدها وتلغي رغباته وتنشد التفوق في الحياة متحدية الرجال”(20). وإذا كان البرود شكلا من أشكال رفض المرأة للتدجين والخدمة الجنسية فإنّه كذلك يشفّ عن عداء ونفور تكنّه هذه المرأة لإحدى وحدات شخصيتها أي الجسد. فكيف لها أن تكون شخصية سوية ومتّزنة وقد انفرط تكامل تلك الوحدات الثلاث التي تنادي بها السعداوي؟
رغم اضطراب مواقف السعداوي من هذه الظواهر المقوّضة لصلابة البنيان الاجتماعي فإنّها تبدو متوائمة مع نهوض خطابها النسوي على هدفين:
ـ هدف جنسوي: يتمثل في تأكيد تفرد وتميز المرأة وتبرير القصور النسائي عن الإبداع والعطاء كمآل طبيعي لفعل تهميش وامتهان قدراتها.
ـ هدف إنساني: وذلك بانخراطها في الدعوات النسوية لتحرير العلاقات الإنسانية من المراتبية الفجة وما يترتب عليها من تسلّط وهيمنة.
ويشترك هذان الهدفان في عائق أساسي وهو المؤسّسة الأسرية التي ينعدم فيها النضج العاطفي والنفسي والجنسي، وترتهن فيها العلاقة بين الجنسين إلى ضوابط الغيرة والشرف والتملك التي تجعل الاستعباد ناعما لطيفا فتنسلخ المرأة ذاتها في تأييدها بل المطالبة بها أملا منها في ارتشاف لذة النجاح الاجتماعي والأسري. فكلا الطرفين إذن مسؤول عن إخطاء سبيل الحب الحقيقي نظرا إلى انشغالهما بالتموضع داخل بنيان قوامه المراتبية والملكية الفردية، بينما لا يمكن للحب أن “يحدث بين سيد وعبد أو بين صاحب سلطة وخاضع للسلطة أو بين أعلى وأدنى”(21) .
ولا شك أن الكاتبة بذلك تجعل من تصورها للحب مقياسا يسبر درجة التحرر من المنظومة الأبوية، أو قد يكون أداة مقاومة للمقولة الجوهرية التي تفرز تشويهات عميقة في شخصية كلا الطرفين ونقصد بها تضخيم الآلة الذكر وتأثيم الأنثى الفاتنة. فما ماهية الحب الحقيقي الذي تخشاه الثقافة السائدة وتسعى السعداوي إلى ترسيخه في الخطاب النسوي؟ وإلى أي مدى يمكن أن ينجح في التأسيس لمجتمع تسوده المساواة وينفح حرية؟
ب ـ الحب الحقيقي عنوان النضوج الإنساني
تبني الكاتبة تصورها للحب المنشود على أساس نقض الحب المريض السائد أو تحديد سبل البرء منه. وتخصّص لهذا الغرض فصلا ضمن كتابها “المرأة والجنس” بعنوان “ما هو الحب؟” وفيه تستعرض طائفة من التعريفات التي تلتقي في إثبات الطابع الملغز والشائك لمفهوم الحب:
ـ فهو يحتوي على عاطفة وليس بعاطفة ويحتوي على إعجاب ولكنه ليس إعجابا، فماهيته تزيغ عن التحديد بل قد يكون هذا الزيغ سمة تميّزه عن ثقافة الحب ومراتبه وأسمائه كما نظّر لها ابن حزم الأندلسي أو ابن قيم الجوزية أو ابن داود الإصفهاني(22) . فلئن انطلق هؤلاء من أخبار العشاق وحكايات المحبين لملاحظة أسباب الحب وأعراضه ومراتبه، فقد بنت الكاتبة تصورها من خلال التناقضات الظاهرة والباطنة في الحب المشوه وهي تناقضات تفضي كما أوضحنا سلفا إلى البرود والكراهية أو النفاق والكذب. وبما أن هذه العيوب تشترك في الطابع العدواني فإن مفهوم الحب عند السعداوي ينحو منحى فرويديا وذلك عندما تحدّه مقرة: “الحب هو إله الحياة في الإنسان ويقابل نقيضه وهو إله الموت. الحب يبني ويثري الإنسان والحياة، ونقيض الحب يفقر ويهدم الإنسان والحياة” (23). وبمعنى آخر يمثل الحب غريزة الحياة (إيروس Eros)التي تقوم عليها كل الروابط الإنسانية بل تنبني عليها الحضارة مادامت موجهة فطريا نحو التطور والابتكار، وهو بذلك يتصادم مع غريزة الموت (تاناتوس Thanatos) التي تنعكس في النزوع إلى العدوان ضد الذات والآخر.
لكن رجع الخلفية النفسية لهذا التصور قد يكون محدودا أمام تأليه الكاتبة للحب وبالنظر إلى مواقف السعداوي المناوئة للفكر الفرويدي عموما. علاوة على أن اعتبار الحب غريزة قد يتضارب مع تعريفه بأنه “عملية إرادية واعية تتم بسبب قدرة الإنسان على الاختيار الحر، هذه القدرة لا تكون إلا في إنسان مستقل” (24). ولا مراء في أن التحضر البشري يقوم على معادلة عكسية مع الفعالية الغرائزية، فكيف يمكن أن يتحقق الحب الكفيل بكسر شوكة غريزة الموت وقد وقع إخضاعه للإرادة والإدراك؟ ألن يكون ذلك محاولة سيطرة على المنفلت من التقييد؟ وما الذي يضمن أن لا تكون تلك الإرادة إدمانا مادام الحب أيضا جوعا “يشعر به الإنسان بعد أن يشبع كل رغباته وغرائزه(25)؟
وتتالى الأسئلة أمام تعدد الحدود التي أضفت سمة التعقيد والغموض على الحب، فهو الوسيلة لتحقيق الذات وتحقيق الذات هو “شرط من شروط الحب” فأيهما أسبق أو ما ترتيبهما في العلاقة الشرطية التي تحكمهما؟ ثم إن الكاتبة تضع شرط استقلال الشخصية ونضجها قاعدة ضرورية لنشأة هذا الحب، في حين تقر بأن الحب هو احتياج “لأن يرى المرء حقيقته في حقيقة شخص آخر” (26). فكيف يمكن الحديث عن الاستقلالية والحال أن كلا الطرفين حسب رأيها لا يتسنى له إدراك أعماق شخصيته إلا عبر هذه العلاقة؟
وتزداد محنة تمثّل هذا الحب نظرا إلى مشقة البحث عن الحبيب الذي قد يرتضي صورته المنعكسة في أعماقنا، علاوة على أن التطلّع إلى هذا الهدف قد يخفي حبا للذات من خلال هذا الوسيط إذ تستشهد برأي بيتر فليتشر: “البحث عن الحب إنما هو بحث لمعرفة الذات ورغبتنا في الحب هي رغبتنا لأن يعترف بنا لا من أجل ما نفعل بل من أجل ما نكون”(27). فهل الحب مرآة للمجهول من ذواتنا؟ وهل يمكن الحديث عن رغبة في اعتراف الآخر بنا وهو بدوره يضع حبه وسيلة لرؤية أعماق شخصيته؟ ثم ما الذي يضمن استمرار الحب إذا تمّ إشباع الرغبة في اعتراف الآخر بنا؟
• الحب الحقيقي يبلغ بنا أعماق الذات : تسعى السعداوي إلى إنزال تصوّرها للحب ما بين منزلتين : المحبة المحمودة والمحبة المذمومة، على حدّ عبارة الديلمي (28) . وهما المنزلتان اللتان نفتهما الكاتبة بدحض تعبيرين ثقافيين يكشفان عنهما وذلك في قولها: “يزخر أدب العرب وأشعارهم بمآسي الحب العذري، ويترنم العرب بالعذاب في الحب ويتلذذون بألام الفراق والشوق والحرمان” (29). فذلك الحب الذي وقف قريبا من عتبات متعة الوصل دون الجرأة على تجاوزها يكابد معاناة الحرمان من بلوغ أعماق الذات أو المنع من التواصل الحميمي الذي تتحد فيه وحدات كياني المحبين بما فيها اتحاد الجسدين. وفي الآن ذاته تنكر الكاتبة أيضا أن يقع الحب “من أول نظرة حين تقع عينا الرجل على المرأة ويرى شفتيها الممتلئتين المتوردتين ونهديها البارزين وردفيها المكتنزين. وأغاني الحب كلها تتغنى بجمال الشفتين والساقين والنهدين والخصر والردفين”(30) .
إنّه وهم الحب المتمخض عن انجذاب بين جسدين معزولين عن التوافق الفكري والنفسي. وبين نمطي المحبتين تبحث الدارسة عن حب يحقق المعادلة التي تجمع بين انسجام مكونات المحبّ الجسمية والنفسية والعقلية وارتياحه من إحساس الدنس والإثم الملازمين للعلاقة بين الجنسين في المجتمعات العربية. أو لعلّه التصور الكفيل بتخليص الجسد المحكوم بالإقصاء من سجنه الانفرادي ليخوض الفرد رحلة البحث عن الآخر أو عن صورة الذات التي احتواها الآخر وهو ذات متكاملة.
وتستند السعداوي في ذلك إلى مفهوم نفسي وبيولوجي وفيزيولوجي وضعه ستولر (30) ويتمثّل في “الازدواجية الجنسية”، إذ أنه المفهوم الذي ساعد على تجاوز تلك “الصخرة” (31) التي أعاقت بحوث فرويد وذلك بعجزه عن تحقيق الانسجام بين نتائج بحوثه النفسية والحقائق البيولوجية. فالهوية الجنسية للفرد لا يمكن حصرها في مراحل التطور الجامدة التي أقرها التحليل النفسي، بل هي محكومة بدرجة عمل هرموني الذكورة والأنوثة فيه. أما على المستوى النفسي فالهوية الجنسية تتقرر عبر توجيه من المجتمع الذي يقرر أنوثة المرأة أو ذكورة الرجل ولكنه لا يستطيع تعقّب الجنس الثاني الذي يتقن التخفّي والخمود.
ومن هذا المنطلق يمكننا فهم تصور الدارسة للحب بما هو بحث عن أعماق الشخصية وشوق إليها يرتسم بالاتصال بالمحبوب المفارق له، وهي أيضا تلك العلاقة الممتعة التي كلما توطّدت تمكّن المحبّ في اللحظة نفسها من الاستمتاع بأعماق حبيبه المشابهة له. فازدواجية الجنس تجعل الحب مجالا لمتعة الاختلاف والتشابه معا.
ولعل في هذه الصورة المتجللة بخلفية نفسية استعادة واعية أو تجلّيا لا واعيا لتلك الأسطورة (32) التي تخطّ مسار الانتقال من النفس الواحدة إلى المنشطرة، وتجعل الحب شوقا لتلك الوحدة التي انفطرت. ولا ريب أن هذه المقولة تتساوق مع ما ذهبت إليه الكاتبة في تصوّرها للحب الحقيقي، إذ أنّه يفضي إلى نفي قيم التضحية وإنكار الذات التي يوشّي بها المجتمع علاقاته المريضة. إن الحب لدى السعداوي سبيل لإعلاء الذات ولأم الشرخ الباطني الذي يحدثه المجتمع عبر فعل التربية، وهو تحرر الرجل من قمقم النرجسية الذكورية وتحطيم المرأة لسجن التبعية الأنثوية. ويمكن القول إن الحب هو أداة التمرد على النمط الذي سُبك فيه الفرد لتحديد موقعه الاجتماعي وعودة للشخصية الأصيلة الحرّة المتوازنة: “فالحب توكيد لثقة الإنسان في ذاته، وامتداد لحبه لنفسه ليحب سائر البشر” (33) .
ونظرا إلى خطورة الوظيفة التي يضطلع بها الحب الحقيقي بما هو بناء للذات ونقض لبنيان المركزية الذكورية، تضع السعداوي شروطا تضبط هذه العلاقة وتنأى بها عن علل الحب المريض الذي تغنى به الشعراء وصنّفه الأدباء إلى مراتب تبلغ حدّ التبريح والجوى والخبل والبلى والكمد..
• شرط التكافؤ: يُعدّ هذا الشرط أساس السعادة الزوجية لدى جمهور الفقهاء، ولذلك أمعنوا في شرحه وبيان أبعاده مستندين إلى ما ورد في أخبار السيرة من أدلّة عليه. لكن اللافت للانتباه في هذه الحدود الفقهية هو عقد هذا الشرط بعلاقة الزواج من ناحية والانحراف بمعنى التكافؤ من المماثلة إلى التقارب، ففي إجابة د. سميحة غريب مثلا عن معنى هذا المصطلح تقول: “والمقصود بالتكافؤ هنا ليس التطابق ولكن مجرد التقارب وعدم وجود ما يسبب الضرر في الزواج ويكون التقارب في المستوى الديني والمادي والاجتماعي والفكري والثقافي والعلمي والعمري أيضا، كما يكون التقارب كذلك في العادات والتقاليد” (34). ويعود ذلك إلى مقتضيات المراتبية الاجتماعية التي تقوم على تفويق الرجل، مما يفرض عليه أن يختار من تكون مكافئة له أو أقلّ منه دينيا وعلميا وخلقيا واجتماعيا إضافة إلى السن. ثمّ ينضاف إلى ذلك إباحة الشرع والعرف لحقّ فسخ الزواج في حالة انعدام التكافؤ على أن يكون ذلك بإذن أولياء الزوجة.
جملة هذه الحدود الضابطة لشرط التكافؤ توضح ما أجرته السعداوي من تغيير يجانب السنن الدينية والاجتماعية لتخلّص هذا الشرط من قبضة البنيان الفحولي وليكون نظير معناه الإيتمولوجي أي التماثل والتساوي. ولذلك ترحل به بعيدا عن مؤسسة الزواج الوفية لذلك البنيان لترسخه في نطاق علاقة الحب باعتبارها القاعدة الأساسية للعلاقة السوية بين الجنسين: “إن الحب لا يمكن أن يحدث بين سيد وعبد أو بين صاحب سلطة وخاضع للسلطة أو بين أقوى وأضعف أو بين أعلى وأدنى” (35) .
وتدرس السعداوي جذور النكسة التي عرفتها علاقة الحب في ربط مع تاريخ نشأة المجتمعات الذكورية وانكسار المجتمعات الأمومية مستعينة في ذلك بتصوّر الفيلسوف الألماني أنجلز (36). ففي زمن “القطيع البشري البدائي” كانت المساواة بين الأفراد واقعا ينتعش بغياب الملكية الفردية وانعدام التحريمات الجنسية. ثم تلاه النظام الأمومي بالتحول من نظام القطيع إلى العشيرة، وما يلفت الانتباه في تناول الكاتبة لهذه المرحلة أنها لم تلوّح إلى ما اعترى العلاقة بين الجنسين من توتّر بامتلاك المرأة للسيادة بل اعتبرتها تحوّلا فرضته الطبيعة نظرا إلى رمزية الأنثى إلى الخير والخصوبة والولادة والحياة. ولكنّها تشير أيضا إلى أن هذه المرحلة أفرزت ظاهرة حسد المرأة وحرص الرجل على اكتساب القوة الكافية للحظوة بالمرأة القوية إلى أن تغوّلت هذه القوّة فتمكن من ارتكاب أول جريمة في التاريخ الإنساني وهي اغتصاب الأنثى، وهو تحليل يلغي مقولة جريمة قتل الأب التي أقرها فرويد كفاتحة لتاريخ الإجرام البشري.
ثمّ تتوغّل السعداوي في شرح تفاصيل هذا الانقلاب الذي تعاضدت فيه القوة مع نشأة النظام الزراعي لتؤكّد مقولة اقتران المجتمعات الأبوية بإعادة توزيع الأدوار والفصل بين الجنسين وتحييد المرأة عن مراكز صنع القرار، وهي عوامل جوهرية ترسّخ واقع اللاتكافؤ الجنسي وتخنق احتمالات الحب. إذن فالواقع الاقتصادي والاجتماعي يوجّه طبيعة العلاقة بين الجنسين ويحيد بهما عن ذاتيهما الأصيلتين ليكونا مجرد فاعلين في حدث اجتماعي غايته تأمين إنتاج الأنماط الاجتماعية الضامنة لبقاء البنيان الذكوري صامدا في وجه الشروخ التي تتوسع. وفي هذا السياق يتنزّل تهديد المرأة الواعية المريدة للصدق والمساوية مع ذاتها لهذا القالب الاجتماعي، وتُبوّب خطورة الثورات المعرفية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، فهي فواعل أساسية في فضح دوائر المشاعر الزائفة التي تلثّم أنانية الرجل وخوفه من هدر قوته أو نسفها وتقنّع استسلام المرأة لوهم الضعف وجهلها بقدراتها وإمكانياتها.
وبذلك تعدّ السعداوي قيم الإخلاص والتضحية والحماية والشرف قيما زائفة مخادعة يتيه في خضمّها الحب الحقيقي: “ومن أجل أن يتحقق الحب في العلاقات الإنسانية داخل الأسرة وفي المجتمع لابد من الثورة على النظم الاجتماعية والاقتصادية المستغلة، ولابد من تغيير المفاهيم القديمة المتعلقة بالذكر والأنثى والزواج والجنس والشرف والعمل بحيث يستردّ كل من الرجل والمرأة إنسانيتهما المفقودة وشرفهما المفقود”(37).
وهكذا تطعن السعداوي في إمكانية توفّر الحب الحقيقي في ظلّ المنظومات الاجتماعية السائدة بينما اعتبرته مكسبا مضمونا في حالة المجتمعات الاشتراكية، ويعود ذلك إلى ما يهدف له هذا النظام من حرية ومساواة واعتراف بقدرات المرأة، وهي أهداف منضوية في إطار تحرير كل الطبقات المستغلة. غير أن القارئ يفاجأ في مواطن متعددة من دراسات الكاتبة بميلها نحو إحلال مركزية جديدة تقوم على جوهرة الأنوثة وتهميش الذكورة، ولعلّ في كتابها “الأنثى هي الأصل” إشارة واضحة لسعيها نحو إثبات سموّ المرأة بالاعتماد على البحوث التاريخية والأنتروبولوجية والنفسية: “لكن الذي يتفق عليه معظم العلماء المحدثين الآن هو أنه فيما يختصّ بالإنسان فليس هناك جنس يعتبر أسمى من الجنس الآخر وأنه إذا فرض وكان هناك جنس أسمى من جنس فإن الجنس الأسمى ليس هو الجنس الذكري بالتأكيد وإنما قد يكون هو الجنس الأنثوي بسبب تلك الحقائق البيولوجية والفيسيولوجية السابق ذكرها وكذلك الحقائق التاريخية منذ قديم الأزل، والسبق التطوري الذي أحرزته الأمومة على الأبوة بيولوجيا ونفسيا وإنسانياً(38).
ولا ريب أن انحياز الباحثة وتعصبها للأنثى يُعدّ لدى خصومها من المآخذ الفكرية التي تشوّش التناسق الفكري للبديل الاجتماعي الذي تنحته. فبين القول بتفوق الأنثى وبين الإلحاح على شرط التبادل بين المحبين ثغرة لا يمكن تجاوزها إلا باتخاذ الكاتبة لتلك المسافة التي تخوّل لها الحكم بشكل موضوعي محايد، أي بالتخلي عن نوازعها الذاتية المحالفة للمرأة في هذا الصراع مع ثوابت المجتمع.
• شرط التبادل: كيف يمكن أن يكون الحب حقيقياً إذا لم ينبن على تجاوب بين طرفين مستقلين ومتكافئين؟ فتغنّي العشاق بألم الحب من طرف واحد أو بعذاب الهجر ومتعته في آن واحد أو بالتضحية في سبيل الحبيب إنّما هي شواهد على الحبّ المريض أو المشوّه الذي يصل بين الفرد والفراغ في حالة امتناع الآخر عن التفاعل أو هو وهم الحبّ الذي لا يمكن أن يكون من طرف ألغى أو استباح ذاته قربانا اجتماعيا؟ ولذلك تشرّع السعداوي مبدأ التبادل الذي يتحقق به التواصل بين الحبيبين على أساس التكافؤ وعدم احتكار المبادرة في الحب وأحقية الطرفين في الارتواء: “لا يقوم الحب على الأنانية كذلك لا يقوم الحب على التضحية” (39). ومن هذا المنطلق تضع الكاتبة حدودا للحب الحقيقي تتمثل في ضرورة الوعي بقدر العطاء والأخذ الذي يحقّقه إضافة إلى وجوب تزامن الفعلين معا. لكن هذه الحدود تشكّل عوائق لتحقيق الحب، أليس في كل علاقة تتأسس على التبادل انتظار لما يقدّمه الآخر حتى يكون العطاء على قدره؟ وبذلك لا مناص من وجود المبادرة والأسبقية لا سيّما وهي تعرّف الحب بالجوع الذي يشعر به الفرد بعد أن يشبع كلّ رغباته، فهل من المتاح شعور الطرفين بهذا الجوع في اللحظة ذاتها؟ وإذا كان الحب تحقيقا للذات فذلك يعني عدم اكتمال الذات ما قبل الحب وحينذاك يصبح السؤال عن بداية الحب هل تقوم على تبادل بين ذاتين متكاملتين أم أن التكامل غاية التبادل؟
رغم معضلات تنفيذ هذا الشرط فإنّ السعداوي تحرص على تنصيبه كمعادل للمساواة في علاقة الحب وتوضّح كيفيات تحققه، وفي هذا المضمار يتنزّل نقدها للعلاقة الجنسيّة التي تتظاهر فيها الزوجة ببلوغ قمة اللذة في حين أنّها تفعل ذلك إرضاء للزوج وخوفا من نبزها بقلّة الشرف. وتؤكّد الباحثة أن الالتجاء للكذب أو النفاق إنما يضلل الزوج ويربك العلاقة ويدنو بها إلى منطقة المرض إذ ينعدم التبادل ويضمحلّ حق الارتواء أو الإشباع: “يجب أن تدرك الزوجة أن الإيجابية في الجنس ليس واجب الزوج فحسب وإنما هي واجبها أيضا ويجب أن تشترك مع زوجها إيجابيا في كل شيء وأن تتبادل معه كلّ شيء وأنه ليس هناك من عيب إلا أن يخفي الإنسان مشاعره الحقيقية ويتظاهر بغيرها” (40).
وبذلك ترقى الكاتبة بمعنى الرغبة الجنسية والفعل الجنسي واللذة من المستوى الغريزي الحيواني إلى المصاف الإنساني إذ يصبح فعلا إراديا ومعقولا بانخراطه في نطاق التبادل والتكافؤ والوعي باستقلالية كل طرف. وحتّى يتمكن المرء من بلوغ هذه الدرجة من الوعي تلحّ الباحثة على ضرورة محاربة الجهل الذي يحكم العلاقة بين الجنسين وفضح الترهات والإشاعات التي تحبط إمكانيات الحب الحقيقي وخاصّة ما حفّ بالعلاقة الجنسيّة من تهويل وتأثيم وتعقيد: “إن تصحيح نظرة الرجل إلى المرأة وتصحيح نظرة المرأة إلى نفسها يتبعه بالضرورة تصحيح لكلّ العمليات التي تحدث بينهما في حياتهما المشتركة بما فيها العملية الجنسية. فالعملية الجنسية ليست مجرد تكنيك معين أو حركات تؤدّى أو أوضاع معينة لشكل وأحجام الأعضاء التناسلية أو مراحل معينة يجب أن تمرّ بها مرحلة بعد مرحلة بنظام دقيق لا يتغير(41).
وتبيّن السعداوي علل هذا الجهل فتردّها إلى غائية العلاقة المندرجة في نطاق مؤسسة الزواج، فالحفاظ على الأسرة الأبوية وتثبيت نظام الملكية وقوانين التوريث تستوجب التحكم والتقنين للعلاقة حتى تكون خاضعة لأحكام المراتبية. ولهذا تلحّ الدارسة على ضرورة الثورة على تلك البنى التي تشوّه العلاقات وتستغلّها لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية، على أن تكون المرأة عنصرا فاعلا فيها.
• شرط النزاهة: والمقصود به التخلص من العلاقات النفعية التي ينبني عليها عقد الزواج باعتباره الإطار الاجتماعي لعلاقة الحب، وذلك لتكون العلاقة بين الجنسين موسومة بالشرف الحقيقي السامي: “الشرف ضد المتاجرة في الناس سواء كانوا عبيدا أو نساء، وبالتالي فهو ضدّ الزواج الذي بني على المتاجرة وبيع المرأة بالمال. الشرف في جوهره يحرّم مثل هذا الزواج ويعدّه زواجا غير شرعي لأنّه علاقة ضدّ شرف الإنسان وضد كرامته وضد إرادته الحرّة وضدّ اختياره النابع من شعوره الصادق(42). فالزواج في نظرها يدنّس العلاقة ويرديها نحو الدرك الأسفل من سلّم الأخلاق باعتبار قبول الزوجة بدور المومس وممارستها لوظيفتها الزوجية بمقابل، وذلك ما يقضي على الحبّ الحقيقي ويدفع إمّا إلى تعدّد الزوجات أو استفحال الدعارة.
وبناء على هذا التصوّر تفسّر الكاتبة سقوط المرأة في هوّة الشرف الاجتماعي المزيّف، فتمارس الحب الحقيقي خلسة مع حرصها على المحافظة على العذرية ولو اضطرت إلى إجراء عمليات إعادة العذرية، وهي بذلك تهدر صدقها وانسجامها مع ذاتها وتعوق مشاعرها الصادقة عن الانطلاق بشكل طبيعي. وانزلاق المرأة في لعبة المجتمع يعود حسب السعداوي إلى استمرار قوامة الرجل عليها بما تعنيه الصفة من مسؤوليتي الإنفاق والحماية واكتفائها بدور الجسد الذي يسهر على الخدمة في البيت الأسري وفي المخدع. واستعمالنا دال القوامة لا يعني حصر هذه السلوكيات في المجتمعات الإسلامية بل هي صفة تغشى العلاقات بين الجنسين في المجتمعات ذات التوجه الرأسمالي، ففي الولايات المتحدة مثلا يستمر استغلال جسد المرأة وإن تظلّل بهامش من الحرية لا يعدو أن يكون مجرد مظهر يخفي استمرارية ممارسة الأدوار التقليدية: “المرأة في المجتمع الاشتراكي إنسان لها جسم وعقل ونفس كالرجل سواء بسواء، أما في المجتمع الرأسمالي فهي لا تزال مجرد ذلك الجسد الذي يستغل في الخدمة بالبيت أو يستغل خارج البيت في الاتجار بالجنس” (43) .
تقرن السعداوي بين النظام الاجتماعي وشكل العلاقة بين الجنسين، وتجعل سبيل تحرر الحب من عراقيله متعلقا بمدى قدرة الفرد على استرداد وحدته المستلبة واستمتاعه الحقيقي بالحرية والعدالة والمساواة. ويبقى الحل الاشتراكي هو الأنجع باعتبار مناهضته للنظم الطبقية الأبوية التي ترسّخ أدوات الاستبداد الذكوري ومن بينها مؤسسة الأسرة. غير أن ضعف البديل الاشتراكي أمام أهداف العولمة المكرّسة للاستبداد دفعت السعداوي إلى البحث في مظاهر المقاومة التي ارتفع نسقها بفضل النساء الرافضات للتدجين والسلبية. وقياسا على دعوة غاندي: “من أجل زعزعة نظام الطوائف يكفي تركيز الجهود على نقطة حساسة في المجتمع: “المنبوذين”” تبني الباحثة تصورها لمسار المجتمع الحرّ المريد للحب المتبادل والعلاقات المتكافئة بدراسة نفسية واجتماعية دقيقة لحالات بعض النساء المريضات بالعصاب (44).
وتطالعنا نتائج بحثها بحقائق مفاجئة تجعل المرأة العصابية أكثر وفاء لذاتها من المرأة “الطبيعية”، إذ تواجه “المرأة العصابية المشاكل الجنسية والمشاكل الأسرية أكثر من المرأة الطبيعية بسبب رغبة المرأة العصابية في الانطلاق والتساوي مع الرجل في الحرية الاجتماعية والشخصيّة، وهي مطلب طبيعي للمرأة التي تشعر بإنسانيتها وتكامل شخصيتها كجسم وعقل، أما المرأة الطبيعية فإن قبولها للأمر الواقع وتكيفها معه يجعلها أكثر استسلاما للقيود الجنسية والاجتماعية والأسرية وبالتالي أقلّ مواجهة للمشاكل والعصاب من المرأة غير المكبوتة أو العصابية” (45). فالعصاب إذن مظهر نفسي وسلوكي يشف عن تشبث بمعنى النزاهة والصدق والشرف، و يتفق ذلك مع جرأة هؤلاء العصابيات وخاصة من المتعلّمات على بناء علاقات قائمة على الحب وحرية الاختيار وإرضاء الرغبة الجنسيّة خارج نطاق الزواج. ولا تغفل الكاتبة عمّا يمكن أن يوجّه إليها من اتهام بإباحة الحرية الجنسية إذ تجعل الجنس شاغلا ثانويا للفتاة المتحرّرة والذكية والمثقفة وإن كانت أكثر فاعلية وجرأة وإيجابية أثناء الممارسة من تلك الفتاة المكبوتة التي يشغل الجنس لديها حيزا هاما من حياتها.
ولا يعني ذلك أن المرأة التي تنشدها السعداوي هي تلك العصابية التي تعاني شعورا بالإحباط لعدم القدرة على تحقيق طموحها الجسدي والعقلي، بل هي المرأة التي تكسر طوق الزواج بما يحمله من مظاهر عبودية وخضوع لسلطة البعل، فتنجحَ في العثور على شريك تؤسس معه علاقة حب مبنية على الإرادة والشرف والكرامة وتنأى بنفسها عن وضع المومس الشرعية وإما أن تسعى نحو أهداف أخرى كالعمل والإبداع والبحث الفكري. وبذلك يتضاءل شأن السلطة إذ يلازم كل فرد حدود هويّته.
2 ـ نسوية تصوّر الحب لدى السعداوي
لا تنكر السعداوي تأثرها بفكر سيمون دي بوفوار التي خصّت الحب بمحور في كتابها “الجنس الثاني(46) تحت عنوان “العاشقة”، فالنسوية الفرنسية تؤكّد على أن الحب السائد غير متكافئ إذ يكون الرجل ذاتا كاملة وكينونة تتمتع بوجودها دون ذوبان في الآخر، بينما تضطرّ المرأة إلى أن تنفصل عن ذاتها لتكون جزءا من حياة الرجل. وتلتقي الآراء في تصحيح مسار الحب وتحرير الجنس من ربقة النرجسية الذكورية والسلبية الأنثوية. كما تتفق معها في اعتبار مطلب تحرير العلاقات بين الجنسين مطلبا ثقافيا إنسانيا خاليا من الرومنسية مادامت حدوده التاريخية والثقافية مضبوطة.
الحب الحقيقي يقوم على نقض الحب المريض ويستهدف تحطيم مركزية القضيب، أي أنّه علاقة ممكنة النحت ومستقبل يمكن صوغه متى استطاعت المرأة تغيير النمط الذي سبكه المجتمع وفق الموروث الثقافي والضرورات الاقتصادية والاجتماعية. ويضاف إلى ذلك اتفاق الكاتبتين حول لزوم وعي المرأة بحدود الحقيقة في صورة الرجل المترسبة في أعماقها والمتحوّلة إلى أسطورة تقضّ توازنها الداخلي، فذلك ما يكفل لها إمكانية الحلول كذات مستقلّة متوازنة في علاقة حبّ حقيقيّة.
غير أن السعداوي لا تكتفي بالمرجعية النسوية كمعين يحدّد تصوّرها للحب إذ تنسج الأرضيّة البديلة من خلال مبادئ الفكر الاشتراكي وأهدافه ـ وهو توجّه جلّ النسويات ـ فهو الذي يضمن تخليص المرأة من وضع الاضطهاد الاجتماعي والجنسي بتقويض البنية الأسرية وتحرير العلاقات الحميمة من التقاليد والعادات البالية ليكون الطرفان معا قادرين على الاختيار الواعي والمريد وتبادل المشاعر على أساس من التكافؤ وفي كنف استقلاليتهما سويا.
على أن الاستناد إلى هذه المرجعيات لا يمكن أن يغيّب أثر التجربة الذاتية إذ تستشهد الكاتبة بنبذات من معاناتها زمن الطفولة وجزءا من حياتها المهنية، ويبقى الحدث الأكثر حفرا وفاعلية في كتابتها هو ذكرى الختان المفجعة والذي مثّل بالنسبة إليها لحظة اكتشاف القدر الأنثوي اللعين أو عملية استبدال الأنثى الطبيعية بأخرى اجتماعية مشوّهة. وتعترف الكاتبة بأن هذه الحادثة كانت سببا رئيسيا في اضطراب حياتها الجنسية والنفسية، أي إعاقتها عن إقامة حب حقيقي. ونظرا إلى خطورة التجربة تسقطها الكاتبة على النماذج النسائية اللواتي أصبن بالبرود الجنسي، بل تبحث الكاتبة في جذورها وأساليبها لتفسّر حالة الافتقار المستمرّة التي عرفها تاريخ الحب.
ورغم انطلاق نسويات كثيرات من سيرتهن الذاتية ـ ومنهن دي بوفوار نفسها ـ إلا أن الباحثة تعرضت لوابل من النقد للنزعة النرجسية التي أضعفت الطابع العلمي لكتاباتها، وقد يعود ذلك إلى تجاسرها على الموروث وإمعانها في رفع الشعارات اليسارية وإطنابها في فضح دائرة العلاقات الحميمة المسكوت عنها. ومهما كانت درجة اختراقها للنطاق الحميمي والتباسها بالنزعة الذاتية فإن السعداوي تعدّ في تصورها للحب الحقيقي نسوية في مرجعياتها وأهدافها بل رائدة للخطاب النسوي العربي من حيث تناولها لهذه المسألة إذ جعلت الحب ركيزة أساسية في مشروع المجتمع البديل بعد أن كان علاقة خاصة لا تتجاوز حدودها الوجدانية.
وليس من باب المبالغة اعتبار البحث في تصور السعداوي للحب ضربا من المغامرة الممتعة بالكشف عن حدود الممكن والمستحيل وبيان مسارب الذاتي في خطاب يتسم بالموضوعية العلمية، بل قد تجد الذات الباحثة صدى لصورتها عبر شهادات النساء المنتشرة عبر ثنايا دراساتها. ولئن كان وقوعها في تكرار أفكارها وقناعاتها من المآخذ التي ردّدها خصومها فإنّنا على يقين أنّها علامة على ثبات طرحها النسوي. وقد تعترينا الحيرة ونحن نحلّل تصوّرها للحب كما تحيل عليه جملة من الأسئلة التي طرحناها تباعا في هذه الدراسة، غير أنّها تكشف عن حيوية التفاعل الفكري الذي يحظى به خطاب السعداوي إمّا تجاوبا أو تجاوزا.
المراجع
(1) نوال السعداوي: طبيبة وكاتبة وباحثة نسوية مصرية ولدت سنة 1930 وعايشت فترة ازدهار التوجه اليساري في أوج شبابها. وقد تمثّلت هذه المرجعية وهي تسخّر قلمها للدفاع عن المرأة وفضح المظلمة الاجتماعية التي تتعرّض إليها. واعتمدنا في هذا المقال على دراساتها العلمية التي جمعت في مؤلّف واحد بعنوان: “دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي” ، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1990.
(2) قد يردّ البعض على هذه المواقف بأنّها تكشف عن شطط الفكر النسوي في نزوعه لنسف المنظومة الاجتماعية إذ لم يقنع بما تحصّلت عليه المرأة من اعتراف قانوني بحقّها في التعليم أو العمل.. غير أنّ الخطابات الناقدة لوضع المرأة الموسوم بالهشاشة في المجتمعات العربية تصدر أحيانا عن مثقفين لا يحسبون على النسوية، بل هي خطابات تتوخى الموضوعية والحياد العلميين لتقديم رؤية اجتماعية تروم التحليل العميق لواقع المجتمعات العربية. ذلك ما نلاحظه مثلا في إقرار محمد الرميحي أستاذ علم الاجتماع الكويتي: “وأيا كانت زاوية النظر التي نرى منها تطور المرأة العربية سواء من منظور المجتمع السياسي أو المجتمع المدني، فإننا سوف نلاحظ أن هذا التطور هو كمي مظهري، لم يؤدّ بعد إلى تغيرات جوهرية..لا تزال الثقافة السائدة هي ثقافة السيطرة للرجل في مقابل الخنوع للمرأة .” مقال “رفع حجاب الأوهام عن حال المرأة العربية”. مجلة العربي، العدد 467، 1/10/1997.
(3) ورد الفصل الأول بكتابها “المرأة والجنس” وهو بعنوان “ما هو الحب” وقد عقب تحليلا مستفيضا لوضع العلاقات بين الجنسين في المجتمعات العربية. أما الفصلان الواردان بكتابها الوجه العاري للمرأة العربية” فقد شفّا عن تناول إشكالي لمفهوم الحبّ الذي بقدر التباسه وعسر تقييده بدلالات تكفي لمشهدته، فإنّه ينطوي على متقرّر داخله رسّخته ثقافة الموروث العاملة بلا هوادة في النظام الاجتماعي وذلك بالحدّ المقابل للحب وهو ما وسمته السعداوي ب”كراهية وحب مشبوب” وبالبعد الحسي الذي يربك الطابع الميتافيزقي للحب وذلك ما يشي به فصل “الحب والجنس عند العرب”.
(4)- دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي: ص514.
(5) ـ م.ن: ص318.
(6) ـ م.ن: ص851.
(7) ـ م.ن: ص76.
(8)- م.ن: ص841.
(9)- يمكن النظر في الصفحات 76ـ77 من المصدر السابق حيث أوضحت الكاتبة المسار الفاشل لمؤسّسة الزواج منتقدة هشاشة مقوم الشرف الاجتماعي الذي يرتكز عليه.
(10) ـ م.ن: ص400.
(11) ـ م.ن: ص769.
(12) ـ م.ن:ص 770.
(13)- م.ن: ص44.
(14) ـ م.ن: ص499.
(15)ـ م.ن: ص441. يتواتر حديث أول العلاقات الآثمة بين الجنسين في دراسات السعداوي ، إذ تنعكس شيطنة المرأة وضرورة تطويق مواطن القوة فيها عبر ملامح شخصية حواء التي بلغت من القدرة على الإغواء ما أوقع بآدم في معصية الله: “ولم تكن قصّة آدم وحواء إلاّ تعبيرا عن خوف الرجل من المرأة، ولولا هذا الخوف ما نسب الشر والإثم والشيطنة إلى حوّاء [..] والمرأة التي تملك من القوة والسحر والفتنة ما يوقع الرجل ويسقطه من الجنة إلى الأرض ويسبّب له الدمار والهلاك والموت امرأة لابد أن تكون مخيفة ومرعبة وربما كانت كذلك فعلا”. م.ن: ص773.
(16) ـ م.ن: ص87.
(17) ـ م.ن: ص472. تستشهد الكاتبة بتصوّر أفلاطون الذين مجّد الحب المقدّس الرابط بين رجلين متوافقين روحيا وفكريا، وقد اعتبر الشذوذ الجنسي ميزة رئيسيّة لرجال السياسة. وهو موقف متناغم مع ثقافة الإقصاء السياسي : “وبهذا لم يكن للنساء مكان في الحب الأفلاطوني ولا في مدينته الفاضلة ! وهكذا يستطيع الرجل دائما أن يضع ثوب الفضيلة والقدسية على كلّ رغباته حتّى الشاذة منها.” م.ن: ص469.
(18) ـ م.ن: ص473.
(19) ـ م.ن: ص16.
(20) ـ م.ن: ص42.
(21) ـ م.ن: ص105.
(22)ـ ابن حزم : (384 هـ / 456هـ)، فقيه أندلسي ظاهري، ومتكلم وشاعر. يعرف الحب متبنيا مقولة الأكر المقسومة، إذ هو اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة بشرط التماثل. “طوق الحمامة في الألفة والألاف” تح إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، 1993.
أما ابن قيم الجوزية (691 هـ – 751 هـ) فمن علماء الدين الإسلامي الذين دعموا هذا التصور الميتافيزقي للحب بالتأكيد على معنى التناسب والتشاكل الذي لا يحقق اتصالا فحسب وإنما هو تمازج بين روحي المحبين، ومتى كان الحب مبنيا على دوافع وأهداف فإنه معرض للزوال بزوال أسبابه. “روضة المحبين ونزهة المشتاقين” تح محمد الحبيب بن خوجة، ط2، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1981.
كما يتردد مبدأ اتفاق الأرواح بين المحبين لدى ابن داود الأصبهاني (200-270 هـ)، إضافة إلى إمكانية الحب المعلولة بالمصلحة أو المردودة إلى ظرفية كالحزن والفرح. “كتاب الزهرة”، تحقيق لويس نيكل البوهيمي، بيروت، مطبعة الآباء اليسوعيين، 1936.
(23) ـ م. ن: ص107.
(24)ـ م.ن: ص116.
(25) ـ م.ن: ص116.
(26) ـ م.ن: ص 107.
(27) ـ م.ن: ص107.
(28)ـ يقول الديلمي أبو الحسن علي بن محمّد (ق4) في كتابه “عطف الألف المألوف على اللام المعطوف”: “إنّا وجدنا المحمودة منها هي النقية عن الآفات، العارضة فيها، المفسدة لها، الباقية على طهارتها الأصلية ونورانيتها المتقدمة، وروحانيتها القديمة. أمّا المذمومة منها، فهي المشوبة بشهوات النفس البهيمية من حظوظها النفسانية المتولّدة من دنس الطبيعة المذمومة بلسان العقل والشريعة”ص56، القاهرة، مطبعة المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، 1962.
(29 )ـ دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي: ص769.
(30) ـ م.ن: ص109.
(31) ـ روبرت ستولر: من أهم علماء النفس الأمريكيين (1925ـ 1992) المؤثرين في تصورات السعداوي الجنسية، وقد اهتم بدراسة الهشاشة النفسية لتكوين الهوية الجنسية. من مؤلّفاته: “مذكر أم مؤنث؟” 1989، “بحوث في الهوية الجنسية انطلاقا من المتحولين جنسيا” 1978.
تشرح السعداوي ما اعتبرته ضعفا في نظرية التحليل النفسي لمسألة التطور الجنسي عند المرأة، فقد اعتبر فرويد أن الحياة الجنسية تنطلق بالمرحلة القضيبية لدى الذكر والأنثى، وأكّد على أن طريق الأنثى نحو أنوثتها يمرّ بمسار ملتو موسوم بتنوع العقد النفسية المتعلقة بعضو الذكر حتى يبلغ مرحلة المازوشية وارتضاء الأذى. وهو تحليل يبرر قبول البنت بشعور النقص وإدماجها إيّاه في نطاق مميزات أنوثتها. بينما تقر السعداوي: “المعروف بيولوجيا وفيزيولوجيا أنه ليس هناك من هو ذكر خالص مائة في المائة ومن هي أنثى خالصة مائة في المائة، بل إن الأعضاء الجنسية والهرمونات الجنسية في كلا الجنسين تتداخل، ويحتفظ الرجل ببقايا أعضاء أنثوية منذ كان جنينا وتحتفظ المرأة ببقايا أعضاء ذكرية..” م.ن : ص200.
(32) ـ في كتابها “العشق والكتابة” تخصّص الأستاذة رجاء بن سلامة الباب الأول من الفصل الثاني لتحليل أبعاد حضور مقالة الأكر المقسومة في مواقف المنظرين للعشق، وتكشف عن أساليب احتوائها وتطويعها للمعايير العشقية التي قاموا بسنّها. ص 303ـ309 ،كولونيا، منشورات الجمل، 2003.
(33)ـ دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي: ص 114.
(34)- حوار أجرته تسنيم الريدي مع د. سميحة غريب تحت عنوان: “التكافؤ بين الزوجين من أهم أسس السعادة الزوجية”
(35) ـ دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي: ص105.
(36) ـ ولد انجلز الفيلسوف الألماني يوم 28 نوفمبر1820 وتوفي في 5 أوت 1895، من أهم ما كتب “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة” سنة 1884، وفيه بلور ملاحظات كارل ماركس حول الدراسات الأنتروبولوجية للمجتمعات التقليدية التي قام بها هنري مورغان.
(37) ـ دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي: ص514.
(38) ـ م.ن: ص205.
(39) ـ م.ن: ص 114.
(40)ـ م.ن: ص136.
(41)ـ م.ن: ص137.
(42) ـ م.ن: ص75.
(43)ـ م.ن: ص77.
(44) ـ خصّصت الكاتبة مؤلّفها “المرأة والصراع النفسي” لدراسة ظاهرة العصاب انطلاقا من طائفة من الحالات المرضية المتوافدات على المستشفيات النفسية أو القابعات في سجن النساء أو بعض الصديقات اللواتي أسررن بهمومهن لها. وقد سعت إلى تبيّن حجم هذه المشكلة التي لم تلق الاهتمام العلمي الكافي .
(45)ـ م.ن: ص582.
(46) Simone De Beauvoir هي من رائدات الخطاب النسوي، كاتبة ومفكرة نسوية فرنسية (1908ـ 1986) أثرت في جل النسويات إما بإثبات أفكارها أو نقدها أو الإضافة لها، وكان لكتابها “الجنس الثاني “Le deuxième sexe” 1948 أثر واضح على الخطاب النسوي العربي في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين.
.
غير أنّ هذه المواقف التي تهمّش مسألة الحبّ في الفكر النسوي العربي وتنكر تصنيفها في دائرة شواغل هذا الفكر إمّا أن تكون غافلة عن خطورة افتقار المجتمعات العربية لهذه العلاقة باعتبارها ثغرة تتوسّع في صميم النسيج الاجتماعي أو أنّها مواقف متواطئة مع سلطة المحاصرة والمصادرة لكل فكر يبحث في الخطابات المدرجة ضمن خانة المخالف والمتمرّد عن الخطابات الرسمية. لذلك يعدّ الحديث في الحب ومن وجهة نظر نسوية مغامرة متعدّدة الأبعاد، إذ يطأ البحث مسألة مازال الخطاب النسوي العربي يدرج خطواته الأولى في مقاربتها، فإذا بنا إزاء فكر يتشكّل. ثمّ إن الوقوف على علاقة الحب من وجهة نظر نسوية تفتح أمامنا أبواب مواجهة منظومة ثقافية عربية تحكم العلاقة بين الجنسين وتضبط شروط حبّ يتناغم ومقوّمات البنيان الاجتماعي.
ولعلّ مرور عقد من الزمن على مغامرة الكتابة في هذه المسألة وذلك في نطاق رسالة الماجستير حول “قضيّة الحب والرغبة في فكر نوال السعداوي”، يجعلني اليوم أتوق إلى خوضها وقد اختلفت المرجعيّة السياسية والاجتماعية والثقافية وتنامى الإحساس بخطورة الكتابة عن أشدّ العلاقات حميمية بين الجنسين. اليوم أتناول القضية من زاوية نظر نوال السعداوي نفسها وقد اعتملت داخلي هواجس الإقصاء لهذا الفكر لأن ما نشهده ـ في تونس ـ من مدّ أصولي وسطوة إفتاء ينافحان عن مقولة الفصل بين الجنسين وضع مقلق ومربك يضاهي ذلك الظرف التاريخي الذي حفّ بكتابة نوال السعداوي (1). وإذا كان من جملة دوافع خطابها تحريرُ المجتمع من تلك الخطابات الذكورية المتلفّعة بالدين والمبررة لعلاقات الهيمنة والميز الجنسوي في النصف الثاني من القرن العشرين، فذلك ما يدفعني إلى اعتباره خطابا فينيقيا ينبعث إلى الحياة ليقاوم قدر اشتعاله بثقافة قيمية موروثة صارمة وصامدة في الظاهر متآكلة من الداخل.
ولعلّ من دواعي اعتلال هذه الثقافة ما تشكوه من مفارقة صارخة بين الاحتفاء البالغ بخطابات الحبّ الموروثة والإجحاف في الشروط المطوّقة والموانع المقننة لهذه العاطفة حتى تكون مشروعة اجتماعيا. وتكشف هذه المفارقة عن الحذر بل الخوف من الحب وما قد يتمخض عنه من إرباك للمجتمع، وهو الخوف الماثل خلف مساحة الكره المعلن حينا والمضمر حينا آخر بين الجنسين وهو أيضا ذلك الخوف الكامن داخل خطابات السلطة الدينية الأخلاقية والقانونية. وبناء على ذلك كان انشغال السعداوي بمسألة الحب مستمرّا وفاعلا في دراساتها العلمية حتّى ما تعلّق منها بتحليل وضع المرأة الاقتصادي والقانوني والسياسي. فكلما سعت إلى تعرية دوافع الصراع الجنسوي داخل المجتمعات العربية وتحديد منابع المساواة التي جُفّفت وفضح محدوديّة التغيير الذي طرأ على وضع المرأة في المجتمعات العربية (2) طفت قضية الحبّ المريض وأعراضه وأسبابه كمصدر عطالة حضارية تعوق إرساء مجتمع دون مركزيات.
فكيف يمكن أن تؤثّر أشد العلاقات خصوصيّة في المسار التقدمي للمجتمع؟ وما مدى القدرة على التخلّص من الطابع التسلطي للحب كي يتحقّق بين طرفين متساويين ومستقلين بعيدا عن صور الحب المشحون بعذاب الشوق وألم الافتقار؟ ثمّ يعودني ذلك السؤال الذي يدفعني بين الفينة والأخرى لمراجعة كتابات السعداوي: ما الذي يمنع هذا التصوّر عن التحقق رغم انقضاء زهاء نصف قرن على الشروع في بلورته؟ هل هو استمرار قصور المعرفة النسوية العربية عن زحزحة المركزيات القائمة، لا سيما وقد تشعبت مرجعياتها واختلفت رؤاها إلى حدّ التضارب أحيانا أم هو لموقف مختلف خطابات الثقافة الرسمية المقصية لهذا الفكر المتمرد أم هو لعجز الكاتبة عن ترجمة خطابها إلى فعل ميداني أو حركة نسوية ثورية تقطع مع سياسة ولاء أغلب الجمعيات النسائية العربية للنظام الأبوي؟
تبدو هذه الأسئلة الباحثة عن عوائق تطوير الخطاب وتجسيد رؤيته على علاقة متينة بمفهوم “التموضع داخل النص”، إذ أنّ من تتوجّه الكاتبة إليهم بالخطاب هم غير الذين تتحدّث عنهم. فإمّا أن يكون القارئ لنصّها من فئة المهيمنين الذين يتشبثون بتلك المراتبية أو هو من القلة المؤمنة بلا جدوى هذا النظام السائد، ولكنّه يتّخذ موقعا متعاليا منعزلا عن غيره داخل البنيان الاجتماعي فإذا هو بين المركز والهامش. ولنفترض أن البعض ممّن كان مدار تحليل يقرأ نصّ السعداوي، فإنّه بلا ريب سينظر إلى صورته محدّقا ومستغربا بشاعتها مستنكفا عن تبيّن ملامحه فيها. ونظرا إلى هذا الإشكال الذي يعتري المقدرة التواصلية للخطاب تتأكد أهمية العكوف على قراءة تلك المتون انطلاقا من رؤية نقدية تركّز على علاقة الذات الكاتبة بالذوات القارئة والذوات المرجع.
وبناء على ذلك فإن الحديث عن تصوّر السعداوي للحب بين الجنسين في المجتمعات العربية ينهض على محورين:
ـ محور أفقي يجمع بين دوائر التسلط والمهيمن عليهم وذلك للبحث في ملامح “الحب المريض” ودواعيه من ناحية وشروط “الحب الحقيقي” من ناحية أخرى.
ـ محور عمودي يقوم على مدى نسوية الرؤية التي تقدمها الكاتبة حول علاقة الحب ومنسوب الحياد العلمي الذي يميّزها.
1 ـ الحب بين الجنسين: الواقع “المريض” والممكن “الحقيقي”
يطالعنا دالّ “الحبّ” عبر ثلاثة عناوين (3) فحسب من جملة ما يفوق سبعين عنوانا آخر وسمت بها السعداوي فصول دراساتها العلمية الخمس. وإذا كان فصل “ما هو الحب؟” ذا طابع تفسيري تحليلي لماهية الحب، فإنّ الفصلين الآخرين يحيلان مباشرة على مساءلة الكاتبة لثقافة الحب السائدة، ثقافة تجعل الحبّ مسكونا بالكره أو ملعونا بقدر الرغبة الآثمة. ولعل الشروع بملاحقة دال “الحب” في مستوى العناوين يبدو في هذه الحالة منطلقا فاشلا بالنظر إلى قلّتها، غير أنّ هذا الغياب هو في حدّ ذاته نصّ استراتيجي يفضح الواقع الذي يغيب فيه الحب. وهو عتبة تسكن داخل العناوين الأخرى الكاشفة عن اختلال العلاقات بين الجنسين، بل هو العنوان المحتجب خلف عملية الفصل بين الرجل والمرأة في العناوين الرئيسيّة لدراسات السعداوي. ولذلك ارتأينا الانطلاق من ملامح وأسباب افتقار الجنسين للحب أو معاناتهما من الحب المريض المشوّه، حتّى يتسنى لنا الإحاطة بطرحها حول مفهوم الحب الحقيقي أو الحب المستحيل.
أ ـ الفحولة تؤثّم الحبّ
تؤكّد السعداوي على أنّ “افتقاد الحب الحقيقي في علاقات البشر رجالا ونساء وأطفالا هو أهمّ عيوب الحضارة الذكورية القائمة على الملكيّة والتوريث والسلطة الأبوية” (4)، وفي هذا الموقف المبني على ثنائية (المفقود/الموجود) تقيم الكاتبة علاقة بين النظام الاجتماعي والاقتصادي وواقع العلاقات الحميمة بين الأفراد. فالواقع الحميمي محكوم بآليات وغايات البنيان القائم على علاقات هيمنة واستغلال، وهو ما يسلبه القدرة على الحبّ المجرّد من النفعية والاستعباد، أو يدفعه إلى وضع علائقي يمسخ الحب بشروط وأحكام تتناسب وعلاقات الهيمنة التي تحكم النظام الاجتماعي.
وتوغل السعداوي في عملية الكشف عن المسخ الذي لحق الحب في منظومة الزواج، باعتبارها المؤسسة الشرعية التي بقدر ما أباحت الحب أقصته. فداخل هذه المؤسسة ينكمش الحب ويخبو وهجه وقد اتخذت المرأة موضعها كمتاع يمتلكه الزوج أو هي واحدة بين نساء الحريم الخاضعات لرغبات الزوج وأهوائه مقابل الحماية والإنفاق عليها: “الأغلبية من الناس لا يحبون حبا حقيقيا ولكنهم يدخلون في علاقات نفعية أجل الحصول على قوة أو مال أو حماية من أي نوع”(5) .
وبقدر الصرامة والقداسة اللتين تميزان رابطة الزواج تجتهد الكاتبة في فضح لا أخلاقية العلاقة التي يغيب فيها العدل والتكافؤ بين الجنسين، ويضطر فيها الاثنان إلى الكذب والنفاق بتكلّف حب يخادع الذات بقدر ما يخدع الآخر. فحب الزوج ينطوي على أنانية المالك وسطوته وحماية أملاكه، أما حب الزوجة فتمسّك منها بالاعتراف الاجتماعي ومغالطة للنفس بوهم الارتياح والسعادة وقمع لرغبة التمرد التي تخامر المقهور أو المستعبد إذا ما طالت واستفحشت عبوديته. لذلك تهاجم الدارسة هذا الحب المشروع باعتباره غلافا مخمليا يستر عيوب النظام الاجتماعي الذي تغيب فيه العدالة، وتبرز ما يعتري العلاقة من شروخ عميقة خلّفتها صفقة الزواج: أليست المرأة سلعة “تشترى بالمهر أو الصداق وتباع بمؤخّر المهر والنفقة(6)؟ وبين صاحب السلعة وسلعته علاقة استغلال وامتلاك يستحيل معها الحب المبني على صلة بين كيانين متكافئين ومستقلين.
ثمّ إن الصبغة التجارية التي يكتسيها الزواج تتيح للكاتبة مقاربة تقوم على تأثيم العلاقة بين الجنسين إذ تلحق بالزوجة صفة المومس الشرعية وإذا كانت البغيّ تقبل بتأجير جسدها فالزوجة تخضع لشروط عقد ملكية: “وإذا كان تعريف المومس إنّها المرأة التي تقبل العلاقة الجنسيّة بالرجل لأسباب تجارية ونفعية فلابدّ أن يسري هذا التعريف على أي امرأة تقبل العلاقة الجنسية بالرجل لأسباب تجارية ونفعيّة”(7).
وتلحّ السعداوي على زيف الحبّ في نطاق الزواج ذي الطابع التجاري بإحالتها على مسألة تعدد الزوجات الذي تجعل من هؤلاء النسوة سلعا متشابهة يستغلها صاحبها بشكل دوري، فأيّ حب يمكن تحقيقه بين المفرد والجمع؟ وأي حب يقبل بوضع المنافسة أو المؤامرة للفوز بالحبيب؟ ففي ظلّ تفضيل الزوج بين زوجاته وفي ظلّ حلول الزوجة في مقام المقارنة وشعورها بالخوف من الإهمال يتبدّد الحب لتعوّضه الحاجة الجنسية المنقضية بالإشباع. وتردّ السعداوي على رافعي شرط العدالة بين الزوجات كأساس للحب باستحالة تحقيق العدل: “لأنّ معنى التعدّد هو التفضيل، تفضيل الزوجة اللاحقة على الزوجة السابقة، ويكفي هذا التفضيل أن جعل العدل مستحيلا على أي رجل وإن كان نبيا [..] ألا أنّ محمدا كان بشرا ولم يكن في وسعه دائما أن يحقّق هذا التقسيم العادل. فقد كان يفضل زوجته عائشة ويحبها أكثر من زوجاته الأخريات” (8) .
وهكذا فالصيغة الوحيدة التي يقبل فيها المجتمع العلاقة الحميمة بين الجنسين هي أشدّ الوضعيات مسخا للحب حسب السعداوي. فهو حبّ يجمع بين ذاتين مغتربتين، إذ يمتثل كلا الطرفان لمعايير النمط الذي يرضاه المجتمع بمرافاته لمقومات الشرف الظاهري ويدير ظهره لصميم مشاعره وصادق رغباته. وإذا بالعلاقة الزوجية مسرحيّة عاطفية يعجز بطلاها عن بلوغ حالة التماهي مع الدور ويكون مآلها البرود والنفور الذين يدفعان إما إلى الطلاق أو إلى الخيانة الزوجية (9).
والحديث عن المآلات الفاشلة للحب داخل مؤسّسة الزواج يلتبس بدلالات جنسية تحيلنا على الوظيفة الأساسية لهذه الصيغة العلائقيّة، فالعلاقة الجنسية تكتسب مشروعيتها أخلاقيا واجتماعيا من خلال الزواج وذلك من أجل التناسل. ولكنّ اختزالها في هذه الوظيفة يلغي منها البعد النفسي والفكري ويجتزئ العملية عند حدودها الجسدية، وهو ما أفرز ضربين من العلاقات المشوهة بين الجنسين، فهي “إمّا علاقات عاطفية بغير جنس أو علاقات جنسية بغير حب وكلا النوعين ناقص بل ضار أيضاً” (10). وتوضح الكاتبة انعكاس هذين الوضعين على الحالة النفسية للطرفين:
• وضع الحب من دون جنس: وهو حبّ تسمه الكاتبة بالرومانتيكي، وتستند في تحليله على تجربة الشعراء العذريين لتبرز ملامح المعاناة والعذاب والحرمان التي قد تدفع إلى الجنون أو الموت عند اليقين من استحالة تبادل الحب في هذا العالم. فالمحب في هذه الحالة يشكو انعدام ثقة بالنفس ويعاني فوبيا الجنس تحت وطأة عقدة الشعور بالذنب ولذلك يُمنع أو يمتنع عن الزواج بحبيبه، لكنه يكابد حالة الشوق والتحرّق للآخر وقد جرّده من وحدته الجسدية، فإذا هو كيان طيفي أو هلامي يعسر تجسيده. وتؤكّد الكاتبة على أن كبت الرغبة بشكل ذاتي ومستمرّ يولّد نزعة مازوشية تمنح صاحبها إحساسا بلذة مؤلمة: “ويترنم العرب بالعذاب في الحب ويتلذذون بألام الفراق والشوق والحرمان، ومن أقوال ابن حزم “والحب داء عياء ومقام مستلذ وعلة مشتهاة، لا يودّ سليمها البرء، ولا يتمنى عليلها الإفاقة””(11).
وفي هذا الإطار تنتقد السعداوي نظرية فرويد التي حصرت المازوشية في شخص المرأة كخاصية طبيعية، واعتبرتها رؤية ذكورية تقوم على منطق فحولي يقر بالمراتبية والهيمنة على أسس فطرية: “وكم أخطأ فرويد حين وضع نظريته عن سيكولوجية المرأة وجعل المازوشية ركنا أساسيا فيها وجزءا من الطبيعة التي ولدت بها، فالمرأة ليست وحدها المازوشية، ولكن الرجل أيضا مازوشي، وكلاهما ضحية تلك الفكرة التي فصلت بين الجسد والروح” (12).
وتبحث السعداوي في ظروف نشأة هذه الفكرة التي تشمل الإنسانية جمعاء لتخلص إلى جذورها التوراتية العاملة في شتى الحضارات الإنسانية حسب رأيها، فتدينها بتكريس فعل الفصل بين الوحدتين (الجسد/ الروح) وإضفاء هالة القداسة على مقولة تخدم مصلحة الأنظمة القائمة على التوريث والملكية، أو بالأحرى تخدم مصلحة الرجل. ومن هذا المنطلق تفسر الكاتبة سرّ ثقل الموروث الأخلاقي الذي يقضي بعزل الجسد عن الروح والعقل في تعاليم التربية، وتستشهد بتجربتها الشخصيّة لتبيّن ازدواجية المشاعر نحو الجنس الآخر تبعا لتلك الثقافة الأسرية التي تؤثّم عاطفة الحب وتحرّم الرغبة خارج نطاق الزواج. ولا تتردّد الدارسة في الاعتراف بأنّها كانت ضحية مرض الرومانتيكية وهي تصوغ طيف الرجل الذي يمكنه إرواء غلّتها ومنحها المتعة المحرمة في الواقع: “إنّه نوع من الشيزوفرينيا أو الانفصام تلحقه الفتاة بالرجل لتهرب من الشعور بالإثم. فهي بحكم التربية والتقاليد السائدة تربط بين الإثم والاتصال بجسد الرجل ويكون الرجل الوحيد الذي يناسب كبتها هو أن تطلق العنان لخيالها وتصنع رجلا وهميا”(13).
ولذلك تعتبر السعداوي مؤسسة الزواج فاشلة في تحقيق الوصل بين الطرفين نظرا إلى اصطدام الزوجة بجسمانية الزوج وجنسانيته المفارقة لذلك المعشوق الطيفي، فما هي إلا جسم أجوف قد اعتوره البرود بعد إعدام الإرادة الفكرية والنفسية، جسم فاقد الرغبة يخضع لإرادة الغير خضوعا ميكانيكيا ويستر سلبيته بدثار العفة والحياء.
إذن، تحمّل الكاتبة منظومة التربية مسؤوليةَ حرمان الفتاة من شعور الحب وتدين جملة الأخلاقيات التي تنتهش إرادتها وتقتصد عواطفها وتختزلها في صورة الأنثى المثيرة بمفاتنها الخِلقية والمحافظة على برقع الحياء وتميمة العذرية. ومثل هذا الوضع القلق الذي يربك المرأة ويدفعها إلى سلوكيات يرتابها المجتمع ويشكّك فيها من تمنّع وتحاش للرجال مواكب لاهتمام مشطّ بالشكل والجمال، يتنافى ومعنى الحب الشريف الذي يقتضي الثقة والاحترام والتكافؤ بين الطرفين كما سنبيّنه لاحقا.
ومادام الرجل طرفا في هذه العلاقة المشوّهة بإملاءات الأخلاق المتناقضة فهو أيضا مشمول بتبعات التربية المتعسّفة كما توضحه الكاتبة عبر مظاهر ازدواج المشاعر. وإذا أُكرهت الفتاة على أن تكون أداة جنس في سياق محدد مع التمثّل المستمرّ لمقولات تأثيم الجنس وازدراء الرغبة واستنكار الحب، فإن الرجل أيضا مدفوع نحو إثبات قوته الجنسية مع زوجة لا يتسنى له حبّها أو هو مضطر إلى نصف معايشة جنسية إذ يفتقد الشعور باللذة. ويعود ذلك حسب الكاتبة إلى سببين:
ـ السبب الطبيعي: وهي تلك المرحلة المبكّرة التي يختبر الطفل فيها علاقته بأمّه، فعمليّة الكبت الثانوي الأوديبي التي تجعل الطفل يخاف تلك الرغبة الجنسية المصاحبة لشعوره بالحب نحو أمّه ويسرع بطيّها في غياهب اللاشعور، هي عمليّة تأسيس للفصل بين الحب والجنس وخاصّة في مستوى علاقة الرجل بمن حلّت موقع الأم أو اضطلعت بدورها في الإنجاب والتربية وتقمّصت شخصيتها بإظهار العفة والقنوت. وبالتالي، لا يستقيم للرجل حبّ حقيقي مع الزوجة ـ الأم الطاهرة بل هي علاقة باردة وإن سادها الاحترام، عاجزة عن تلبية رغبة رجل في إثبات إيجابيته في الجنس أو إرضاء فائض الفحولة الذي خلّفته التربية المحتفية بالأعضاء الجنسية للطفل منذ الولادة.
ـ سبب ثقافي: تعزو الكاتبة توتّر العلاقة الحميمية بين الزوجين إلى رواسب خوف بدائي من الطاقة الجنسية الهائلة للمرأة واعتقاد قدرتها على إهدار سائله المنوي عند الجماع، وهو خوف تغذيه خاصية الانتصاب والارتخاء التي يعرفها عضو الرجل وهوسه بحلم القضيب الدائم الانتصاب: “أثناء الجنس يسلّم عضوه لها وأنها تحتويه داخلها وقد تسحقه”(14) . وبالتالي، ينحسر مدى الحب تحت وطأة تمزق الرجل بين كرهه وافتتانه بموضوع خوفه الجنسي، ويمسي همّه إثبات جدارته بأن يكون مركز عالم زوجته بتلبية رغبتها مع تدرّب على مراقبة نفسه أثناء العلاقة الجنسية: “معظم هذا النوع من الرجال يمارسون الجنس مع النساء بأعضائهم التناسلية فقط، أما بقية أجسادهم وعقولهم ونفوسهم فتصبح كالحارس أو البوليس الذي قد يتدخّل عند اللزوم من أجل الحماية أو العدوان حسب الظروف” (15).
وباجتماع السببين تستنتج السعداوي استحالة الشعور بالحبّ داخل مؤسسة الزواج، بل تؤكّد على استبطان الطرفين للكره والخوف مما يعرقل سعيهما إلى التجاوب والانسجام العاطفيين. وتشكّل هذه العقبة أساس الضرب الثاني من العلاقة بين الجنسين في المجتمعات العربية.
• وضع الرغبة الجنسية من دون حبّ: وهو الوضع الذي يبيحه المجتمع للرجل ويحرّمه على المرأة، بتقنين مؤسّسة البغاء وحقّه في تعدّد الزوجات أو بالسماح بعلاقات زوجية موازية للزواج الشرعي، كزواج المتعة أو الزواج العرفي. فداخل هذه الأطر العلائقية يتمكّن الرجل من التحرر من عقدة الخوف من المرأة بتركيزه على تلبية حاجته الجنسية ومعاملته للطرف الآخر معاملة الوعاء فلا شعور بالحب أو الكره أو الحذر. وفي المقابل تعرض الكاتبة أنماطا مختلفة من محاولات إماتة رغبة المرأة الجنسية كعادة الختان أو قواعد العفة التي تغرس فيها موقف التأثيم للجنس.
فقدر المرأة أن تعيش حرمانا مزدوجا: من الحب والرغبة، وكلّ ما تفقهه هو التظاهر والتخلي عن مشاعرها الحقيقيّة: “تعلّمت المرأة الزيف وعرفت كيف تعامل المجتمع كما يعاملها تعلّمت كيف ترضي الرجل وتمارس معه الجنس دون أن تفقد عذريتها، تعلّمت كيف تبيع نفسها بعقد الزواج وتكبت حبّها الحقيقي إلى الأبد أو تمارسه في الخفاء(16). وفي هذا النطاق تبيّن السعداوي المسالك المحرّمة التي تلتجئ إليها المرأة لإرضاء الرغبة الخالية من الحبّ الحقيقي، وهي التي يصطلح المجتمع على وسمها بالشذوذ الجنسي بممارسة العادة السرية أو السحاق أو الأحلام الجنسية.. وتؤكّد الباحثة على تفشّي هذه الممارسات لدى الذكور والإناث سواء كان ذلك في المجتمعات العربية أو الغربية.
لكنّها لا تلتزم في تعليلها مذهبا ثابتا، إذ تراوح بين تقديم تفسير سيكولوجي بيولوجي وآخر اجتماعي ثقافي، كما تتباين مواقفها من الظاهرة بين تبرير يدعو لتفهّم هذه العلاقات وتعليل يدينها. وقد يعود ذلك إلى جدّة المبحث وجرأته في اقتحام منطقة محمومة من العلاقات الجنسية تأباها المنظومة الفحولية، ممّا يجعل تناول الباحثة له متذبذبا بين التحليل العلمي الموضوعي والمعالجة النقدية الغائية. ومن مظاهر ازدواجية الموقف ما خصّت به الكاتبة الشذوذ الجنسي لدى الرجال، فهو ضرب من العلاقات التي تقوم على خلفية احتقار المرأة واعتبارها جنسا أدنى: “إن بعض الرجال قد يفخرون بشذوذهم الجنسي وكأنما يقولون: نحن نتعامل مع الجنس الأعلى والأقوى وليس الجنس الأدنى والأضعف!” (17) بينما تظهر في تعليقها على انتشار الشذوذ بين النساء الغربيات رفضا مشوبا بالتبرير المثبت لجدوى هذه العلاقات: “وأدركت أنّ المرأة أصبحت تحارب الرجل بنفس أسلحته. ولم أقتنع بأن هذه هي الطريقة المنشودة لتحرير النساء والرجال معا، وإنما هي إحدى الطرق في ظلّ ظروف مجتمع محروم من الحب الحقيقي ومن العلاقات الإنسانية القائمة على التبادل المتساوي وليس الاستغلال” (18).
وبالقدر نفسه من التردّد تعرض السعداوي موقفها من البرود الجنسي الذي تعانيه المرأة في المجتمعات العربية. فتتخذه دليل إدانة ضد التربية الأسرية التي تدفع الفتاة إلى إنكار الجنس حتّى تمسي الرغبة الجنسية دالا بدون مدلول أو مصدر إحساس بالندم واللوم في حالة الاستجابة لها أو الشعور بالقرف والنفور منها. وفي الآن نفسه يطالب المجتمع هذه المرأة بأن تكون زوجة قادرة على التجاوب الجنسي والإثارة وهو ما يضعها أمام مصيرين أحلاهما مرّ فإمّا القدرة على تقمّص الدور وتسخير جسد مفرغ من المشاعر ليكون مجال إرواء رغبة الزوج، وإمّا أن يحكم عليها بالطلاق أو الإهمال والهجر الجنسي: “ويصبح الاستمتاع الطبيعي بالجنس إنّما هو صفة المومسات والعاشقات فحسب ويستمتع كثير من الرجال بهذا الانفصام في شخصياتهم، وتصبح لكل منهم زوجة باردة شبه مهجورة وعشيقة مرغوبة ولكنّها محتقرة” (19) .
لكن القارئ يفاجأ أيضا بموقف الكاتبة وهي تنوّه بالبرود الجنسي كأداة مقاومة للمركزية الذكورية وتعتبره علامة وعي وتمرّد على النمط الذي يرضي نرجسية الرجل: “وبنت أخرى أكثر طموحا وثقة بالنفس تصر على مواصلة الصراع إلى الحدّ الذي تنكر فيه جسدها وتلغي رغباته وتنشد التفوق في الحياة متحدية الرجال”(20). وإذا كان البرود شكلا من أشكال رفض المرأة للتدجين والخدمة الجنسية فإنّه كذلك يشفّ عن عداء ونفور تكنّه هذه المرأة لإحدى وحدات شخصيتها أي الجسد. فكيف لها أن تكون شخصية سوية ومتّزنة وقد انفرط تكامل تلك الوحدات الثلاث التي تنادي بها السعداوي؟
رغم اضطراب مواقف السعداوي من هذه الظواهر المقوّضة لصلابة البنيان الاجتماعي فإنّها تبدو متوائمة مع نهوض خطابها النسوي على هدفين:
ـ هدف جنسوي: يتمثل في تأكيد تفرد وتميز المرأة وتبرير القصور النسائي عن الإبداع والعطاء كمآل طبيعي لفعل تهميش وامتهان قدراتها.
ـ هدف إنساني: وذلك بانخراطها في الدعوات النسوية لتحرير العلاقات الإنسانية من المراتبية الفجة وما يترتب عليها من تسلّط وهيمنة.
ويشترك هذان الهدفان في عائق أساسي وهو المؤسّسة الأسرية التي ينعدم فيها النضج العاطفي والنفسي والجنسي، وترتهن فيها العلاقة بين الجنسين إلى ضوابط الغيرة والشرف والتملك التي تجعل الاستعباد ناعما لطيفا فتنسلخ المرأة ذاتها في تأييدها بل المطالبة بها أملا منها في ارتشاف لذة النجاح الاجتماعي والأسري. فكلا الطرفين إذن مسؤول عن إخطاء سبيل الحب الحقيقي نظرا إلى انشغالهما بالتموضع داخل بنيان قوامه المراتبية والملكية الفردية، بينما لا يمكن للحب أن “يحدث بين سيد وعبد أو بين صاحب سلطة وخاضع للسلطة أو بين أعلى وأدنى”(21) .
ولا شك أن الكاتبة بذلك تجعل من تصورها للحب مقياسا يسبر درجة التحرر من المنظومة الأبوية، أو قد يكون أداة مقاومة للمقولة الجوهرية التي تفرز تشويهات عميقة في شخصية كلا الطرفين ونقصد بها تضخيم الآلة الذكر وتأثيم الأنثى الفاتنة. فما ماهية الحب الحقيقي الذي تخشاه الثقافة السائدة وتسعى السعداوي إلى ترسيخه في الخطاب النسوي؟ وإلى أي مدى يمكن أن ينجح في التأسيس لمجتمع تسوده المساواة وينفح حرية؟
ب ـ الحب الحقيقي عنوان النضوج الإنساني
تبني الكاتبة تصورها للحب المنشود على أساس نقض الحب المريض السائد أو تحديد سبل البرء منه. وتخصّص لهذا الغرض فصلا ضمن كتابها “المرأة والجنس” بعنوان “ما هو الحب؟” وفيه تستعرض طائفة من التعريفات التي تلتقي في إثبات الطابع الملغز والشائك لمفهوم الحب:
ـ فهو يحتوي على عاطفة وليس بعاطفة ويحتوي على إعجاب ولكنه ليس إعجابا، فماهيته تزيغ عن التحديد بل قد يكون هذا الزيغ سمة تميّزه عن ثقافة الحب ومراتبه وأسمائه كما نظّر لها ابن حزم الأندلسي أو ابن قيم الجوزية أو ابن داود الإصفهاني(22) . فلئن انطلق هؤلاء من أخبار العشاق وحكايات المحبين لملاحظة أسباب الحب وأعراضه ومراتبه، فقد بنت الكاتبة تصورها من خلال التناقضات الظاهرة والباطنة في الحب المشوه وهي تناقضات تفضي كما أوضحنا سلفا إلى البرود والكراهية أو النفاق والكذب. وبما أن هذه العيوب تشترك في الطابع العدواني فإن مفهوم الحب عند السعداوي ينحو منحى فرويديا وذلك عندما تحدّه مقرة: “الحب هو إله الحياة في الإنسان ويقابل نقيضه وهو إله الموت. الحب يبني ويثري الإنسان والحياة، ونقيض الحب يفقر ويهدم الإنسان والحياة” (23). وبمعنى آخر يمثل الحب غريزة الحياة (إيروس Eros)التي تقوم عليها كل الروابط الإنسانية بل تنبني عليها الحضارة مادامت موجهة فطريا نحو التطور والابتكار، وهو بذلك يتصادم مع غريزة الموت (تاناتوس Thanatos) التي تنعكس في النزوع إلى العدوان ضد الذات والآخر.
لكن رجع الخلفية النفسية لهذا التصور قد يكون محدودا أمام تأليه الكاتبة للحب وبالنظر إلى مواقف السعداوي المناوئة للفكر الفرويدي عموما. علاوة على أن اعتبار الحب غريزة قد يتضارب مع تعريفه بأنه “عملية إرادية واعية تتم بسبب قدرة الإنسان على الاختيار الحر، هذه القدرة لا تكون إلا في إنسان مستقل” (24). ولا مراء في أن التحضر البشري يقوم على معادلة عكسية مع الفعالية الغرائزية، فكيف يمكن أن يتحقق الحب الكفيل بكسر شوكة غريزة الموت وقد وقع إخضاعه للإرادة والإدراك؟ ألن يكون ذلك محاولة سيطرة على المنفلت من التقييد؟ وما الذي يضمن أن لا تكون تلك الإرادة إدمانا مادام الحب أيضا جوعا “يشعر به الإنسان بعد أن يشبع كل رغباته وغرائزه(25)؟
وتتالى الأسئلة أمام تعدد الحدود التي أضفت سمة التعقيد والغموض على الحب، فهو الوسيلة لتحقيق الذات وتحقيق الذات هو “شرط من شروط الحب” فأيهما أسبق أو ما ترتيبهما في العلاقة الشرطية التي تحكمهما؟ ثم إن الكاتبة تضع شرط استقلال الشخصية ونضجها قاعدة ضرورية لنشأة هذا الحب، في حين تقر بأن الحب هو احتياج “لأن يرى المرء حقيقته في حقيقة شخص آخر” (26). فكيف يمكن الحديث عن الاستقلالية والحال أن كلا الطرفين حسب رأيها لا يتسنى له إدراك أعماق شخصيته إلا عبر هذه العلاقة؟
وتزداد محنة تمثّل هذا الحب نظرا إلى مشقة البحث عن الحبيب الذي قد يرتضي صورته المنعكسة في أعماقنا، علاوة على أن التطلّع إلى هذا الهدف قد يخفي حبا للذات من خلال هذا الوسيط إذ تستشهد برأي بيتر فليتشر: “البحث عن الحب إنما هو بحث لمعرفة الذات ورغبتنا في الحب هي رغبتنا لأن يعترف بنا لا من أجل ما نفعل بل من أجل ما نكون”(27). فهل الحب مرآة للمجهول من ذواتنا؟ وهل يمكن الحديث عن رغبة في اعتراف الآخر بنا وهو بدوره يضع حبه وسيلة لرؤية أعماق شخصيته؟ ثم ما الذي يضمن استمرار الحب إذا تمّ إشباع الرغبة في اعتراف الآخر بنا؟
• الحب الحقيقي يبلغ بنا أعماق الذات : تسعى السعداوي إلى إنزال تصوّرها للحب ما بين منزلتين : المحبة المحمودة والمحبة المذمومة، على حدّ عبارة الديلمي (28) . وهما المنزلتان اللتان نفتهما الكاتبة بدحض تعبيرين ثقافيين يكشفان عنهما وذلك في قولها: “يزخر أدب العرب وأشعارهم بمآسي الحب العذري، ويترنم العرب بالعذاب في الحب ويتلذذون بألام الفراق والشوق والحرمان” (29). فذلك الحب الذي وقف قريبا من عتبات متعة الوصل دون الجرأة على تجاوزها يكابد معاناة الحرمان من بلوغ أعماق الذات أو المنع من التواصل الحميمي الذي تتحد فيه وحدات كياني المحبين بما فيها اتحاد الجسدين. وفي الآن ذاته تنكر الكاتبة أيضا أن يقع الحب “من أول نظرة حين تقع عينا الرجل على المرأة ويرى شفتيها الممتلئتين المتوردتين ونهديها البارزين وردفيها المكتنزين. وأغاني الحب كلها تتغنى بجمال الشفتين والساقين والنهدين والخصر والردفين”(30) .
إنّه وهم الحب المتمخض عن انجذاب بين جسدين معزولين عن التوافق الفكري والنفسي. وبين نمطي المحبتين تبحث الدارسة عن حب يحقق المعادلة التي تجمع بين انسجام مكونات المحبّ الجسمية والنفسية والعقلية وارتياحه من إحساس الدنس والإثم الملازمين للعلاقة بين الجنسين في المجتمعات العربية. أو لعلّه التصور الكفيل بتخليص الجسد المحكوم بالإقصاء من سجنه الانفرادي ليخوض الفرد رحلة البحث عن الآخر أو عن صورة الذات التي احتواها الآخر وهو ذات متكاملة.
وتستند السعداوي في ذلك إلى مفهوم نفسي وبيولوجي وفيزيولوجي وضعه ستولر (30) ويتمثّل في “الازدواجية الجنسية”، إذ أنه المفهوم الذي ساعد على تجاوز تلك “الصخرة” (31) التي أعاقت بحوث فرويد وذلك بعجزه عن تحقيق الانسجام بين نتائج بحوثه النفسية والحقائق البيولوجية. فالهوية الجنسية للفرد لا يمكن حصرها في مراحل التطور الجامدة التي أقرها التحليل النفسي، بل هي محكومة بدرجة عمل هرموني الذكورة والأنوثة فيه. أما على المستوى النفسي فالهوية الجنسية تتقرر عبر توجيه من المجتمع الذي يقرر أنوثة المرأة أو ذكورة الرجل ولكنه لا يستطيع تعقّب الجنس الثاني الذي يتقن التخفّي والخمود.
ومن هذا المنطلق يمكننا فهم تصور الدارسة للحب بما هو بحث عن أعماق الشخصية وشوق إليها يرتسم بالاتصال بالمحبوب المفارق له، وهي أيضا تلك العلاقة الممتعة التي كلما توطّدت تمكّن المحبّ في اللحظة نفسها من الاستمتاع بأعماق حبيبه المشابهة له. فازدواجية الجنس تجعل الحب مجالا لمتعة الاختلاف والتشابه معا.
ولعل في هذه الصورة المتجللة بخلفية نفسية استعادة واعية أو تجلّيا لا واعيا لتلك الأسطورة (32) التي تخطّ مسار الانتقال من النفس الواحدة إلى المنشطرة، وتجعل الحب شوقا لتلك الوحدة التي انفطرت. ولا ريب أن هذه المقولة تتساوق مع ما ذهبت إليه الكاتبة في تصوّرها للحب الحقيقي، إذ أنّه يفضي إلى نفي قيم التضحية وإنكار الذات التي يوشّي بها المجتمع علاقاته المريضة. إن الحب لدى السعداوي سبيل لإعلاء الذات ولأم الشرخ الباطني الذي يحدثه المجتمع عبر فعل التربية، وهو تحرر الرجل من قمقم النرجسية الذكورية وتحطيم المرأة لسجن التبعية الأنثوية. ويمكن القول إن الحب هو أداة التمرد على النمط الذي سُبك فيه الفرد لتحديد موقعه الاجتماعي وعودة للشخصية الأصيلة الحرّة المتوازنة: “فالحب توكيد لثقة الإنسان في ذاته، وامتداد لحبه لنفسه ليحب سائر البشر” (33) .
ونظرا إلى خطورة الوظيفة التي يضطلع بها الحب الحقيقي بما هو بناء للذات ونقض لبنيان المركزية الذكورية، تضع السعداوي شروطا تضبط هذه العلاقة وتنأى بها عن علل الحب المريض الذي تغنى به الشعراء وصنّفه الأدباء إلى مراتب تبلغ حدّ التبريح والجوى والخبل والبلى والكمد..
• شرط التكافؤ: يُعدّ هذا الشرط أساس السعادة الزوجية لدى جمهور الفقهاء، ولذلك أمعنوا في شرحه وبيان أبعاده مستندين إلى ما ورد في أخبار السيرة من أدلّة عليه. لكن اللافت للانتباه في هذه الحدود الفقهية هو عقد هذا الشرط بعلاقة الزواج من ناحية والانحراف بمعنى التكافؤ من المماثلة إلى التقارب، ففي إجابة د. سميحة غريب مثلا عن معنى هذا المصطلح تقول: “والمقصود بالتكافؤ هنا ليس التطابق ولكن مجرد التقارب وعدم وجود ما يسبب الضرر في الزواج ويكون التقارب في المستوى الديني والمادي والاجتماعي والفكري والثقافي والعلمي والعمري أيضا، كما يكون التقارب كذلك في العادات والتقاليد” (34). ويعود ذلك إلى مقتضيات المراتبية الاجتماعية التي تقوم على تفويق الرجل، مما يفرض عليه أن يختار من تكون مكافئة له أو أقلّ منه دينيا وعلميا وخلقيا واجتماعيا إضافة إلى السن. ثمّ ينضاف إلى ذلك إباحة الشرع والعرف لحقّ فسخ الزواج في حالة انعدام التكافؤ على أن يكون ذلك بإذن أولياء الزوجة.
جملة هذه الحدود الضابطة لشرط التكافؤ توضح ما أجرته السعداوي من تغيير يجانب السنن الدينية والاجتماعية لتخلّص هذا الشرط من قبضة البنيان الفحولي وليكون نظير معناه الإيتمولوجي أي التماثل والتساوي. ولذلك ترحل به بعيدا عن مؤسسة الزواج الوفية لذلك البنيان لترسخه في نطاق علاقة الحب باعتبارها القاعدة الأساسية للعلاقة السوية بين الجنسين: “إن الحب لا يمكن أن يحدث بين سيد وعبد أو بين صاحب سلطة وخاضع للسلطة أو بين أقوى وأضعف أو بين أعلى وأدنى” (35) .
وتدرس السعداوي جذور النكسة التي عرفتها علاقة الحب في ربط مع تاريخ نشأة المجتمعات الذكورية وانكسار المجتمعات الأمومية مستعينة في ذلك بتصوّر الفيلسوف الألماني أنجلز (36). ففي زمن “القطيع البشري البدائي” كانت المساواة بين الأفراد واقعا ينتعش بغياب الملكية الفردية وانعدام التحريمات الجنسية. ثم تلاه النظام الأمومي بالتحول من نظام القطيع إلى العشيرة، وما يلفت الانتباه في تناول الكاتبة لهذه المرحلة أنها لم تلوّح إلى ما اعترى العلاقة بين الجنسين من توتّر بامتلاك المرأة للسيادة بل اعتبرتها تحوّلا فرضته الطبيعة نظرا إلى رمزية الأنثى إلى الخير والخصوبة والولادة والحياة. ولكنّها تشير أيضا إلى أن هذه المرحلة أفرزت ظاهرة حسد المرأة وحرص الرجل على اكتساب القوة الكافية للحظوة بالمرأة القوية إلى أن تغوّلت هذه القوّة فتمكن من ارتكاب أول جريمة في التاريخ الإنساني وهي اغتصاب الأنثى، وهو تحليل يلغي مقولة جريمة قتل الأب التي أقرها فرويد كفاتحة لتاريخ الإجرام البشري.
ثمّ تتوغّل السعداوي في شرح تفاصيل هذا الانقلاب الذي تعاضدت فيه القوة مع نشأة النظام الزراعي لتؤكّد مقولة اقتران المجتمعات الأبوية بإعادة توزيع الأدوار والفصل بين الجنسين وتحييد المرأة عن مراكز صنع القرار، وهي عوامل جوهرية ترسّخ واقع اللاتكافؤ الجنسي وتخنق احتمالات الحب. إذن فالواقع الاقتصادي والاجتماعي يوجّه طبيعة العلاقة بين الجنسين ويحيد بهما عن ذاتيهما الأصيلتين ليكونا مجرد فاعلين في حدث اجتماعي غايته تأمين إنتاج الأنماط الاجتماعية الضامنة لبقاء البنيان الذكوري صامدا في وجه الشروخ التي تتوسع. وفي هذا السياق يتنزّل تهديد المرأة الواعية المريدة للصدق والمساوية مع ذاتها لهذا القالب الاجتماعي، وتُبوّب خطورة الثورات المعرفية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، فهي فواعل أساسية في فضح دوائر المشاعر الزائفة التي تلثّم أنانية الرجل وخوفه من هدر قوته أو نسفها وتقنّع استسلام المرأة لوهم الضعف وجهلها بقدراتها وإمكانياتها.
وبذلك تعدّ السعداوي قيم الإخلاص والتضحية والحماية والشرف قيما زائفة مخادعة يتيه في خضمّها الحب الحقيقي: “ومن أجل أن يتحقق الحب في العلاقات الإنسانية داخل الأسرة وفي المجتمع لابد من الثورة على النظم الاجتماعية والاقتصادية المستغلة، ولابد من تغيير المفاهيم القديمة المتعلقة بالذكر والأنثى والزواج والجنس والشرف والعمل بحيث يستردّ كل من الرجل والمرأة إنسانيتهما المفقودة وشرفهما المفقود”(37).
وهكذا تطعن السعداوي في إمكانية توفّر الحب الحقيقي في ظلّ المنظومات الاجتماعية السائدة بينما اعتبرته مكسبا مضمونا في حالة المجتمعات الاشتراكية، ويعود ذلك إلى ما يهدف له هذا النظام من حرية ومساواة واعتراف بقدرات المرأة، وهي أهداف منضوية في إطار تحرير كل الطبقات المستغلة. غير أن القارئ يفاجأ في مواطن متعددة من دراسات الكاتبة بميلها نحو إحلال مركزية جديدة تقوم على جوهرة الأنوثة وتهميش الذكورة، ولعلّ في كتابها “الأنثى هي الأصل” إشارة واضحة لسعيها نحو إثبات سموّ المرأة بالاعتماد على البحوث التاريخية والأنتروبولوجية والنفسية: “لكن الذي يتفق عليه معظم العلماء المحدثين الآن هو أنه فيما يختصّ بالإنسان فليس هناك جنس يعتبر أسمى من الجنس الآخر وأنه إذا فرض وكان هناك جنس أسمى من جنس فإن الجنس الأسمى ليس هو الجنس الذكري بالتأكيد وإنما قد يكون هو الجنس الأنثوي بسبب تلك الحقائق البيولوجية والفيسيولوجية السابق ذكرها وكذلك الحقائق التاريخية منذ قديم الأزل، والسبق التطوري الذي أحرزته الأمومة على الأبوة بيولوجيا ونفسيا وإنسانياً(38).
ولا ريب أن انحياز الباحثة وتعصبها للأنثى يُعدّ لدى خصومها من المآخذ الفكرية التي تشوّش التناسق الفكري للبديل الاجتماعي الذي تنحته. فبين القول بتفوق الأنثى وبين الإلحاح على شرط التبادل بين المحبين ثغرة لا يمكن تجاوزها إلا باتخاذ الكاتبة لتلك المسافة التي تخوّل لها الحكم بشكل موضوعي محايد، أي بالتخلي عن نوازعها الذاتية المحالفة للمرأة في هذا الصراع مع ثوابت المجتمع.
• شرط التبادل: كيف يمكن أن يكون الحب حقيقياً إذا لم ينبن على تجاوب بين طرفين مستقلين ومتكافئين؟ فتغنّي العشاق بألم الحب من طرف واحد أو بعذاب الهجر ومتعته في آن واحد أو بالتضحية في سبيل الحبيب إنّما هي شواهد على الحبّ المريض أو المشوّه الذي يصل بين الفرد والفراغ في حالة امتناع الآخر عن التفاعل أو هو وهم الحبّ الذي لا يمكن أن يكون من طرف ألغى أو استباح ذاته قربانا اجتماعيا؟ ولذلك تشرّع السعداوي مبدأ التبادل الذي يتحقق به التواصل بين الحبيبين على أساس التكافؤ وعدم احتكار المبادرة في الحب وأحقية الطرفين في الارتواء: “لا يقوم الحب على الأنانية كذلك لا يقوم الحب على التضحية” (39). ومن هذا المنطلق تضع الكاتبة حدودا للحب الحقيقي تتمثل في ضرورة الوعي بقدر العطاء والأخذ الذي يحقّقه إضافة إلى وجوب تزامن الفعلين معا. لكن هذه الحدود تشكّل عوائق لتحقيق الحب، أليس في كل علاقة تتأسس على التبادل انتظار لما يقدّمه الآخر حتى يكون العطاء على قدره؟ وبذلك لا مناص من وجود المبادرة والأسبقية لا سيّما وهي تعرّف الحب بالجوع الذي يشعر به الفرد بعد أن يشبع كلّ رغباته، فهل من المتاح شعور الطرفين بهذا الجوع في اللحظة ذاتها؟ وإذا كان الحب تحقيقا للذات فذلك يعني عدم اكتمال الذات ما قبل الحب وحينذاك يصبح السؤال عن بداية الحب هل تقوم على تبادل بين ذاتين متكاملتين أم أن التكامل غاية التبادل؟
رغم معضلات تنفيذ هذا الشرط فإنّ السعداوي تحرص على تنصيبه كمعادل للمساواة في علاقة الحب وتوضّح كيفيات تحققه، وفي هذا المضمار يتنزّل نقدها للعلاقة الجنسيّة التي تتظاهر فيها الزوجة ببلوغ قمة اللذة في حين أنّها تفعل ذلك إرضاء للزوج وخوفا من نبزها بقلّة الشرف. وتؤكّد الباحثة أن الالتجاء للكذب أو النفاق إنما يضلل الزوج ويربك العلاقة ويدنو بها إلى منطقة المرض إذ ينعدم التبادل ويضمحلّ حق الارتواء أو الإشباع: “يجب أن تدرك الزوجة أن الإيجابية في الجنس ليس واجب الزوج فحسب وإنما هي واجبها أيضا ويجب أن تشترك مع زوجها إيجابيا في كل شيء وأن تتبادل معه كلّ شيء وأنه ليس هناك من عيب إلا أن يخفي الإنسان مشاعره الحقيقية ويتظاهر بغيرها” (40).
وبذلك ترقى الكاتبة بمعنى الرغبة الجنسية والفعل الجنسي واللذة من المستوى الغريزي الحيواني إلى المصاف الإنساني إذ يصبح فعلا إراديا ومعقولا بانخراطه في نطاق التبادل والتكافؤ والوعي باستقلالية كل طرف. وحتّى يتمكن المرء من بلوغ هذه الدرجة من الوعي تلحّ الباحثة على ضرورة محاربة الجهل الذي يحكم العلاقة بين الجنسين وفضح الترهات والإشاعات التي تحبط إمكانيات الحب الحقيقي وخاصّة ما حفّ بالعلاقة الجنسيّة من تهويل وتأثيم وتعقيد: “إن تصحيح نظرة الرجل إلى المرأة وتصحيح نظرة المرأة إلى نفسها يتبعه بالضرورة تصحيح لكلّ العمليات التي تحدث بينهما في حياتهما المشتركة بما فيها العملية الجنسية. فالعملية الجنسية ليست مجرد تكنيك معين أو حركات تؤدّى أو أوضاع معينة لشكل وأحجام الأعضاء التناسلية أو مراحل معينة يجب أن تمرّ بها مرحلة بعد مرحلة بنظام دقيق لا يتغير(41).
وتبيّن السعداوي علل هذا الجهل فتردّها إلى غائية العلاقة المندرجة في نطاق مؤسسة الزواج، فالحفاظ على الأسرة الأبوية وتثبيت نظام الملكية وقوانين التوريث تستوجب التحكم والتقنين للعلاقة حتى تكون خاضعة لأحكام المراتبية. ولهذا تلحّ الدارسة على ضرورة الثورة على تلك البنى التي تشوّه العلاقات وتستغلّها لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية، على أن تكون المرأة عنصرا فاعلا فيها.
• شرط النزاهة: والمقصود به التخلص من العلاقات النفعية التي ينبني عليها عقد الزواج باعتباره الإطار الاجتماعي لعلاقة الحب، وذلك لتكون العلاقة بين الجنسين موسومة بالشرف الحقيقي السامي: “الشرف ضد المتاجرة في الناس سواء كانوا عبيدا أو نساء، وبالتالي فهو ضدّ الزواج الذي بني على المتاجرة وبيع المرأة بالمال. الشرف في جوهره يحرّم مثل هذا الزواج ويعدّه زواجا غير شرعي لأنّه علاقة ضدّ شرف الإنسان وضد كرامته وضد إرادته الحرّة وضدّ اختياره النابع من شعوره الصادق(42). فالزواج في نظرها يدنّس العلاقة ويرديها نحو الدرك الأسفل من سلّم الأخلاق باعتبار قبول الزوجة بدور المومس وممارستها لوظيفتها الزوجية بمقابل، وذلك ما يقضي على الحبّ الحقيقي ويدفع إمّا إلى تعدّد الزوجات أو استفحال الدعارة.
وبناء على هذا التصوّر تفسّر الكاتبة سقوط المرأة في هوّة الشرف الاجتماعي المزيّف، فتمارس الحب الحقيقي خلسة مع حرصها على المحافظة على العذرية ولو اضطرت إلى إجراء عمليات إعادة العذرية، وهي بذلك تهدر صدقها وانسجامها مع ذاتها وتعوق مشاعرها الصادقة عن الانطلاق بشكل طبيعي. وانزلاق المرأة في لعبة المجتمع يعود حسب السعداوي إلى استمرار قوامة الرجل عليها بما تعنيه الصفة من مسؤوليتي الإنفاق والحماية واكتفائها بدور الجسد الذي يسهر على الخدمة في البيت الأسري وفي المخدع. واستعمالنا دال القوامة لا يعني حصر هذه السلوكيات في المجتمعات الإسلامية بل هي صفة تغشى العلاقات بين الجنسين في المجتمعات ذات التوجه الرأسمالي، ففي الولايات المتحدة مثلا يستمر استغلال جسد المرأة وإن تظلّل بهامش من الحرية لا يعدو أن يكون مجرد مظهر يخفي استمرارية ممارسة الأدوار التقليدية: “المرأة في المجتمع الاشتراكي إنسان لها جسم وعقل ونفس كالرجل سواء بسواء، أما في المجتمع الرأسمالي فهي لا تزال مجرد ذلك الجسد الذي يستغل في الخدمة بالبيت أو يستغل خارج البيت في الاتجار بالجنس” (43) .
تقرن السعداوي بين النظام الاجتماعي وشكل العلاقة بين الجنسين، وتجعل سبيل تحرر الحب من عراقيله متعلقا بمدى قدرة الفرد على استرداد وحدته المستلبة واستمتاعه الحقيقي بالحرية والعدالة والمساواة. ويبقى الحل الاشتراكي هو الأنجع باعتبار مناهضته للنظم الطبقية الأبوية التي ترسّخ أدوات الاستبداد الذكوري ومن بينها مؤسسة الأسرة. غير أن ضعف البديل الاشتراكي أمام أهداف العولمة المكرّسة للاستبداد دفعت السعداوي إلى البحث في مظاهر المقاومة التي ارتفع نسقها بفضل النساء الرافضات للتدجين والسلبية. وقياسا على دعوة غاندي: “من أجل زعزعة نظام الطوائف يكفي تركيز الجهود على نقطة حساسة في المجتمع: “المنبوذين”” تبني الباحثة تصورها لمسار المجتمع الحرّ المريد للحب المتبادل والعلاقات المتكافئة بدراسة نفسية واجتماعية دقيقة لحالات بعض النساء المريضات بالعصاب (44).
وتطالعنا نتائج بحثها بحقائق مفاجئة تجعل المرأة العصابية أكثر وفاء لذاتها من المرأة “الطبيعية”، إذ تواجه “المرأة العصابية المشاكل الجنسية والمشاكل الأسرية أكثر من المرأة الطبيعية بسبب رغبة المرأة العصابية في الانطلاق والتساوي مع الرجل في الحرية الاجتماعية والشخصيّة، وهي مطلب طبيعي للمرأة التي تشعر بإنسانيتها وتكامل شخصيتها كجسم وعقل، أما المرأة الطبيعية فإن قبولها للأمر الواقع وتكيفها معه يجعلها أكثر استسلاما للقيود الجنسية والاجتماعية والأسرية وبالتالي أقلّ مواجهة للمشاكل والعصاب من المرأة غير المكبوتة أو العصابية” (45). فالعصاب إذن مظهر نفسي وسلوكي يشف عن تشبث بمعنى النزاهة والصدق والشرف، و يتفق ذلك مع جرأة هؤلاء العصابيات وخاصة من المتعلّمات على بناء علاقات قائمة على الحب وحرية الاختيار وإرضاء الرغبة الجنسيّة خارج نطاق الزواج. ولا تغفل الكاتبة عمّا يمكن أن يوجّه إليها من اتهام بإباحة الحرية الجنسية إذ تجعل الجنس شاغلا ثانويا للفتاة المتحرّرة والذكية والمثقفة وإن كانت أكثر فاعلية وجرأة وإيجابية أثناء الممارسة من تلك الفتاة المكبوتة التي يشغل الجنس لديها حيزا هاما من حياتها.
ولا يعني ذلك أن المرأة التي تنشدها السعداوي هي تلك العصابية التي تعاني شعورا بالإحباط لعدم القدرة على تحقيق طموحها الجسدي والعقلي، بل هي المرأة التي تكسر طوق الزواج بما يحمله من مظاهر عبودية وخضوع لسلطة البعل، فتنجحَ في العثور على شريك تؤسس معه علاقة حب مبنية على الإرادة والشرف والكرامة وتنأى بنفسها عن وضع المومس الشرعية وإما أن تسعى نحو أهداف أخرى كالعمل والإبداع والبحث الفكري. وبذلك يتضاءل شأن السلطة إذ يلازم كل فرد حدود هويّته.
2 ـ نسوية تصوّر الحب لدى السعداوي
لا تنكر السعداوي تأثرها بفكر سيمون دي بوفوار التي خصّت الحب بمحور في كتابها “الجنس الثاني(46) تحت عنوان “العاشقة”، فالنسوية الفرنسية تؤكّد على أن الحب السائد غير متكافئ إذ يكون الرجل ذاتا كاملة وكينونة تتمتع بوجودها دون ذوبان في الآخر، بينما تضطرّ المرأة إلى أن تنفصل عن ذاتها لتكون جزءا من حياة الرجل. وتلتقي الآراء في تصحيح مسار الحب وتحرير الجنس من ربقة النرجسية الذكورية والسلبية الأنثوية. كما تتفق معها في اعتبار مطلب تحرير العلاقات بين الجنسين مطلبا ثقافيا إنسانيا خاليا من الرومنسية مادامت حدوده التاريخية والثقافية مضبوطة.
الحب الحقيقي يقوم على نقض الحب المريض ويستهدف تحطيم مركزية القضيب، أي أنّه علاقة ممكنة النحت ومستقبل يمكن صوغه متى استطاعت المرأة تغيير النمط الذي سبكه المجتمع وفق الموروث الثقافي والضرورات الاقتصادية والاجتماعية. ويضاف إلى ذلك اتفاق الكاتبتين حول لزوم وعي المرأة بحدود الحقيقة في صورة الرجل المترسبة في أعماقها والمتحوّلة إلى أسطورة تقضّ توازنها الداخلي، فذلك ما يكفل لها إمكانية الحلول كذات مستقلّة متوازنة في علاقة حبّ حقيقيّة.
غير أن السعداوي لا تكتفي بالمرجعية النسوية كمعين يحدّد تصوّرها للحب إذ تنسج الأرضيّة البديلة من خلال مبادئ الفكر الاشتراكي وأهدافه ـ وهو توجّه جلّ النسويات ـ فهو الذي يضمن تخليص المرأة من وضع الاضطهاد الاجتماعي والجنسي بتقويض البنية الأسرية وتحرير العلاقات الحميمة من التقاليد والعادات البالية ليكون الطرفان معا قادرين على الاختيار الواعي والمريد وتبادل المشاعر على أساس من التكافؤ وفي كنف استقلاليتهما سويا.
على أن الاستناد إلى هذه المرجعيات لا يمكن أن يغيّب أثر التجربة الذاتية إذ تستشهد الكاتبة بنبذات من معاناتها زمن الطفولة وجزءا من حياتها المهنية، ويبقى الحدث الأكثر حفرا وفاعلية في كتابتها هو ذكرى الختان المفجعة والذي مثّل بالنسبة إليها لحظة اكتشاف القدر الأنثوي اللعين أو عملية استبدال الأنثى الطبيعية بأخرى اجتماعية مشوّهة. وتعترف الكاتبة بأن هذه الحادثة كانت سببا رئيسيا في اضطراب حياتها الجنسية والنفسية، أي إعاقتها عن إقامة حب حقيقي. ونظرا إلى خطورة التجربة تسقطها الكاتبة على النماذج النسائية اللواتي أصبن بالبرود الجنسي، بل تبحث الكاتبة في جذورها وأساليبها لتفسّر حالة الافتقار المستمرّة التي عرفها تاريخ الحب.
ورغم انطلاق نسويات كثيرات من سيرتهن الذاتية ـ ومنهن دي بوفوار نفسها ـ إلا أن الباحثة تعرضت لوابل من النقد للنزعة النرجسية التي أضعفت الطابع العلمي لكتاباتها، وقد يعود ذلك إلى تجاسرها على الموروث وإمعانها في رفع الشعارات اليسارية وإطنابها في فضح دائرة العلاقات الحميمة المسكوت عنها. ومهما كانت درجة اختراقها للنطاق الحميمي والتباسها بالنزعة الذاتية فإن السعداوي تعدّ في تصورها للحب الحقيقي نسوية في مرجعياتها وأهدافها بل رائدة للخطاب النسوي العربي من حيث تناولها لهذه المسألة إذ جعلت الحب ركيزة أساسية في مشروع المجتمع البديل بعد أن كان علاقة خاصة لا تتجاوز حدودها الوجدانية.
وليس من باب المبالغة اعتبار البحث في تصور السعداوي للحب ضربا من المغامرة الممتعة بالكشف عن حدود الممكن والمستحيل وبيان مسارب الذاتي في خطاب يتسم بالموضوعية العلمية، بل قد تجد الذات الباحثة صدى لصورتها عبر شهادات النساء المنتشرة عبر ثنايا دراساتها. ولئن كان وقوعها في تكرار أفكارها وقناعاتها من المآخذ التي ردّدها خصومها فإنّنا على يقين أنّها علامة على ثبات طرحها النسوي. وقد تعترينا الحيرة ونحن نحلّل تصوّرها للحب كما تحيل عليه جملة من الأسئلة التي طرحناها تباعا في هذه الدراسة، غير أنّها تكشف عن حيوية التفاعل الفكري الذي يحظى به خطاب السعداوي إمّا تجاوبا أو تجاوزا.
المراجع
(1) نوال السعداوي: طبيبة وكاتبة وباحثة نسوية مصرية ولدت سنة 1930 وعايشت فترة ازدهار التوجه اليساري في أوج شبابها. وقد تمثّلت هذه المرجعية وهي تسخّر قلمها للدفاع عن المرأة وفضح المظلمة الاجتماعية التي تتعرّض إليها. واعتمدنا في هذا المقال على دراساتها العلمية التي جمعت في مؤلّف واحد بعنوان: “دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي” ، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1990.
(2) قد يردّ البعض على هذه المواقف بأنّها تكشف عن شطط الفكر النسوي في نزوعه لنسف المنظومة الاجتماعية إذ لم يقنع بما تحصّلت عليه المرأة من اعتراف قانوني بحقّها في التعليم أو العمل.. غير أنّ الخطابات الناقدة لوضع المرأة الموسوم بالهشاشة في المجتمعات العربية تصدر أحيانا عن مثقفين لا يحسبون على النسوية، بل هي خطابات تتوخى الموضوعية والحياد العلميين لتقديم رؤية اجتماعية تروم التحليل العميق لواقع المجتمعات العربية. ذلك ما نلاحظه مثلا في إقرار محمد الرميحي أستاذ علم الاجتماع الكويتي: “وأيا كانت زاوية النظر التي نرى منها تطور المرأة العربية سواء من منظور المجتمع السياسي أو المجتمع المدني، فإننا سوف نلاحظ أن هذا التطور هو كمي مظهري، لم يؤدّ بعد إلى تغيرات جوهرية..لا تزال الثقافة السائدة هي ثقافة السيطرة للرجل في مقابل الخنوع للمرأة .” مقال “رفع حجاب الأوهام عن حال المرأة العربية”. مجلة العربي، العدد 467، 1/10/1997.
(3) ورد الفصل الأول بكتابها “المرأة والجنس” وهو بعنوان “ما هو الحب” وقد عقب تحليلا مستفيضا لوضع العلاقات بين الجنسين في المجتمعات العربية. أما الفصلان الواردان بكتابها الوجه العاري للمرأة العربية” فقد شفّا عن تناول إشكالي لمفهوم الحبّ الذي بقدر التباسه وعسر تقييده بدلالات تكفي لمشهدته، فإنّه ينطوي على متقرّر داخله رسّخته ثقافة الموروث العاملة بلا هوادة في النظام الاجتماعي وذلك بالحدّ المقابل للحب وهو ما وسمته السعداوي ب”كراهية وحب مشبوب” وبالبعد الحسي الذي يربك الطابع الميتافيزقي للحب وذلك ما يشي به فصل “الحب والجنس عند العرب”.
(4)- دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي: ص514.
(5) ـ م.ن: ص318.
(6) ـ م.ن: ص851.
(7) ـ م.ن: ص76.
(8)- م.ن: ص841.
(9)- يمكن النظر في الصفحات 76ـ77 من المصدر السابق حيث أوضحت الكاتبة المسار الفاشل لمؤسّسة الزواج منتقدة هشاشة مقوم الشرف الاجتماعي الذي يرتكز عليه.
(10) ـ م.ن: ص400.
(11) ـ م.ن: ص769.
(12) ـ م.ن:ص 770.
(13)- م.ن: ص44.
(14) ـ م.ن: ص499.
(15)ـ م.ن: ص441. يتواتر حديث أول العلاقات الآثمة بين الجنسين في دراسات السعداوي ، إذ تنعكس شيطنة المرأة وضرورة تطويق مواطن القوة فيها عبر ملامح شخصية حواء التي بلغت من القدرة على الإغواء ما أوقع بآدم في معصية الله: “ولم تكن قصّة آدم وحواء إلاّ تعبيرا عن خوف الرجل من المرأة، ولولا هذا الخوف ما نسب الشر والإثم والشيطنة إلى حوّاء [..] والمرأة التي تملك من القوة والسحر والفتنة ما يوقع الرجل ويسقطه من الجنة إلى الأرض ويسبّب له الدمار والهلاك والموت امرأة لابد أن تكون مخيفة ومرعبة وربما كانت كذلك فعلا”. م.ن: ص773.
(16) ـ م.ن: ص87.
(17) ـ م.ن: ص472. تستشهد الكاتبة بتصوّر أفلاطون الذين مجّد الحب المقدّس الرابط بين رجلين متوافقين روحيا وفكريا، وقد اعتبر الشذوذ الجنسي ميزة رئيسيّة لرجال السياسة. وهو موقف متناغم مع ثقافة الإقصاء السياسي : “وبهذا لم يكن للنساء مكان في الحب الأفلاطوني ولا في مدينته الفاضلة ! وهكذا يستطيع الرجل دائما أن يضع ثوب الفضيلة والقدسية على كلّ رغباته حتّى الشاذة منها.” م.ن: ص469.
(18) ـ م.ن: ص473.
(19) ـ م.ن: ص16.
(20) ـ م.ن: ص42.
(21) ـ م.ن: ص105.
(22)ـ ابن حزم : (384 هـ / 456هـ)، فقيه أندلسي ظاهري، ومتكلم وشاعر. يعرف الحب متبنيا مقولة الأكر المقسومة، إذ هو اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة بشرط التماثل. “طوق الحمامة في الألفة والألاف” تح إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، 1993.
أما ابن قيم الجوزية (691 هـ – 751 هـ) فمن علماء الدين الإسلامي الذين دعموا هذا التصور الميتافيزقي للحب بالتأكيد على معنى التناسب والتشاكل الذي لا يحقق اتصالا فحسب وإنما هو تمازج بين روحي المحبين، ومتى كان الحب مبنيا على دوافع وأهداف فإنه معرض للزوال بزوال أسبابه. “روضة المحبين ونزهة المشتاقين” تح محمد الحبيب بن خوجة، ط2، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1981.
كما يتردد مبدأ اتفاق الأرواح بين المحبين لدى ابن داود الأصبهاني (200-270 هـ)، إضافة إلى إمكانية الحب المعلولة بالمصلحة أو المردودة إلى ظرفية كالحزن والفرح. “كتاب الزهرة”، تحقيق لويس نيكل البوهيمي، بيروت، مطبعة الآباء اليسوعيين، 1936.
(23) ـ م. ن: ص107.
(24)ـ م.ن: ص116.
(25) ـ م.ن: ص116.
(26) ـ م.ن: ص 107.
(27) ـ م.ن: ص107.
(28)ـ يقول الديلمي أبو الحسن علي بن محمّد (ق4) في كتابه “عطف الألف المألوف على اللام المعطوف”: “إنّا وجدنا المحمودة منها هي النقية عن الآفات، العارضة فيها، المفسدة لها، الباقية على طهارتها الأصلية ونورانيتها المتقدمة، وروحانيتها القديمة. أمّا المذمومة منها، فهي المشوبة بشهوات النفس البهيمية من حظوظها النفسانية المتولّدة من دنس الطبيعة المذمومة بلسان العقل والشريعة”ص56، القاهرة، مطبعة المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، 1962.
(29 )ـ دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي: ص769.
(30) ـ م.ن: ص109.
(31) ـ روبرت ستولر: من أهم علماء النفس الأمريكيين (1925ـ 1992) المؤثرين في تصورات السعداوي الجنسية، وقد اهتم بدراسة الهشاشة النفسية لتكوين الهوية الجنسية. من مؤلّفاته: “مذكر أم مؤنث؟” 1989، “بحوث في الهوية الجنسية انطلاقا من المتحولين جنسيا” 1978.
تشرح السعداوي ما اعتبرته ضعفا في نظرية التحليل النفسي لمسألة التطور الجنسي عند المرأة، فقد اعتبر فرويد أن الحياة الجنسية تنطلق بالمرحلة القضيبية لدى الذكر والأنثى، وأكّد على أن طريق الأنثى نحو أنوثتها يمرّ بمسار ملتو موسوم بتنوع العقد النفسية المتعلقة بعضو الذكر حتى يبلغ مرحلة المازوشية وارتضاء الأذى. وهو تحليل يبرر قبول البنت بشعور النقص وإدماجها إيّاه في نطاق مميزات أنوثتها. بينما تقر السعداوي: “المعروف بيولوجيا وفيزيولوجيا أنه ليس هناك من هو ذكر خالص مائة في المائة ومن هي أنثى خالصة مائة في المائة، بل إن الأعضاء الجنسية والهرمونات الجنسية في كلا الجنسين تتداخل، ويحتفظ الرجل ببقايا أعضاء أنثوية منذ كان جنينا وتحتفظ المرأة ببقايا أعضاء ذكرية..” م.ن : ص200.
(32) ـ في كتابها “العشق والكتابة” تخصّص الأستاذة رجاء بن سلامة الباب الأول من الفصل الثاني لتحليل أبعاد حضور مقالة الأكر المقسومة في مواقف المنظرين للعشق، وتكشف عن أساليب احتوائها وتطويعها للمعايير العشقية التي قاموا بسنّها. ص 303ـ309 ،كولونيا، منشورات الجمل، 2003.
(33)ـ دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي: ص 114.
(34)- حوار أجرته تسنيم الريدي مع د. سميحة غريب تحت عنوان: “التكافؤ بين الزوجين من أهم أسس السعادة الزوجية”
(35) ـ دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي: ص105.
(36) ـ ولد انجلز الفيلسوف الألماني يوم 28 نوفمبر1820 وتوفي في 5 أوت 1895، من أهم ما كتب “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة” سنة 1884، وفيه بلور ملاحظات كارل ماركس حول الدراسات الأنتروبولوجية للمجتمعات التقليدية التي قام بها هنري مورغان.
(37) ـ دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي: ص514.
(38) ـ م.ن: ص205.
(39) ـ م.ن: ص 114.
(40)ـ م.ن: ص136.
(41)ـ م.ن: ص137.
(42) ـ م.ن: ص75.
(43)ـ م.ن: ص77.
(44) ـ خصّصت الكاتبة مؤلّفها “المرأة والصراع النفسي” لدراسة ظاهرة العصاب انطلاقا من طائفة من الحالات المرضية المتوافدات على المستشفيات النفسية أو القابعات في سجن النساء أو بعض الصديقات اللواتي أسررن بهمومهن لها. وقد سعت إلى تبيّن حجم هذه المشكلة التي لم تلق الاهتمام العلمي الكافي .
(45)ـ م.ن: ص582.
(46) Simone De Beauvoir هي من رائدات الخطاب النسوي، كاتبة ومفكرة نسوية فرنسية (1908ـ 1986) أثرت في جل النسويات إما بإثبات أفكارها أو نقدها أو الإضافة لها، وكان لكتابها “الجنس الثاني “Le deuxième sexe” 1948 أثر واضح على الخطاب النسوي العربي في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين.
.
صورة مفقودة