نقوس المهدي
كاتب
1
كانت مصر وقتها تسمح رسمياً بالبغاء فكانت هناك بيوت بغاء مفتوحة بموافقة الدولة، وغانيات وعاهرات يحملن رخصاً حكومية من مكاتب الصحة، بخلوهن من الأمراض، بما يسمح لهن بممارسة البغاء في أحياء وأماكن مشهورة ومعلومة، مثل حي كلوت بك مثلاً، واندلعت الحرب العالمية وكانت مصر مسرحها الساخن، حيث جنود الإنجليز ومعهم جنسيات من استراليا والهند وغيرهما كانوا في معسكرات منتشرة في أرجاء الوطن، والجنود بشر في أزمة ومحتاجين «ترفيه» والترفيه يعني الذهاب إلي دور البغاء، المفاجأة جاءت من هنا، أن الداعرات والعاهرات في مصر رفضن بكل إباء وشمم وكبرياء وطني صميم عظيم أن يفتحن سيقانهن للجنود المحتلين والأجانب، وكانت ظاهرة بكل المقاييس أن العاهرات المصريات لا يسمحن للأجانب بممارسة البغاء في بيوتهن ولا معهن، مما دفع قوات الاحتلال الإنجليزي لاستيراد عاهرات أجنبيات مخصوصات إلي مصر بالتعاون مع غانيات أجنبيات مقيمات أصلاً في القاهرة والإسكندرية وقضوها كده، المدهش كذلك (مرجعي في هذه المعلومات كتب دكتور عبد الوهاب بكر عن تاريخ العالم السري والبغاء في مصر) أن الرجال المصريين من باب الوطنية ورفض الاحتلال والأجانب لم يقتربوا من العاهرات الأجنبيات، ولم يفضلهن أبداً فكانت دور البغاء وطنية وصناعة محلية يرفض الزبون والعاهرة أن يدخل بينهما أجنبي محتل غادر، ومن الجائز أن تسمع ساعتها عاهرة تعلن بكل عزم : إلا المال الحرام بتاع الخواجات، آخد فلوسي وعرق جبيني من رجالة مصر، وحد الله بينا وبين الغرب (الاستعماري الصليبي )، لماذا تلح علي دماغي هذه الأحداث التاريخية عندما أتابع وطنية بعض الموجودين علي الساحة السياسية فأجدها أقرب إلي وطنية بيوت البغاء وعاهرات مصر في الحرب العالمية.
2
كلوت بك.. الوسعة.. وش البركة.. درب طياب.. عطفة جندف.. درب المصطفي.. الوعد.. الجنينة.. الخبيزة.. الحوض المرصود.. كل أسماء المناطق والحارات والأحياء السابقة كانت تعني منذ مطلع القرن الماضي وحتي منتصفه مناطق البغاء العلني ومملكته في الليل والنهار. جيوش من العاهرات والفتوات والبلطجية والبرمجية وتجار الرقيق وطالبي المتعة من كل الأجناس والملل بل والديانات حين كانت القاهرة وعلي مدي حربين عالميتين طاحنتين مركزا لجيوش الامبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس..
العالم السري للقاهرة والعلني في نفس الوقت هو المسرح الذي تجول علي خشبته د. عبدالوهاب بكر في كتابه الأخير.. مجتمع القاهرة السري ..1900 1951' الذي يعد واحدا من أهم الأبحاث الاجتماعية واكثرها دقة واكتمالا في السنوات الاخيرة، ليس فقط بسبب ندرة الأبحاث العلمية في هذا المجال، بل أيضا بسبب ذلك الاشتمال والقدرة علي الاحاطة الكاملة بموضوع البحث.
واذا كان البغاء العلني قد صدرت من أجل تنظيمه قرارات ولوائح منظمة، فان أولي لوائحه أصدرها مصطفي فهمي رئيس مجلس النظار وناظر الداخلية عام 1905 تحت عنوان 'لائحة بشأن بيوت العاهرات' وتوالت من بعدها التنظيمات، حيث أصدر خديو مصر عباس حلمي 'لائحة البيوت العمومية' ثم لائحة التياترات التي وقعها عام 1916 محمد سعيد ناظر الداخلية.. لكن عام 1949 شهد قرارا انقلابيا باغلاق بيوت العاهرات وبعدها بعامين فقط صدر القانون 68 لسنة 1951 الخاص بمكافحة الدعارة والمعمول به حتى الآن.
وهكذا بدأ فصل جديد من فصول البغاء، وتحول إلي بغاء سري واتخذ أشكالا مختلفة لعل أقلها لا أخلاقية هو اللقاء الجنسي المدفوع الأجر بين رجل وامرأة ، بينما البغاء الفكري والسياسي والاقتصادي اكتسب علانية وأنصارا يزدادون كل يوم.. إلا أن هذه قصة أخري كما يقولون!
نعود إلى د. عبد الوهاب بكر الذي اعتمد علي مصادر جديدة ومختلفة لطبيعة بحثه الجديد والمختلف وفي مقدمتها تقارير اللواء رسل باشا الذي كان يقود البوليس المصري منذ عام 1918، إلي جانب مختلف التقارير السنوية لأداء جهاز الأمن في القاهرة، وكذلك تقارير مصلحة الصحة العمومية المنوط بها الاشراف علي خلو عاهرات القاهرة من الوطنيات والاجنبيات من الامراض الجنسية، والتاريخ الشفوي غير المكتوب من خلال من تبقي من شهود العيان الأحياء سكان هذه المناطق الذين التقاهم المؤلف، وأخيرا أبحاث وكتابات اللواء نيازي حتاتة الذي تخصص تقريبا في اجراء أبحاثه الممتازة حول مسائل البغاء.
3
شيوخ العرصات !
وباطلالة تاريخية سريعة، تعرف أنه منذ الربع الاخير للقرن السابع عشر كانت البغايا تسجلن في سجلات الشرطة وتحصي أعدادهن، وتقوم الشرطة بحفظ هذه السجلات التي تضم أسماء محترفي البغاء من الرجال والنساء لأغراض الضرائب. كما كانت هناك ثلاث وظائف يتولاها (شيوخ العرصات) في بولاق والقاهرة ومصر القديمة يقومون بجمع الضريبة من الاناث والصبية تحت ادارة قائد الشرطة الذي يعاونه 40 رجلا يعرفون بجاويشية باب اللوق مهمتهم حصر الصبية والبغايا ومراقبة من يقضي الليل خارج منزله أو داخله و أثناء الاحتلال الفرنسي لمصر اقيمت في غيط النوبي المجاور للأزبكية أبنية للبغاء لايسمح بدخولها الا لمن يدفع رسما معينا ويصرح له بورقة صادرة من السلطات الفرنسية. وترك محمد علي الحبل علي الغارب للبغاء منذ توليه عام 1805 وحتي عام 1834 حين أبعد المومسات والراقصات الي اسنا وقنا والأقصر، لكن عباس الاول رفع هذا الحظر عن البغاء والرقص وعادت المشتغلات بهذه المهن إلي القاهرة. وفي عام 1885 وبعد الاحتلال الانجليزي صدرت لائحة مكتب التفتيش علي النسوة العاهرات والزمن بالكشف الدوري عليهن مع استثناء (العايقات) اللائي يبلغن 50 عاما وذلك حرصا علي صحة جنود الاحتلال. وكان مندوبو السرية الطبية البريطانية يجلسون أمام الطوابق الأرضية للمواخير حيث يسلمون كل جندي واقيا ذكريا وعلبة مرهم وكراسة بالتعليمات.
وكان قانون الضبطية الصادر عام 1880 قد حدد أماكن ممارسة البغاء في منطقتي الأزبكية وباب الشعرية وتضيف المصادر الأمنية أيضاً مناطق زينهم والعزبة السودانية بالعباسية ، لكن تميزت منطقة عرب المحمدي بأنها الأرخص وكانت 'محلات الممارسة فيه لاتتجاوز حفرة في الأرض ممهدة للقاء وتغطي من أعلي بستارة تثبت ببعض الحجارة من أطرافها بواسطة القواد أو القوادة' وعندما يفرغ (العميل) من مهمته يتم رفع الحجارة وازالة الستارة لدخول عميل جديد! أما منطقة الأزبكية طبقا لتقرير بوليس مدينة القاهرة عام 1893 فقد كانت تضم أعلي نسبة من الفنادق والغرف المفروشة، بينما كانت منطقة (الوسعة) ووش البركة في الأزبكية تضم عشرات البيوت المقسمة لغرف أو حتي دكاكين مغطاة بستائر، وسعر الممارسة كان يتراوح في العشرينات بين شلن و 15 قرشا مكتوب علي الباب، كما كانت هناك بيوت أخري مغطاة بقضبان حديدية تجلس خلفها المومسات بوجوههن المصبوغة. وعندما صدر الأمر العسكري عام 1942 باغلاق منطقة وش البركة لجأت العواهر في ممارسة، نشاطهن مع جنود الاحتلال إلي المقاعد الخلفية في عربات الحنطور!!
لم يترك د. عبدالوهاب بكر شاردة أو واردة إلا وذكرها بما في ذلك أجور العاهرات. فطبقا لبحث أجري علي 149 مومسا عام 1957، تراوح الأجر بين 25 50 قرشا. أما أكبر دخل من مجموع اتصالات العاهرة فقد بلغ 8 جنيهات طبقا لبحث آخر.
من جانب آخر يؤكد د. بكر أنه من الصعوبة بمكان حصر أعداد المشتغلات بهذه المهنة، فهناك دائما أعداد أخري ممن يعملن خارج الأماكن الرسمية المصرح بها، بل ان التقارير الرسمية ذاتها في الثلاثينات اكدت ان المشتغلات بالبغاء السري كن أكثر عددا من المقيدات بالسجلات الرسمية. فبينما كان عدد المومسات المقيدات بالدفاتر الرسمية عام 1934 يصل إلي 926، بلغ عدد غير المقيدات اللاتي ضبطن بالقاهرة17.27 وتحفل سجلات مصلحة الصحة العمومية ببيانات دقيقة لمن خضعن للكشف الدوري الذي كانت تجريه المصلحة علي المرضي بالأمراض السرية مع ملاحظة أن نشاط المومسات في البغاء السري ممن ضبطهن يحرضن علي الفسق في الشوارع، أو داخل البيوت أضعاف نشاط المسجلات. ومن المؤكد أن نشاط البغاء في القاهرة أصابه بعض الوهن في النصف الثاني من الأربعينات ولأسباب سياسية محددة مثل انتهاء الحرب العالمية الثانية وارتفاع المد الوطني مع تزايد نشاط الحركات السلفية وفرض الأحكام العرفية.
4
الوطنيات والأوربيات
لم يقتصر سوق البغاء علي المومسات المصريات اللائي ميزهن القانون ب 'المومسات الوطنيات' بل شمل نشاط الدعارة الاوربي الذي بدأ في ثمانينات القرن التاسع عشر، فقد أشار قانون اجراءات واختصاصات مأموري ضبطيات الاثمان الصادر عام 1880 إلي 'بعض حريمات موسوية وعيسوية في بعض شوارع المحروسة، جاعلات لهن دكاكين للاقامة بها ويتردد عليهن حريمات لفعل الأمور غير المرضية'.
أغلب الظن ان المومسات الأوربيات بدأ توافدهن علي المحروسة في ظل القوانين التي كانت تتيح للأجانب التدفق علي البلاد في عهد (الخديو سعيد 1854 1863) وتزايد بالطبع في أعقاب الاحتلال الانجليزي، غير ان الامتيازات الأجنبية أضفت علي نشاطهن نوعا من الحصانة. وقد عاني اللواء رسل قائد شرطة القاهرة الأمرين أثناء عمله في حماية وتنظيم الدعارة، وهناك أحد المواخير الذي ظل يتردد عليه رسل عدة شهور في محاولة لضبط الخارجين علي القانون، فلم يكن ممكنا حتي للبوليس أن يدخل بيتا أجنبيا دون موافقة القنصل.. كتب د. بكر: 'وفي الواقعة الخاصة بهذا الماخور فانه كان يواجه في كل مرة يأتي فيها بالقنصل المختص بصوت يعلنه من الداخل أن مدام إيفون صاحبة المحل الفرنسية قد باعته إلي مدام جنتيني الايطالية، فيضطر (المسكين) رسل لاحضار القنصل الايطالي في الاسبوع التالي، فيفاجأ بتغيير جنسية صاحبة الماخور إلي اليونانية، ولم ينقذ رسل إلا اصطحابه لسبعة ممثلين لقناصل دول أجنبية دفعة واحدة'.. وهكذا نجح رسل باشا أخيرا!!
وفي هذا السياق وكما كشف تقرير لجنة الخبراء الخصوصية التابعة لعصبة الأمم المتحدة عام 1927، تشكلت عصابات للاتجار بالرقيق الأبيض، وتكفلت البواخر التي كانت تتدفق علي الاسكندرية والقنال بنقل العشرات بنظام ودقة بالغين.. يقول التقرير:
لقد ثبت ان الديار المصرية عبارة عن سوق بغاء عظيمة للنساء والفتيات من جميع الاجناس ولاسيما في موسم السياحة، أعني مدة شهور الشتاء، فان السواد الأعظم منهن كن يشتغلن بالبغاء قبل قدومهن إلي القطر المصري.. ووصول النسوة كان في الغالب عن طريق الاسكندرية، إلا أن بعضهن كان ينزل في بورسعيد، والبعض الآخر كان يذهب إلي بيروت، ومن هناك يأتي إلي مصر عن طريق البر..
وقد حدث رواج كبير وزاد الطلب علي المومسات الاوربيات عام 1926 تحديدا، وسجل التقرير المشار اليه أن أصحاب بيوت الدعارة كانوا يدفعون ما بين 50 100 جنيه للحصول علي أجنبية، وهو مبلغ رهيب بأسعار ذلك الزمان! وفي كل الاحوال اقتصرت جنسيات المومسات القادمات للعمل بالمحروسة علي اليونانيات والفرنسيات والايطاليات، أما شرف الامبراطورية البريطانية العريق فقد كان يمنع البريطانيات من العمل طبقا للقوانين التي فرضها الاحتلال البريطاني! والمؤكد ان القوادين الاجانب حكموا حي الدعارة الاوربي في قلب القاهرة بوش البركة بيد من حديد كما تشير وثائق ذلك الزمان .
هذا وقد بلغ عدد المومسات الأوربيات المسجلات عام ..1916 (659) امرأة علي سبيل المثال. لكن هذه الأرقام تسقط أمام أي سجل احصائي للبوليس المصري الذي أورد عام 1935 عددا كبيرا ممن ضبطن من الاوربيات يمارسن تحريض المارة علي الفسق بلغ ..3040
لنتأمل معا السنوات التالية: 1927، 1932، 1934، وحتي ..1946 في هذه السنوات تحديدا بلغ عدد المومسات الاوربيات من المشتغلات بالبغاء سرا اكثر من عدد قريناتهن من المصريات باستثناء عام 1945 فقط، بل انه تجاوز ضعف عدد المصريات وبلغ 12.140 مومساً ..
5
البادرونه والبرمجي
خصص د. عبدالوهاب بكر الفصل التالي من بحثه الاجتماعي الممتاز للملامح الاجتماعية للمومس. وبالرجوع إلي المصادر المختلفة للفترة موضوع البحث نجد ان أعلي نسبة للسقوط بين 21 25 عاما، واكثر الجهات امدادا للقاهرة بالعاهرات هي علي التوالي الاسكندرية، الغربية، كفر الشيخ، المنوفية، الشرقية، المنيا.
تتراوح أسباب السقوط بين فقد الأب أو الأم أو الزوج، وبلغت نسبة الامية بينهن حدا خطيرا، وكانت نسبة لايستهان بها من بينهن يعلن أولادهن وأقاربهن من عملهن. أما الزواج فقد ثبت طبقا للدراسات الميدانية أن أكثر أزواج المومسات من العمال يليهم التجار ثم الموظفون، ذوو الاعمال الحرة، ذوو الاملاك، الفلاحون، واخيرا الطلبة.
بالطبع يقترن الطلاق بالسقوط وكذلك الزواج المبكر. وقد تتخذ المومس بجانب زوجها عاشقا، أو تجمع بينهما في وقت واحد. وطبقا لنفس الدراسات فان أكثر المهن تعرضا للسقوط هن خدم المنازل، يليهن العاملات، ثم الفنانات في الكباريهات، فالبائعات المتجولات، وحائكات الملابس، والفلاحات وهن أقل المشتغلات تعرضا للسقوط، مع ملاحظة ان كثيرات من بين المومسات يجمعن بين مهنتهن ومهن أخري.
وطبقا لمسح اجتماعي أجراه المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 1957/ 1958 علي 1055 مومسا ممن ضبطن بمعرفة مكتب حماية الآداب بالقاهرة، تبين أن الأغلبية من المومسات لايشربن الخمر ولايتعاطين الحشيش، وان القلة التي تفعل ذلك تفعله ارضاء لنزوات العميل، وقد تراوح دخلهن الشهري بين 6 20 جنيها. ومن أغرب ما كشف عنه البحث المشار إليه تفشي انعدام الحساسية الجنسية لدي المومسات علي نحو مذهل.
من جانب آخر تعيش المومس في غابة يحكمها القواد والبادرونة والبرمجي، وعلي الرغم من ذلك فان هذه الغابة يتألف بناؤها الاجتماعي من سلم هرمي تقبع في أسفله المومسات، ويأتي بعدهن البدرونات وهن مديرات البيوت المرخص لهن بالدعارة، ثم (السحابات أو السحابين) وهم المسئولون عن تزويد البيت بالمومسات الجدد، وأخيرا في أعلي السلم يقف القواد أو القوادة بشموخ وكبرياء، فهو المسئول الأول عن تشغيل العنصر البشري وامداد المجموعات البشرية بالغذاء والملابس وأدوات التجميل والتوصيل للمستشفيات وتوفير المحامين.. الخ ومن الناحية القانونية لم تكن القوانين المصرية وحتي عام 1951 تعاقب القواد فيما يفعله من التعيش علي ما تكتسبه المومس. بالطبع لم يكن السيد القواد يدفع للمومس إلا جزءا ضئيلا من أجرها في مقابل ما يزعمه من غذاء وخدمات صحية وقانونية. من جانبه كان القواد يسعي بالطبع لتقليل هذه الخدمات لتصبح المومس دائما علي وشك الموت. فقد عثرت الشرطة علي سبيل المثال أثناء تفتيشها منزل أحد كبار القوادين عام 1923 علي اكوام من (الدقة) وغرائر من البصل وقدورا من المش لاحصر لها!
أما نظام المحاسبة فكان اكثر إثارة للتقزز والبشاعة، ففي منطقة عرب المحمدي كان اللقاء الجنسي يتم في حفر نعم مجرد حفر مجهزة في التلال. وكان العميل يدفع أولا للقواد، وفي نهاية اليوم وحتي تحصل المومس علي اجرها كانت تقدم للقواد حصيلة انتاجها وهي كيزان ممتلئة بالسائل المنوي للعملاء الذين افرغوا في جهازها التناسلي ويدفع القواد مبلغا محددا لقاء كل كوز.. لا أظن أن هناك أكثر بشاعة أو إثارة للتقزز من هذا الامتهان الفظيع..
لذلك لم يكن غريبا أن يستخدم القواد العنف المنظم والضرب حتي الموت والتشويه بالمواد الكيماوية طبقا لمحاضر الشرطة في ذلك الزمان، بل ان العنف في مجتمع البغاء يفسره بعض علماء الاجتماع بأنه من أهم السمات التي تميز ثقافة البغاء..
واذا كانت كلمة بدرونة وهي كلمة ايطالية تعني سيدة صاحبة رآسة فان مقابلها في بيوت البغاء الوطنية: العايقة. وهكذا تتولي البدرونة في بيوت البغاء الأوربية توزيع العمل وتنظيمه وتلقي الاموال وودفع أجور الخدم والبلطجية ومواجهة التعقيدات الأمنية وهي تقريبا نفس مهام العايقة.
ولاتستطيع المومس أن تعمل بلا بدرونه أو عايقة، بل ان بيتا واحدا للبغاء لن يقبلها طبقا لميثاق الشرف المعقود بين العايقات والبدرونات، خصوصا اذا علمنا أن الاخيرات كن يلزمن المومسات بالتوقيع علي كمبيالات، وهو الأمر الذي احترمته الشرطة ،وفي كل الأحوال كان الضحايا هن المومسات ، كما احترمت جهات الكشف الطبي ميثاق الشرف، ولم يكن يسمح للبغي بمغادرة المستشفي إلا إذا تسلمتها بدرونتها أو من ينوب عنها، حتي تبقي البغي سجينة.
أما عشيق المومس فكان اسمه البرمجي، وطبقا للنظام المحكم والدقيق للعالم السري فان المومس لم تكن تستطيع العيش دون برمجي تنفق عليه وتعاشره وتغدق عليه في مقابل حمايتها. وأخيرا هناك السحاب أو السحابة الذي يقوم باصطياد الفتاة وتقديمها لقمة سائغة للقواد الذي يتولي كل شيء.
7
الحوض المرصود
الحوض المرصود يقع الآن في 22 شارع قدري بحي السيدة زينب حيث مستشفي القاهرة للأمراض الجلدية والتناسلية، واذا كان المبني الأصلي قد تهدم، إلا أن ثمة أثرا مازال باقيا من أمجاد المبني القديمة يتمثل في كملتي الحوض المرصود المكتوبة علي لافتة المستشفي. أمجاد الحوض المرصود عديدة من بينها أنه كان مكان اجتماع المومسات الوطنيات لأخذ عينات من اجهزتهن التناسلية للفحص، وهو ايضا مكان معالجة الامراض السرية، كما أنه مصدر الرعب للمومس المرخص لها وأضاف د. بكر كان المكان ' الذي كانت ترد إليه طوابير المضبوطات يحرضن المارة في الشوارع علي الفسق، مخفورات في حراسة رجال الشرطة للكشف عليهن ضد الأمراض السرية. كان الحوض المرصود هو المكان الذي تحاصره فرق البلطجية والبادرونات والقوادين والقوادات وقت الكشف أو عند انتهاء علاج المومس المريضة ليتسلموها ويعودوا بها إلي بيت الدعارة خشية الهرب'.
وعلي الرغم من ذلك فان الأمراض السرية تفشت علي نحو يكاد أن يكون وبائيا لأن الأمراض الثلاثة الرئيسية الزهري والسيلان والقرحة الرخوة تحتاج إلي علاج مكثف، وبعضها يحتاج إلي سنوات قبل الشفاء التام، وهو الأمر الذي كان يعني 'وقف حال' المومس بل وأن تجوع حرفيا، لذلك كان انقطاع المريضات عن استكمال العلاج هو القاعدة، ففي احصاء أجراه مستشفي الحوض المرصود عام 1932، كان عدد المريضات قد بلغ 34279، وعدد المنقطعات .14468 وبسبب هذا التفشي الوبائي اضطرت السلطات لانشاء مركز للوقاية من الأمراض التناسلية بجهة الازبكية يعمل ليلا ونهارا!
8
حكاية ابراهيم الغربي
في الفصل التالي يناقش د. بكر ثلاث قضايا رئيسية مرتبطة بالبغاء وهي الرقيق الابيض، البلطجة، المشروبات الروحية. فيما يتعلق بالقضية الاولي يروي المؤلف حكاية عن شخصية روائية هامة هو ابراهيم الغربي ملك الرقيق الابيض وصاحب صولجانه.
ابراهيم وفد علي القاهرة عام 1890 قادما من أسوان، وكان والده يعمل بتجارة الرقيق التي كانت السلطات قد حرمتها عام .1870 وفور مجيئه إلي القاهرة افتتح بيتا للبغاء العلني في شارع وابور المياه ببولاق. تيسرت أحواله سريعا واستأجر عام 1896 منزلا كبيرا في منطقة الوسعة لممارسة نشاطه، وألحق بالمنزل مقهي بلديا ترقص فيه الراقصات. ولم يحل عام 1912 إلا وكان يمتلك 15 منزلا للبغاء في الأزبكية تعمل فيه اكثر من 150 مومسا. يصف رسل باشا قائد بوليس القاهرة ابراهيم الغربي علي النحو التالي:
نوبي ضخم الجثة سمين. كان يشاهد كل مساء جالسا علي مقعد خارج منازله بشارع عبدالخالق واضعا ساقا علي ساق مرتديا ملابس النساء ومنقبا بنقاب أبيض. كان هذا الفاسد الكريه يجلس كالصنم الأبنوسي الصامت، ويخرج في العادة يدا مغطاة بالمجوهرات ليقبلها أحد المارة من المعجبين، أو معطيا أمرا صامتا لأحد أتباعه من الخدم. كان لهذا الرجل سلطة مذهلة في البلاد. امتد نفوذه ليس فقط في عالم الدعارة، ولكن أيضا في محيط السياسة والمجتمع الراقي، كان شراء وبيع النساء في كل من القاهرة والأقاليم في يد الغربي كلية، ولم يكن قراره بالنسبة للسعر يقبل المناقشة..
وعندما فرضت الأحكام العرفية عام 1914 تقرر إقامة معتقل في الحلمية 'يلقي فيه هذا النفر من المتشبهين بالنساء، وفي ليلتين كان قد اعتقل مائة من هؤلاء' وكان من بينهم الغربي الذي قضي عاما في المعتقل ثم أبعد إلي قريته بأسوان. لكن القصة لم تنته بعد. ففي عام 1922 حققت النيابة في احدي قضايا الرقيق الابيض بواسطة تنظيم نجح في بيع 400 فتاة. واعترف أغلب المقبوض عليهم من الرجال والنساء بأن ابراهيم الغربي ما يزال يدير عمليات الرقيق الأبيض من إسنا إلي الاسكندرية، كما أثبتت التحقيقات ضلوع رجال الشرطة وتورطهم. وقد أسفر تفتيش منزل الغربي عن العثور علي عشرات الكمبيالات علي النساء المغرر بهن وكميات كبيرة من النقود والحلي والذهب، كما تبين أن الغربي يدير 52 منزلا.
أدين الغربي وحكم عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة بخمس سنوات لم يستطع تحملها ومات بعد عامين داخل السجن تاركا وراءه '54 بيتا في حي باب الشعرية قيمتها وما تحتويه 50.000 جنيه، 156 سوارا من الذهب الخالص والزمرد والماس عدا تاج كان يلبسه فوق رأسه تجاوزت قيمته ثلاثة الاف جنيه بأسعار ذلك الزمان، وكسوة للتشريفة كان يرتديها في الحفلات الرسمية كانت قيمتها 500 جنيه، إلي جانب عشرة آلاف جنيه'.
كما كشفت التحقيقات عن سيطرة ابراهيم الغربي علي جهاز الشرطة وكذلك جهاز فحص المومسات وقيادته لتنظيم محكم يضم المومسات والقوادات والسحابات والبلطجية والمنازل المدارة للدعارة.
ولايفوت المؤلف الاشارة الي ما كشفت عنه التحقيقات في قضايا عديدة سقطت خلالها شبكات دعارة تقدم الصبية.
أما ثانية القضايا المرتبطة بالبغاء فهي البلطجة، والأصل في البلطجة ان كل حي من احياء القاهرة كان له فتوة معترف به (راجع روايات نجيب محفوظ) بما في ذلك حارة اليهود، وكانوا يحصلون بالطبع علي اتاوات يفرضونها علي أهل الحي الذي يعيشون فيه. وعندما ظهرت دور الدعارة الرسمية تحمل الفتوات والبلطجية عبء حماية ملاهي الأزبكية وروض الفرج واداروا صالات الرقص والبارات والمقاهي، كما تحملوا عبء حماية ورعاية المومسات! وكما عبر المؤلف 'في نفس الوقت فان هؤلاء البلطجية وثقوا علاقاتهم بصغار ضباط الشرطة، وأصبح قسم شرطة الأزبكية يدار من الحانات والصالات التي اتخذها اعضاء عصابات البلطجية مقار لهم يحتسون فيها الخمور بلا مقابل ويحصلون علي الاتاوات'.
9
حكاية الراقصة "امتثال فوزي"
ولايفوت المؤلف أن يروي حكاية الراقصة امتثال فوزي التي افتتحت صالتها 'كازينو البوسفور' وعرض عليها البلطجي المعروف فؤاد الشامي الحماية لكنها رفضت، بل وكانت تأمر بطرد البلطجي واعوانه من الصالة، وقام الشامي بتدبير اعتداء عليها، فلجأت إلي شرطة الأزبكية بالطبع، وكان رد ضباط الكراكون أن دورهم ليس حماية الناس من التهديد بل ضبط الوقائع بعد وقوعها.. وانتهي الأمر بقتلها علي يد الشامي!!
ثالثة هذه القضايا هي ارتباط الخمر بالبغاء. ولذلك ازدادت واردات البلاد من الخمر بين عامي 1914 و 1918 بنسبة 200 % ، كما ارتفع عدد البارات إلي 1287، مع الأخذ في الاعتبار ان الاجانب كانوا يحصلون علي تراخيص بفتح الحانات ثم يبيعونها للمصريين لقاء 400 جنيه مع أجر شهري معقول!
10
وينهي د. عبدالوهاب بكر الكتاب بفصل يتناول من خلاله تطور البغاء والتحسينات التي طرأت عليه، فمثلا يعد ادخال الرقص في المقاهي بدءا من أواخر القرن التاسع عشر أولي محاولات تجميل البغاء علي يد ابراهيم الغربي. ومفهوم ان الراقصات لم يكن دورهن مقصورا علي الرقص وفرض بعض أصحاب الصالات رسوم دخول، وتطور دور الراقصة إلي مجالسة الزبائن.
ومع قيام الحرب العالمية الأولي ازدحمت القاهرة بجيوش الحلفاء، لذلك اشتدت الحاجة للنساء لمجالسة الزبائن، وانتعشت صالات بديعة مصابني وماري منصور وببا في العشرينات والثلاثينات. أما مع قيام الحرب العالمية الثانية فقد بدأ البغاء يتخذ شكلا جديدا، وأصبحت الصالات والكباريهات والمقاهي الموسيقية هي المركز الأساسي للبغاء. ومن أجل تحية جنود الحلفاء ابتكرت الراقصة شوشو البارودي رقصة نجاح الديمقراطية! وقامت الارتيستات بنفس الدور الذي كانت تقوم به المومسات ولكن مع استخدام قناع جديد.
ولم تكن الارتيست مجرد مومس تجلس مع الزبائن، بل ان (فتح) زجاجات الخمر علي شرفها كان هدفها الاساسي، مع اكتفائها هي باحتساء الينسون أو الشاي لكن الزبون يدفع!
ومن أوربا انتقلت إلي مصر صالات الرقص حيث خصص أصحاب هذه الصالات نساء عملهن الوحيد مراقصة الزبائن وخصوصا جنود الامبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس. وانتشرت صالات الرقص في وسط المدينة، لكن أفضل أماكنها كان في العوامات الراسية في الجزيرة وامبابة.
وبعد الغاء البغاء المنظم عام 1949 تحولت اكثر المومسات إلي البغاء السري من خلال عملهن كمجالسات لجمهور الصالة. ولم يقتصر البغاء السري علي مجالسة الزبائن فقط بل أضيف إلي ذلك تسفير النساء خارج أوطانهن تحت دعوي العمل الفني في الخمسينات المبكرة.
يتوقف د. بكر عند عام 1951 حين صدر القانون 68 لسنة 1951 الخاص بمكافحة الدعارة. والواقع ان البغاء الرسمي المصرح به هو الذي اختفي، بينما ظل البغاء كما هو معروف تتم ممارسته بانتظام وتوسع، ومازالت صالات الرقص والغناء المنتشرة هي المكان المفضل والمأمون لعقد صفقات البغاء خصوصا في فصل الصيف حيث يشن الآلاف من الأخوة العرب هجمات مركزة علي صالات الرقص والغناء.
والبغاء بالطبع ليس مقصورا علي الممارسات الجنسية، وهو الأمر الذي أولاه المؤلف كل عنايته، لكن هناك بغاء معنويا أشد فداحة وهو البغاء الفكري والسياسي والاجتماعي والفني، والمدهش أنه مازال علنيا حتي الآن ولم تصدر بشأنه أي قرارات أو لوائح أو قوانين لتعطيله
ابراهيم عيسى
كانت مصر وقتها تسمح رسمياً بالبغاء فكانت هناك بيوت بغاء مفتوحة بموافقة الدولة، وغانيات وعاهرات يحملن رخصاً حكومية من مكاتب الصحة، بخلوهن من الأمراض، بما يسمح لهن بممارسة البغاء في أحياء وأماكن مشهورة ومعلومة، مثل حي كلوت بك مثلاً، واندلعت الحرب العالمية وكانت مصر مسرحها الساخن، حيث جنود الإنجليز ومعهم جنسيات من استراليا والهند وغيرهما كانوا في معسكرات منتشرة في أرجاء الوطن، والجنود بشر في أزمة ومحتاجين «ترفيه» والترفيه يعني الذهاب إلي دور البغاء، المفاجأة جاءت من هنا، أن الداعرات والعاهرات في مصر رفضن بكل إباء وشمم وكبرياء وطني صميم عظيم أن يفتحن سيقانهن للجنود المحتلين والأجانب، وكانت ظاهرة بكل المقاييس أن العاهرات المصريات لا يسمحن للأجانب بممارسة البغاء في بيوتهن ولا معهن، مما دفع قوات الاحتلال الإنجليزي لاستيراد عاهرات أجنبيات مخصوصات إلي مصر بالتعاون مع غانيات أجنبيات مقيمات أصلاً في القاهرة والإسكندرية وقضوها كده، المدهش كذلك (مرجعي في هذه المعلومات كتب دكتور عبد الوهاب بكر عن تاريخ العالم السري والبغاء في مصر) أن الرجال المصريين من باب الوطنية ورفض الاحتلال والأجانب لم يقتربوا من العاهرات الأجنبيات، ولم يفضلهن أبداً فكانت دور البغاء وطنية وصناعة محلية يرفض الزبون والعاهرة أن يدخل بينهما أجنبي محتل غادر، ومن الجائز أن تسمع ساعتها عاهرة تعلن بكل عزم : إلا المال الحرام بتاع الخواجات، آخد فلوسي وعرق جبيني من رجالة مصر، وحد الله بينا وبين الغرب (الاستعماري الصليبي )، لماذا تلح علي دماغي هذه الأحداث التاريخية عندما أتابع وطنية بعض الموجودين علي الساحة السياسية فأجدها أقرب إلي وطنية بيوت البغاء وعاهرات مصر في الحرب العالمية.
2
كلوت بك.. الوسعة.. وش البركة.. درب طياب.. عطفة جندف.. درب المصطفي.. الوعد.. الجنينة.. الخبيزة.. الحوض المرصود.. كل أسماء المناطق والحارات والأحياء السابقة كانت تعني منذ مطلع القرن الماضي وحتي منتصفه مناطق البغاء العلني ومملكته في الليل والنهار. جيوش من العاهرات والفتوات والبلطجية والبرمجية وتجار الرقيق وطالبي المتعة من كل الأجناس والملل بل والديانات حين كانت القاهرة وعلي مدي حربين عالميتين طاحنتين مركزا لجيوش الامبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس..
العالم السري للقاهرة والعلني في نفس الوقت هو المسرح الذي تجول علي خشبته د. عبدالوهاب بكر في كتابه الأخير.. مجتمع القاهرة السري ..1900 1951' الذي يعد واحدا من أهم الأبحاث الاجتماعية واكثرها دقة واكتمالا في السنوات الاخيرة، ليس فقط بسبب ندرة الأبحاث العلمية في هذا المجال، بل أيضا بسبب ذلك الاشتمال والقدرة علي الاحاطة الكاملة بموضوع البحث.
واذا كان البغاء العلني قد صدرت من أجل تنظيمه قرارات ولوائح منظمة، فان أولي لوائحه أصدرها مصطفي فهمي رئيس مجلس النظار وناظر الداخلية عام 1905 تحت عنوان 'لائحة بشأن بيوت العاهرات' وتوالت من بعدها التنظيمات، حيث أصدر خديو مصر عباس حلمي 'لائحة البيوت العمومية' ثم لائحة التياترات التي وقعها عام 1916 محمد سعيد ناظر الداخلية.. لكن عام 1949 شهد قرارا انقلابيا باغلاق بيوت العاهرات وبعدها بعامين فقط صدر القانون 68 لسنة 1951 الخاص بمكافحة الدعارة والمعمول به حتى الآن.
وهكذا بدأ فصل جديد من فصول البغاء، وتحول إلي بغاء سري واتخذ أشكالا مختلفة لعل أقلها لا أخلاقية هو اللقاء الجنسي المدفوع الأجر بين رجل وامرأة ، بينما البغاء الفكري والسياسي والاقتصادي اكتسب علانية وأنصارا يزدادون كل يوم.. إلا أن هذه قصة أخري كما يقولون!
نعود إلى د. عبد الوهاب بكر الذي اعتمد علي مصادر جديدة ومختلفة لطبيعة بحثه الجديد والمختلف وفي مقدمتها تقارير اللواء رسل باشا الذي كان يقود البوليس المصري منذ عام 1918، إلي جانب مختلف التقارير السنوية لأداء جهاز الأمن في القاهرة، وكذلك تقارير مصلحة الصحة العمومية المنوط بها الاشراف علي خلو عاهرات القاهرة من الوطنيات والاجنبيات من الامراض الجنسية، والتاريخ الشفوي غير المكتوب من خلال من تبقي من شهود العيان الأحياء سكان هذه المناطق الذين التقاهم المؤلف، وأخيرا أبحاث وكتابات اللواء نيازي حتاتة الذي تخصص تقريبا في اجراء أبحاثه الممتازة حول مسائل البغاء.
3
شيوخ العرصات !
وباطلالة تاريخية سريعة، تعرف أنه منذ الربع الاخير للقرن السابع عشر كانت البغايا تسجلن في سجلات الشرطة وتحصي أعدادهن، وتقوم الشرطة بحفظ هذه السجلات التي تضم أسماء محترفي البغاء من الرجال والنساء لأغراض الضرائب. كما كانت هناك ثلاث وظائف يتولاها (شيوخ العرصات) في بولاق والقاهرة ومصر القديمة يقومون بجمع الضريبة من الاناث والصبية تحت ادارة قائد الشرطة الذي يعاونه 40 رجلا يعرفون بجاويشية باب اللوق مهمتهم حصر الصبية والبغايا ومراقبة من يقضي الليل خارج منزله أو داخله و أثناء الاحتلال الفرنسي لمصر اقيمت في غيط النوبي المجاور للأزبكية أبنية للبغاء لايسمح بدخولها الا لمن يدفع رسما معينا ويصرح له بورقة صادرة من السلطات الفرنسية. وترك محمد علي الحبل علي الغارب للبغاء منذ توليه عام 1805 وحتي عام 1834 حين أبعد المومسات والراقصات الي اسنا وقنا والأقصر، لكن عباس الاول رفع هذا الحظر عن البغاء والرقص وعادت المشتغلات بهذه المهن إلي القاهرة. وفي عام 1885 وبعد الاحتلال الانجليزي صدرت لائحة مكتب التفتيش علي النسوة العاهرات والزمن بالكشف الدوري عليهن مع استثناء (العايقات) اللائي يبلغن 50 عاما وذلك حرصا علي صحة جنود الاحتلال. وكان مندوبو السرية الطبية البريطانية يجلسون أمام الطوابق الأرضية للمواخير حيث يسلمون كل جندي واقيا ذكريا وعلبة مرهم وكراسة بالتعليمات.
وكان قانون الضبطية الصادر عام 1880 قد حدد أماكن ممارسة البغاء في منطقتي الأزبكية وباب الشعرية وتضيف المصادر الأمنية أيضاً مناطق زينهم والعزبة السودانية بالعباسية ، لكن تميزت منطقة عرب المحمدي بأنها الأرخص وكانت 'محلات الممارسة فيه لاتتجاوز حفرة في الأرض ممهدة للقاء وتغطي من أعلي بستارة تثبت ببعض الحجارة من أطرافها بواسطة القواد أو القوادة' وعندما يفرغ (العميل) من مهمته يتم رفع الحجارة وازالة الستارة لدخول عميل جديد! أما منطقة الأزبكية طبقا لتقرير بوليس مدينة القاهرة عام 1893 فقد كانت تضم أعلي نسبة من الفنادق والغرف المفروشة، بينما كانت منطقة (الوسعة) ووش البركة في الأزبكية تضم عشرات البيوت المقسمة لغرف أو حتي دكاكين مغطاة بستائر، وسعر الممارسة كان يتراوح في العشرينات بين شلن و 15 قرشا مكتوب علي الباب، كما كانت هناك بيوت أخري مغطاة بقضبان حديدية تجلس خلفها المومسات بوجوههن المصبوغة. وعندما صدر الأمر العسكري عام 1942 باغلاق منطقة وش البركة لجأت العواهر في ممارسة، نشاطهن مع جنود الاحتلال إلي المقاعد الخلفية في عربات الحنطور!!
لم يترك د. عبدالوهاب بكر شاردة أو واردة إلا وذكرها بما في ذلك أجور العاهرات. فطبقا لبحث أجري علي 149 مومسا عام 1957، تراوح الأجر بين 25 50 قرشا. أما أكبر دخل من مجموع اتصالات العاهرة فقد بلغ 8 جنيهات طبقا لبحث آخر.
من جانب آخر يؤكد د. بكر أنه من الصعوبة بمكان حصر أعداد المشتغلات بهذه المهنة، فهناك دائما أعداد أخري ممن يعملن خارج الأماكن الرسمية المصرح بها، بل ان التقارير الرسمية ذاتها في الثلاثينات اكدت ان المشتغلات بالبغاء السري كن أكثر عددا من المقيدات بالسجلات الرسمية. فبينما كان عدد المومسات المقيدات بالدفاتر الرسمية عام 1934 يصل إلي 926، بلغ عدد غير المقيدات اللاتي ضبطن بالقاهرة17.27 وتحفل سجلات مصلحة الصحة العمومية ببيانات دقيقة لمن خضعن للكشف الدوري الذي كانت تجريه المصلحة علي المرضي بالأمراض السرية مع ملاحظة أن نشاط المومسات في البغاء السري ممن ضبطهن يحرضن علي الفسق في الشوارع، أو داخل البيوت أضعاف نشاط المسجلات. ومن المؤكد أن نشاط البغاء في القاهرة أصابه بعض الوهن في النصف الثاني من الأربعينات ولأسباب سياسية محددة مثل انتهاء الحرب العالمية الثانية وارتفاع المد الوطني مع تزايد نشاط الحركات السلفية وفرض الأحكام العرفية.
4
الوطنيات والأوربيات
لم يقتصر سوق البغاء علي المومسات المصريات اللائي ميزهن القانون ب 'المومسات الوطنيات' بل شمل نشاط الدعارة الاوربي الذي بدأ في ثمانينات القرن التاسع عشر، فقد أشار قانون اجراءات واختصاصات مأموري ضبطيات الاثمان الصادر عام 1880 إلي 'بعض حريمات موسوية وعيسوية في بعض شوارع المحروسة، جاعلات لهن دكاكين للاقامة بها ويتردد عليهن حريمات لفعل الأمور غير المرضية'.
أغلب الظن ان المومسات الأوربيات بدأ توافدهن علي المحروسة في ظل القوانين التي كانت تتيح للأجانب التدفق علي البلاد في عهد (الخديو سعيد 1854 1863) وتزايد بالطبع في أعقاب الاحتلال الانجليزي، غير ان الامتيازات الأجنبية أضفت علي نشاطهن نوعا من الحصانة. وقد عاني اللواء رسل قائد شرطة القاهرة الأمرين أثناء عمله في حماية وتنظيم الدعارة، وهناك أحد المواخير الذي ظل يتردد عليه رسل عدة شهور في محاولة لضبط الخارجين علي القانون، فلم يكن ممكنا حتي للبوليس أن يدخل بيتا أجنبيا دون موافقة القنصل.. كتب د. بكر: 'وفي الواقعة الخاصة بهذا الماخور فانه كان يواجه في كل مرة يأتي فيها بالقنصل المختص بصوت يعلنه من الداخل أن مدام إيفون صاحبة المحل الفرنسية قد باعته إلي مدام جنتيني الايطالية، فيضطر (المسكين) رسل لاحضار القنصل الايطالي في الاسبوع التالي، فيفاجأ بتغيير جنسية صاحبة الماخور إلي اليونانية، ولم ينقذ رسل إلا اصطحابه لسبعة ممثلين لقناصل دول أجنبية دفعة واحدة'.. وهكذا نجح رسل باشا أخيرا!!
وفي هذا السياق وكما كشف تقرير لجنة الخبراء الخصوصية التابعة لعصبة الأمم المتحدة عام 1927، تشكلت عصابات للاتجار بالرقيق الأبيض، وتكفلت البواخر التي كانت تتدفق علي الاسكندرية والقنال بنقل العشرات بنظام ودقة بالغين.. يقول التقرير:
لقد ثبت ان الديار المصرية عبارة عن سوق بغاء عظيمة للنساء والفتيات من جميع الاجناس ولاسيما في موسم السياحة، أعني مدة شهور الشتاء، فان السواد الأعظم منهن كن يشتغلن بالبغاء قبل قدومهن إلي القطر المصري.. ووصول النسوة كان في الغالب عن طريق الاسكندرية، إلا أن بعضهن كان ينزل في بورسعيد، والبعض الآخر كان يذهب إلي بيروت، ومن هناك يأتي إلي مصر عن طريق البر..
وقد حدث رواج كبير وزاد الطلب علي المومسات الاوربيات عام 1926 تحديدا، وسجل التقرير المشار اليه أن أصحاب بيوت الدعارة كانوا يدفعون ما بين 50 100 جنيه للحصول علي أجنبية، وهو مبلغ رهيب بأسعار ذلك الزمان! وفي كل الاحوال اقتصرت جنسيات المومسات القادمات للعمل بالمحروسة علي اليونانيات والفرنسيات والايطاليات، أما شرف الامبراطورية البريطانية العريق فقد كان يمنع البريطانيات من العمل طبقا للقوانين التي فرضها الاحتلال البريطاني! والمؤكد ان القوادين الاجانب حكموا حي الدعارة الاوربي في قلب القاهرة بوش البركة بيد من حديد كما تشير وثائق ذلك الزمان .
هذا وقد بلغ عدد المومسات الأوربيات المسجلات عام ..1916 (659) امرأة علي سبيل المثال. لكن هذه الأرقام تسقط أمام أي سجل احصائي للبوليس المصري الذي أورد عام 1935 عددا كبيرا ممن ضبطن من الاوربيات يمارسن تحريض المارة علي الفسق بلغ ..3040
لنتأمل معا السنوات التالية: 1927، 1932، 1934، وحتي ..1946 في هذه السنوات تحديدا بلغ عدد المومسات الاوربيات من المشتغلات بالبغاء سرا اكثر من عدد قريناتهن من المصريات باستثناء عام 1945 فقط، بل انه تجاوز ضعف عدد المصريات وبلغ 12.140 مومساً ..
5
البادرونه والبرمجي
خصص د. عبدالوهاب بكر الفصل التالي من بحثه الاجتماعي الممتاز للملامح الاجتماعية للمومس. وبالرجوع إلي المصادر المختلفة للفترة موضوع البحث نجد ان أعلي نسبة للسقوط بين 21 25 عاما، واكثر الجهات امدادا للقاهرة بالعاهرات هي علي التوالي الاسكندرية، الغربية، كفر الشيخ، المنوفية، الشرقية، المنيا.
تتراوح أسباب السقوط بين فقد الأب أو الأم أو الزوج، وبلغت نسبة الامية بينهن حدا خطيرا، وكانت نسبة لايستهان بها من بينهن يعلن أولادهن وأقاربهن من عملهن. أما الزواج فقد ثبت طبقا للدراسات الميدانية أن أكثر أزواج المومسات من العمال يليهم التجار ثم الموظفون، ذوو الاعمال الحرة، ذوو الاملاك، الفلاحون، واخيرا الطلبة.
بالطبع يقترن الطلاق بالسقوط وكذلك الزواج المبكر. وقد تتخذ المومس بجانب زوجها عاشقا، أو تجمع بينهما في وقت واحد. وطبقا لنفس الدراسات فان أكثر المهن تعرضا للسقوط هن خدم المنازل، يليهن العاملات، ثم الفنانات في الكباريهات، فالبائعات المتجولات، وحائكات الملابس، والفلاحات وهن أقل المشتغلات تعرضا للسقوط، مع ملاحظة ان كثيرات من بين المومسات يجمعن بين مهنتهن ومهن أخري.
وطبقا لمسح اجتماعي أجراه المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 1957/ 1958 علي 1055 مومسا ممن ضبطن بمعرفة مكتب حماية الآداب بالقاهرة، تبين أن الأغلبية من المومسات لايشربن الخمر ولايتعاطين الحشيش، وان القلة التي تفعل ذلك تفعله ارضاء لنزوات العميل، وقد تراوح دخلهن الشهري بين 6 20 جنيها. ومن أغرب ما كشف عنه البحث المشار إليه تفشي انعدام الحساسية الجنسية لدي المومسات علي نحو مذهل.
من جانب آخر تعيش المومس في غابة يحكمها القواد والبادرونة والبرمجي، وعلي الرغم من ذلك فان هذه الغابة يتألف بناؤها الاجتماعي من سلم هرمي تقبع في أسفله المومسات، ويأتي بعدهن البدرونات وهن مديرات البيوت المرخص لهن بالدعارة، ثم (السحابات أو السحابين) وهم المسئولون عن تزويد البيت بالمومسات الجدد، وأخيرا في أعلي السلم يقف القواد أو القوادة بشموخ وكبرياء، فهو المسئول الأول عن تشغيل العنصر البشري وامداد المجموعات البشرية بالغذاء والملابس وأدوات التجميل والتوصيل للمستشفيات وتوفير المحامين.. الخ ومن الناحية القانونية لم تكن القوانين المصرية وحتي عام 1951 تعاقب القواد فيما يفعله من التعيش علي ما تكتسبه المومس. بالطبع لم يكن السيد القواد يدفع للمومس إلا جزءا ضئيلا من أجرها في مقابل ما يزعمه من غذاء وخدمات صحية وقانونية. من جانبه كان القواد يسعي بالطبع لتقليل هذه الخدمات لتصبح المومس دائما علي وشك الموت. فقد عثرت الشرطة علي سبيل المثال أثناء تفتيشها منزل أحد كبار القوادين عام 1923 علي اكوام من (الدقة) وغرائر من البصل وقدورا من المش لاحصر لها!
أما نظام المحاسبة فكان اكثر إثارة للتقزز والبشاعة، ففي منطقة عرب المحمدي كان اللقاء الجنسي يتم في حفر نعم مجرد حفر مجهزة في التلال. وكان العميل يدفع أولا للقواد، وفي نهاية اليوم وحتي تحصل المومس علي اجرها كانت تقدم للقواد حصيلة انتاجها وهي كيزان ممتلئة بالسائل المنوي للعملاء الذين افرغوا في جهازها التناسلي ويدفع القواد مبلغا محددا لقاء كل كوز.. لا أظن أن هناك أكثر بشاعة أو إثارة للتقزز من هذا الامتهان الفظيع..
لذلك لم يكن غريبا أن يستخدم القواد العنف المنظم والضرب حتي الموت والتشويه بالمواد الكيماوية طبقا لمحاضر الشرطة في ذلك الزمان، بل ان العنف في مجتمع البغاء يفسره بعض علماء الاجتماع بأنه من أهم السمات التي تميز ثقافة البغاء..
واذا كانت كلمة بدرونة وهي كلمة ايطالية تعني سيدة صاحبة رآسة فان مقابلها في بيوت البغاء الوطنية: العايقة. وهكذا تتولي البدرونة في بيوت البغاء الأوربية توزيع العمل وتنظيمه وتلقي الاموال وودفع أجور الخدم والبلطجية ومواجهة التعقيدات الأمنية وهي تقريبا نفس مهام العايقة.
ولاتستطيع المومس أن تعمل بلا بدرونه أو عايقة، بل ان بيتا واحدا للبغاء لن يقبلها طبقا لميثاق الشرف المعقود بين العايقات والبدرونات، خصوصا اذا علمنا أن الاخيرات كن يلزمن المومسات بالتوقيع علي كمبيالات، وهو الأمر الذي احترمته الشرطة ،وفي كل الأحوال كان الضحايا هن المومسات ، كما احترمت جهات الكشف الطبي ميثاق الشرف، ولم يكن يسمح للبغي بمغادرة المستشفي إلا إذا تسلمتها بدرونتها أو من ينوب عنها، حتي تبقي البغي سجينة.
أما عشيق المومس فكان اسمه البرمجي، وطبقا للنظام المحكم والدقيق للعالم السري فان المومس لم تكن تستطيع العيش دون برمجي تنفق عليه وتعاشره وتغدق عليه في مقابل حمايتها. وأخيرا هناك السحاب أو السحابة الذي يقوم باصطياد الفتاة وتقديمها لقمة سائغة للقواد الذي يتولي كل شيء.
7
الحوض المرصود
الحوض المرصود يقع الآن في 22 شارع قدري بحي السيدة زينب حيث مستشفي القاهرة للأمراض الجلدية والتناسلية، واذا كان المبني الأصلي قد تهدم، إلا أن ثمة أثرا مازال باقيا من أمجاد المبني القديمة يتمثل في كملتي الحوض المرصود المكتوبة علي لافتة المستشفي. أمجاد الحوض المرصود عديدة من بينها أنه كان مكان اجتماع المومسات الوطنيات لأخذ عينات من اجهزتهن التناسلية للفحص، وهو ايضا مكان معالجة الامراض السرية، كما أنه مصدر الرعب للمومس المرخص لها وأضاف د. بكر كان المكان ' الذي كانت ترد إليه طوابير المضبوطات يحرضن المارة في الشوارع علي الفسق، مخفورات في حراسة رجال الشرطة للكشف عليهن ضد الأمراض السرية. كان الحوض المرصود هو المكان الذي تحاصره فرق البلطجية والبادرونات والقوادين والقوادات وقت الكشف أو عند انتهاء علاج المومس المريضة ليتسلموها ويعودوا بها إلي بيت الدعارة خشية الهرب'.
وعلي الرغم من ذلك فان الأمراض السرية تفشت علي نحو يكاد أن يكون وبائيا لأن الأمراض الثلاثة الرئيسية الزهري والسيلان والقرحة الرخوة تحتاج إلي علاج مكثف، وبعضها يحتاج إلي سنوات قبل الشفاء التام، وهو الأمر الذي كان يعني 'وقف حال' المومس بل وأن تجوع حرفيا، لذلك كان انقطاع المريضات عن استكمال العلاج هو القاعدة، ففي احصاء أجراه مستشفي الحوض المرصود عام 1932، كان عدد المريضات قد بلغ 34279، وعدد المنقطعات .14468 وبسبب هذا التفشي الوبائي اضطرت السلطات لانشاء مركز للوقاية من الأمراض التناسلية بجهة الازبكية يعمل ليلا ونهارا!
8
حكاية ابراهيم الغربي
في الفصل التالي يناقش د. بكر ثلاث قضايا رئيسية مرتبطة بالبغاء وهي الرقيق الابيض، البلطجة، المشروبات الروحية. فيما يتعلق بالقضية الاولي يروي المؤلف حكاية عن شخصية روائية هامة هو ابراهيم الغربي ملك الرقيق الابيض وصاحب صولجانه.
ابراهيم وفد علي القاهرة عام 1890 قادما من أسوان، وكان والده يعمل بتجارة الرقيق التي كانت السلطات قد حرمتها عام .1870 وفور مجيئه إلي القاهرة افتتح بيتا للبغاء العلني في شارع وابور المياه ببولاق. تيسرت أحواله سريعا واستأجر عام 1896 منزلا كبيرا في منطقة الوسعة لممارسة نشاطه، وألحق بالمنزل مقهي بلديا ترقص فيه الراقصات. ولم يحل عام 1912 إلا وكان يمتلك 15 منزلا للبغاء في الأزبكية تعمل فيه اكثر من 150 مومسا. يصف رسل باشا قائد بوليس القاهرة ابراهيم الغربي علي النحو التالي:
نوبي ضخم الجثة سمين. كان يشاهد كل مساء جالسا علي مقعد خارج منازله بشارع عبدالخالق واضعا ساقا علي ساق مرتديا ملابس النساء ومنقبا بنقاب أبيض. كان هذا الفاسد الكريه يجلس كالصنم الأبنوسي الصامت، ويخرج في العادة يدا مغطاة بالمجوهرات ليقبلها أحد المارة من المعجبين، أو معطيا أمرا صامتا لأحد أتباعه من الخدم. كان لهذا الرجل سلطة مذهلة في البلاد. امتد نفوذه ليس فقط في عالم الدعارة، ولكن أيضا في محيط السياسة والمجتمع الراقي، كان شراء وبيع النساء في كل من القاهرة والأقاليم في يد الغربي كلية، ولم يكن قراره بالنسبة للسعر يقبل المناقشة..
وعندما فرضت الأحكام العرفية عام 1914 تقرر إقامة معتقل في الحلمية 'يلقي فيه هذا النفر من المتشبهين بالنساء، وفي ليلتين كان قد اعتقل مائة من هؤلاء' وكان من بينهم الغربي الذي قضي عاما في المعتقل ثم أبعد إلي قريته بأسوان. لكن القصة لم تنته بعد. ففي عام 1922 حققت النيابة في احدي قضايا الرقيق الابيض بواسطة تنظيم نجح في بيع 400 فتاة. واعترف أغلب المقبوض عليهم من الرجال والنساء بأن ابراهيم الغربي ما يزال يدير عمليات الرقيق الأبيض من إسنا إلي الاسكندرية، كما أثبتت التحقيقات ضلوع رجال الشرطة وتورطهم. وقد أسفر تفتيش منزل الغربي عن العثور علي عشرات الكمبيالات علي النساء المغرر بهن وكميات كبيرة من النقود والحلي والذهب، كما تبين أن الغربي يدير 52 منزلا.
أدين الغربي وحكم عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة بخمس سنوات لم يستطع تحملها ومات بعد عامين داخل السجن تاركا وراءه '54 بيتا في حي باب الشعرية قيمتها وما تحتويه 50.000 جنيه، 156 سوارا من الذهب الخالص والزمرد والماس عدا تاج كان يلبسه فوق رأسه تجاوزت قيمته ثلاثة الاف جنيه بأسعار ذلك الزمان، وكسوة للتشريفة كان يرتديها في الحفلات الرسمية كانت قيمتها 500 جنيه، إلي جانب عشرة آلاف جنيه'.
كما كشفت التحقيقات عن سيطرة ابراهيم الغربي علي جهاز الشرطة وكذلك جهاز فحص المومسات وقيادته لتنظيم محكم يضم المومسات والقوادات والسحابات والبلطجية والمنازل المدارة للدعارة.
ولايفوت المؤلف الاشارة الي ما كشفت عنه التحقيقات في قضايا عديدة سقطت خلالها شبكات دعارة تقدم الصبية.
أما ثانية القضايا المرتبطة بالبغاء فهي البلطجة، والأصل في البلطجة ان كل حي من احياء القاهرة كان له فتوة معترف به (راجع روايات نجيب محفوظ) بما في ذلك حارة اليهود، وكانوا يحصلون بالطبع علي اتاوات يفرضونها علي أهل الحي الذي يعيشون فيه. وعندما ظهرت دور الدعارة الرسمية تحمل الفتوات والبلطجية عبء حماية ملاهي الأزبكية وروض الفرج واداروا صالات الرقص والبارات والمقاهي، كما تحملوا عبء حماية ورعاية المومسات! وكما عبر المؤلف 'في نفس الوقت فان هؤلاء البلطجية وثقوا علاقاتهم بصغار ضباط الشرطة، وأصبح قسم شرطة الأزبكية يدار من الحانات والصالات التي اتخذها اعضاء عصابات البلطجية مقار لهم يحتسون فيها الخمور بلا مقابل ويحصلون علي الاتاوات'.
9
حكاية الراقصة "امتثال فوزي"
ولايفوت المؤلف أن يروي حكاية الراقصة امتثال فوزي التي افتتحت صالتها 'كازينو البوسفور' وعرض عليها البلطجي المعروف فؤاد الشامي الحماية لكنها رفضت، بل وكانت تأمر بطرد البلطجي واعوانه من الصالة، وقام الشامي بتدبير اعتداء عليها، فلجأت إلي شرطة الأزبكية بالطبع، وكان رد ضباط الكراكون أن دورهم ليس حماية الناس من التهديد بل ضبط الوقائع بعد وقوعها.. وانتهي الأمر بقتلها علي يد الشامي!!
ثالثة هذه القضايا هي ارتباط الخمر بالبغاء. ولذلك ازدادت واردات البلاد من الخمر بين عامي 1914 و 1918 بنسبة 200 % ، كما ارتفع عدد البارات إلي 1287، مع الأخذ في الاعتبار ان الاجانب كانوا يحصلون علي تراخيص بفتح الحانات ثم يبيعونها للمصريين لقاء 400 جنيه مع أجر شهري معقول!
10
وينهي د. عبدالوهاب بكر الكتاب بفصل يتناول من خلاله تطور البغاء والتحسينات التي طرأت عليه، فمثلا يعد ادخال الرقص في المقاهي بدءا من أواخر القرن التاسع عشر أولي محاولات تجميل البغاء علي يد ابراهيم الغربي. ومفهوم ان الراقصات لم يكن دورهن مقصورا علي الرقص وفرض بعض أصحاب الصالات رسوم دخول، وتطور دور الراقصة إلي مجالسة الزبائن.
ومع قيام الحرب العالمية الأولي ازدحمت القاهرة بجيوش الحلفاء، لذلك اشتدت الحاجة للنساء لمجالسة الزبائن، وانتعشت صالات بديعة مصابني وماري منصور وببا في العشرينات والثلاثينات. أما مع قيام الحرب العالمية الثانية فقد بدأ البغاء يتخذ شكلا جديدا، وأصبحت الصالات والكباريهات والمقاهي الموسيقية هي المركز الأساسي للبغاء. ومن أجل تحية جنود الحلفاء ابتكرت الراقصة شوشو البارودي رقصة نجاح الديمقراطية! وقامت الارتيستات بنفس الدور الذي كانت تقوم به المومسات ولكن مع استخدام قناع جديد.
ولم تكن الارتيست مجرد مومس تجلس مع الزبائن، بل ان (فتح) زجاجات الخمر علي شرفها كان هدفها الاساسي، مع اكتفائها هي باحتساء الينسون أو الشاي لكن الزبون يدفع!
ومن أوربا انتقلت إلي مصر صالات الرقص حيث خصص أصحاب هذه الصالات نساء عملهن الوحيد مراقصة الزبائن وخصوصا جنود الامبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس. وانتشرت صالات الرقص في وسط المدينة، لكن أفضل أماكنها كان في العوامات الراسية في الجزيرة وامبابة.
وبعد الغاء البغاء المنظم عام 1949 تحولت اكثر المومسات إلي البغاء السري من خلال عملهن كمجالسات لجمهور الصالة. ولم يقتصر البغاء السري علي مجالسة الزبائن فقط بل أضيف إلي ذلك تسفير النساء خارج أوطانهن تحت دعوي العمل الفني في الخمسينات المبكرة.
يتوقف د. بكر عند عام 1951 حين صدر القانون 68 لسنة 1951 الخاص بمكافحة الدعارة. والواقع ان البغاء الرسمي المصرح به هو الذي اختفي، بينما ظل البغاء كما هو معروف تتم ممارسته بانتظام وتوسع، ومازالت صالات الرقص والغناء المنتشرة هي المكان المفضل والمأمون لعقد صفقات البغاء خصوصا في فصل الصيف حيث يشن الآلاف من الأخوة العرب هجمات مركزة علي صالات الرقص والغناء.
والبغاء بالطبع ليس مقصورا علي الممارسات الجنسية، وهو الأمر الذي أولاه المؤلف كل عنايته، لكن هناك بغاء معنويا أشد فداحة وهو البغاء الفكري والسياسي والاجتماعي والفني، والمدهش أنه مازال علنيا حتي الآن ولم تصدر بشأنه أي قرارات أو لوائح أو قوانين لتعطيله
ابراهيم عيسى