محمد عمر جنادى‮ - شامات الحسن‮.. ‬الصفة الإيروسية للجمال

تبتعد‮ "‬شامات الحسن‮"‬،‮ ‬المجموعة القصصية الأخيرة للكاتب والروائي المصري إبراهيم فرغلي‮ ( ‬دار العين،القاهرة‮)‬،‮ ‬عن الصيغ‮ ‬النمطية في تناول العالم الحسي لقصصها،‮ ‬وأسئلة هذا العالم القلقة عن معاني الرغبة والجسد والجمال والحب،‮ ‬وتعيد كتابة ورسم بعض الأقانيم التي تؤسس لمفاهيم الفن الجمالية وصفاتها وأبعادها الإيروسية،‮ ‬خالقة‮ ‬ً‮ ‬بذلك سردية ذات مقاربة إيروتيكية خاصة،‮ ‬تحاول أن تكشف عن المضمر والمجهول والصادم في علاقة الإنسان بذاته والآخر والعالم‮.‬
‮ ‬تنقسم شامات الحسن إلي اثنتي عشرة قصة،‮ ‬تتلاقي فيها الأضداد جميعها،‮ ‬وتتلاشي الحدود بينها‮: ‬الإيروس‮ ( ‬الدافع أو الرغبة في الحياة والطاقة الجنسية‮) ‬في مواجهة ثاناتوس‮ (‬إله الموت عند الإغريق ويرمز إلي الدافع للموت‮)‬،‮ ‬اليقظة والحلم،‮ ‬الواقع والخيال،‮ ‬اللذة والألم،‮ ‬الوهم والحقيقة‮.‬
‮ ‬تخرج ذروة الحياة واللذة من رحم الموت،‮ ‬كما في قصة‮ " ‬دون كيشوت‮"‬،‮ ‬حيث تدفع الرغبة/اللذة،‮ ‬في ذروتها،‮ ‬البطل إلي خنق القتاة دليلة حتي موتها،‮ ‬بينما سناء تشاهد ذلك في متعة تتحول في النهاية إلي ذعر صارخ‮:‬
‮ " ‬أحسست أنني انعزلت عما حولي؛ لا أري سوي عينيها اللتين تفيضان بدموع اللذة،‮ ‬فيما هما ترقرقان في بؤبؤي عيني،‮ ‬ولا أسمع سوي صوت صراخها المبحوح من فرط ضغطي علي رقبتها‮..." ‬
‮ ‬أو تزداد الرغبة كثافة كلما اقتربنا من الموت،‮ ‬ففي قصة‮ "‬موديل عار‮ ‬ٍ‮"‬،‮ ‬يقوم الرسام بمحاولة رسم لوحة عارية لنورا،‮ ‬التي تقرر الانتحار بعد الانتهاء من اللوحة في‮ ‬غضون أسبوعين‮. ‬وتتولد المتعة من المازوخية،‮ ‬والخيالات الفانتازية تتحول إلي حقيقة،‮ ‬كما نري في قصص مثل‮ "‬فانتازيا‮"‬،‮ "‬الغابة السوداء‮" "‬عينان شاردتان‮": ‬
‮ " ‬كنت سعيدا باستخدام هذه المرأة،‮ ‬وصديقها،‮ ‬لي في علاقتهما الفانتازية،‮ ‬التي أرادا بها أن‮ ‬يحققا فانتازييهما الاستعراضية بين جدار القلعة وأشجار الغابة القريبة‮".. ‬قصة‮" ‬الغابة السوداء‮"‬
‮ " ‬قلت له وأنا في قمة لذتي أن‮ ‬يضربني بالسوط،‮ ‬ومددت له‮ ‬يدي به،‮ ‬فأمسك السوط وظل ساكنا للحظات،‮ ‬بينما كنت أتمدد جاثية قريبة منه أتوقع الألم،‮ ‬وأشعر بالرهبة،‮ ‬لكني لم أشعر بأني سأتراجع علي الأقل حتي أشعر بالضربة الأولي علي ظهري‮".. ‬قصة‮ " ‬عينان شاردتان‮" .‬
‮> > > ‬
‮ ‬تتلاشي الحدود بين الأمكنة،‮ ‬حيث ترتاد النصوص بلدان وعوالم أخري،‮ ‬متعددة الثقافات،‮ ‬وشخصيات المجموعة من مختلف الجنسيات،‮ ‬الأوروبية والآسيوية والعربية،‮ ‬يوحدها الجسد كلغة تعبر عن‮ "‬المشترك الإنساني‮".‬
‮ ‬قد‮ ‬يبدو في شامات الحسن أن تباعد معظم النصوص عن محيطنا الاجتماعي وبيئتنا الثقافية،‮ ‬هو محاولة للهروب من واقع اجتماعي‮ ‬يفتقد الزخم المحفزعلي الكتابة الإيروتيكية،‮ ‬واقع‮ ‬يتشكل وفق بنيات سلطوية تقمع الجسد وتحتقر الرغبة،‮ ‬وتفرض أخلاقياتها الزائفة علي الأفراد/الذوات،‮ ‬وأن النصوص‮ ‬،بهذا التباعد،‮ ‬قد أهدرت فرصة مواتية لتعرية المجتمع ونقد أنساقه القيمية الجاهلة‮. ‬ولكن قد‮ ‬يعمل تمثيل‮ "‬الآخر‮" ‬علي فضح الذات نفسها،‮ ‬وكأن هذا التصويرللواقع‮ "‬المختلف‮" ‬هو بمثابة مرآة تنعكس عليها بشاعات واقعنا البائس،‮ ‬ليتضح المعني بنقيضه‮. ‬
‮ ‬ومن المرجح أن تختفي أو تُطمس ذاتية أبطال قصص شامات الحسن،‮ ‬أو تتحول تلك الذوات وتجاربها المتفردة إلي مجرد‮ "‬نزوات تافهة‮"‬،‮ ‬كنتيجة نهائية‮ "‬لإضفاء الطابع الذاتي علي نطاق كوني‮"‬،‮ ‬يتسم هو الآخر بالطابع السلعي الذي‮ ‬يعمل علي تشيؤ الجسد واستلابه،‮ ‬كما‮ ‬يوضح‮ "‬سلافوي جيجيك‮"‬،‮ ‬بينما‮ ‬يمضي واقعنا‮ ‬الاجتماعي في مساره القمعي‮. ‬لكن النصوص تحول‮ ‬دون هذه النتيجة،‮ ‬بما‮ ‬يتبدي في رؤيتها وسردها من وعي‮. ‬فلا تنطلق شامات الحسن من مفهوم قاصر عن الجسد،‮ ‬ولا من بنية مسبقة للفهم،‮ ‬تقوم علي الاحتقار ما بعد الحداثي للقضايا الإيديولوجية الكبري،‮ ‬حيث‮ ‬يصبح الجسد هو اليقين الوحيد المتبقي،‮ ‬والملاذ،‮ ‬بعد زهد الذات في العالم‮. ‬لذلك نجد أن‮ "‬الرحلة الداخلية‮" ‬لبطل قصة‮ "‬ما‮ ‬يراه النهد‮"‬،‮ ‬كشكل من الممارسة الذاتية الروحية،‮ ‬تنتهي بما‮ ‬يشبه الفشل أو الخواء‮. ‬ويتجلي الوعي بمعطيات العالم في قصة‮" ‬عفاريت العولمة‮" ‬التي تدور أحداثها في الفلبين،‮ ‬وبين شخصيات ذات جنسيات مختلفة،‮ ‬حيث تتحدث الفتاة الفليبينية‮ "‬ريزال‮" ‬عن نوع من الطقسية الجماعية،‮ ‬وعن‮ "‬موت الجنس‮" ‬و‮ "‬مابعد الجنس‮". ‬وحين‮ ‬يرد عليها الراوي المتكلم‮ ‬بأن هذا‮ ‬يشبه الحداثة وما بعدها،‮ ‬وأن ظواهر التحرر الجنسي صاحبت مرحلة الحداثة،‮ ‬أما الجنس المتعدد فهو مابعد الحداثة،‮ ‬ترد قائلة‮ ‬ً‮: " ‬ربما لا أقصد ذلك تماما،‮ ‬لكن الفكرة قريبة مما تقول،لكن لا تفهمنا خطأ،‮ ‬فنحن هنا في الفلبين،‮ ‬في النهاية،‮ ‬مجتمع عائلي كاثوليكي‮". ‬ثم‮ ‬يقول الراوي العربي مع بداية التجربة‮ :‬كنا عفاريت العولمة،‮ ‬ضحايا ما بعد الحداثة،‮ ‬وأهلها،‮ ‬المارقين علي الحداثة بانسجامها الذي بدا مبتذلا في عالم تختلط فيه كل القيم‮". ‬
‮ ".. ‬مع ذلك بدونا منسجمين،‮ ‬نضحك معا‮ ‬ً،‮ ‬ونقدم أجسادنا لوليمة العولمة؛ مستثارين،‮ ‬ومرتبكين،‮ ‬مقبلين علي الحياة وناقمين علي ذواتنا وعلي لا عدل العالم‮". ‬
‮ ‬ورغم التماهي الذي‮ ‬يظهر في هذه القصة‮ ‬،وغيرها،‮ ‬مع المقولات التي تري أنه بدلا من تغيير العالم،‮ ‬لابد أن نعيد اختراع أنفسنا،‮ ‬و كوننا بأسره،‮ ‬عن طريق الانخراط في أشكال جديدة من الممارسات الذاتية‮ (‬الجنسية والروحية والجمالية‮)‬،‮ ‬إلا أن الإدراك بقيود التسليع وتسرب القيم التبادلية الأداتية لمضمارالإيروس‮ ‬يظل قائما،‮ ‬فيمنح إبراهيم فرغلي صوتا سرديا لبطل القصة التي تحمل المجموعة عنوانها،شامات الحسن،‮ ‬السائق الشاب الهندي الذي أتي من بلاد الفقر والبؤس إلي البلد الخليجي بتراتبيته وطبقيته وقيمه الاستهلاكية،‮ ‬ويبدو فعل الحب مع‮ "‬سيدته‮" ‬الفتاة،‮ ‬كلحظة إنسانية‮ ‬يتم القبض عليها وسط مرارات عالم طبقي،‮ ‬حتي وإن كانت العلاقة تتسم بمبدأها الخاص‮: ‬
‮" ‬كنت أعرف في النهاية،‮ ‬أنها هي التي تقود العلاقة،‮ ‬ولم أكن راغبا في اختبار مخالفة هذا المبدأ الذي فرضته منذ دقت عليّ‮ ‬باب الغرفة‮". ‬ويمنح السرد أيضا صوتا مميزا لبائعات الهوي،‮ ‬حيث الأجساد مجرد أداة‮. ‬لا تطرح المجموعة الجسد وأسئلته بوصفه‮ ‬يقين،‮ ‬كما أن النصوص لا تجهد نفسها أكثر مما‮ ‬ينبغي لكي تمنحنا الحقيقة النهائية‮. ‬فنفتتح المجموعة بقصة‮ " ‬فيما‮ ‬يري النائم‮" ‬وسط أجواء الحلم،‮ "‬الطريق الملكي إلي اللاوعي‮"‬،‮ ‬لتنتفي صفة الحقيقة عن السرد،‮ ‬ثم قصة‮ "‬خارطة الجسد‮" ‬حيث الوهم‮ ‬يمتزج بالحقيقة‮. ‬وفي‮ "‬موديل عار‮ ‬ٍ‮" ‬نصل إلي قمة الالتباس مع نهاية القصة،‮ ‬فلا نعلم هل وُجدت نورا حقا،‮ ‬أم أن الرسام قد رسم‮ "‬امرأة حلمه‮" ‬كما قالت الفتاة التي تحاوره وتحمل نفس علامات نورا‮. ‬تتولد المتعة من ثنايا النصوص،‮ ‬التي تقيم ارتباطا بين الخارج عن المألوف واللغة العارية،‮ ‬وتصنع النصوص جدلا وتفاعلا بين الخيالات اللاواعية والدفاعات الواعية ضدها،‮ ‬فتتحول أعمق المخاوف والرغبات إلي معان‮ "‬مقبولة‮" ‬أو شديدة الوضوح عن طريق السرد المنمق،‮ ‬حيث‮ ‬يخلغ‮ ‬بلاغة خلابة علي التجارب والرغبات والخيالات الفانتازية لشخوص القصص،‮ ‬ما‮ ‬يذكرنا بما فعله‮ "‬نابوكوف‮" ‬في روايته الفذة‮ "‬لوليتا‮". ‬
‮ ‬لذلك تكمن في‮ "‬شامات الحسن‮" ‬طاقة جمالية،‮ ‬تتمثل في‮ "‬الصفة الإيروسية للجمال‮"‬،‮ ‬بتعبير هاربرت ماركوز،‮ ‬فالنص القصصي‮ ‬يتكلم اللغة‮ "‬المتحررة‮": ‬
‮ " ‬كنت في أوج شهوتي،وغيابي في جسد الفتاة السمراء،‮ ‬أتساءل عمن تكون،‮ ‬سؤال‮ ‬يولده العناق الشهواني والخيالات واللذة‮. ‬وكانت الإجابات‮ ‬غامضة‮. ‬كيان شبحي‮ ‬يفيض بما تفسره الإيروسية بأنه الغرام‮.."‬
‮ ‬تواجه اللغة بشعريتها وصفاتها الإيروسية المبدأ القبلي للجمال،‮ ‬المبدأ السائد للواقع،‮ ‬والذي هو مبدأ سيطرة،وتنتصر لمبدأ اللذة‮. ‬وتنتقل لغة النصوص من الوصف التفصيلي أو تقرير ما‮ ‬يحدث،‮ ‬إلي وسيلة للبوح الذاتي،‮ ‬وإلي‮ "‬شعرية‮" ‬منبنية علي اللاوعي ومجازيته‮. ‬وتتضافر معها المادة الثقافية داخل المجموعة،‮ ‬والتي تتمثل في النصوص الشعرية التي تستهل كل قصص شامات الحسن،‮ ‬لشعراء كبار مثل‮: ‬ريتسوس،‮ ‬وديع سعادة،‮ ‬سعدي‮ ‬يوسف،‮ ‬وشاعرات متميزات مثل‮ "‬جويس منصور‮" ‬و‮ "‬كيم أدونيزيو‮". ‬وتمثل عناصر هامة في تكوين القصص ودلالاتها،‮ ‬لتخلق القصص من خلالها أبعادا دلالية جديدة ومتجاوزة للمعاني المفردة‮. ‬
‮> > > ‬
‮ ‬يديم العمل الفني ذكري لحظة المتعة،‮ ‬تستحضر النصوص الصور المتحررة،‮ ‬وتتحول الحسية القاسية والعارية والجريئة إلي صور محررة،‮ ‬وعناصر‮ "‬انعتاق جمالي‮"‬،‮ ‬وتحاول‮ "‬استحضار متعة فنية وجمالية من صور الموت والألم والفناء‮" ‬كما‮ ‬يقول الشاعر‮ "‬أودن‮". ‬
‮ ‬يقول‮ "‬حنيف قريشي‮" ‬في حوار حول كتابه‮ "‬حميمية‮" : " ‬منذ عشرين عاما كان أمرا سياسيا أن تحاول عمل ثورة وتغيّر المجتمع،‮ ‬بينما تنحصر السياسة الآن في أن جسدين‮ ‬يمارسان الحب في بدروم‮ ‬يمكنهما إعادة خلق العالم بأسره‮".‬
‮ ‬يبدو أن الكاتب‮ ‬يعي أقوالا مثل هذه،‮ ‬والتي بدأت تتعزز في العقود الأخيرة،‮ ‬كما‮ ‬يعي إرث الإيروتيكا العربية،‮ ‬ويضيف إليها‮. ‬تذكرنا‮ "‬شامات الحسن‮" ‬بأعمال تناولت الإيروتيكا والجسد بفنية عالية‮: ‬فيلم‮ "‬امبراطورية الحواس‮" ‬للمخرج الياباني الكبيرناجيزا أوشيما،‮ ‬وأعمال الشاعر والمخرج السينمائي الإيطالي‮ "‬بازوليني‮"‬،‮ "‬معلمة البيانو‮" ‬للكاتبة النمساوية‮ "‬ألفريدا‮ ‬يلينك‮".. ‬فهي،‮ ‬بالمثل،‮ ‬تحاول أن‮ "‬تجعل العالم المتحجر‮ ‬يتكلم‮" ‬كما قال ماركوز،‮ ‬وتدرك عبر الاستقلال الذاتي للفن،‮ ‬أن الفن لا‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يغير العالم‮ ‬،‮ ‬لكنه‮ ‬يستطيع الاسهام في خلق الجمال،والحرية،‮ ‬وخلق وعي انساني مغاير‮.‬
 
أعلى