عمّار المأمون - لنحتلم على كاحلي فتاة الخِدر

تَمشي نور تاجوري في شوارع نيويورك مبتسمة، تلاحقها عدسة الكاميرا وتلتقط لها الصور، تكشف عن كاحليها فقط، وتبتسم فخورة بحجابها، وبأن ذلك لا يقف بوجه طموحاتها، هي امرأة قوية وتريد أن تحقق حلمها بأن تصبح أول مذيعة محجبة في

التلفزيون الأميركي، نور جميلة، ملامح جسدها تغيب نوعا ما وراء “وضعية الحجاب”، من الممكن لو استخدمنا المخيّلة أن نكتشفها، لكن للأسف ليس لدينا سوى كاحلها، المدهش، والمهين في ذات الوقت، أن نور ستكون على غلاف مجلة بلاي بوي لهذا الشهر، لا بعرييّها، بل بكامل حجابها، آلة النيك والإباحية الهائلة التي تروج لها بلاي بوي قررت أن تمارس “فضيلة العفّة”.

المؤسسة المروجة للجسد المسلّع والشبقي المُتوهم، الآلة الذكوريّة التي تثير رغبات الرجال وانتصاباتهم تقرر الاحتشام، لم يعد هناك صور لفتيات عاريات كما قررت المجلة مسبقاً، وهذا الشهر، فتاة “أمريكيّة، مسلمة، محجبة” النقيض الأقصى لكارمن إلكترا مثلا، الفتاة الشقراء ذات الكسّ ناعم، لم يعد الاستمناء هو الدافع وراء البيع، بل “تعزيز دور المرأة”، لكن حقيقة، أي امرأة ؟

، الترويج للقمع الفكري وأنظمة الحكم المقدسة المتمثلة بالحجاب يعتبر تعزيزياً لها لا ترويجاً لحرية المرأة و”دورها” الاجتماعي.

حالة نور تاجوري تشابه الإحباط الجنسي، مؤسسة الحلمات المشتعلة، تروّج الآن لجسد “فتاة الخدر” ، المرأة التي تضيع وراء الحُجُبْ ولا نعرف عنها سوى كلامها، كلمة محجبة ومسلمة، التي تضفي عليها قدسية ما هي إلا إهانة للمؤسسة وتاريخها، العري الفاضح والأكساس اللمّاعة المرتبطة بالحضور العاري والفاحش اختفت، بل نشاهد “امرأة” “محجبة” “مسلمة” ،

الهدف لا الانتصار لحرية المرأة بالعريّ أو عدمه، لا البحث في هيكليات شبقية للجسد “المسلم” بوصفه جسداً مقيدا، بل مجرد تحويله لسلعة أخرى، سلعة إباحية محتشمة، هذا تناقض لفظي، لكنه حقيقي، إباحة فتاة الخدر يعني الكشف عن نهديها، خاصرتها،

لا تحويلها إلى صيغة أيقونية منيعة ضد الشهوة والرغبات، ما تقوم به بلاي بوي، هو إمعان استشراقي في ترسيخ الصيغة “المحرمنة” للفتاة المسلمة، هي عيب، وعورة، وعريّها ، نهداها وإستها، ممنوعان، الآلة الإباحية فقدت انتصابها، فقررت أن تراهن على الغياب، على الاستمناء السريّ لا العلني، الحضور الفج للجسد لا يتناسب مع الوضعية المقدّسة لهذا الجسد، فلنلوح بالأحلام إذا، فنثير المخيّلة، لتبق فتاة الخدر في الداخل، لترتد “حطّتها” قبل اكتشاف عوالمها، التي ببساطة، لن نرى منها شيء،

حتى جسدها و الذي يبرر وضعيتها الإباحية، مُختفي، لا استمناء، مجرد ابتسامات صفراء.

تمكنت المنتجات الجديدة من تكوين عوالم مثالية إباحية، تنضح للأقصى بالإباحة، تكرس الحضور الجسدي العاري، الذي يحمل جماليات موجودة في تاريخ الفن، هذا العري الذي ساهم في نزع القدسيّة و تطور حتى وصل حد الإباحية، لكن لا يوجد في الثقافية العربيّة المعاصرة، مفهوم الجسد العربي “الآن”، فهو لا يحمل جماليات عريّ، قيمته كعارٍ -بكل المعاني الذي تحمله الكلمة- هي قيمة شهوانية، مهينة للرجل بوصفه ملتهم أكساس فقط، وللمرأة بوصفها فَرج كبير يسيل ماؤه دوما،

وهنا يكمن جوهر الحجاب –بالنسبة للمقدسّ الديني والاجتماعي-، هو تغطية هذه المتع واحتكارها، وهو ما يعمقّ مفهوم جنسنة المرأة، ووحشنة الرجل،

ما فعلته بلاي بوي هو أنها حافظت على هذه الصيغة، الحجاب والثياب بوصفها امتداد لهذا المقدس “القديم” الذي لا يمكن نزعه حتى عبر الماكينة المعاصرة، وهذا القدم يمنحه شرعيّة تستمد من الغيب ونصوصه، لا من “الآن” وممارسات “الآن”.

يحتكر المقدس الإسلامي العريّ لنفسه، جنة الله هي التي تحوي العريّ والبكارة والأهنان التي لم يطأها أحد، هي عوالم متخيّلة، أما الأرَض، فالجنة التي قدمّها للجسد منقوصة ومقننّة، هي خفيّة، متع لا تنتمي للحضور، هي في عقلك، أو وقت القران المقدس، مفاهيم النيك والبغاء والفحشاء الرأسمالية التي من المفترض أن تمثلها بلاي بوي، انهارت أمام سطوة المقدس، هذا الجسد، محكوم بالغياب، الصيغة الفضائحيّة لا تليق بها، بسبب تاريخ الرعب الذي يختزنه “الحجاب”، الذي ينفي “الفحشاء” من ملكوته.

جسد نور المهمش حافظ على هامشيته حين دخل ماكينة الإنتاج الثقافي، بقيّ امتدادا لمقدس يمعن في تصنيفه،

وحرمانه من الانحلال من تجاوز مفهوم التابو، نحو صيغ أخرى ليست بالضرورة إباحية أو استهلاكية، بل جماليّة، هذا الهامش تم الإمعان في تعميقه من قبل آلة إباحيّة جبارة، فشلت أو خافت، أو حتى اختارت الصمت أما هذا الجسد، و كأن حياته اليوميّة، مغامرة، هو كائن إيكزوتيكي مقّدس لا يمكن المساس به، فقد المجاز والتلويح والغموض هو ما يبعث على الأغلمة، حلماته، شفره الحاد، العرق بين نهديه محرّمان، تهميش هائل عبر استخدام القيمة الدينيّة والسياسيّة لكلمة “حجاب”، بوصفها تسهم في تداوله،

لا النيك أو قابلية الاحتلام سراً، بل الرعب وإيروتيكية الخفاء المحيطة به، و”التلصص” على حياته اليوميّة التي تدغدغ الخيال.

لا أظن أن كتب تراث النيك والقحاب المبتذلات كافية لتفكيك مفاهيم الاحتجاب والغياب، الجسد العربي بحاجة انتهاك، سلخ لعقليّة الجنسنة المرتبطة به، للوصول إلى الوضعية الجماليّة، الانتهاك هو البداية، النيك ذو الخصائص الممنهجة –الاستهلاكيّة- هو مجرد حلّ أولي، لابد من إعادة تعريف الهابتيوس وتقنيات اللعب المرتبطة به لتحرير هذا الجسد، دون أن يحمل قيم إضافية،

مُسلم، لاجئ، مُحجّب، بل جسد وفقط جسد، لتجاوز التصنيفات السابقة، التي تفرض عليه وضعيات هامشيّة، تسمح له بالتحول لمنتج استهلاكي ثقافي مبرمج سابقا بصورة سياسيّة لا جماليّة أو فضائحيّة، وهذا ما تفعله نور الآن، التي تتاجر بنفسها كـ”حالة” تستحق الدعم، بوصفها تقاتل لنيل الاعتراف ضمن المؤسسات- هي حقيقة أطلقت حملة باسمها وتحاضر عن الإسلام “الكول- cool” والعصري كعمر خالد-، وللأسف بمشاركتها في بلاي بوي، شاركت بترسيخ صورة عن نفسها بوصفها اختزال ثقافي لا إباحي،

للمرأة المحجبة التي تناضل ضد التهميش، عبر جعل الحجاب صيغة قمع مؤسساتيّة لا ذاتية، بوصفه ضد الشهوة، كما روجت لمفهوم الإسلام الاستهلاكي-commercial Islam ، الذي يعمل خارج النص ، بل بصورة أدق يمارس المونتاج على النص المقدسّ، أشبه بتقنية الناسخ والمنسوخ، لكن هذه المرة لا عبر النص، بل عبر الممارسة، مجرد فبركات بحجة مواكبة العصر، عوضاً عن القطيعة الكليّة مع السابق أو انتهاكه.

بلاي بوي فشلت، لم تكشف عن شيء، حاولت أن تروج لمفاهيم الدور الاجتماعي وحقوق المرأة، لكن الموضوع أعمق، هناك حقوق أهم تخسرها “المحتجبة”، الحق بالعريّ، بالعلنيّة، بالفضائحية، مؤسسات مقدسة وأنظمة هيمنة تمارس عليها ما يسمى “self victimization” هي لا ترى نفسها مقموعة، هي تتوهم الحريّة، على أساس القناعة التي تزرعها تقنيات العنف الاجتماعي والديني –أشبه بعطب أبيستومولوجي- ، فقواعد اللعب والإباحية ترتبط بمرجعية مقدسة، لا حرية الاكتشاف، ولا يقصد هنا الإباحية المؤسساتيّة، بل الشخصية، التجربة الذاتيّة في اكتشاف وضعيات اللذة لا محاكاة الخِدر المقدس أو الفضائحيّة السلعيّة، إحباط هائل نتيجة فعلة بلاي بوي، لنكتف بالكاحلين، ولنكتب الشعر عمّا لا نستطيع لحسه.


*فتاة الخدر: نسبة إلى قصيدة المنخل اليشكري التي تحوي البيت الشهير “ودخلت على الفتاة الخِدر في اليوم المطيرٍ”

ملاحظة: تم تجنب الحديث عن شهرزاد لأن الأخيرة تبني الحكايات من أجل نجاتها الشخصيّة، هي لا تتحدى الذكر، بل تفرك خصيته ليلاً خوفاً من القتل.
 
أعلى