نقوس المهدي
كاتب
عندما يطرح الجسد في الأوساط الثقافيّة العربيّة، غالباً ما تقصى أي موضوعيّة من النقاش، ليتم حصره بين طرفي نقيض هما: تقديس يقتضي النفي، ومبالغة في الحضور. يمكن فهم هذا التناقض المرتبط بسؤال الحداثة منذ عشرينيّات القرن الماضي بثنائيّته الأشهر: الأصالة والتحديث، كلمتان حملتا خلاصة تيارات فنية تحاول الانتصار لمفهوم على الآخر.
مثلما أصبح حضور الجسد ملتبساً، صارت ثنائية الأصالة والتحديث والمسافة الهجينة بينهما كذلك. وظهرت تجارب موسيقية “كبرى” سعت لأن تتجاوز الأفخاخ الهويّاتية للتخلص من سلطة الموروث وسلطة المركزيّة الأوروبيّة، وتتنفس خارج تصنيفات ضيقة. غير أن هذا المزج خلق تساؤلات جديدة وإشكالات أكثر تعقيداً.
إعلان
يمكن القول أن تجربة ياسمين حمدان تحمل كل الأسئلة التاريخية حول الموروث والتحديث، كما يأتي حضورها الجسدي الخاص ليعطي للتجربة مساحة واسعة من الجدل. فمنذ أن بدأت مسيرتها في فرقة Soapkills الإلكترونيّة مع زيد حمدان (1997)، بدأ هاجس هذه التساؤلات عمليّاً من خلال الرغبة في إعادة صياغة الموروث الموسيقيّ العربيّ، كما تقول عن بداياتها في بيروت– التي عادت إليها العام 1991 بعد طفولة عاشتها في الكويت والإمارات واليونان: “كنت مراهقة في وسط ملهم للغاية ومقيّد للغاية، وهي بيروت ما بعد الحرب (..) عندما بدأت بالغناء لم أعد أخطط لشيء، فقط شغفت بالموسيقى العربية، ومكنتني الأغاني العربية القديمة من تحديد ما أحب في الثقافة العربية وفي موسيقاها وعلى تحديد ما أرغب في فعله، فأعطت معنى لمسيرتي الفنية“.
وفي نفس السياق، حملت صور ياسمين حمدان على اسطوانات “الصابون يقتل” تخفّفاً من الحمولة التاريخيّة للجسد في الموروث العربي بحضوره غير المبالي بسياقاته الجدلية، مثلما حضر صوتها لمساحة “الدلال” في إعادة تدوير الأغاني القديمة عبر وسيط إلكتروني في إعادة تأويل للحن بعناصر أكثر حداثة، مع الحفاظ على الهيكل العام “للكلام“.
ولأن الالتباس في مسائل “الإيروتيكا” مازال طاغياً في المخيلة العربيّة، يبقى حضور ياسمين حمدان الجسدي وطريقة غنائها محل مساءلات ليست في محلها. يقترح الباحث اسماعيل فايد أن “أهم ما يميّز نظريّة الأداء في تحليل وتدبّر الظاهرة الأدائيّة هو التركيز على عناصرها بشكل غير تقني (موسيقيّ، أدبيّ) لفتح المجال لأفكار أو ملاحظات مختلفة من الممكن أن تسقط إن نظرنا من منظور تقني بحت“. ومن هنا نسأل: هل يمكن فصل أداء ياسمين الصوتي والجسدي عن التجربة؟ مؤَكدٌ أن من العبث ضبط التجارب على مقاس تصورات قَبلية، لكن تجربة حمدان تفتح مجالاً لمحاولة فهم هذه التجربة في سياقها بعد الحداثي غير المنشغل بقوالب الأيديولوجيا أو سلطة الشكل الفني المقبول ومتحررة من المواصفات المثالية للصوت العربي ذو المساحات الكبيرة القادر على الانتقال المقامي بسهولة. تقول حمدان في حوار مع فرانس 24 ” ليس في ذهني حاجز يقول لي: هذه موسيقى عربية وهذه ليست موسيقى عربية. كل ما يعجبني وكل ما يؤثر فيّ يتحول إلى مصدر إلهام“. ثم تضيف مجيبة على سؤال آخر: “المجتمع العربي متعدد والجنس فيه حاضر بقوة في كل شأن ويختلف تعامل المجتمعات مع هذه المسألة حسب الفترات والسنوات. كبرت في عائلة علمانية وفي وسط لا يعتبر فيها الجنس أو الأنوثة أو الإيروتيكية من التابوهات. لكن يوجد شيء من الطابع المحافظ وأنا صورة عن هذا الموروث“.
تفتح هذه الرؤية المحايدة لحضور الجنس في الأرض العربية مجالاً لإعادة طرح الإيروتيكا كرافد مهم تم تهميشه قسراً في الغناء العربي. ففي مرحلة ما من أوائل القرن العشرين كان الجنس موضوعا للكثير من الأغاني– الجنس كوسيلة جذب كمتعة قانونية– حتى أن مساحة القبول وصلت إلى تقبّل أصوات لرجال تحمل “غنجاً أنثويّاً” وتغني بلسان الأنثى مثلما فعل عبد اللطيف البنا، غير أن مفهوم الفن الرفيع الذي تم تكريسه قضى على هذه التجارب وأخرجها من مفهوم الفن العام تماماً. إذ ظلت الأغنية العربية لفترة طويلة ترتدي ملابس أنيقة وتتحرك بتحفّظ طلة أم كلثوم وصنميّة فيروز، لتأتي التسعينيّات بمعاول بعد الحداثة عادمةً سلطة الفن الراقي و“الفن الملتزم“، فامتلأت فيديوهات هذه المرحلة بفتيات بملابس مثيرة لتكسر هذه الصورة فظاظاة وسذاجة. في تجربة حمدان تحمل الإيروتيكا في معناها تحول الفعل الجسدي “الرقص والغناء المثير” إلى مكون أساسي في العمل الفني وبالتالي إلى جسد موسيقي. الإيروتيكا ليست “إثارة للغزائز” كما يحب أصحاب الفن الملتزم تبسيط الصورة والجناية عليها، الإيروتيكا– على الأقل في تجربة حمدان– إعطاء الجسد فرصة للتعبير وسط العديد من المكوّنات الفنيّة، لا أن يتمظهر كمركز وحيد. فمثلاً، غنت حمدان عن الحرب لا بتورط بكائي معتاد، بل بتوظيف الإيروتيكا كمساحة للتخييل، لنزع صفة الحيوانية عن الجسد وتحويله إلى رافد فني.
ربما تتضمن جملتها “أنا صورة عن هذا الموروث” محاولة للبحث عن شرعية تاريخانيّة للغناء الإيروتيكي، وهو مايتناقض مع مسيرتها غير العابئة بالشرعيّة المؤسسيّة الفنيّة والأخلاقيّة كذلك، ليكن ماتقدمه جديداً غير متصل بما مضى إلا بإعادة تأويله الموسيقيّة كما تقدم هي، وهذا وحده كاف.
اسماعيل شموط - زهرة في العراء
مثلما أصبح حضور الجسد ملتبساً، صارت ثنائية الأصالة والتحديث والمسافة الهجينة بينهما كذلك. وظهرت تجارب موسيقية “كبرى” سعت لأن تتجاوز الأفخاخ الهويّاتية للتخلص من سلطة الموروث وسلطة المركزيّة الأوروبيّة، وتتنفس خارج تصنيفات ضيقة. غير أن هذا المزج خلق تساؤلات جديدة وإشكالات أكثر تعقيداً.
إعلان
يمكن القول أن تجربة ياسمين حمدان تحمل كل الأسئلة التاريخية حول الموروث والتحديث، كما يأتي حضورها الجسدي الخاص ليعطي للتجربة مساحة واسعة من الجدل. فمنذ أن بدأت مسيرتها في فرقة Soapkills الإلكترونيّة مع زيد حمدان (1997)، بدأ هاجس هذه التساؤلات عمليّاً من خلال الرغبة في إعادة صياغة الموروث الموسيقيّ العربيّ، كما تقول عن بداياتها في بيروت– التي عادت إليها العام 1991 بعد طفولة عاشتها في الكويت والإمارات واليونان: “كنت مراهقة في وسط ملهم للغاية ومقيّد للغاية، وهي بيروت ما بعد الحرب (..) عندما بدأت بالغناء لم أعد أخطط لشيء، فقط شغفت بالموسيقى العربية، ومكنتني الأغاني العربية القديمة من تحديد ما أحب في الثقافة العربية وفي موسيقاها وعلى تحديد ما أرغب في فعله، فأعطت معنى لمسيرتي الفنية“.
وفي نفس السياق، حملت صور ياسمين حمدان على اسطوانات “الصابون يقتل” تخفّفاً من الحمولة التاريخيّة للجسد في الموروث العربي بحضوره غير المبالي بسياقاته الجدلية، مثلما حضر صوتها لمساحة “الدلال” في إعادة تدوير الأغاني القديمة عبر وسيط إلكتروني في إعادة تأويل للحن بعناصر أكثر حداثة، مع الحفاظ على الهيكل العام “للكلام“.
ولأن الالتباس في مسائل “الإيروتيكا” مازال طاغياً في المخيلة العربيّة، يبقى حضور ياسمين حمدان الجسدي وطريقة غنائها محل مساءلات ليست في محلها. يقترح الباحث اسماعيل فايد أن “أهم ما يميّز نظريّة الأداء في تحليل وتدبّر الظاهرة الأدائيّة هو التركيز على عناصرها بشكل غير تقني (موسيقيّ، أدبيّ) لفتح المجال لأفكار أو ملاحظات مختلفة من الممكن أن تسقط إن نظرنا من منظور تقني بحت“. ومن هنا نسأل: هل يمكن فصل أداء ياسمين الصوتي والجسدي عن التجربة؟ مؤَكدٌ أن من العبث ضبط التجارب على مقاس تصورات قَبلية، لكن تجربة حمدان تفتح مجالاً لمحاولة فهم هذه التجربة في سياقها بعد الحداثي غير المنشغل بقوالب الأيديولوجيا أو سلطة الشكل الفني المقبول ومتحررة من المواصفات المثالية للصوت العربي ذو المساحات الكبيرة القادر على الانتقال المقامي بسهولة. تقول حمدان في حوار مع فرانس 24 ” ليس في ذهني حاجز يقول لي: هذه موسيقى عربية وهذه ليست موسيقى عربية. كل ما يعجبني وكل ما يؤثر فيّ يتحول إلى مصدر إلهام“. ثم تضيف مجيبة على سؤال آخر: “المجتمع العربي متعدد والجنس فيه حاضر بقوة في كل شأن ويختلف تعامل المجتمعات مع هذه المسألة حسب الفترات والسنوات. كبرت في عائلة علمانية وفي وسط لا يعتبر فيها الجنس أو الأنوثة أو الإيروتيكية من التابوهات. لكن يوجد شيء من الطابع المحافظ وأنا صورة عن هذا الموروث“.
تفتح هذه الرؤية المحايدة لحضور الجنس في الأرض العربية مجالاً لإعادة طرح الإيروتيكا كرافد مهم تم تهميشه قسراً في الغناء العربي. ففي مرحلة ما من أوائل القرن العشرين كان الجنس موضوعا للكثير من الأغاني– الجنس كوسيلة جذب كمتعة قانونية– حتى أن مساحة القبول وصلت إلى تقبّل أصوات لرجال تحمل “غنجاً أنثويّاً” وتغني بلسان الأنثى مثلما فعل عبد اللطيف البنا، غير أن مفهوم الفن الرفيع الذي تم تكريسه قضى على هذه التجارب وأخرجها من مفهوم الفن العام تماماً. إذ ظلت الأغنية العربية لفترة طويلة ترتدي ملابس أنيقة وتتحرك بتحفّظ طلة أم كلثوم وصنميّة فيروز، لتأتي التسعينيّات بمعاول بعد الحداثة عادمةً سلطة الفن الراقي و“الفن الملتزم“، فامتلأت فيديوهات هذه المرحلة بفتيات بملابس مثيرة لتكسر هذه الصورة فظاظاة وسذاجة. في تجربة حمدان تحمل الإيروتيكا في معناها تحول الفعل الجسدي “الرقص والغناء المثير” إلى مكون أساسي في العمل الفني وبالتالي إلى جسد موسيقي. الإيروتيكا ليست “إثارة للغزائز” كما يحب أصحاب الفن الملتزم تبسيط الصورة والجناية عليها، الإيروتيكا– على الأقل في تجربة حمدان– إعطاء الجسد فرصة للتعبير وسط العديد من المكوّنات الفنيّة، لا أن يتمظهر كمركز وحيد. فمثلاً، غنت حمدان عن الحرب لا بتورط بكائي معتاد، بل بتوظيف الإيروتيكا كمساحة للتخييل، لنزع صفة الحيوانية عن الجسد وتحويله إلى رافد فني.
ربما تتضمن جملتها “أنا صورة عن هذا الموروث” محاولة للبحث عن شرعية تاريخانيّة للغناء الإيروتيكي، وهو مايتناقض مع مسيرتها غير العابئة بالشرعيّة المؤسسيّة الفنيّة والأخلاقيّة كذلك، ليكن ماتقدمه جديداً غير متصل بما مضى إلا بإعادة تأويله الموسيقيّة كما تقدم هي، وهذا وحده كاف.
اسماعيل شموط - زهرة في العراء