نقوس المهدي
كاتب
مخطئون إذا ظننا أن من الممكن تقديم الحلول بشأن الخطأ والصواب من البداية … هذا الإجحاف يبدأ من الطفولة لحظة الصف تحديداً: يبدأ من معلم المدرسة الذي “يطرح” المشكلة ومهمة التلميذ هي اكتشاف الحلول، فبهذه الطريقة نبقى رهينة عبودية من نوع ما. الحرية الحقيقية تكمن في القدرة على اتخاذ القرار؛ على إيجاد مشكلات. (جيل دولوز).
لن أسعى للتوصيف، لأنني لا أمتلك تلك الحكمة التي تجعلني أتجرأ لأسجن براحات التعدد في كلمات رصينة، لكنني سأسعى، كعادتي، إلى محاولة الاكتشاف والفهم والتصويب خلال هذه الكتابة؛ دون يقين بأنها نهائية أو أنها كاشفة لأحد.
أنا هنا بصدد مأزق يمثله هذا الملف الذي يدور حول افتراضات ثلاثة بوجود كتابة “الجسد/ بالجسد” و”إيروتيكية / شهوانية” و”بورنوجرافية / إباحية”.. وأقول افتراضات، وأعني ما أقول، لأنها ليست سوى محاولات لتوصيف أشكال أو تجارب إبداعية “ونخص هنا الكتابة لأنها الموضوع المستهدف، لكنها تشمل كذلك التصوير والفن التشكيلي والسينما”، قام بها أشخاص خلال سعيهم لإخضاع هذه التجارب / الكتابة لسلطة وعيهم ومن ثم إخضاع المتلقين كذلك.
إذن واضح أنني لا أسلم بصحة هذه الافتراضات / المصطلحات، ولا أستسلم لها، لكنني أخضعها ببساطة، وفي كل مرة، إلى آليات التفكير المتجدد “حسب دي بونو”، الذي لا يعتمد على طرح الأسئلة المعتادة لأنه لا يسعى إلى إجابات مكررة.
ومن المعتاد الانطلاق من قاعدة بأن هناك اختلافات واضحة بين الأنواع الثلاثة، وبأن هناك نوعًا أفضل من الآخر حسب الرؤى الأدبية، وبأن هناك تعارضات بينها جميعًا وبين تقاليد المجتمعات المحافظة بعامة، والشرقية بخاصة والإسلامية منها بالأخص، وبأن هناك إساءة فهم وخلط بين الأنواع الثلاثة لدى النقاد والمبدعين سواء بسواء.
وتغري هذه الانطلاقة بتقمص دور التنويري، خاصة وأن كتابتي (أشير هنا إلى روايتي “أبناء الخطأ الرومانسي”) موسومة بهذه الأنواع الثلاثة من وجهات نظر مختلفة وحسب قدرات فهم مختلفة، بغض النظر عن إيجابية أو سلبية وجهات النظر هذه.
لكنني كما أشرت لا أجرؤ على التوصيف ولن أتقمص دور التنويري..
فماذا سأفعل؟
ببساطة سأستعرض المعلومات المتاحة حول كل فرضية من هذه الفرضيات، معلومات تاريخية وإبداعية ونقدية.. معلومات حول آراء مؤيدة وأخرى مناهضة، وأضعها في سياق أخلخله بمحاولاتي الدائمة للاستعانة بالإمكانات التي يتيحها العقل النقدي والتفكير المتجدد.
نعم نحن شعوب توقفت عن الإنتاج منذ زمن بعيد، ويصح ذلك على جميع المجالات، مادية كانت أو غير مادية أو حتى افتراضية. فنحن منذ سقوط الأندلس دخلنا في غيبوبة طويلة أقرب إلى الموت الإكلينيكي، والأمل في الإفاقة يكاد يكون معجزة. وللأسف حالة الغيبوبة تلك تسببت كذلك في تآكل ذاكرتنا البعيدة والقصيرة، فنحن غير قادرين على التواصل مع منجزنا الحضاري فيما مضى من عصور لنستعين به في الوصول إلى إفاقة جديدة، وعاجزون عن مجاراة التطورات المتلاحقة التي تحيط بنا وتتجاوزنا، وتسببت تلك الحالة في عدم قدرتنا على الاستهلاك الصحيح والصحي لما ينتجه الآخر (سواء في الخارج أو الداخل) مما تسبب في مزيد من الارتباك والتشوش والتشوه. وبالإضافة إلى ما سبق أدى تآكل الذاكرة إلى حدوث فجوات تجعلنا نناقش كل بضع سنوات ما سبق وناقشناه واتفقنا واختلفنا حوله على أمل تجاوزه.. وهو ما لا يحدث أبدًا.
كنا خلال حقبة الحداثة نستشهد على وضعنا في علاقتنا بالحداثة بوضع من يستخدم الثلاجة مثلاً لكنه غير قادر على صناعتها أو حتى محاكاتها، وكانت هذه المقاربة الوصفية منطقية لارتباط الحداثة بالثورة الصناعية في أوروبا وليس في الشرق العربي للأسف. أما في مرحلة ما بعد الحداثة (ومنذ تسعينيات القرن العشرين وهناك دراسات مهتمة بما أطلقوا عليه “بعد ما بعد الحداثة”)، فإن العناصر المميزة لهذه المرحلة هي “ثورة الاتصالات والوسائط الإعلامية والثورة المعلوماتية والرقمية”، ليصبح موقفنا أصعب، فلم يعد الأمر متعلقًا باستهلاك لعناصر مادية (مخترعات من الإبرة للصاروخ) بل باستهلاك عناصر غير مادية يتطلب استهلاكها القدرة على معالجتها، وهو ما يستلزم توفر الحد الأدنى من الوحدات “المعلوماتية” اللازمة لمعالجة مثل هذه العناصر، تماما مثلما يجب تزويد الكمبيوتر بقواعد بيانات ليصبح قادرا على التعامل مع أي ملفات نريد معالجتها بواسطته (مثلا لن يستطيع الكمبيوتر قراءة نص مكتوب باللغة العربية ما لم توفر له حروف الهجاء العربية)، وللأسف لم نعد نمتلك حروف الهجاء التي تتيح لنا قراءة ما حدث ويحدث وسيحدث.
وأعود لوضعنا ومحاولتي لإدراك إلى أي منزلق انزلقنا.
قالوا لنا، أو قرأنا، إن العلاقة بين الإبداع والنظرية علاقة تفاعلية، بمعنى أن الإبداع من الممكن أن يكون المصدر الذي استقى منه المفكرون والنقاد نظرياتهم، أو أن يتخذ الإبداع من النظرية منطلقًا ليصل إلى آفاق جديدة. وقد تجد الكتابة (بوصفها عملية إبداعية) منطلقها في علوم اللاهوت، الفلسفة، علم النفس، الفيزياء، التاريخ… وليس بالضرورة في النظريات الأدبية النقدية، والشيء نفسه ينطبق على تلك النظريات.
ولكن لكي يحدث هذا فلابد أن يكون ضمن سياق وليس نشازا أو تغريدا خارج السرب. وهذا السياق متداخل ومعقد للغاية، كما أنه خاضع للصيرورة (حركة في الزمن من نقطة أو مجموعة نقاط في الماضي إلى أخرى أو أخر في الحاضر والمستقبل..)، وبالتأكيد سيؤدي تغير السياق إلى تغير التعاطي مع ما تم إنتاجه ضمن سياق آخر، وهكذا فإننا دائمًا ضحايا مناقشة ليس فقط ما لم ننتج بل ما أتى من سياق نجهله بعد استهلاكه لنعيد نحن استهلاكه وكأننا آلات لإعادة تدوير المستهلَك.
***
نعرف أن الجسد هو وعاء التعين للروح والنفس والرغبة والوعي واللاوعي، ونعرف أن للجسد ظلا وصورة وجوانب ميتافيزيقية. ونعرف أن الجسد فانٍ مهما فعل، وأنه محترق بنيران الرغبة رغما عنه، ومدفوع للتخلص من الجاذبية لبلوغ النشوة الصوفية. ونعرف أن للجسد عريًا للإغراء وسيلة والوعي منتج لأفكار وهواجس تكون كثيرًا أشد إغواء من العري وأمضى فتكًا.
ونعرف أن الجسد أداة للتواصل، وأنه عرضة للتشييء والتسليع، وأن ذلك قديم قدم وجود الجسد ذاته وقبل تبلور الوعي به لاهوتيا وفلسفيا.
ونعرف أنه في حقبة ما كان الجسد الأنثوي مقدسا، وفي أخرى كان الجسد الذكوري، وفي عقيدة ما كان الجسد حاملا لطهارة الروح، وفي أخرى حاملا لدنس الرغبة.
ونعرف بوجود ما أطلقوا عليه البغاء المقدس (باستخدام الجسد في الممارسات الجنسية باسم العقيدة) وكذلك التضحية المقدسة (بتقديم الجسد قربانا لآلهة إما بذبحه أو حرقه أو إغراقه أو تعذيبه).
بروميثيوس
ولأن الإنسان دون جسده غير موجود كإنسان (خليفة للآلهة على الأرض)، تمركز وعيه حول ذلك الجسد، فهو تميزه ونقيصته، تميزه على كل ما سواه من كائنات، ونقيصته لأنه سبب فنائه وغيابه مهما كان أو فعل. وهكذا أصبحت “خصومة الإنسان مع جسده وليس سواه” مهما حاول التظاهر بأنه في خصومة مع الطبيعة أو الآلهة حتى. وربما نجد في لعنات آلهة اليونان القديمة دليلا على ذلك. فهناك برومثيوس، أحد الجبابرة في الأساطير اليونانية، قد سرق النار من الآلهة وأعطاها البشر، فعاقبه زيوس، كبير الآلهة، بربطه إلى صخرة مرسلاً إليه طائر العُـقابَ يأكل كبده في النهار ويقوم زيوس بتجديده في الليل، وكذلك هناك سيزيف، أحد أكثر الشخصيات مكراً بحسب الميثولوجيا الإغريقية، حيث استطاع أن يخدع إله الموت ثانتوس ويكبله، مما أغضب كبير الآلهة زيوس، فعاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة، ويظل هكذا حتى الأبد، فأصبح رمز العذاب الأبدي. وهكذا يصبح الجسد هو “مصدر الحياة والموت البيولوجيين وبسببهما، هو أيضاً نقطة الانطلاق نحو عالم الموت اللاهوتي سواء بالفناء والتلاشي أو باستهدافه من قبل الآلهة، استهداف لا يقصده هو في ذاته بل يقصد الإنسان ذلك المخلوق المتعين به”.
سيزيف
أما إيروس Eros ، فهو أحد الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية وهو من نسل أفروديت وإيريس، لكن عند أفلاطون ـ وهذا هو الملفت ـ نجده من نسل بوروس “تجسد للتعددية” وبينيا “تجسد للفقر”، ووفقا لأفلاطون فلقد استغلت بينيا إفراط بوروس في الشراب ليلة عيد ميلاد أفروديت وقامت بإغوائه ليأتي إيروس. وإذا كانت هذه قصة مولده، فقصة استخدام أمه الربة أفروديت ـ ربة الجمال ـ له تمثل تراجيديا يونانية معتادة. فلقد كانت هناك امرأة بشرية فانية “سايكي” Psyche تغار منها الربة أفروديت لجمالها الذي يجتذب الناس بعيدا عن مذبح أفروديت لأداء طقوس عبادتها. وهنا تأمر أفروديت ابنها “إيروس”، الذي يحظى بجسد مفتول العضلات وملامح وجه جميلة وتتهافت عليه النساء، ليقوم بإغواء “سايكي” لتقع في غرام أكثر البشر دمامة، وإذا به يقع في غرامها بدلا عن ذلك، لتبدأ الدراما المتصاعدة بين طبيعة كليهما الإلهية والبشرية وبين الحب والإخلاص، فلقد أوعزت أخوات “سايكي”، الغيورات منها، لها أن تخون إيروس، ليقرر إيروس المجروح مغادرة الأرض التي ستجوبها “سايكي” بحثا عن الحب المفقود!!!
وهكذا أصبحت (الإيروسية هي هذا النوع من العلاقة، حيث الحب يلد الرغبة والرغبة تلد الدرامية. ووفقًا لفكرة التجاذب – التنافر، حيث أن الدرامية لا تظهر إلا في مناخ كهذا من المد والجزر، ينتج الغموض والالتباس في الأحاسيس. وبدون الالتباس لا تنضج الإيروسية الحقيقية التي هي أصلاً ملتبسة بفعل انتمائها في آنٍ واحد إلى الجسد وما بعده؛ الفيزيقي والميتافيزيقي).
وهنا تتجلى أول مفارقة تكشف عن إساءة كثيرين لفهم (إعادة استهلاك) مصطلح الإيروسية (الشهوانية معربًا)، باستخدامه للإشارة إلى الكتابة التي تعتمد على تناول العري الجسدي والممارسة الجنسية بألفاظ واضحة وفاضحة “بمعنى كاشفة وليس حكم قيمة”، بينما الإيروسية في السياق المنتج لها، وبواسطة مرجع مهم عمل عليها وبها لترسيخها كمفهوم ورؤية فلسفية وجمالية ثم انتهاكها، وأقصد هنا الكاتب والفيلسوف الفرنسي “جورج باتاي” الذي له العديد من المؤلفات ذات الصلة المباشرة بالإيروسية مثل كتابه المرجع في الغرب “الإيروسية”، أو غير المباشرة مثل “التجربة الباطنية” و”السيدة إدواردا” و”دموع إيروس”. ووفقًا لـ”باتاي” فإن بلوغ الجسد ذروة الزوال في الفعل الإيروسي يشبه ذروة الزوال في فعل الموت. وهكذا لا تعني النشوة الإيروسية قمة الفرح الدنيوي، بل قمة الابتهاج الجهنمي. إذن الإيروسية تحمل في طياتها معنى الجسد الجحيمي والنعيمي في آنٍ واحد، ومن هنا جاء ارتباط الإيروسية باللاهوت، فالأخير قائم على الازدواجية الكلاسيكية المعروفة: العذاب والهناء، الجحيم والنعيم، الحياة من أجل ذروة الموت، والموت من أجل ذروة الانتشاء بفضل التلاشي في العدم، أي الذوبان به، وبفراغ اللاشيء الجميل، ذلك الفراغ الأولي الذي لم يعرف الولادة ولا المنية، الفراغ الذي يعيدنا إلى الاتحاد بالعناصر الطبيعية الأولى، تلك غير الواعية وغير العارفة.
إذن في الإيروسية، مفهوم التضحية المقدسة حيث الموت يمثل الهدف والخلاص، حيث الجسد يفنى كي تنتعش الروح.
وعندما يكون الموت خرقاً للحدود الفاصلة بين الوجود واللاوجود، تكون الإيروسية في هذا المعنى خرقاً للحياة “الطبيعية” البيولوجية، انتهاكاً لحدودها “الآمنة”، من أجل دخول عالم “إيروس” الممنوع والمحرّم، المغري والجذاب، القاتل بعنفه وجماله؛ عنف الرغبة وجمال الإحساس بها.
ويوجز “باتاي” ذلك بقول “إيروس، هو قبل كل شيء الإله المأسوي”، “إنما انتهاك المحرم هو الذي يسحر”… وينير ما يحرّمه بنور مشئوم وسماوي في الوقت ذاته: إنه ينيره، بكلمة أخرى، بنور ديني”، “الإيروسية هي إقرار الحياة حتى في عمق الموت.. فإن تعلّق الأمر بالإيروسية المحضة (الحب – الوجد) أو بالشهوانية الجسدية فحسب، الحدة هي الأقوى كلما لاح موت الإنسان ودماره.. فمعرفة الوجد لا تربط فقط الحب بالوضوح، إنما أيضا بالعنف والموت – لأن الموت كما يبدو، هو حقيقة الحب. كذلك الحب هو حقيقة الموت”.
وقد تكون الإيروسية عبارة عن نظرة، أو لمسة عابرة. فما يهم في هذه المادية الجسدية، هو تلك الكهرباء التي يخلقها الجسدان، تلك الإيحاءات بالرغبة، ذلك التوتر الذي يجمع ويفصل، ذلك الصمت الذي يؤدي إلى الجنون والموت.
إن شرط الإيروسية الحقيقية هو عدم الاكتفاء، شرطها خوض المشاعر العميقة بحدة وصخب. فالإيروسية هي الشحنة المغناطيسية التي تحلم بالوصول ولم تصل. شرط الإيروسية عدم بلوغ الشهوانية الغريزية، إنما بلوغ معنيي اللاهوت والموت.
***
إيروس
والآن ما العلاقة المحتملة بين “الإيروسية والجسد والعري”؟
هل نعرف أن العري رمز، وليس مجرد وسيلة؛ ليس مادة محضة، بل فكرة تلك المادة أيضاً. إنه يشكل في الواقع سؤالاً، قبل أن نحقق بماهية ما يتساءل عنه.
هل نعرف أن كل حركة إيروسية تبدأ عادة مع النظرة. كما يمكن للمشهد أن يحدث، دون أن تتبعه أية نتيجة.
هل نعرف أنه تمت استعارة مفردة “عُري” من لغة الفنون التشكيلية. ففي النحت أو الرسم، جرى دائماً تمثيل جسم الرجل أو المرأة (منذ فن الكهوف) كبقية الأشياء الأخرى. لذا فالعري ليس المادة ذاتها، بل تمثيلها؛ إنه ينتمي إلى الفن، إلى المُتخيل. وهكذا فإن الجسم العاري الذي يأخذه الرسام باعتباره نموذجاً هو مادة شأنها شأن غيرها، كجميع المواد التي يمكنه تمثيلها في الوقت نفسه: الكرسي، النافذة، التفاحات في صحنها، والقطة قرب المدفأة. بتعبير آخر، لن يكون الجسم هنا حاضراً أكثر من الكرسي، التفاحات، أو النار التي يمكن للمرء استخدامها في الواقع، لكنه ذريعة بسيطة لخلق تناغم ما بين الخط واللون. في الحقيقة، يلعب العري بالدقة دوراً تشكيلياً إن كان ذلك في الرسم أو عبر النحت. ومع ذلك، من الواضح بأن تمثيل مادة كهذه في حضارة تكون فيها مخفية عن الأنظار، فالمرء لا يحلم أبداً بإخفاء التفاح أو الكراسي، كما أنه لا يلبس القطط والكلاب أثواباً، (هل يلمح ذلك إلى أن الإيروسية تكمن في الحجب وخلق الالتباس والوعد بما لا تراه العين رغم ماديته، فهل يؤدي هذا إلى استنتاج مفاده أن الجسد العاري الواضح والفاضح لمعالمه سواء في الصورة والمنحوتة أو عبر الكلمات المباشرة؛ هذا الجسد العاري أقل إيروسية من عري تحجبه الاستعارة سواء كانت لغوية أو تشكيلية أو مادية بارتداء الملس أو الحجاب أو حتى ستر أماكن بعينيها ولو بورق التوت ـ نذكر آدم وحواء وكيف لما أكلا من شجرة المعرفة المحرمة تفتحت عيونهما على عري جسديهما فطفقا يستران العضوين التناسليين ومقدمة ثدي المرأة كما يظهر في الرسومات الميثولوجية، وكيف أن هذا الستر لم يكن موجهًا لآخرين لأنه لم يكن هناك آخرون حينها، فهل كان مرتبطًا بجذوة الرغبة الإيروسية التي لا تتقد إلا من خلال المفارقة والالتباس؟
هل نعرف أن الجسم العاري له وظيفة في الفن تختلف عن بقية المواد. فمن أين حصلَ على وظيفة كهذه، إن لم يكن بالدقة من جانبه المُثير والملتبس، من إيروسيته الضمنية؟
هل نعرف أن الجسد العاري يتمتع بامتياز يجعله فوق كل الأشياء الأخرى، ذلك لأنه جمالية بحد ذاتها؟
وأعود إلى جورج باتايّ، في كتابه “الإيروسية” وتأكيده على أن الجسد العاري سيكون أكثر جمالية بالقدر الذي تكون وظائفه المادية أضعف: وذلك لا يعني بأن جماليته ليست من طبيعة إيروسية، لكن الإيروسية وجماليتها الخاصة ليستا وظائفية بالضرورة، وبأن الحب يتميز عن الإنجاب. فالجسد يمنح نفسه من تلقاء نفسه أولاً لكي يتمّ تأمله قبل امتلاكه.
***
وكل ما سبق كان محاولات متواضعة لاستعراض العناصر الأبرز لتك العلاقة المعقدة والملتبسة بين الجسد والعري والإيروسية، وكيف أن السياقات مهمة لكل محاولة للمقاربة والفهم، فما يمكن رؤيته في سياق غربي خلال الثورة الصناعية وبدايات الحداثة يختلف عما يمكن رؤيته خلال ما بعد الحداثة والدعوات النسوية بالتمركز حول المهبل بدل القضيب، وبالتأكيد سيختلف تمام الاختلاف عند رؤيته في المجتمعات الشرقية باختلاف السياقات فيها (تشدد إسلامي ـ تمرد على العادات والتقاليد ـ وسطية ـ انحياز لحرية الإبداع ـ انحياز للحفاظ على ثوابت الأمة).
نحتاج الكثير لتستعيد حواسنا تفتحها، ويستعيد وعينا ديناميكيته ونتعافى من وهن الذاكرة.. نحتاج الكثير لنعود لاستهلاك المنتج الغربي بدل الاكتفاء بإعادة تدوير مخلفات الاستهلاك الغربي لمنتجاته، قبل أن نفكر في الإنتاج.
ورغم ما تحمله كلماتي من نبرة تشاؤمية، فإن مطالعة التاريخ القريب والبعيد تؤكد أن المحاولة لابد ستأتي بنتيجة طالما اقترنت بالإرادة.
……………….
تقاطعات:
ـ وجوه إيروس، موريس جان لفيفب، ترجمة: حسين عجة.
ـ هكذا أرى الجسد – الحب – الوجد في الكتابة، صباح زوين.
.
لن أسعى للتوصيف، لأنني لا أمتلك تلك الحكمة التي تجعلني أتجرأ لأسجن براحات التعدد في كلمات رصينة، لكنني سأسعى، كعادتي، إلى محاولة الاكتشاف والفهم والتصويب خلال هذه الكتابة؛ دون يقين بأنها نهائية أو أنها كاشفة لأحد.
أنا هنا بصدد مأزق يمثله هذا الملف الذي يدور حول افتراضات ثلاثة بوجود كتابة “الجسد/ بالجسد” و”إيروتيكية / شهوانية” و”بورنوجرافية / إباحية”.. وأقول افتراضات، وأعني ما أقول، لأنها ليست سوى محاولات لتوصيف أشكال أو تجارب إبداعية “ونخص هنا الكتابة لأنها الموضوع المستهدف، لكنها تشمل كذلك التصوير والفن التشكيلي والسينما”، قام بها أشخاص خلال سعيهم لإخضاع هذه التجارب / الكتابة لسلطة وعيهم ومن ثم إخضاع المتلقين كذلك.
إذن واضح أنني لا أسلم بصحة هذه الافتراضات / المصطلحات، ولا أستسلم لها، لكنني أخضعها ببساطة، وفي كل مرة، إلى آليات التفكير المتجدد “حسب دي بونو”، الذي لا يعتمد على طرح الأسئلة المعتادة لأنه لا يسعى إلى إجابات مكررة.
ومن المعتاد الانطلاق من قاعدة بأن هناك اختلافات واضحة بين الأنواع الثلاثة، وبأن هناك نوعًا أفضل من الآخر حسب الرؤى الأدبية، وبأن هناك تعارضات بينها جميعًا وبين تقاليد المجتمعات المحافظة بعامة، والشرقية بخاصة والإسلامية منها بالأخص، وبأن هناك إساءة فهم وخلط بين الأنواع الثلاثة لدى النقاد والمبدعين سواء بسواء.
وتغري هذه الانطلاقة بتقمص دور التنويري، خاصة وأن كتابتي (أشير هنا إلى روايتي “أبناء الخطأ الرومانسي”) موسومة بهذه الأنواع الثلاثة من وجهات نظر مختلفة وحسب قدرات فهم مختلفة، بغض النظر عن إيجابية أو سلبية وجهات النظر هذه.
لكنني كما أشرت لا أجرؤ على التوصيف ولن أتقمص دور التنويري..
فماذا سأفعل؟
ببساطة سأستعرض المعلومات المتاحة حول كل فرضية من هذه الفرضيات، معلومات تاريخية وإبداعية ونقدية.. معلومات حول آراء مؤيدة وأخرى مناهضة، وأضعها في سياق أخلخله بمحاولاتي الدائمة للاستعانة بالإمكانات التي يتيحها العقل النقدي والتفكير المتجدد.
نعم نحن شعوب توقفت عن الإنتاج منذ زمن بعيد، ويصح ذلك على جميع المجالات، مادية كانت أو غير مادية أو حتى افتراضية. فنحن منذ سقوط الأندلس دخلنا في غيبوبة طويلة أقرب إلى الموت الإكلينيكي، والأمل في الإفاقة يكاد يكون معجزة. وللأسف حالة الغيبوبة تلك تسببت كذلك في تآكل ذاكرتنا البعيدة والقصيرة، فنحن غير قادرين على التواصل مع منجزنا الحضاري فيما مضى من عصور لنستعين به في الوصول إلى إفاقة جديدة، وعاجزون عن مجاراة التطورات المتلاحقة التي تحيط بنا وتتجاوزنا، وتسببت تلك الحالة في عدم قدرتنا على الاستهلاك الصحيح والصحي لما ينتجه الآخر (سواء في الخارج أو الداخل) مما تسبب في مزيد من الارتباك والتشوش والتشوه. وبالإضافة إلى ما سبق أدى تآكل الذاكرة إلى حدوث فجوات تجعلنا نناقش كل بضع سنوات ما سبق وناقشناه واتفقنا واختلفنا حوله على أمل تجاوزه.. وهو ما لا يحدث أبدًا.
كنا خلال حقبة الحداثة نستشهد على وضعنا في علاقتنا بالحداثة بوضع من يستخدم الثلاجة مثلاً لكنه غير قادر على صناعتها أو حتى محاكاتها، وكانت هذه المقاربة الوصفية منطقية لارتباط الحداثة بالثورة الصناعية في أوروبا وليس في الشرق العربي للأسف. أما في مرحلة ما بعد الحداثة (ومنذ تسعينيات القرن العشرين وهناك دراسات مهتمة بما أطلقوا عليه “بعد ما بعد الحداثة”)، فإن العناصر المميزة لهذه المرحلة هي “ثورة الاتصالات والوسائط الإعلامية والثورة المعلوماتية والرقمية”، ليصبح موقفنا أصعب، فلم يعد الأمر متعلقًا باستهلاك لعناصر مادية (مخترعات من الإبرة للصاروخ) بل باستهلاك عناصر غير مادية يتطلب استهلاكها القدرة على معالجتها، وهو ما يستلزم توفر الحد الأدنى من الوحدات “المعلوماتية” اللازمة لمعالجة مثل هذه العناصر، تماما مثلما يجب تزويد الكمبيوتر بقواعد بيانات ليصبح قادرا على التعامل مع أي ملفات نريد معالجتها بواسطته (مثلا لن يستطيع الكمبيوتر قراءة نص مكتوب باللغة العربية ما لم توفر له حروف الهجاء العربية)، وللأسف لم نعد نمتلك حروف الهجاء التي تتيح لنا قراءة ما حدث ويحدث وسيحدث.
وأعود لوضعنا ومحاولتي لإدراك إلى أي منزلق انزلقنا.
قالوا لنا، أو قرأنا، إن العلاقة بين الإبداع والنظرية علاقة تفاعلية، بمعنى أن الإبداع من الممكن أن يكون المصدر الذي استقى منه المفكرون والنقاد نظرياتهم، أو أن يتخذ الإبداع من النظرية منطلقًا ليصل إلى آفاق جديدة. وقد تجد الكتابة (بوصفها عملية إبداعية) منطلقها في علوم اللاهوت، الفلسفة، علم النفس، الفيزياء، التاريخ… وليس بالضرورة في النظريات الأدبية النقدية، والشيء نفسه ينطبق على تلك النظريات.
ولكن لكي يحدث هذا فلابد أن يكون ضمن سياق وليس نشازا أو تغريدا خارج السرب. وهذا السياق متداخل ومعقد للغاية، كما أنه خاضع للصيرورة (حركة في الزمن من نقطة أو مجموعة نقاط في الماضي إلى أخرى أو أخر في الحاضر والمستقبل..)، وبالتأكيد سيؤدي تغير السياق إلى تغير التعاطي مع ما تم إنتاجه ضمن سياق آخر، وهكذا فإننا دائمًا ضحايا مناقشة ليس فقط ما لم ننتج بل ما أتى من سياق نجهله بعد استهلاكه لنعيد نحن استهلاكه وكأننا آلات لإعادة تدوير المستهلَك.
***
نعرف أن الجسد هو وعاء التعين للروح والنفس والرغبة والوعي واللاوعي، ونعرف أن للجسد ظلا وصورة وجوانب ميتافيزيقية. ونعرف أن الجسد فانٍ مهما فعل، وأنه محترق بنيران الرغبة رغما عنه، ومدفوع للتخلص من الجاذبية لبلوغ النشوة الصوفية. ونعرف أن للجسد عريًا للإغراء وسيلة والوعي منتج لأفكار وهواجس تكون كثيرًا أشد إغواء من العري وأمضى فتكًا.
ونعرف أن الجسد أداة للتواصل، وأنه عرضة للتشييء والتسليع، وأن ذلك قديم قدم وجود الجسد ذاته وقبل تبلور الوعي به لاهوتيا وفلسفيا.
ونعرف أنه في حقبة ما كان الجسد الأنثوي مقدسا، وفي أخرى كان الجسد الذكوري، وفي عقيدة ما كان الجسد حاملا لطهارة الروح، وفي أخرى حاملا لدنس الرغبة.
ونعرف بوجود ما أطلقوا عليه البغاء المقدس (باستخدام الجسد في الممارسات الجنسية باسم العقيدة) وكذلك التضحية المقدسة (بتقديم الجسد قربانا لآلهة إما بذبحه أو حرقه أو إغراقه أو تعذيبه).
بروميثيوس
ولأن الإنسان دون جسده غير موجود كإنسان (خليفة للآلهة على الأرض)، تمركز وعيه حول ذلك الجسد، فهو تميزه ونقيصته، تميزه على كل ما سواه من كائنات، ونقيصته لأنه سبب فنائه وغيابه مهما كان أو فعل. وهكذا أصبحت “خصومة الإنسان مع جسده وليس سواه” مهما حاول التظاهر بأنه في خصومة مع الطبيعة أو الآلهة حتى. وربما نجد في لعنات آلهة اليونان القديمة دليلا على ذلك. فهناك برومثيوس، أحد الجبابرة في الأساطير اليونانية، قد سرق النار من الآلهة وأعطاها البشر، فعاقبه زيوس، كبير الآلهة، بربطه إلى صخرة مرسلاً إليه طائر العُـقابَ يأكل كبده في النهار ويقوم زيوس بتجديده في الليل، وكذلك هناك سيزيف، أحد أكثر الشخصيات مكراً بحسب الميثولوجيا الإغريقية، حيث استطاع أن يخدع إله الموت ثانتوس ويكبله، مما أغضب كبير الآلهة زيوس، فعاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة، ويظل هكذا حتى الأبد، فأصبح رمز العذاب الأبدي. وهكذا يصبح الجسد هو “مصدر الحياة والموت البيولوجيين وبسببهما، هو أيضاً نقطة الانطلاق نحو عالم الموت اللاهوتي سواء بالفناء والتلاشي أو باستهدافه من قبل الآلهة، استهداف لا يقصده هو في ذاته بل يقصد الإنسان ذلك المخلوق المتعين به”.
سيزيف
أما إيروس Eros ، فهو أحد الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية وهو من نسل أفروديت وإيريس، لكن عند أفلاطون ـ وهذا هو الملفت ـ نجده من نسل بوروس “تجسد للتعددية” وبينيا “تجسد للفقر”، ووفقا لأفلاطون فلقد استغلت بينيا إفراط بوروس في الشراب ليلة عيد ميلاد أفروديت وقامت بإغوائه ليأتي إيروس. وإذا كانت هذه قصة مولده، فقصة استخدام أمه الربة أفروديت ـ ربة الجمال ـ له تمثل تراجيديا يونانية معتادة. فلقد كانت هناك امرأة بشرية فانية “سايكي” Psyche تغار منها الربة أفروديت لجمالها الذي يجتذب الناس بعيدا عن مذبح أفروديت لأداء طقوس عبادتها. وهنا تأمر أفروديت ابنها “إيروس”، الذي يحظى بجسد مفتول العضلات وملامح وجه جميلة وتتهافت عليه النساء، ليقوم بإغواء “سايكي” لتقع في غرام أكثر البشر دمامة، وإذا به يقع في غرامها بدلا عن ذلك، لتبدأ الدراما المتصاعدة بين طبيعة كليهما الإلهية والبشرية وبين الحب والإخلاص، فلقد أوعزت أخوات “سايكي”، الغيورات منها، لها أن تخون إيروس، ليقرر إيروس المجروح مغادرة الأرض التي ستجوبها “سايكي” بحثا عن الحب المفقود!!!
وهكذا أصبحت (الإيروسية هي هذا النوع من العلاقة، حيث الحب يلد الرغبة والرغبة تلد الدرامية. ووفقًا لفكرة التجاذب – التنافر، حيث أن الدرامية لا تظهر إلا في مناخ كهذا من المد والجزر، ينتج الغموض والالتباس في الأحاسيس. وبدون الالتباس لا تنضج الإيروسية الحقيقية التي هي أصلاً ملتبسة بفعل انتمائها في آنٍ واحد إلى الجسد وما بعده؛ الفيزيقي والميتافيزيقي).
وهنا تتجلى أول مفارقة تكشف عن إساءة كثيرين لفهم (إعادة استهلاك) مصطلح الإيروسية (الشهوانية معربًا)، باستخدامه للإشارة إلى الكتابة التي تعتمد على تناول العري الجسدي والممارسة الجنسية بألفاظ واضحة وفاضحة “بمعنى كاشفة وليس حكم قيمة”، بينما الإيروسية في السياق المنتج لها، وبواسطة مرجع مهم عمل عليها وبها لترسيخها كمفهوم ورؤية فلسفية وجمالية ثم انتهاكها، وأقصد هنا الكاتب والفيلسوف الفرنسي “جورج باتاي” الذي له العديد من المؤلفات ذات الصلة المباشرة بالإيروسية مثل كتابه المرجع في الغرب “الإيروسية”، أو غير المباشرة مثل “التجربة الباطنية” و”السيدة إدواردا” و”دموع إيروس”. ووفقًا لـ”باتاي” فإن بلوغ الجسد ذروة الزوال في الفعل الإيروسي يشبه ذروة الزوال في فعل الموت. وهكذا لا تعني النشوة الإيروسية قمة الفرح الدنيوي، بل قمة الابتهاج الجهنمي. إذن الإيروسية تحمل في طياتها معنى الجسد الجحيمي والنعيمي في آنٍ واحد، ومن هنا جاء ارتباط الإيروسية باللاهوت، فالأخير قائم على الازدواجية الكلاسيكية المعروفة: العذاب والهناء، الجحيم والنعيم، الحياة من أجل ذروة الموت، والموت من أجل ذروة الانتشاء بفضل التلاشي في العدم، أي الذوبان به، وبفراغ اللاشيء الجميل، ذلك الفراغ الأولي الذي لم يعرف الولادة ولا المنية، الفراغ الذي يعيدنا إلى الاتحاد بالعناصر الطبيعية الأولى، تلك غير الواعية وغير العارفة.
إذن في الإيروسية، مفهوم التضحية المقدسة حيث الموت يمثل الهدف والخلاص، حيث الجسد يفنى كي تنتعش الروح.
وعندما يكون الموت خرقاً للحدود الفاصلة بين الوجود واللاوجود، تكون الإيروسية في هذا المعنى خرقاً للحياة “الطبيعية” البيولوجية، انتهاكاً لحدودها “الآمنة”، من أجل دخول عالم “إيروس” الممنوع والمحرّم، المغري والجذاب، القاتل بعنفه وجماله؛ عنف الرغبة وجمال الإحساس بها.
ويوجز “باتاي” ذلك بقول “إيروس، هو قبل كل شيء الإله المأسوي”، “إنما انتهاك المحرم هو الذي يسحر”… وينير ما يحرّمه بنور مشئوم وسماوي في الوقت ذاته: إنه ينيره، بكلمة أخرى، بنور ديني”، “الإيروسية هي إقرار الحياة حتى في عمق الموت.. فإن تعلّق الأمر بالإيروسية المحضة (الحب – الوجد) أو بالشهوانية الجسدية فحسب، الحدة هي الأقوى كلما لاح موت الإنسان ودماره.. فمعرفة الوجد لا تربط فقط الحب بالوضوح، إنما أيضا بالعنف والموت – لأن الموت كما يبدو، هو حقيقة الحب. كذلك الحب هو حقيقة الموت”.
وقد تكون الإيروسية عبارة عن نظرة، أو لمسة عابرة. فما يهم في هذه المادية الجسدية، هو تلك الكهرباء التي يخلقها الجسدان، تلك الإيحاءات بالرغبة، ذلك التوتر الذي يجمع ويفصل، ذلك الصمت الذي يؤدي إلى الجنون والموت.
إن شرط الإيروسية الحقيقية هو عدم الاكتفاء، شرطها خوض المشاعر العميقة بحدة وصخب. فالإيروسية هي الشحنة المغناطيسية التي تحلم بالوصول ولم تصل. شرط الإيروسية عدم بلوغ الشهوانية الغريزية، إنما بلوغ معنيي اللاهوت والموت.
***
إيروس
والآن ما العلاقة المحتملة بين “الإيروسية والجسد والعري”؟
هل نعرف أن العري رمز، وليس مجرد وسيلة؛ ليس مادة محضة، بل فكرة تلك المادة أيضاً. إنه يشكل في الواقع سؤالاً، قبل أن نحقق بماهية ما يتساءل عنه.
هل نعرف أن كل حركة إيروسية تبدأ عادة مع النظرة. كما يمكن للمشهد أن يحدث، دون أن تتبعه أية نتيجة.
هل نعرف أنه تمت استعارة مفردة “عُري” من لغة الفنون التشكيلية. ففي النحت أو الرسم، جرى دائماً تمثيل جسم الرجل أو المرأة (منذ فن الكهوف) كبقية الأشياء الأخرى. لذا فالعري ليس المادة ذاتها، بل تمثيلها؛ إنه ينتمي إلى الفن، إلى المُتخيل. وهكذا فإن الجسم العاري الذي يأخذه الرسام باعتباره نموذجاً هو مادة شأنها شأن غيرها، كجميع المواد التي يمكنه تمثيلها في الوقت نفسه: الكرسي، النافذة، التفاحات في صحنها، والقطة قرب المدفأة. بتعبير آخر، لن يكون الجسم هنا حاضراً أكثر من الكرسي، التفاحات، أو النار التي يمكن للمرء استخدامها في الواقع، لكنه ذريعة بسيطة لخلق تناغم ما بين الخط واللون. في الحقيقة، يلعب العري بالدقة دوراً تشكيلياً إن كان ذلك في الرسم أو عبر النحت. ومع ذلك، من الواضح بأن تمثيل مادة كهذه في حضارة تكون فيها مخفية عن الأنظار، فالمرء لا يحلم أبداً بإخفاء التفاح أو الكراسي، كما أنه لا يلبس القطط والكلاب أثواباً، (هل يلمح ذلك إلى أن الإيروسية تكمن في الحجب وخلق الالتباس والوعد بما لا تراه العين رغم ماديته، فهل يؤدي هذا إلى استنتاج مفاده أن الجسد العاري الواضح والفاضح لمعالمه سواء في الصورة والمنحوتة أو عبر الكلمات المباشرة؛ هذا الجسد العاري أقل إيروسية من عري تحجبه الاستعارة سواء كانت لغوية أو تشكيلية أو مادية بارتداء الملس أو الحجاب أو حتى ستر أماكن بعينيها ولو بورق التوت ـ نذكر آدم وحواء وكيف لما أكلا من شجرة المعرفة المحرمة تفتحت عيونهما على عري جسديهما فطفقا يستران العضوين التناسليين ومقدمة ثدي المرأة كما يظهر في الرسومات الميثولوجية، وكيف أن هذا الستر لم يكن موجهًا لآخرين لأنه لم يكن هناك آخرون حينها، فهل كان مرتبطًا بجذوة الرغبة الإيروسية التي لا تتقد إلا من خلال المفارقة والالتباس؟
هل نعرف أن الجسم العاري له وظيفة في الفن تختلف عن بقية المواد. فمن أين حصلَ على وظيفة كهذه، إن لم يكن بالدقة من جانبه المُثير والملتبس، من إيروسيته الضمنية؟
هل نعرف أن الجسد العاري يتمتع بامتياز يجعله فوق كل الأشياء الأخرى، ذلك لأنه جمالية بحد ذاتها؟
وأعود إلى جورج باتايّ، في كتابه “الإيروسية” وتأكيده على أن الجسد العاري سيكون أكثر جمالية بالقدر الذي تكون وظائفه المادية أضعف: وذلك لا يعني بأن جماليته ليست من طبيعة إيروسية، لكن الإيروسية وجماليتها الخاصة ليستا وظائفية بالضرورة، وبأن الحب يتميز عن الإنجاب. فالجسد يمنح نفسه من تلقاء نفسه أولاً لكي يتمّ تأمله قبل امتلاكه.
***
وكل ما سبق كان محاولات متواضعة لاستعراض العناصر الأبرز لتك العلاقة المعقدة والملتبسة بين الجسد والعري والإيروسية، وكيف أن السياقات مهمة لكل محاولة للمقاربة والفهم، فما يمكن رؤيته في سياق غربي خلال الثورة الصناعية وبدايات الحداثة يختلف عما يمكن رؤيته خلال ما بعد الحداثة والدعوات النسوية بالتمركز حول المهبل بدل القضيب، وبالتأكيد سيختلف تمام الاختلاف عند رؤيته في المجتمعات الشرقية باختلاف السياقات فيها (تشدد إسلامي ـ تمرد على العادات والتقاليد ـ وسطية ـ انحياز لحرية الإبداع ـ انحياز للحفاظ على ثوابت الأمة).
نحتاج الكثير لتستعيد حواسنا تفتحها، ويستعيد وعينا ديناميكيته ونتعافى من وهن الذاكرة.. نحتاج الكثير لنعود لاستهلاك المنتج الغربي بدل الاكتفاء بإعادة تدوير مخلفات الاستهلاك الغربي لمنتجاته، قبل أن نفكر في الإنتاج.
ورغم ما تحمله كلماتي من نبرة تشاؤمية، فإن مطالعة التاريخ القريب والبعيد تؤكد أن المحاولة لابد ستأتي بنتيجة طالما اقترنت بالإرادة.
……………….
تقاطعات:
ـ وجوه إيروس، موريس جان لفيفب، ترجمة: حسين عجة.
ـ هكذا أرى الجسد – الحب – الوجد في الكتابة، صباح زوين.
.