حسين بافقيه - رأي الشَّيخ ورؤيا الشَّاعر

أقرب الظَّنّ أنَّ الشَّيخ محمَّد أحمد باشميل (ت 1426هـ)، لمْ تسرَّه الدَّعوة الَّتي صدع بها نفر مِنَ المصلحين، حين أنشؤوا يدعون، قبيل عام 1380هـ – 1960م وفي أثنائه، إلى تعليم الفتاة السُّعُوديَّة، ويُظْهرنا كتابه «لا يا فتاة الحجاز»، الَّذي أصدره في العام نَفْسه، على مقدار الفَزَع الَّذي تَوَلاه، فجرَّد قلمه وأخرج تلك الرِّسالة، حتَّى يستبرئ مِنْها، ولعلَّه لمْ يكنْ ليظنَّ أنَّ الفتاة ستصيب قدرًا صالحًا مِنَ التَّعليم، وأنَّ الحكومة ستسعى إلى تزيينه في عيون الآباء والأمَّهات الَّذين تَحَيَّرَ نفر مِنْهم، خوفًا على بناتهم مِنْ «خطر» التَّعليم.
الحقّ أنَّ الشَّيخ أُوتِيَ بيانًا رفيعًا، يَعْرفه كلّ مَنِ اتَّصل بما ينشئه، سواء مِنْه فصوله الَّتي أذاعها في الصِّحافة، يُخوِّف بها القرَّاء مِنْ «التَّغريب»، وكُتُبه الَّتي جَدَّ في تَخَيُّر عناوينها، وتَفَنَّن في أساليبها، حتَّى يَتِمّ له ما شاء، وهو تشديد النَّكير على دعاة «القوميَّة العربيَّة»، و«النَّاصريَّة»، و»الاشتراكيَّة»، مِنْ مثل لهيب الصَّراحة يحرق المغالطات، وأكذوبة الاشتراكيَّة العربيَّة، وكتابه هذا لا يا فتاة الحجاز.
وأنا لا يخالجني الشَّكّ في أنَّ عنوانه قدْ رَوَّعَ النَّاس، حين ظهروا عليه، وأنَّهم أقدموا على الظَّفر به، حتَّى إذا ما تَمَّ لهم ذلك، قرؤوه، فازدادوا حيرةً على حيرتهم، وخوفًا على خوفهم.
قال محمَّد أحمد باشميل إنَّ الخطر كلّ الخطر في أن تتعلَّم الفتاة الحجازيَّة، وأنَّ عليها ألا تُصْغي إلى معشر الأولى لا يريدون لها خيرًا، أولئك الَّذين يُزيِّنون لها هذا الطَّريق، وأنَّ عليها أنْ تتَّقي تلك «الدَّعاوَى»، فما هي إلا كالحِبَالة يضعها «الصَّيَّاد» في طريق «الفريسة»، حتَّى إذا ما وقعتِ الفتاة فيها، فقدتْ أنوثتها وعِفَّتها، ولا عليها إنْ أعرضتْ عنْ أولئك الَّذين يريدونها على أنْ تتشبَّه بالفتيات العصريَّات الَّلاتي زَيَّن لهنَّ مَنْ لا يريد بهنَّ خيرًا، فتعلَّمْن، ثُمَّ إذا تعلَّمْنَ لمْ يكتفين بالتَّعليم الأوَّليّ، إنَّما يَسْعَيْنَ إلى غشيان الجامعة والاختلاف إليها، حتَّى إذا اختلفْنَ إلى الجامعة، عرفْنَ حياة السُّفُور، وذُقْنَ ويلات التَّبرُّج وفقدان الحشمة.

◗ إسراف وغلوّ
ربَّما عَدَدْنا، اليومَ، كلام الشَّيخ ضربًا مِنَ الإسراف والغُلُوّ، ولعلَّنا، متَّى قرأناه، نعجب لذلك الخوف الَّذي استولَى عليه، حتَّى إنَّنا لنَظُنُّه يحدِّثنا عنْ صنوف «الحشيش» و«المخدِّرات»، وليس ببعيدٍ أن يحسب أحدنا أنَّ مجتمع الشَّيخ، حين أصدر رسالته تلك، جفاها واتَّقاها. لا.. لمْ يحدثْ شيءٌ مِنْ هذا، والَّذي نعرفه أنَّ مجتمع تلك الحقبة كان قدْ تنادَى فيه جمهرة مِنَ «المشايخ» و«الوُعَّاظ»، ونفر مِنَ «العلماء» إلى تحذير الآباء والأمَّهات، وكلّ مَنْ في قلبه ذَرَّة مِنْ «مُرُوَّةٍ» و«غيرةٍ» على «المَحارم» مِنْ تلك «الدَّعاوَى» الَّتي لا تريد لمجتمعنا خيرًا، ولا لنسائنا، ولا لبناتنا، ولوْ أنَّ أحدًا مِنَّا ظهر على طَرَفٍ مِنْ صحافة ذلك العهد، لراعه أنْ حَشَدَ أولئك الأشياخ خيلهم ورجلهم لدفْع هذا «البلاء» عنْ المجتمع، ولعجب لتلك الكلمات الَّتي يسوقونها في التَّشنيع على «المصلحين» مِنْ دعاة تعليم الفتاة السُّعُوديَّة.
ليس مِنْ شأن هذا الفصل التَّأريخ لـ«تعليم الفتاة» في السُّعُوديَّة، ويكفينا، هنا، أن نُلِمّ بجهاد الطَّليعة المستنيرة مِنْ مثقَّفي البلاد، آنئذٍ، يكفي أنْ نقرأ مقالات أحمد السِّباعيّ، وعبد الكريم الجهيمان، وعبد الله عبدالجبَّار، وأحمد محمَّد طاشكنديّ، لنعرف أنَّ «تعليم الفتاة» كأنَّما كان عقبة كأداء، نَصَبَها في طريق المرأة رأي فريق مِنَ المتديِّنين، وأعراف المجتمع، والظُّلْم الاجتماعيّ الَّذي قاسى النَّاس أهواله، وأصابتِ المرأة مِنْه قدرًا عظيمًا.

◗ معركة العصر
وفي الكُتُب التي أراد بها أصحابها التَّأريخ للأدب في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، أوْ تلك التي وقفتْ على تقييد تاريخ التَّعليم فيها = فقرات مختلفات في طولهنَّ، جعلتْ «تعليم الفتاة» موضوعا لها، ونقرأ فيها جهاد ثُلَّة مِنَ الأدباء في تخفيف غلَواء المتزمِّتين مِنَ المتديِّنين، وتزيين تعليم الفتاة السُّعُوديَّة في النُّفُوس، يستوي في ذلك الشِّعْر والنَّثْر، وقلَّما خلا ديوان شاعر مِنْ ذلك العصر مِنْ قصيدة أوْ تزيد عنْ هذه المسألة.
واتَّفق لي، وأنا أُقَلِّب الأعمال الكاملة للشَّاعر السُّعُوديّ محمَّد حسن فقي (ت 1425هـ)، أنْ وقعتُ على قصيدة دعاها «إلى فتاة الحجاز»، وأَذْكَرَني عنوانها، قبل أنْ أقرأها، كتاب «لا يا فتاة الحجاز» للشَّيخ محمَّد أحمد باشميل، واستجلب نظري تاريخ القصيدة، ومِنْ عادة الشَّاعر أن يُثْبِتَ تاريخ كلّ قصيدة، فإذا به 14 رجب سنة 1380هـ، وتذكَّرْتُ أنَّ تاريخ كتاب باشميل إنَّما هو 1380هـ، وهو التَّاريخ الَّذي بدأ فيه «تعليم الفتيات» في المملكة، فقويتْ رغبتي في قراءة القصيدة.

◗ الانتصار للمرأة
قصيدة «إلى فتاة الحجاز» بحْرها «الرَّمَل»، وتعداد أبياتها عشرون بيتًا، ورويُّها النُّون المفتوحة المطلقة، والقصيدة، بالقياس إلى قصائد فقي، قصيرة، وأنا لا أعرف أَنَشَرَ الشَّاعر قصيدته هذه في الصِّحافة أمْ لا، وحين استوفيتُ قراءتها قَوِيَ عندي أنَّ محمَّد حسن فقي إنَّما أراد الانتصار لـ«فتاة الحجاز»، والوقوف في وجْه كتاب لا يا فتاة الحجاز، وإنْ لمْ يُصَرِّحْ بذلك.
تُفْصِح القصيدة عنْ غرضها منذ بيتها الأوَّل، ولا غرض لها إلَّا الانتصار للفتاة الحجازيَّة الَّتي قاستْ ضُرُوبًا مِنَ الظُّلم الاجتماعيّ، بعد أنْ كانتْ، في التَّاريخ القديم، «للعِلْم منارًا»، ويُلْقِي الشَّاعر عليها تَبِعة ما انتهى إليه أمرها، حين رضيتْ بالخُنُوع، واستكانتْ للظُّلم الَّذي حَلَّ بها، وفرَّطتْ في حُقُوقها.

يَا فَتَاةَ الحِجَازِ أَوْرَثَكِ الظُّلْمُ = خُضُوعًا لِسَطْوَةِ الظَّالِمِينَا
فَتَخَاذَلْتِ بَعْدَ أَنْ كُنْتِ لِلْعِلْمِ = مَنَارًا، وَلِلشُّكُوكِ يَقِينَا
وَتَقَاعَسْتِ عَنْ حُقُوقِكِ فَاغْتِيلَتْ، = فَزَادُوا تَعَصُّبًا وَجُنُونَا

◗ مقابلة ضرورية
ولنْ نَفْهم هذه الأبيات حقَّ الفهم إلَّا إذا قابلناها بتلك العبارات الَّتي يُخَوِّف بها محمَّد باشميل «فتاة الحجاز»، ويستجلب النَّظر أنَّ «الشَّيخ» و«الشَّاعر» كأنَّما يُخَايِر أحدهما الآخر، وأنَّ «فتاة الحجاز» هي رهانهما، فكلا الرَّجلين يناديها، أمَّا الشَّيخ فيحذِّر وينهى، وأمَّا الشَّاعر فيشتدُّ في تعنيفها، رجاء أنْ تثور بواقعها، وتنتفض، وتعرف حقوقها.
كان بإمكان قصيدة محمَّد حسن فقي أنْ تكون كأمثالها مِنَ القصائد الَّتي أراد أصحابها مِنْ ورائها دعوة «الفتيات» إلى التَّعليم، لولا أنَّها عَدَتْ ذلك، فانتهتْ إلى دعوة «فتاة الحجاز» لا إلى التَّعليم، وحَسْبُ، وإنَّما إلى أنْ تقشع عنْ وجهها «الحِجَاب»، فإذا كان «الشَّيخ» محمَّد أحمد باشميل يريد للفتاة أنْ تقعد في كِسْر بيتها، وإذا شاء لها أنْ تجفو التَّعليم، لأنَّ فيه سبيلًا إلى الفتنة والفجور؛ فإنَّ «الشَّاعر» محمَّد حسن فقي يريدها أنْ تتمرَّد على حجابها فتقشعه، وأنَّ تخلُّفها عنِ المسير في الرَّكب الَّذي سارتْ فيه أسلاف لها، إنَّما لأنَّها استكانتْ لجبروت «الحجاب»، حتَّى عُدَّ، في وهمها، «دِينًا».

وَتَرَاجَعْتِ تَحْتَ ضَغْطِ الأَرَاجِيفِ = فَكَانَ الحِجَابُ عِنْدَكِ دِينَا
وَتَجَاهَلْتِ أَنَّ عَائِشَةَ الأَمْسِ = وَأَتْرَابَهَا دَكَكْنَ الحُصُونَا
وَتَخَلَّفْتِ فِي المَسِيرِ عَنِ الرَّكْبِ = وَقَدْ كُنْتِ أَوَّلَ السَّائِرِينَا

◗ إلى فتاة الحجاز
والحقّ أنَّ قصيدة «إلى فتاة الحجاز» يُمْكن أنْ نَعْتَدَّها قصيدة في «هِجاء» الحجاب، فكلمات الشِّعْر وعباراته تؤول كلُّها إلى هذه الغاية، وبينما بلغ كتاب «لا يا فتاة الحجاز» أقصى ما يرجوه، وهو أنْ تقعد «فتاة الحجاز» في بيتها، فلا تعليم ولا استنارة، وبينما أراد لها باشميل أنْ تتلفَّع بحجابين، حجاب مادِّيّ يَحُول بينها وبين الحياة، وحجاب رمزيّ يحرمها حقّ التَّعبير، إذا بقصيدة «إلى فتاة الحجاز» تَعْنُف بهذه الفتاة، وتريدها على الثَّورة بواقعها، على الظُّلم والظَّالمين، ثُمَّ إنَّها لا ترضى بذلك، بلْ إنَّ القصيدة بلغتْ، في قسوتها وعنفها، درجةً لمْ يبلغْها شاعرٌ سعوديّ، آنذاك، فكانتْ قصيدة في «هجاء الحجاب»، فوق ما هي قصيدة «إلى فتاة الحجاز»، تلك الَّتي أضحتْ حياتها موازية «للقناع» الَّذي تستخفي خلفه، وكما حشد «الشَّيخ» محمَّد أحمد باشميل في كتابه كلّ كلمات «التَّرويع» و»التَّقبيح» و«التَّشنيع» يريد بها تخويف «فتاة الحجاز» مِنَ التَّعليم، فإنَّ «الشَّاعر» محمَّد حسن فقي يحشد في قصيدته كلمات «التَّرويع» و«التَّقبيح» و«التَّشنيع»، يُخَوِّف بها الفتاة نفسها، لا مِنَ التَّعليم، ولكنْ مِنَ «الحجاب» الَّذي حجب عنها حقَّها في التَّعليم والحياة، حين صار «قناعًا» يروِّع النَّاظرين، وما الحجاب الَّذي تستَّرتْ وراءه، كلّ تلك القرون، إلَّا «خُرُوق» لا تقوم دليلاً على «العِفَّة»، ولوْ صُوِّر لها ذلك.

وَيْحكِ مَاذَا اعْتَرَاكِ حَتَّى تَحَوَّلْتِ = قِنَاعًا.. يُرَوِّعُ النَّاظِرِينَا
القِنَاعُ الكَرِيمُ فِي النَّفْسِ يَحْمِيكِ = وَلَوْ أَنَّكِ اقْتَحَمْتِ العَرِينَا
إِنَّ مَنْ ظَنَّ فِي الحِجَابِ وِقَاءً، = كَانَ بِالطُّهْرِ وَالعَفَافِ ظَنِينَا
أَيَكُونُ الحِجَابُ وَهْوَ خُرُوقٌ = عِصْمةً.. ثُمَّ لَا نَكُون عمِينَا
وَلَوَ انَّ الحِجَابَ يُجْدِي عَلَى = العِفَّةِ نَفْعًا.. لَكَانَ شَيْئًا ثَمِينَا

◗ موضوع للبحث
لا أعرف أيّ أثر تركته قصيدة «إلى فتاة الحجاز»، فأنا لمْ أقرأْ، فيما انتهى إليه علمي، أيَّ كلمة عنها، مدحًا أوْ قدحًا، والَّذي عليه أشباه لها، أنَّ هذا الضَّرب مِنَ الكلام، إنْ لمْ يستجلبْ إعجابًا، فأقلُّه أن يثور به النَّاس، ولا سيَّما «مشايخ الدِّين» و«الدُّعاة» و«الوُعَّاظ»، ولأنَّنا نفتقر إلى دراسات تبحث في أحوال النَّاس، إلَّا قليلًا، فلمْ يَهْتَدِ إليها دارسٌ يريد تقصِّي أحوال المرأة السُّعُوديَّة، وعندي أنَّه حين نقرأ أمثال ذلك البحث، فأقرب الظَّنّ أنْ سيفرح الباحثون والدَّارسون بقصيدة محمَّد حسن فقي، وأحسب أنْ سيفرح بها المؤرِّخ وعالم الاجتماع، فوق فرح النَّاقد والأديب.

يَا فَتَاةَ الحِجَازِ مَا يَرْتَضِي الحُرُّ = غِطَاءً، وَلَا يَعِيشُ سَجِينَا
إِنَّ هَذَا الجِدَارَ قَدْ يَحْجبُ النُّورَ، = وَقَدْ يُذْبِلُ النُّهَى وَالفُتُونَا
فَانْهَضِي تُسْعِدِي القُلُوبَ فَإِنَّا = طَالَمَا بِالجُمُودِ مِنْكِ شَقِينَا

* كاتب سعودي
 
أعلى