نقوس المهدي
كاتب
أفكار سلبية عن المرأة الإنسان :
من البديهي أن تدخل عدة عوامل في نشوء صور معينة عن المرأة بالنسبة لكبار الفلاسفة والأدباء والمفكرين ، وهذه البديهية ليست مستقاة من كون أن النساء بالفعل مشتركات في كافة الصفات والأخلاقيات بحيث يتم تقديمهن في قوالب محددة ومن ثم تعميم تلك الصور كحقائق تتصف بها كل النساء ، وإنما لدوران عوامل نشوء تلك الصور حول المفكر أو الأديب نفسه ، فالدخول في عالم هؤلاء الأدباء والكتاب والمفكرين يبرز بشكل أو بآخر مدى تأثر الكاتب في كتاباته حول المرأة بواقع حياته وعلاقته بها ، وهي تشبه قانون : لكل فعل رد فعل ، وبالتالي فإن هذا التنوع في إعطاء صور عن المرأة ونعتها بصفات وألقاب مرده أساسا لعلاقة الكاتب أو الأديب الشخصية بالمرأة وظروف البيئة التي عاشها وتفاعل معها، وليس لأن تلك الصفات تتحلى بها كل نساء العالم .
ينظر البعض إلى المرأة ككتلة متناقضة من المشاعر والأحاسيس ، فيقول فيها بعض الشعراء مثلا أنها الشيطان وفي نفس الوقت هي الملاك ، هي الحمامة الوديعة وفي نفس الوقت هي الحية الرقطاء ، ومن الأمثال والأقوال : النساء حبائل الشيطان ، وما لا يقدر عليه الشيطان تقدر عليه امرأة ، والمرأة كالحرباء تتلون كيفما تشاء ، وطاعتهن تردي العقلاء وتذل الأعزاء ، وقال فيهن لقمان : استعذ بالله من شرار النساء ، وكن من خيارهن على حذر ، وقيل لبقراط : أيّ السباع حسن الصورة ؟ .. فقال : النساء . ورأى امرأة ذهبت إحدى عينيها ، فقال : قد ذهب نصف الشر . ورأى البحر قد حمل امرأة : فقال : شر يجني شرا . ورأى رأس امرأة على شجرة فقال : ليت كل الشجر يثمر مثل هذا الثمر ، ونظرت عجوز من الفلاسفة إلى رجل يريد أن يعرس ، وقد زين داره وزوقها ، وكتب على الباب : لا يدخل علي من هذا الباب شيء من الشر . فقالت له : فامرأتك من أين تدخل ؟.
أما أرسطو فيرى أن ( الطبيعة لم تزود المرأة بأي استعداد عقلي يعتد به ). ويقول جان جاك روسو : النساء على وجه العموم لا هوى لهن في فن من الفنون ، ولم يعرف عنهن النبوغ في أحدها ، وليست العبقرية من نصيبهن .ويرى شوبنهور أن النساء " جنس غير فني "ويقول تولستوي الأديب الروسي في المرأة ( هي أداة الشيطان إنها غبية في جملة حالاتها ولكن الشيطان يعيرها دماغه حين تعمل في طاعته انظر إليها فهي تأتي بالمعجزات من التدبير والنظر البعيد والمثابرة لتفضي من ثم إلى عمل خبيث ).
ومن أدباءنا العرب الذين كتبوا بسلبية عن المرأة الأديب عباس محمود العقاد (1889- 1964) الذي يقول:(تخلص ثم تخون ، وتشتد في الحب ثم تشتد في الكراهية ، وتقول لا وهي تعني نعم ، ولا تزال تنتظر منها شيئا وتفاجئك بغير ما تنتظر ).
ويرى العقاد ( أن اللذة والألم نقيضان في الكائن الحي على الإجمال ولكنهما يمشيان معا في إحساس المرأة ، فتجمع بينهما من حيث تريد ومن حيث لا تريد ، أسعد ساعاتها هي ساعة الولادة في تلك الساعة يغمرها فرح لا يوصف ، إذ هي تنجب ذلك المخلوق الحي الذي صبرت على حمله حتى أسلمته إلى الدنيا راضية مرضية ، ولكنها مع هذا هي أشد ساعات الآلام والأوجاع في جسد الأم الطريح بين الموت والحياة ، فالنقيضان في إحساسها يتلاقيان ويتجاوران ويمتزجان أحيانا فلا ينفصلان ، ومن هنا تراها في غبطة وهي تعاني الألم وترها في ألم وهي تختلج بالسرور ).
ويقول فيها أحمد تيمور : ( كل أسير يفك إلا أسير النساء ، فإنه غير مفكوك ، وكل مالك يملك ، إلا مالك النساء ، فإنه مملوك ، وما استرعين شيئا قط ، إلا ضاع ، ولا استؤمن على سر ، إلا ذاع ، ولا أطقن شرا ، فقصرن عنه ، ولا حوين خيرا فقصرن عنه ، ولا حوين خيرا ، فأبقين منه ).
إن الحديث يطول ويتشعب حول ما يقال عن المرأة وأدوارها الحياتية ، والكتابات التي تناولتها بصورة سلبية تعد بالعشرات ، سواء ما تناولتها من جانب إنساني أي المرأة كإنسان ومحاولة التقليل من شأنها وإبراز قصور جسدي وعقلي لديها، أو حتى من ناحية دينية وتناول الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تطرقت للمرأة بصورة تعزز وتؤكد الإنقاص من مكانتها رغم تكريم الإسلام لها.
أما ما سبق وذكرته من تأثر كتابات أي فيلسوف أو أديب حول المرأة بعلاقته الشخصية بها، ربما يخالفني البعض الرأي ، ولكن قد تكون هذه الحقيقة أو جزء منها ولكني لن أعمم ، ولننظر لبعض الكتاب والمفكرين الذين كانت لديهم كتابات ضد المرأة ، ونطّلع على سيرة حياتهم لنستكشف الحقائق منها .
والحقيقة أنني لا أرى أنه من العدل أن يكون إقرار مكانة المرأة مرتبط بمجرد نزوات شخصية وعلاقات فردية في محيط هؤلاء الرجال لا تسمو لرؤية أعمق وأشمل.
أفكار سلبية عن المرأة العاملة :
إن هذا القصور في النظر إلى المرأة يتعدى جانب النظر لشخصيتها الإنسانية إلى مدى أحقيتها في لعب أدوار اكبر من الاهتمام بشؤون بيتها ،فهناك تشكك لجدوى عملها خارج المنزل ، وهذا التشكك الذي مرت عليه دول وتعدته ، وسعت جاهدة لإشراك المرأة في البناء والتنمية ، لا تزال المرأة العربية لم تحصل على حتى الجزء اليسير منه ، فرغم أن القيادات العربية وأنظمة الحكم شجعتها بقوة للدخول إلى ميدان العمل ومنحتها هامش من حرية الحركة ، وأحقيتها في الاستقلال المادي ، فهو لا يعدو كونه شكليا ، لأنه لم يختلط بأفكار العامة ، وحتى عندما نقول استقلال مادي فهو أيضا استقلال شكلي مرتبط بكون أن المرأة عاملة خارج المنزل وتقبض مرتبا ، ولكن الحقيقة أن هذا العمل قد يكون هو التقييد المولد لها ، فكثيرا ما تكون تلك المرتبات تحت سيطرة أب ، أو زوج ، أو أخ .
هذا الفكر المتغلغل في عقول الشباب حول أفضلية بقاء المرأة في البيت ، فكر أصيل مضت عليه عقود ، وتأصل أكثر مع كتابات تهمش أي أدوار فعلية للمرأة خارج بيتها ، والكتابات والآراء حول هذا الشأن –ويا للعجب – لا تزال متواصلة حتى ونحن في القرن الواحد والعشرين، لو عدنا قليلا إلى الخلف ، سنجد أن وطننا العربي بالفعل شهد انقسامات فكرية حادة حول أحقية المرأة في المشاركة في الشؤون العامة ، وهناك كتابات لكبار الأدباء والمفكرين حول هذه القضية ، فمثلا يرى محمد متولي الشعراوي أن عمل المرأة خارج بيتها قد أفسدها ويقول في ذلك : (أن عمل المرأة أضاع الأجيال من الأولاد ،فافتقد الابن حنان الأم ورعايتها ونشأ في حالة اضطراب نفسي نشهدها الآن في الأجيال الشابة التي بعدت عن حنان الأم ورعايتها وتعليم الأولاد القيم في الحياة ).
ويبرر الشعراوي رفضه لعمل المرأة في قوله :( الواحدة منهن تعود من عملها متعبة ،لتجد أنها لا بد أن تعد الطعام ،وترعى شئون بيتها وأولادها ، فإذا انتهت من هذا كله وعاد الزوج إلى البيت وجد زوجته في غاية الإرهاق ، والزوج له مطالب ، وأهم هذه المطالب أن يجد سكنا في بيته ، وامرأة تستقبله لتمحو من نفسه تعب النهار وشقاءه ، ولكنه بدلا من ذلك يجد زوجة مرهقة ، لا هي سكن ولا هي مستريحة الأعصاب ، ولا هي قادرة على أن تستقبل زوجها بابتسامة .. لو نظرنا إلى عمل المرأة لأشفقنا عليها لأنه في هذه الحالة ستكون مهمتها أصعب وأشق من مهمة الرجل ، لأن عمل الرجل هو السعي في سبيل الرزق ، ثم الراحة بعد ذلك ، أما عمل المرأة فهو سعي في سبيل الرزق ، ثم الحمل وأثناء الحمل المرأة تعاني ).
ويرى الشعراوي في جانب رعاية الطفل أنه " عندما يأتي فهو محتاج إلى الرعاية والعناية،وتغيير لملابسه ،وإعداد الطعام له على فترات قصيرة ، بينما تذهب الأم إلى عملها وقلبها مشغول بطفلها ، لا تستطيع أن تعمل ، ولا أن تفكر تفكيرا سليما، لأنها مشغولة بشيئين ، ثم تعود إلى بيتها لتجد طفلها محتاجا إلى أن تعد له أشياء،وتجد زوجها محتاجا إلى أن تعد له أشياء،وإذا كان لها أولاد آخرون فهم محتاجون أيضا منها إلى أشياء تعدها لهم ".
ورغم كل ما يقال ومنه ما به إشفاق على حال المرأة كما ذكر الشعراوي فالمرأة ترى في ذلك خروج عن وضعية الشراكة بين الرجل والمرأة ، والذي يحفزها لتقوم بأدوارها المنزلية والمجتمعية في صورة الإنسان الكامل الأهلية والمسؤولية .. في صورة النصف المكمل للنصف الآخر والمساوي له وليس الأدنى منه أو التابع له ، امتثالا لقوله تعالى : ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) الأعراف:189
وللكاتب أحمد لطفي السيد رؤية مختلفة ، فهو يرى أن المرأة مالكة للرجل ، فإذا غصب الرجل حق المرأة في المساواة ، وحقها في الانتخاب والتوظف ، فهي ستغصبه حريته ، وتقيم عليه ملكا لا يرحم عند المقدرة ، ولا يجامل عند الحاجة ، ويبرر الكاتب ذلك في أن المرأة تستغل حب الرجل لجمالها سلاحا تنتقم منه على ما فرط في تقدير المساواة بينها وبينه ، وتقتص منه على فكرته السيئة في اعتبارها موضعا للاستمتاع فقط .. فهو يتحكم عليها في المملكة ، وهي تتحكم عليه في البيت ، وهو يتحكم ويظلمها في وضع القوانين ، ولكنها تظلمه بشيء أشق من ذلك بكثير ، وهو مصادرتها له في إحساسها ووجوده الخاص .
إن مثل هذه الرؤية للمرأة في منحها الحرية ، تدور حول حلقة الانتقام والمعاملة بالمثل ، وان الرجل مطالب بمنح المرأة الحرية والمساواة ليس كحق من حقوقها وإنما خوفا من بطشها وانتقامها منه في حياته الخاصة .
ولا يبدو منطقيا من - وجهة نظري - أن يسعى الرجل لمساواة المرأة به ، انطلاقا من هذا الاعتقاد ، الذي لا يحمل أهدافا وخططا محددة .
أما د. عدنان علي رضا النحوي فيقول :أن الرجال والنساء متساويين عندما يقوم كل واحد منهما بأداء المسؤوليات المكلف بها وهي أن تقوم المرأة بدورها كأم وزوجة وترعى وتربي أبنائها ويقوم الرجل بدوره في في القوامة والأبوة .ويقول في ذلك : (مسؤولية الإنسان عظيمة وممتدة مع الحياة والأجيال ولا يستطيع الرجل أن يخوضها وحده ولا المرأة وحدها وإنما هي مسؤولية مشتركة بين الرجل والمرأة حين يقوم الرجل بالتكاليف المنوطة به وتقوم المرأة بالتكاليف المنوطة بها وتظل المرأة امرأة والرجل رجلا حتى تكون النساء بذلك شقائق الرجال ، لا أن يصبحن رجالا ، ولا أن يصبح الرجال نساء ..ففي الحياة الزوجية لا يكون النساء شقائق الرجال إلا إذا كان الرجل زوجا يقوم بمسؤوليات الزوج والقوامة والأبوة ، والمرأة تقوم بمسؤولية الزوجة و الأمومة ، فإذا أخذت المرأة بعض دور الزوج ، والرجل بعض دور الزوجة تحت شعار المساواة وجعلت القوامة لها مثلا ، فلا هي أصبحت رجلا حقيقة ولا مساوية للرجل ، ولا هي قامت بالدور الذي خلقت له – دور الأم – فتضطرب الحياة الزوجية وتفسد ولا تعود النساء بذلك شقائق الرجال )(2).
هذه الصورة التي يقدمها الكاتب عن علاقة الرجل بالمرأة لا تخرج عن ذات النطاق المتكرر في تحديد الأدوار، دون مراعاة لتقلبات الزمن والتغييرات في الحياة المعاصرة.
ولا يعني ذلك أنني مع تبادل الأدوار الحياتية بين الرجل والمرأة ، ولكني مع أحقية المرأة في أن تلعب أدوار أوسع وأعم من أداء الأعمال المنزلية على اعتبار أنها بالفعل قادرة عقليا ونفسيا وجسديا، بل بمعنى أشمل إنسانيا على تحقيقها.
ولنفرض تأطير دور المرأة كمربية للأجيال .. فهل يستنفذ ذلك يومها كاملا ومن ثم عمرها كإنسان يعيش على هذه الأرض ، مع ما ترغب من عطاء ونشاطات متعددة ، ولنفرض ثانيا أننا يجب تأطير عملها في أطار الأمومة .. أليس في ذلك تهميش للإناث بمستوياتهن المختلفة .. فهناك الأم التي كبر أولادها ، وهناك العوانس وما أكثرهن في مجتمعاتنا العربية ، وهناك الأرامل ، وهناك من لا تنجب الأولاد ، وما أكثر عدد من ذكرت .. أين أدوار كل هؤلاء إذا أخذنا عمل المرأة بتلك الصورة الضيقة الأفق .. ومتى سيحين الوقت كي نتطوّر ونتقدّم مع كل هذه الأمم المتقدمة والتي عرفت أن المرأة هي سلاح المستقبل ؟ ولماذا عندما نذكر المرأة الغربية لا نرى إلا المرأة السافرة ولا نرى المرأة العالمة والمهندسة والأديبة والمفكرة ورائدة الفضاء والجيولوجية وسيدة الأعمال وغيرهن .. متى سيحين وقتنا لتنطلق المرأة العربية في بناء مجتمعها إذا كانت لا تزال ملتحفة بلحاف الجهل وتضييق الخناق عليها من كل الجهات ؟؟.
إن الكتابات التي تقدم صور سلبية عن المرأة لا تزال مخزنة في فكر شبابنا ، وتتناولها طواعية الأجيال اللاحقة كأنها عقائد دينية لا محيص عنها ،وقد كان لها دور ضمن أمور أخرى سنناقشها لاحقا في تهميش دور وحياة المرأة .
ولكنني في المقابل لا أنكر وجود كتابات أخرى أكثر نضجا وإيجابية في النظرة للمرأة سجلتها أقلام أبرز وأشهر الكتاب والأدباء سواء عربيا أو عالميا، وعندما يطلع الشخص على هذه الكتابات سواء ما تناولت المرأة بسلبية أو بإيجابية يتساءل في قرارة نفسه ترى لماذا هذا الاختلاف وعدم التوافق ؟.. وهل هذه الكتابات تعكس علاقة كل كاتب بالمرأة ؟.. أي أن هذه الكتابات لا تعطي حقائق علمية بقدر نقلها لعواطف ومشاعر وانفعالات وأفكار هؤلاء الكتاب عن المرأة اعتمادا على تجارب شخصية في محيط بيئي محدود ، أو استجابة لتيارات فكرية معينة ، ثم يقدمها الكاتب لقرائه كحقائق ثابتة وعمومية تتميز بها كافة نساء العالم ، أي أن المرأة التي يلتقيها الكاتب وتلهمه تلك الكتابات هي الصورة المتكررة للمرأة في كل زمان ومكان .. هل يحدث الأمر بهذه الطريقة وبتلك البساطة ؟!.
وجه آخر للمرأة وأفكار ايجابية..
في مقابل الكتاب والأدباء والمفكرين ممن أعطوا أفكارا سلبية عن المرأة ينبري كتاب وأدباء عرب لم يكتفوا بالدفاع عن المرأة وتجميل صورتها ، بل كانوا يستغربون هذا الهجوم على المرأة ، ونعتها بصفات تتوفر أيضا في الرجال ، فمثلا الإمام ابن حزم لا يرى أن هناك فرق بين الرجال والنساء في تعمد الإغواء والعمل كأداة للشيطان إذ يقول :( إني لأسمع قولا كثيرا ممن يقول الوفاء في قمع الشهوات في الرجال دون النساء فأطيل العجب من ذلك وإن لي قول لا أحول عنه : الرجال والنساء في الجنوح إلى هذين الشيئين سواء ، وما رجل عرضت له امرأة جميلة بالحب وطال ذلك ولم يكن ثم من مانع إلا وقع في شرك الشيطان واستهوته المعاصي واستفزه الحرص وتغوله الطمع ، وما امرأة دعاها رجل بمثل هذه الحالة إلا وأمكنته ، حتما مقضيا وحكما نافذا لا محيد عنه البتة ).
من هنا نلحظ الصورة المغايرة في فكر الإمام ابن حزم عن غيره وهم كُثر ، والذين لا يتوقفوا عن تصوير المرأة بأنها أغوتهم لارتكاب الخطايا متناسيين مغامراتهم ومحاولاتهم لإغواء النساء وأدوارهم كأداة في يد الشيطان ، فمثلا ظهر في عصرنا هذا تكوين شبكات وتنظيمات للاتجار بالنساء مما أدى لتفشي البغاء بشكل كبير في العديد من الدول ، وقد كان الظن الساري بين العامة أن النساء هن أساس انتشار هذا البغاء ، ولكن الحقائق تكشّفت بعد أن انتشرت حقيقة سرقت النساء من العديد من الدول كجنوب شرق آسيا وشرق أوروبا وغيرها من الدول ، ويتم نقلهن بسرية تامة إلى أماكن ودول أخرى ،حيث يتعرضن للسجن والاغتصاب تحت التهديد، فهذه التنظيمات يديرها رجال أصحاب نفوذ وما النساء إلا ضحايا الرغبة في إشباع الشهوات التي يبذل لها بعض الرجال أموال طائلة ،ومع ذلك فلا يرون في أنفسهم أداة من أدوات الشيطان .
إن عدم التوافق في النظر إلى المرأة والرجل من حيث نوازع الخير والشر لديهم ، تستحوذ على اهتمام الكثير من الأدباء والكتاب الكبار ، والتي عادة ما يحاولون فيها تقديم المرأة بصورة سلبية ، رغم أن الخير والشر موجود في الإنسان بغض النظر عن جنسه .
عندما نتحدث عن الأدباء والمفكرين الذين قدموا صورة ايجابية عن المرأة ، لا ننسى كبار رجال الفكر والأدب في الوطن العربي كطه حسين والإمام محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين وميخائيل نعيمة وأحمد رامي والمنفلوطي وغيرهم ، والذين سآتي على ذكر مقتطفات من كلماتهم ، وأغلب هؤلاء عاصروا كتّاب آخرين قدموا صور سلبية عن المرأة ، وهو ما يجعلنا نلتمس وجود معركة بين الكتاب حول النظر للمرأة في تلك المرحلة ، وغالبا ما كان الاختلاف بين هؤلاء الكتاب مرتبط بالتيارات الفكرية التي ينتمون إليها ، وهو ما يبرر الكلمات التي كتبتها في مقدمة كتابي من أن " النظر لأدوار المرأة المختلفة في الحياة المعاصرة يتم تناولها كنوع من توجهات الجماعات والأحزاب السياسية والدينية ، فلكل جماعة تصور خاص حول طبيعة التعامل والنظر للمرأة يدخل ضمن أطر مجموعة من تصورات ومعتقدات تلك الجماعة وبالتالي فالإطلاع على هذا التصور يحمل لنا دلالات واسعة عن النظام العام أو الصورة ضمن إطارها الواسع حول مبادئ وأسس تلك الجماعات "- راجع مقدمة الكتاب -.
إذاً فالكتابة عن المرأة عربيا ذات طابع ايدولوجي عميق ، ورغم ارتباطها برؤية مجتمعية فهذا لا يلغي التأثير السيكولوجي للكاتب .. أي ماذا تعني المرأة لشخص الكاتب ومدى تأثيرها على حياته الخاصة منذ طفولته وحتى شيخوخته .
وعندما نتحدث عن الكتّاب العرب الذين قدموا صور ايجابية عن المرأة ، علينا أن نتلمس نوعية هذه الكتابات وأهدافها ، فهي ليست مجرد كلمات رنانة أو مرصوفة بشكل معبر ومؤثر ، بل تحمل فكر وبعد نظر ، لا أقول ذلك على اعتبار أن هذه الكتابات أنصفت المرأة وحسب ، وإنما لأنها تقدم ما فيه الخير للرجل والمرأة على السواء.
وحتى أكون واضحة في مقصدي ، سأقدم مقتطفات من بعض تلك الكتابات المنصفة للمرأة ، مع تعقيبي عليها ، ونبدأ بالإمام محمد عبده والمعروف عنه في كتاباته إبرازه لمدى تكريم الإسلام للمرأة ورفعه من شأنها ، إذ يقول : (هذه الدرجة التي رفع النساء إليها ، لم يرفعهن إليها دين سابق ، ولا شريعة من الشرائع ..بل لم تصل إليها أمّة من الأمم قبل الإسلام ولا بعده .. وهذه الأمم الأوروبية – التي كان من آثار تقدمها في الحضارة والمدنية – أن بالغت في تكريم النساء واحترامهن ، وعنيت بتربيتهن وتعليمهن العلوم والفنون ، لا تزال دون هذه الدرجة التي رفع الإسلام النساء إليها ، ولا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من حق التصرف في مالها بدون إذن زوجها ، وغير ذلك من الحقوق التي منحتها إياها الشريعة الإسلامية من نحو ثلاثة عشر قرنا ونصف ، وقد كانت النساء في أوروبا منذ خمسين سنة بمنزلة الأرقاء في كل شيء، كما كن في عهد الجاهلية - عند العرب- أسوأ حالا ...وكان ارتقاؤها من أثر المدنية الجديدة في القرن الماضي ، وقد صار هؤلاء الإفرنج الذين قصرت مدنيتهم عن شريعتنا في إعلاء شأن النساء يفخرون علينا بل ويرمون بالهمجية في معاملة النساء ، ويزعم الجاهلون منهم بالإسلام أن ما نحن عليه هو أثر ديننا).
ويقول أيضا : (خاطب الله تعالى النساء بالإيمان والمعرفة والأعمال الصالحة في العبادات والمعاملات كما خاطب الرجال ، وجعل لهن عليهم مثل ما جعله لهم عليهن ، وقرن أسمائهن بأسمائهم في آيات كثيرة .. وبايع النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنات كما بايع المؤمنين ، وأمرهن بتعلم الكتاب والحكمة كما أمرهم .. وأجمعت الأمة على ما مضى به الكتاب والسنة من أنهن مجزيات على أعمالهن في الدنيا والآخرة ، أفيجوز بعد هذا كله أن يحرمن من العلم بما عليهن من الواجبات والحقوق لربهن ولبعولتهن ولأولاهن ، ولذي القربى وللأمة والملة ؟ العلم الإجمالي بما يطلب فعله شرط في توجه النفس إليه ، إذ يستحيل أن تتوجه إلى المجهول المطلق ، والعلم التفصيلي به المبين لفائدة فعله ومضرة تركه يعد سببا للعناية بفعله والتوقي من إهماله ..فكيف تسعد في الدنيا أو الآخرة أمة نصفها كالبهائم ، لا يؤدي ما يجب عليه لربه ولا لنفسه ولا لأهله ولا للناس ).
نلحظ من هذه المقتطفات ما أشرت إليه سابقا حيث يربط الإمام محمد عبده بين أحقية المرأة في اكتساب العلم والمعرفة ، وحقيقة أن الإسلام قد أتاح لها ذلك ، ويقال عن الإمام أنه كان شريكا في تأليف الكتاب الشهير "تحرير المرأة" لقاسم أمين في الفصول التي عرضت لرأي الشرع في قضايا الحجاب والزواج والطلاق وتعدد الزوجات ، حيث ورد ذلك في المجلد الأول من كتاب الأعمال الكاملة للإمام والذي وضعه الكاتب محمد عمارة ، وما نلتمسه في كتابات وآراء الأمام محمد عبده أنه يتبع الأسلوب الوسطي ويستند إلى ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية دون تشدد.
أما عبد الرحمن الكواكبي فيقول :( إن لانحلال أخلاقنا سببا مهما يتعلق بالنساء ، وهو تركهن جاهلات على خلاف ما كان عليه أسلافنا ، حيث كان يوجد نساء كأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، التي أخذنا عنها نصف علوم ديننا ، وكمئات من الصحابيات والتابعيات وراويات الحديث والمتفقهات ، فضلا عن ألوف من العالمات والشاعرات اللاتي في وجودهن ، في العهد الأول بدون إنكار ، حجة دامغة ترغم أنف غيرة الذين يزعمون أن جهل النساء أحفظ لعفتهن ...ثم إن ضرر جهل النساء ، وسوء تأثيره في أخلاق البنين والبنات أمر واضح غني عن البيان ).
نلحظ هنا التركيز على تعلم المرأة ، ونجد في أغلب كتابات أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين هذه السمة من تأكيد الأحقية في العلم والذي يعتبر تمهيدا لحصول المرأة العربية على حقوقها والمساواة بينها وبين الرجل .
كما أن هذه الكتابات تعتبر ردا على كتابات أخرى مناهضة لأي دور مجتمعي يجب أن تلعبه المرأة ، ونلمس في الكتابات التي وقفت ضد المرأة أنها ليست قائمة على أسس شرعية ولا واقعية تمليها طبيعة المجتمع ، بل هي مجرد ادعاءات حول شخصية المرأة وطبائعها تم تقديمها كطبيعة سيكولوجية في المرأة رغم تساوي الجنسين في طبائع الخير والشر .
ولنعد لكتابنا العرب ، ومع ابرز من عرف بتحرير المرأة وهو قاسم أمين الذي يقول ( المرأة إنسان مثل الرجل ، لا تختلف عنه في الأعضاء ووظائفها ، ولا في الإحساس ، ولا في الفكر ، ولا في كل ما تقتضيه حقيقة الإنسان من حيث هو إنسان ... فإذا تعلمت المرأة القراءة والكتابة ، واطلعت على أصول الحقائق العلمية ، وعرفت مواقع البلاد ، وأجالت النظر في تاريخ الأمم ، ووقفت على شيء من علم الهيئة والعلوم الطبيعية ، وكانت حياة ذلك كله في نفسها وعرفانها بالعقائد والآداب الدينية ، استعد عقلها لقبول الآراء السليمة ، وطرح الخرافات والأباطيل التي تفت الآن بعقول النساء)- يقصد الكاتب بالآن الفترة التاريخية التي عاشها أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين- .
وقاسم أمين كما أشرت صاحب الكتاب الشهير تحرير المرأة الذي صدر سنة 1899م ، وهذا الكتاب قد أحدث ضجة وانقسامات فكرية في المجتمع المصري والمجتمعات الشرقية ، نظرا للأفكار الجديدة التي قدمها في كتابه حول قضايا المرأة العربية ..قضايا المرأة العربية التي لا تزال إلى الآن تثير الاختلاف والانقسام .
ومن قاسم أمين إلى الكاتب محمد إقبال ( 1873- 1938 ) الذي يقول : ( إن المسلم الذي لا يقدر المرأة ، لم ينل نصيبا من حكمة القرآن ..إن الأمومة رحمة ، ولها إلى النبوة نسبة ، وإنها لكاتبة الأمة .. ومن يفكر في لفظ (الأمة) و(الأم) تبدو له دقائق الحكم .. وقد قال سيد الكائنات صلى الله عليه وسلم : الجنة تحت أقدام الأمهات .. إن الأمة من صلة الأرحام .. والحياة بدونها لا تبلغ المرام .. وبالأمومة تسير الحياة ، وتجلو أسرارها .. وربما تنجب بنت الزارع الجاهلة – التي لا تحسن الكلام ، ولا تبين في الخصام – مسلما نجيبا غيورا ، للحق نصيرا ، إن حياتنا من آلام الأم .. وصبحنا من ظلامها ).
أما الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي (1876 – 1924) صاحب النظرات والعبرات وغيرهما من الأعمال الأدبية ،والمعروف باعتماده التعبير المؤثر والشاعري ، فله مقالة معبرة وقوية المعاني حول المرأة، يقول فيها : ( ليت شعري هل شكرنا المرأة تلك النعمة التي أسدتها إلينا ، وجازيناها بها خيرا ؟ لا .. لأننا إن منحناها شيئا من عواطف قلوبنا ، ومشاعر نفوسنا ، فإننا لا نمنحها أكثر من عواطف الحب والود ، ونظن عليها كل الظن بعاطفة الاحترام والإجلال ، وهي إلى نهلة واحدة ، من موارد الإجلال والإعظام ، أحوج منها إلى شؤبوب متدفق من سماء الحب والغرام .. قد نحنو عليها ونرحمها ، ولكنها رحمة السيد بالعبد ، لا رحمة الصديق بالصديق .. وقد نصفها بالعفة والطهارة ، ومعنى ذلك عندنا أنها عفة الخدر والخباء ، لا عفة النفس والضمير .. وقد نهتم بتعليمها وتخريجها ، لا باعتبار أنها إنسان كامل ، لها الحق في الوصول إلى ذروة الإنسانية التي تريدها ، وفي التمتع بجميع صفاتها ، وخصائصها ، بل لنعهد إليها بوظيفة المربية أو الخادمة أو الممرضة ، أو لنتخذ منها ملهاة لأنفسنا ، ونديما لسمرنا ، ومؤنسا لوحشتنا .. أي أننا ننظر إليها بالعين التي ننظر بها إلى حيواناتنا المنزلية المستأنسة ، لا نسدي إليها من النعم ، ولا نخلع عليها من الحلل، إلا ما ينعكس منظره على مرآة نفوسنا ، فيملؤها غبطة وسرورا .. أنها لا تريد شيئا من ذلك .. إنها لا تريد أن تكون سرية الرجل ، ولا حظيته ولا أداة لهوه ولعبه ، بل صديقته وشريكة حياته .
إنها تفهم معنى الحرية كما يفهمها الرجل ، فيجب أن يكون حظها منها مثل حظه .. أنها لم تخلق من أجل الرجل ، بل من أجل نفسها .. فيجب أن يحترمها الرجل لذاتها ، لا لنفسه .
يجب أن ننفس عنها قليلا من ضائقة سجنها ، لتفهم أن لها كيانا مستقلا ، وحياة ذاتية : وأنها مسئولة عن ذنوبها وآثامها أمام نفسها وضميرها ، لا أمام الرجل .. يجب أن تعيش جو الحرية ، وتستريح رائحته المنعشة الأريجة ، ليستيقظ ضميرها الذي أخمده السجن والاعتقال من رقدته ، وتولى بنفسه محاسبتها على جميع أعمالها ، ومراقبة حركاتها وسكناتها ، فهو أعظم سلطانا ، وأقوى يدا ، من جميع الوازعين والمسيطرين .. يجب أن نحترمها ، لتتعود احترام نفسها ، ومن احترم نفسه فهو أبعد الناس من الزلات والسقطات .
لا يمكن أن تكون العبودية مصدرا للفضيلة ، ولا مدرسة لتربية النفوس على الأخلاق الفاضلة والصفات الكريمة ، إلا إذ صح أن يكون مصدرا للدور ، والموت رغبة في الحياة ، والعدم سلما للوجود .
كما لا أريد أن تتخلع المرأة ، وتستهتر ، وتهيم على رأسها في مجتمعات الرجال وأنديتهم ، وتمزق حجاب الصيانة والعفة المسبل عليها ، وهو المعنى الذي يفهمه البسطاء من العامة عادة من كلمة الحرية عند إضافتها إلى المرأة .. كذلك لا أحب أن تكون مستعمرة ذليلة ، يسلبها مستعمرها كل مادة من مواد حياتها ، ويأخذ عليها كل طريق حتى طريق النظر والتفكير .
وبعد .. فإما أن تكون المرأة مساوية للرجل في عقله وإدراكه ، أو أقل منه ، فإن كانت الأولى ، فليعاشرها معاشرة الصديق للصديق ، والنظير للنظير .. وإن كانت الأخرى ، فليكن شأنه معها شأن المعلم مع تلميذه ، والأب مع أبنه .. أي يعلمها ويدربها ، ويأخذ بيدها ، حتى يرفعها إلى مستواه الذي هو فيه ، أو ما يقرب منه ، ليستطيع أن يجد منها الصديق الوفي ، والعشير الكريم ، والمعلم لا يستعبد تلميذه ولا يستذله ، والأب لا يحتقر ابنه ولا يزدريه ).
برغم أن المنفلوطي عاش في فترة كان أقصى من يطالب بحرية المرأة فيه يتناول بإسهاب جانب الحق في طلب العلم ، فإننا نجد في هذه الكلمات ، أن المنفلوطي تعدى هذا الجانب ، إلى فضاءات أكثر رحابة واتساعا ، إنه الجانب الإنساني بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، أن تعيش المرأة كما يجب أن تكون ..كإنسان .
ومن الذين ناصروا قضية المرأة وكتب تحديدا في مشاركتها في الحياة العامة ، الأديب أحمد حسن الزيات ( 1885- 1968)وهو أيضا من كتاب تلك الحقبة حيث يقول : (... لا يزالون يرون إقصاء المرأة عن الحياة العامة أمراً من أوامر الدّين ، وقاعدة من قواعد الخلق ، فكتبوا إلينا ، وإلى بعض الصحف يفنّدون هذا الرأي بحجج انتزعوها من أحاديث الظنون ، وهواجس الخوف ، ومواضعات العرف .. أما صلة الحجاب بالدّين فقد فرغ من توهينها العلماء من أمد طويل ، وشديد على العقل أن يسلم بأن البدويات والقرويات ، ومعظم الحضريات قد تعدين بسفورهن حدود الله منذ ظهر الإسلام ، ولم يأخذ على أيديهن إمام ولا حاكم حتى اليوم ، وأما الاعتقاد بأن احتجاب المرأة هو الضمان الوحيد لحصانتها وعفتها ، فذلك إفلاس للتربية ، وسوء ظن بالدّين ، وإلقاء بالنفس إلى الرذيلة ، فلو أن الفتاة وهي صغيرة فتحت عينها على القدوة الحسنة ، وأذنها لصوت الواجب ، وقلبها لنور الله ، لوجدت من روحها القوى ، وضميرها النقي حماية من الفتنة ، وعصمة من الغواية .
فالتربية الصحيحة -إذن – هي الضمان الذي لا يضر معه سفور ، ولا ينفع بدونه حجاب ، هي وحدها السبيل المأمون إلى الغاية التي قصدناها من تلك الكلمة ، وما زلنا نعتقد اعتقادا لا ظل عليه للريب أن غاية الكمال الاجتماعي أن يكون الرجل في كفة والمرأة في كفة من ميزان المجتمع . . وتلك هي السنة التي فطرنا عليها الله ، والنظام الذي فرضته علينا الطبيعة ، والواجب الذي يتطلبه منا العدل .. أما المجتمع الأعرج الأشل البليد الخشن ، فغير جدير بالسباق ، ولا باللحاق في هذا العصر الطموح الطائر .
ومجتمعنا بغير المرأة هو ذلك المجتمع .. فهو أعرج لأنه يمشي على رِجل واحدة ، أشل لأنه يعمل بيد واحدة ، بليد لحرمانه حدة العواطف ، وخشن لفقدانه لطافة الأنوثة ).
ويوضح الزيات مقصده من عبارة فقدان لطافة الأنوثة في مثاله ( لاحظ مجلسا من مجالسنا احتشدت فيه الرجال شباباً وشيباً ، فماذا تجد ؟ تجد الحركات العنيفة ، والأصوات الناشزة ، والمناقشات الفجة، والأحاديث الجريئة ، والكلمات المندية ، والذوق العامي ، والإحساس البطيء .. ثم لاحظ هذا المجلس نفسه وقد حضرته امرأة –امرأة واحدة لا غير – تجد الحركات تتزن ، والأصوات ترق ، والمناقشات تنتج ، والأحاديث تحتشم ، والكلمات تنتقى ، والذوق يسمو ، والإحساس يدق .. ذلك لأن الرجل حريص بطبعه على أن يجمل سَمته في عين المرأة ، ويحسن صوته في أذن المرأة ، ويسوغ رأيه في عقل المرأة .. والأخلاق المكتسبة تبتدئ بالتطبع ، وتنتهي إلى الطبع ).
ثم يتحدث عن رؤية الأولون للمرأة وواجب معاصريه اتجاهها فيقول :(جهل الأولون وظيفة المرأة فلم يعرفها إلا متاعا وزينة ، لذلك اشتد تنافسهم فيها ، وتنازعهم عليها ، واستئثارهم بها ، حتى ضربوا دونها الحُجُب ، وأحصوا عليها الأنفاس ، وبثوا حولها العيون ، فجعلوها بذلك قينة لا شريكة ، ومملوكة لا مليكة ..وكان من جريرة ذلك عليها أن وهن جسمها لقلة العمل ، وساء خلقها لفقد الحرية ، وضعف تفكيرها لترك التدبير ، وغفل ضميرها لعدم المسئولية ، فلم تفكر إلا في حُللها وحُليِّها، ومدافعة الضرائر والجواري عن نصيبها من زوجها .. لقد كان للأسلاف ولا شك عذر في إقصاء المرأة عن مكانها من المجتمع وخير أعذارهم أنهم كانوا ينظرون إلى المرأة نظرهم إلى الكنز الثمين ، وكان من عاداتهم في الكنوز أن يدفنوها في الأرض أو يحفظوها في الخزائن ، ذلك أن عمرانهم لم يكن من السعة والتعقد بحيث يطلب نشاط الجنسين جميعا ، فحمل الرجال وحدهم أعباءه وقالوا : كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول
أما نحن ، فبأي عذر نعتذر ، وعلى أي حجة نعتمد ؟ إن الأمم الراقية التي نعاصرها ونصارعها لم تزل تنظر إلى المرأة نظر الأسلاف إليها، ولكنها عرفت كيف تحتفظ بالكنوز ، وتستفيد منها ، فهي تعرضها اليوم في المتاحف أداة علم ومتعة ، وفي المصارف رأس مال وقوة .. وعمراننا قد زخر ، واستبحر حتى اعتدى فيه العمل على الراحة ، والتنافس على العدل ، والقوة على الحق ، وتسلخ الغربي في جهاده الحياة بقوى الطبيعة في السماء والأرض ، ونحن مازال نصفنا قاعدا عن الإنتاج ، عاطلا عن العمل ! .. أنا لا أريد أن ندفع بفتاتنا في أتون الحياة المستعر فتحمل الفأس ، وترفع المطرقة ، وتقعد للبيع ، وتجلس للحُكم ، إنما أريد أن تعطى حريتها الطبيعية في حدود عملها الطبيعي ، وأن تعمل كيف تسهم في شركة الزوجية : فتربي الولد ، وتدير البيت ، وتدير الأسرة ، وتعدل ميزانية الرجل ، وتشعر أنها تعمل متضامنة مع بنات جنسها وبني قومها لتكوين أمة متماسكة الأجزاء ، وثيقة البناء ، لا ينال من وحدتها شهوة من هوى ، ولا نزوة من جهل ، ذلك ما قصدنا إليه في تلك الكلمة الموجزة اليوم بعض البسط لعل فيه جلاء لما اختلج في بعض النفوس من هذا الموضوع ).
من الملاحظ في كلمات الكاتب أحمد حسن الزيات محاولة إبعاد الشبهة حول نواياه ومقصده في كتابات سابقة له متضمنة مشاركة المرأة في العمل والشؤون العامة في المجتمع ، وهو أحد النماذج لوجود معركة فكرية تناولت قضايا المرأة وأحدثت انقسامات بين المفكرين والكتاب ، والتي لا تزال إلى يومنا هذا.. ويأتي تأكيده لعبارات : تربي الولد ، وتدير البيت ، وتدير الأسرة وكلها تسير في فلك واحد حول بقاءها في بيتها ، وهو ما يتناقض مع كل عباراته وكلماته في بداية المقالة ، في عدم حجب المرأة وتهميشها وربطها بشؤون البيت ، وعلى الأرجح فقد واجه الكاتب ضغوط كغيره من الكتاب حول أفكاره اتجاه تحرر المرأة ، وهو ملحوظ تقريبا في أغلب كتابات الأدباء في تلك الفترة .
ولكن تبقى حقيقة ما ساقه الكاتب من أن حجب المرأة لدى الأسلاف ومنعها من العلم والعمل أدى لاهتمام المرأة بالأمور السطحية وتوافه المشكلات ، والتركيز على التزين وعدم إعارة إعمال الفكر أدنى اهتمام ، وهو الذي سار على نهج متواصل لفترات زمنية طويلة ، ثم يأتي البعض ليتهمها بقلة الحيلة وضعف الخبرة ويضربون فيها الأمثال والمقولات ، التي كان لهم أبعد الأثر في تكونها لدى المرأة ، وهو وضع يشبه قيام حاكم بسلب أموال الرعية والتعسف في المعاملة والظلم والتجبر ، وعندما تخرج عنه جماعات وتحاربه يتساءل بكل غباء عن مبرراتهم ..ولنقرأ مقالة للأديب والكاتب العربي زكي مبارك (1891- 1952)بعنوان لا تدللوا النساء يقول فيها: (... فقد ثبت أن الزوجة لا ترد سكوت الزوج عن الملاطفة إلى أسباب من اشتغاله بمتاعب الحياة ، وإنما تردها إلى أسباب من اشتغاله بغيرها من النساء ، والمرأة لا تدرك أن للرجال متاعب غير الاشتغال بالنساء .. وأنا لا ابتدع هذا الرأي ، فقد التفت إليه أقطاب القصص الفرنسي ، وعندهم عبارة يضيفونها إلى الزوجة عند معاتبة الزوج في أتفه الشئون ، وهي عبارة : لم تعد تحبني ... والظاهر أن المرأة تخلّفت عن موكب الحياة ، فهي لا تزال تنظر إلى النعيم بالعين الحيوانية ، ولم تدرك أن النعيم صارت له ألوان من التطلع والتوثب والتسامي إلى المراتب لا تخطر للحيوان في بال .. والحق أن الرقي العقلي والروحي والأدبي والمدني ، الرقي الذي نقل الإنسانية من حال إلى أحوال بصورة تفوق أحلام القدماء بمراحل طوال ، هذا الرقي من صنع الرجل ، وليس به للمرأة نصيب ، وستظل في تأخر إلى الأبد ، مادامت تؤمن بأن النعيم في الحياة الزوجية هو نعيم الحيوان .. ضعوا المرأة حيث وضعتها الطبيعة ، ولا تدللوها أكثر مما فعلتم ، يا أغبياء التمدن الحديث ).
يدعوا الكاتب إلى عدم الالتفاف للنهوض بالمرأة ، في اعتقاد غريب أن التقدم والحضارة في المجتمع سيسير بالرجل وحده ، بينما المرأة التي تخالطه أينما كان ، كأم وزوجة وأخت وحبيبة وابنة ، تظل قابعة في جهلها .. فأي تقدم حضاري وإنساني تتصورونه وهو يسير أعرجاً ؟ .. ثم أن الكاتب يرى أن المرأة متخلفة عن موكب الحياة مع تركيزها على النعيم المادي الحيواني ، بدون إيضاح من السبب الذي أسهم في ذلك – إن كان محقا-.
وبنفس الفكر يقول د.أحمد أمين : ( المرأة من أول عهدها بالحياة كثيرة التفكير في جمالها وقبحها ، كثيرة النظر في المرآة لتطمئن على شكلها ، دائبة على تصفيف شعرها ، وتحلية منظرها ، متطلعة دائما لمعرفة مستقبلها ، كثيرة الحديث عن زواجها ، متخيلة الخيالات العديدة لمن تتزوجه قبل أن تتزوج ، متقصية كل حركة من حركاته بعد أن تتزوج ، وإذا قرأت في كتاب ، فأحب شيء إليها ما يغذي عاطفتها الشخصية ، ويصور حالاتها وحالات مثيلاتها .. أما العالم الخارجي الذي لا يتصل بها من قريب ، وأما المعاني المجردة ، وأما الفلسفة النظرية فأشياء لا تأبه بها ، وقلما تمهر فيها لأنها بعيدة عن شخصها ).
وأسألكم من الذي أسهم في اهتمام المرأة بهذه الأمور السطحية ، والتركيز على ذاتها ، دون هذا العالم بمشكلاته وجمالياته وعلومه – وعادة من تقوم بذلك المرأة الجاهلة -.
ثم أن تكرار قول أن المرأة تهتم بالأمور السطحية وعدم قدرتها على تحمل المسؤوليات خارج منزلها بكل ثقة لا يخرج لدى البعض عن الرغبة في الشعور بالمكانة ، فلدى الشخصيات الضعيفة قليلة الثقة بالنفس تصور معين ، وهو أن المرأة الضعيفة تشعرهم بوجودهم وأهميتهم ، وخروج المرأة للعمل معناه اعتمادها على نفسها ، وقدرتها على تدبير شؤونها التي لطالما كانت حكرا على رجل قريب لها ، أكان أباً أو أخاً أو زوجاً ، وبالتالي زوال تلك الهالة العظيمة التي تشكلت عنهم على مرور الزمن.
ولدى البعض هو نوع من التملك ، أي يرى في المرأة كأحد أملاكه الخاصة ، التي يجب أن تكون تحت سيطرته ، وإذا خرجت لتدبير شؤونها ، فقد تنتقل لأملاك الآخرين المتربصين بها ، كما هم في المقابل يتربصون بأملاك الآخرين ، وبالتالي عليه الحفاظ على هذه الأملاك الشبيهة بالمباني والسيارات الخاصة ، حيث يجب أن تكون موجودة دائما بين جدرانها الأربعة ، وتصوروا معي .. يعتقد الكثير من الرجال أن عودتهم إلى البيت ورؤية الزوجة وهي فعلا موجودة ضمن قطع الأثاث المنزلي من البديهيات التي لا مجال لتوقع غيرها .
وبالنسبة لما ذكره الكاتب في إعطاء المرأة حريتها الطبيعية في حدود عملها الطبيعي ، فبلا أدنى شك هو الوضع الذي تسعى إليه ، أو يجب أن تسعى إليه المرأة ، العمل والمشاركة ضمن نطاق يحترم طبيعتها وإمكاناتها الجسدية ، فهناك أعمال لا تستطيع أو تحتاج المرأة عند أدائها لمجهود كبير ، وفي المقابل أيضا هناك أعمال خاصة بالنساء ليس بإمكان الرجال النجاح فيها بنفس القدر ، ومقابل هذا هناك أعمال في متناول الجنسين وهي التي ترتبط بإعمال العقل والفكر والإدارة والقيادة وغيرها ، وبالتالي يتم التصنيف حسب طاقات وقدرات كل أفراد المجتمع ، بحيث يعمل كل واحد ضمن نطاق قدراته الجسدية والعقلية والنفسية وبما يكفل حفظ الكرامة في سبيل خير الوطن .
إن المقالات التي أعلت من شأن المرأة ونظرت إليها بتقدير واحترام .. مقالات تنظر بوسطية في قضايا المرأة وهو ذاته توجهي الذي أشرت إليه في عدة نقاط ، فلا نحن نرغب بالمرأة أن تكون سافرة وتستعمل كلمة الحرية في سبيل حرية جسدية ، ولا أن تكون حبيسة جدران بيتها .. أنها الحرية الوسط التي تستغل فيها المرأة طاقاتها الفكرية والعملية لخدمة نفسها ومجتمعها ، وأن تأخذ مخالطتها للرجال معنى بعيد عن الإغراء وإنما للمشاركة الفعلية في البناء .
وفي مجال العمل فالمرأة لم تخلق إما معلمة أو ممرضة ، فإن كان بمقدورها أن تبدع في مجال ذي طبيعة تخصصية وذات فائدة عامة ، فما المانع ؟.. ثم كيف علينا أن ننظر لكُم المبدعات في التخصصات العلمية والفكرية والإعلامية والهندسية والإدارية.. إنهن نساء لديهن عقول وطاقات وقدرات مميزة إضافة للرغبة الصادقة والشعور بالمتعة في انجاز هذه الأعمال والتي لا تقل عن متعة ورغبة الرجل في انجازها والعمل بها .. فلما تحرم المرأة نفسها من هذه الاهتمامات في سبيل اعتقادات بالية أرهقت أمهاتنا وجداتنا ، أما آن الأوان لنلغيها من أفكارنا وأفكار رجالنا ؟!.
وعودة مع كتابنا الكبار وآرائهم حول المرأة ، وللأديب الكبير طه حسين (1889- 1773) رأي فيما يتعلق بمسألة المرأة طرحها في عدد من مقالاته إذ يقول : ( ... وإذا عني الرجال في هذه الأيام بمسألة المرأة ، فإنما يعنون بمسألتهم قبل كل شيء ، وإذا كان ما ينالهم وينال أنسالهم من هوى ورقي نتيجة لا زمة لما تكون عليه المرأة من صلاح وفساد ، كيف لا ، والمرأة هي قالب النوع الإنساني يفرغه الله فيه ، ويصوغه على مثاله ، تحمل وليده تسعا ، وترضعه شفعا ، وتربيه طفلا ، وتؤدبه يافعا ، وترشده غلاما وكهلا .. أفلا يكون حقا على الرجل بعد ذلك أن يختص مسألة المرأة بالبحث والتمحيص ؟ ويصفي جوهرها من أخلاط الشك وأدناس الوهم حتى تخلص من كل شائبة ، وتصير من قلبه إلى مكان اليقين ؟ ..بلى ..إن هذا حق لا شك فيه ولا مندوحة عنه ، ولذلك لم نجد بداً من أن نلقي دلونا في الدلاء ، ونضرب مع القائلين بسهم في مسألة المرأة رغبة في تأييد الحق ، والذود عنه ... ليست مسألة المرأة منحصرة في الحجاب والسفور كما يظن بعض الكاتبين ، وإنما ترجع في الحقيقة إلى أصلين كبيرين ، أحدهما :تربية المرأة ، والثاني : حريتها .
ولسنا بقائلين في الأصل الأول شيئا اليوم ، وإنما نرجئه إلى الفصول التالية لأنه يحتاج إلى كلام كثير ، وسنكتب الآن في الأصل الثاني ، فنقول : الحرية المطلقة ظل الحياة المطلقة ، فحيثما وجدت الأولى وجدت الثانية ، ومعنى ذلك أن الحرية المطلقة حق فطري للذكر والأنثى من الحيوان على السواء ، وليس الإنسان إلا فرد من أفراد الحيوان ، وفرعا من فروعه .. فالرجل والمرأة إذن قسيمان في الحرية المطلقة ، والمنفعة وحدها هي التي تحدّ من هذه الحرية العامة بحدود العقل ، والعادة ، والدّين .. فكل ما يقيد حرية الرجل من هذه الحدود يقيد حرية المرأة كذلك .. هذا شيء متفق عليه ، لا معنى للبحث عنه ، والجدال فيه ...وإنما نبحث عما جعل الرجل سلطانا على المرأة وميزة عليها ، وقيدها بقيود خاصة لا ينال الرجل منها شيء .
ونقول ليس لهذه القيود مصدر إلا نظام الأسرة ، فهو الذي اقتضى أن يكون قيامة الرجل على المرأة فيكسب لها القوت ، ويجمع من أسباب الراحة والدعة ما يمكّنها من أن تقضي حاجة المنزل ، وتقوم بتربية البنين والبنات .. وليس من الممكن غير ذلك لأنه بمقتضى الفطرة والطبيعة .. ولكن هل قيام المرأة بحاجة المنزل ، وفروض التربية يقضي بأن تسلب حريتها ، وتقصر في القيود كما تقصر الأمتعة؟.. هذا ما لا يمكن القول به ، بل يجب القول بنقضه ، فإن المرأة إذا لم تكن مطلقة اليد ، حرة في أعمالها وأقوالها ، يستحيل أن تقوم بما يجب عليها حق القيام .. لذلك لم يأت الدين الإسلامي بما يقيد هذه الحرية ، أو يقص جناحها .. وإنما جاء بما يجعل هذه الحرية صالحة نافعة ، يقوّم بها أمر المرأة وتنتظم أحوالها .
ما الذي فرضه الإسلام على المرأة ؟ وما الذي أمرها به ؟ ..فرض عليها العفة كما فرض على الرجل ، وأمرها بأن تتجنب سبيل المظنة كما أمر بذلك الرجل .. عرف أن في المرأة وجمالها فتنة للرجل هي مظنة الفسوق ، فنهاها أن تبدي من زينتها ما تستطيع إخفاءه، وهو غير الوجه واليدين ، فقد قال تعالى : (..ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ..)- النور 31 - .
أباح الإسلام للمرأة أن تخرج من منزلها ، فتغشي مجالس العلم ، ومساجد الصلاة ، ومواضع الرياضة في غير فتنة ولا فسوق ...عرف الإسلام طبيعة الرجل والمرأة أكثر مما نعرف ، فحظر عليها أن تخلو بالأجنبي كما حظر ذلك على الرجل .
من هذا كله تنتج نتيجة لازمة ، وهي أن الإسلام قد جاء للمرأة بأحسن نظام تسمو إليه ، وسنّ لها أقوم سنّة تطمح فيها ، وإنها لو اتبعت ذلك النظام ، واستنت هذه السُّنَّة لبلغت أقصى ما تطلبه وتطمع فيه من الرقي والكمال .
ولنخلص في كلمات قليلة حُكم الإسلام في المرأة وحريتها ، فنقول : لا فرق بين المرأة والرجل في الحرية ، وكلاهما مأمور بمكارم الأخلاق منهي عن مساوئها ، محظور عليه أن يتعرض لمظان الشُبه.. فالمرأة لا تخلو بالأجنبي ، ولا تسافر وحدها ، ولا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى ، ولها بعد ذلك أن تفعل ما تشاء في غير إثم ولا لغو ..هذا حُكم الإسلام ، وهذا رأينا الذي لا نحيد عنه ، ولا نعدل به رأيا آخر).
هذه كلمات أخرى نضيفها لقافلة الكتابات التي أنصفت المرأة العربية ، ورغبت أن تلعب أدوارا أوسع في مجتمعها، كما يريدها أن تكون دينها ، وليس كما يريد الرجعيين ، ولا أولئك الذين لا يتوقفون عن نعتها بالغموض والنقص والذين يرد عليهم الأديب ميخائيل نعيمة (1889- 1988) قائلا : ( ليس من الغرابة في شيء أن نرى في المرأة لغزا يصعب علينا حله ، ولكن الغرابة أن تتكلم عن المرأة كما لو كانت اللغز الوحيد الذي أشكل علينا حلّه ، فكأنما شقيقها الرجل : كتاب مفتوح ، لا يعوزنا لفهمه إلا معرفة القراءة البسيطة .. وكأن كل ما عداها من الكائنات ما بين ناطقة وعجماء ، حية وجامدة ، أمور تافهة يكفينا لفهمها أن نتناول بحاسة من حواسنا الخمس .. لعمري إن ذلك منتهى السذاجة ، إن تكن المرأة لغزا فلأن الرجل لغز ..أو يكُن الإنسان بشطريه : المؤنث والمذكر لغزا ، فلأنه يعيش في عالم كل ما فيه ألغاز .. وأي شيء في هذه الأكوان ليس لغزا ؟..
أهي الأرض بشكلها وحجمها ، ودورانها الأبدي حول محورها ، وحول الشمس ؟
أم هي نباتات الأرض وحيواناتها ومعادنها على اختلاف أصنافها ؟
أم هو جو الأرض بما فيه من مجار سرية للنور والفكر والشعور ؟
أهو الزمان ، وأين يبتدئ وينتهي ؟
أم هو الفضاء بكل ما فيه من عوالم لا تقع تحت حصر ووصف ؟
إنه ليكفيك كلما فكرت في شيء من الأشياء ، أو حدث من الأحداث أن تسأل نفسك : لماذا؟ لتعرف أنك في حضرة لغز من الألغاز .. فأنت لا تدري لماذا تكوّنت الأشياء كما هي ، لا على غير ما هي ، ولماذا تحدث الأحداث حين تحدث ، لا قبل ذلك بدقيقة ، ولا بطرفة عين .. وإن أنت خدعت نفسك ، فتوهمت أنك واقف على أسرار كافة الأشياء والأحداث ، فأنت بالعبادة أولى منك بمطالعة هذا المقال .. أجل ..نحن ألغاز في عالم كله ألغاز ...ولنرجع الآن إلى المرأة ، إنها لغز .. وأي لغز ولكنه لغز إذا أشكل علينا حله اليوم ، فلن يشكل إلى الأبد .. وبالأخص على الذين لا يقفون في نظرهم إلى المرأة عند مظاهرها الخارجية ووظائفها الجسدية .. فهي عند هؤلاء أكثر من أُنثى ، وأكثر من مستودع للبذار البشري ..وفتنتها ليست بما يتأجج في لحمها ودمها من شهوات متضاربة ، بل بما يجيش في كيانها من الشوق إلى الهناءة والسعادة والحظوة بحياة لا تنهزم من أمام الموت بانهزام اللحم والدم ، وهذه كلها لا تكون بغير المعرفة – معرفة النفس التي تفتح الباب لمعرفة كل شيء.
فغاية المرأة من وجودها هي غاية الرجل عين بعين ، ولكنها غاية يتعذر على المرأة إدراكها بغير الرجل ، وعلى الرجل بغير المرأة ، وفي ذلك كُنه اللغز الذي هو الإنسان .. وما هو الإنسان ؟ أيجوز أن ندعو الرجل إنسانا ، وهو لولا المرأة لما كان رجلا ؟ أو ندعو المرأة إنسانا ، وهي لولا الرجل لما كانت امرأة؟إنما المرأة نصف إنسان ، وإنما الرجل نصف إنسان ، أما الإنسان الكامل فلا يكون إلا بالاثنين متحدين ..وإذن ، كان من العبث أن نتكلم عن لغز هو المرأة من غير أن نتكلم في الوقت عينه عن لغز هو الرجل ، وكان من الجهل المطبق ن نحاول حل اللغز الذي هو الإنسان بحل نصفه الواحد دون الآخر.
إن في انشطار الإنسان ، وما دونه من الكائنات الحية إلى شطرين ، أحدهما ذكر والآخر أُنثى، لحكمة تفوق حد التصور .. فالكائن الفرد من نوعه لا نصيب له من الحياة إلا الجمود ، فلا وعي ، ولا سعي ، ولا شهوة ، ولا هدف ، ولا إرادة ، ولا أمل له بالمعرفة ، إذ ليس في الكائنات ما يشبهه ، فيكون له محكا وحافزا ، ويكون مرآة يبصر فيها نفسه فيتأملها ويدرسها ، وهو إذ ذاك أشبه ما يكون بسلك مشحون بالكهرباء السلبية أو الإيجابية ، فلا هو نور ولا هو ظلام ، ولا هو حرارة ، ولا هو برودة . . كذلك كان آدم قبل أن تكون حواء ، أي قبل أن يصبح ذكرا وأنثى ، أما بعد أن انشطر شطرين ، فقد راح كل شطر يفتش عن الآخر ليكتمل به ، فكان احتكاك ، وكان نور ، وكانت حرارة ، وكان سعي ، وكان وعي ، وكانت شهوة ، وكان فكر ، وكان هدف ، وكانت إرادة، وكان شوق وحنين إلى المعرفة ، فإلى الغلبة على الموت ، فإلى الاكتمال ..تلك خاطرة ألقي بها إلى الكتاب والشعراء الذين لا يحلو لهم شيء مثلما يحلو لهم التحدث عن المرأة وألغازها .. فهي عندهم الشيطان وهي الملاك وهي باب التهلكة ومعين اللهام ، وهي التي لا حياة للرجل معها ، ولا حياة له بدونها .. ذاك هرف وافتراء وهراء ، فالمرأة في كل ما تعمل وتشتهي وتفكر ، إنما تفتش عن ذاتها في شطرها الآخر الذي هو الرجل .. وما يقال في المرأة ، يقال في الرجل .. فالاثنان يسعيان أبداً، عن وعي وعن غير وعي ، إلى المعرفة التي يستحيل أن تتم للواحد بدون الآخر ) .
و يقول د. رشاد رشدي (1912- 1983)في مقالة بعنوان المرأة تمنحني القوة والقدرة: (...فالرجل لا يكتمل إلا بالمرأة ، والمرأة لا تكتمل إلا بالرجل ، ولذلك فصورة كل منهما لا تتضح حقيقتها إلا في ضوء الحب ، وفي كل ما كتبت كنت دائما أحاول أن أكشف للمجتمع عن صورته كما أراها ، حتى يراها المجتمع ، ويدرك نفسه .. والعملية في أغلبها تعرية بهدف التعرف على الذات ، وفي اعتقادي أن المرأة هي نصف المجتمع .. والمرأة العربية أنضج عاطفيا من الرجل ، هكذا كنت دائما أراها ، وهكذا ما زلت أراها ، فالرجل ما زال إلى حد كبير يعيش عصر الحريم ، أما المرأة ، فقد تعدت هذه المرحلة ... المرأة باختصار تمنحني القوة على العمل ، والقدرة على اكتشاف الذات ، إنها مخلوق نبيل .. هذه المرأة في اعتقادي ، ولم أصدق يوماً أنها يمكن أن تكون غير ذلك ).
ويؤكد الكاتب مصطفى أمين على الدور الذي تلعبه المرأة في حياة الرجل بقوله :( كل الذين نجحوا في الحياة مدينون لامرأة ما ..قد تكون هي الوحي ، وقد تكون هي القلعة ، وقد تكون هي الإكسير ، وقد تكون هي العذاب .. فبعض الرجال مدينون بما وصلوا إليه لامرأة عذبتهم ، أو جرحتهم ، أو حاولت أن تحطمهم ، فأخرجت أحسن ما فيهم ) .
حيث يرى الكاتب أنه حتى المبدعين والعظماء فالمرأة لعبت دورا في حياتهم أسهمت في إبراز نجاحهم ، وهناك العديد من الأدباء والكتاب الذين رسموا كلمات مؤثرة وجميلة في المرأة اعتمادا على تجاربهم الشخصية معها، وأنصفوها بالتالي من خلال عدم نكرانهم لجميلها معهم ، ومن أمثلة ذلك ما قاله الكاتب يوسف السباعي (1917- 1978) :( لقد كانت المرأة دائما تمثل في حياتي شيئا ثمينا ، أحس له بالتقدير والإجلال بعد أن ترك في حياتي دائما أطيب الأثر .. ولعل هذا يعكس الصورة التي بدت بها في جل كتاباتي ، إن لم يكن كلها ..فأنا أحب المرأة وأحترمها وأُقدرها واُجلها في كل صورة لها ..وفي كل مرحلة من مراحل عمرها .. ولعل تجربتي في الحياة معها كما قلت تفيض بكل أثر طيب ، يدعو إلى هذا الشعور الطيب ). أما الكاتب والروائي الكبير إحسان عبد القدوس (1919- 1990) فيقول في أُمه : (... هي التي صنعتني بيديها .. هي التي أرضعتني .. وهي التي أعدت طعامي .. وهي التي بدلت ثيابي .. وهي التي قامت على مرضي .. وهي التي وضعتني في فراشي .. وهي التي علمتني كيف أخطو وعلمتني كيف أنطق .. وضعتني بيديها كما صنعت مجدها بيديها .. كل يوم من أيام هذا المجد ولك حرف فيه ، وكل خطوة من خطواتها هي وحدها صاحبة الفضل فيه ، وليس لأحد فضل عليها ) .
وللأديب الكبير يوسف إدريس (1927- 1991) بصمة في الكتابة عن المرأة إذ يقول : (...وأنا بادئ ذي بدء ..مع المرأة لأني مع الحياة .. وأن ما أكتبه عن المرأة هو مزيج مما أحب أن تكون عليه ، أو أتمناه لها ، ومما هي فيه فعلا ، بمعنى أن أكتب عنها ..بتفاؤل ).
بينما يقدم د.محمد خفاجي تصوره عن دور المرأة في صنع الرجل في منحه القوة كي يكون رجلا عظيما : ( المرأة سر العبقرية عند الأدباء ، إنها الملهمة والموحية لأروع الآثار الأدبية الخالدة ...لازمت المرأة الرجل في مسيرة الحياة ، فآدم كانت حواء معه في كل مكان ، وظلت المرأة شريكة بيته على طول عصور التاريخ ، ومسار الإنسانية ..إن وراء كل أديب كبير امرأة تلهمه .. وأمامنا امرؤ القيس أمير الشعراء في العصر الجاهلي ، أليست فاطمة هي التي أنطقته بخالدته المشهورة ، معلقته التي يقول في مطلعها :
قَفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
والتي وضعت النهج الجديد للقصيدة الشعرية العربية ، هذا النهج الذي احتذاه الشعراء بعد امرئ القيس .
ويستمر الكاتب في سرد لأسماء شعراء عرب كبار من العصر الجاهلي مرورا بالعصر الأموي والعصر الحديث خلدهم التاريخ وكان ملهمهم الأول والأخير هي المرأة ).
وللأديب أحمد أمين وجهة نظر حول تتطور الدول الغربية إذ يقول : زرت أوروبا فدققت في رقيهم وانحطاطنا ، فقلت :إن رقيهم سببه ميمان : المرأة والمطر .
ويرى الكاتب السوداني الكبير الطيب صالح أن ( الحضارة في رأيي هي أنثى ، وكل ما هو حضاري هو أنثوي )(3).
فالمرأة شاء أم أبى من يسعى لتحجيم دورها في المجتمع ، أساس الحضارة ، ولم تقم حضارة من الحضارات وبقيت آثارها إلا وكان للمرأة دورا فيها ، فالدول التي قامت فقط على أيد الرجال في الأزمنة الماضية ، كانت دول حروب ودمار ، فالرجال من طبيعتهم النزعة إلى العنف والعدوان ، والذي يطغى على السلوك حتى لدى الصبية الصغار ، بدليل ملحوظ في عصرنا الحالي من كثرة الانقسامات والأحزاب والحروب في العديد من الدول التي منعت المرأة من المشاركة في شؤونه العامة، بينما نلحظ أن دولا كالدول الأوروبية لجأت لتعيين النساء في العديد من المناصب القيادية والإدارية وغيرها – نجد ذلك بنسب مرتفعة في الدول الإسكندنافية الراقية والهادئة - لضمان الاستقرار والأمن ، حيث أن من طبيعة النساء الميل إلى توفير الاستقرار والطمأنينة وهدوء الأوضاع ، فالشعور بالأمن مطلب ضروري كي تعيش المرأة مرتاحة البال لأنها أول المتضررين من اندلاع الحروب سواء لوضعها الشخصي أو ما ستفقد من الأبناء ، ونحن لا نجد أسماء النساء تظهر في مجتمعات الحروب والدمار وتشكيل العصابات والجماعات ، بينما نجده بارزا بقوة وبشكل ملحوظ في مجتمعات الأمن والاستقرار ، وكمثال على بعدها عن العنف ففي الأفلام الحربية يستطيع مخرج العمل الاستغناء شبه الكلي عن وجود نساء في التمثيل .. لأن بيئة القتل والتدمير ليست بيئتهن .
ويرى الكاتب د.أحمد الشرباصي ( 1918- 1980) أن الرجل هو الذي بدأ بمقاتلة المرأة .. فيقول في ذلك : ( طوال قرون طويلة سيطر عليها ، خوفا من أن يراها تتخلص من روابطه وقيوده ، ونحن لم نكتشف هذه المعركة إلا بعد زمن طويل .. كشفها لنا التاريخ ، فرأيناها معركة تشق مجراها في مسارب تحتية خفية تغطيها معارك أخرى هي معارك الشعوب والجماهير والطبقات، وفهمنا أن معركة الرجل والمرأة لا تقل خطرا عن معارك التحرر الوطني ، والسياسي ، والاقتصادي ...إن دراما الجنسين ، التي أصبحت معروفة اليوم ، لن تتوقف بعد الرقي الذي أحرزته المرأة المعاصرة ، وهنا مكمن خطر جديد ، إن المرأة المعاصرة تثأر لنفسها .. إن بعض الأماني والمطالب لا تزال تثير بعض الاعتراضات من جانب الرجل مثال ذلك كل ما يتعلق بتخطيط الأسرة والأحوال الشخصية .. ومن ناحية أخرى تبدو مطالب المرأة بلا حدود ، فما هو السبب ؟ ... لقد كان هناك ، لمدة قرون طويلة ، نوعا وهميا من الحكمة الرجولية يحظر على النساء الوصول إلى السلطة ، بل ويحظر عليهن أن يتطلعن إلى ذلك .
هذه أبرز كتابات مفكرين وفلاسفة حول المرأة ، منهم من تناولها بشكل سلبي ومنهم من تناولها بشكل ايجابي ، أترك لك – أخي القارئ – مجال الإطلاع والتأمل والاستفادة .. وربما الرؤية للمرأة بشكل مختلف .
من البديهي أن تدخل عدة عوامل في نشوء صور معينة عن المرأة بالنسبة لكبار الفلاسفة والأدباء والمفكرين ، وهذه البديهية ليست مستقاة من كون أن النساء بالفعل مشتركات في كافة الصفات والأخلاقيات بحيث يتم تقديمهن في قوالب محددة ومن ثم تعميم تلك الصور كحقائق تتصف بها كل النساء ، وإنما لدوران عوامل نشوء تلك الصور حول المفكر أو الأديب نفسه ، فالدخول في عالم هؤلاء الأدباء والكتاب والمفكرين يبرز بشكل أو بآخر مدى تأثر الكاتب في كتاباته حول المرأة بواقع حياته وعلاقته بها ، وهي تشبه قانون : لكل فعل رد فعل ، وبالتالي فإن هذا التنوع في إعطاء صور عن المرأة ونعتها بصفات وألقاب مرده أساسا لعلاقة الكاتب أو الأديب الشخصية بالمرأة وظروف البيئة التي عاشها وتفاعل معها، وليس لأن تلك الصفات تتحلى بها كل نساء العالم .
ينظر البعض إلى المرأة ككتلة متناقضة من المشاعر والأحاسيس ، فيقول فيها بعض الشعراء مثلا أنها الشيطان وفي نفس الوقت هي الملاك ، هي الحمامة الوديعة وفي نفس الوقت هي الحية الرقطاء ، ومن الأمثال والأقوال : النساء حبائل الشيطان ، وما لا يقدر عليه الشيطان تقدر عليه امرأة ، والمرأة كالحرباء تتلون كيفما تشاء ، وطاعتهن تردي العقلاء وتذل الأعزاء ، وقال فيهن لقمان : استعذ بالله من شرار النساء ، وكن من خيارهن على حذر ، وقيل لبقراط : أيّ السباع حسن الصورة ؟ .. فقال : النساء . ورأى امرأة ذهبت إحدى عينيها ، فقال : قد ذهب نصف الشر . ورأى البحر قد حمل امرأة : فقال : شر يجني شرا . ورأى رأس امرأة على شجرة فقال : ليت كل الشجر يثمر مثل هذا الثمر ، ونظرت عجوز من الفلاسفة إلى رجل يريد أن يعرس ، وقد زين داره وزوقها ، وكتب على الباب : لا يدخل علي من هذا الباب شيء من الشر . فقالت له : فامرأتك من أين تدخل ؟.
أما أرسطو فيرى أن ( الطبيعة لم تزود المرأة بأي استعداد عقلي يعتد به ). ويقول جان جاك روسو : النساء على وجه العموم لا هوى لهن في فن من الفنون ، ولم يعرف عنهن النبوغ في أحدها ، وليست العبقرية من نصيبهن .ويرى شوبنهور أن النساء " جنس غير فني "ويقول تولستوي الأديب الروسي في المرأة ( هي أداة الشيطان إنها غبية في جملة حالاتها ولكن الشيطان يعيرها دماغه حين تعمل في طاعته انظر إليها فهي تأتي بالمعجزات من التدبير والنظر البعيد والمثابرة لتفضي من ثم إلى عمل خبيث ).
ومن أدباءنا العرب الذين كتبوا بسلبية عن المرأة الأديب عباس محمود العقاد (1889- 1964) الذي يقول:(تخلص ثم تخون ، وتشتد في الحب ثم تشتد في الكراهية ، وتقول لا وهي تعني نعم ، ولا تزال تنتظر منها شيئا وتفاجئك بغير ما تنتظر ).
ويرى العقاد ( أن اللذة والألم نقيضان في الكائن الحي على الإجمال ولكنهما يمشيان معا في إحساس المرأة ، فتجمع بينهما من حيث تريد ومن حيث لا تريد ، أسعد ساعاتها هي ساعة الولادة في تلك الساعة يغمرها فرح لا يوصف ، إذ هي تنجب ذلك المخلوق الحي الذي صبرت على حمله حتى أسلمته إلى الدنيا راضية مرضية ، ولكنها مع هذا هي أشد ساعات الآلام والأوجاع في جسد الأم الطريح بين الموت والحياة ، فالنقيضان في إحساسها يتلاقيان ويتجاوران ويمتزجان أحيانا فلا ينفصلان ، ومن هنا تراها في غبطة وهي تعاني الألم وترها في ألم وهي تختلج بالسرور ).
ويقول فيها أحمد تيمور : ( كل أسير يفك إلا أسير النساء ، فإنه غير مفكوك ، وكل مالك يملك ، إلا مالك النساء ، فإنه مملوك ، وما استرعين شيئا قط ، إلا ضاع ، ولا استؤمن على سر ، إلا ذاع ، ولا أطقن شرا ، فقصرن عنه ، ولا حوين خيرا فقصرن عنه ، ولا حوين خيرا ، فأبقين منه ).
إن الحديث يطول ويتشعب حول ما يقال عن المرأة وأدوارها الحياتية ، والكتابات التي تناولتها بصورة سلبية تعد بالعشرات ، سواء ما تناولتها من جانب إنساني أي المرأة كإنسان ومحاولة التقليل من شأنها وإبراز قصور جسدي وعقلي لديها، أو حتى من ناحية دينية وتناول الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تطرقت للمرأة بصورة تعزز وتؤكد الإنقاص من مكانتها رغم تكريم الإسلام لها.
أما ما سبق وذكرته من تأثر كتابات أي فيلسوف أو أديب حول المرأة بعلاقته الشخصية بها، ربما يخالفني البعض الرأي ، ولكن قد تكون هذه الحقيقة أو جزء منها ولكني لن أعمم ، ولننظر لبعض الكتاب والمفكرين الذين كانت لديهم كتابات ضد المرأة ، ونطّلع على سيرة حياتهم لنستكشف الحقائق منها .
والحقيقة أنني لا أرى أنه من العدل أن يكون إقرار مكانة المرأة مرتبط بمجرد نزوات شخصية وعلاقات فردية في محيط هؤلاء الرجال لا تسمو لرؤية أعمق وأشمل.
أفكار سلبية عن المرأة العاملة :
إن هذا القصور في النظر إلى المرأة يتعدى جانب النظر لشخصيتها الإنسانية إلى مدى أحقيتها في لعب أدوار اكبر من الاهتمام بشؤون بيتها ،فهناك تشكك لجدوى عملها خارج المنزل ، وهذا التشكك الذي مرت عليه دول وتعدته ، وسعت جاهدة لإشراك المرأة في البناء والتنمية ، لا تزال المرأة العربية لم تحصل على حتى الجزء اليسير منه ، فرغم أن القيادات العربية وأنظمة الحكم شجعتها بقوة للدخول إلى ميدان العمل ومنحتها هامش من حرية الحركة ، وأحقيتها في الاستقلال المادي ، فهو لا يعدو كونه شكليا ، لأنه لم يختلط بأفكار العامة ، وحتى عندما نقول استقلال مادي فهو أيضا استقلال شكلي مرتبط بكون أن المرأة عاملة خارج المنزل وتقبض مرتبا ، ولكن الحقيقة أن هذا العمل قد يكون هو التقييد المولد لها ، فكثيرا ما تكون تلك المرتبات تحت سيطرة أب ، أو زوج ، أو أخ .
هذا الفكر المتغلغل في عقول الشباب حول أفضلية بقاء المرأة في البيت ، فكر أصيل مضت عليه عقود ، وتأصل أكثر مع كتابات تهمش أي أدوار فعلية للمرأة خارج بيتها ، والكتابات والآراء حول هذا الشأن –ويا للعجب – لا تزال متواصلة حتى ونحن في القرن الواحد والعشرين، لو عدنا قليلا إلى الخلف ، سنجد أن وطننا العربي بالفعل شهد انقسامات فكرية حادة حول أحقية المرأة في المشاركة في الشؤون العامة ، وهناك كتابات لكبار الأدباء والمفكرين حول هذه القضية ، فمثلا يرى محمد متولي الشعراوي أن عمل المرأة خارج بيتها قد أفسدها ويقول في ذلك : (أن عمل المرأة أضاع الأجيال من الأولاد ،فافتقد الابن حنان الأم ورعايتها ونشأ في حالة اضطراب نفسي نشهدها الآن في الأجيال الشابة التي بعدت عن حنان الأم ورعايتها وتعليم الأولاد القيم في الحياة ).
ويبرر الشعراوي رفضه لعمل المرأة في قوله :( الواحدة منهن تعود من عملها متعبة ،لتجد أنها لا بد أن تعد الطعام ،وترعى شئون بيتها وأولادها ، فإذا انتهت من هذا كله وعاد الزوج إلى البيت وجد زوجته في غاية الإرهاق ، والزوج له مطالب ، وأهم هذه المطالب أن يجد سكنا في بيته ، وامرأة تستقبله لتمحو من نفسه تعب النهار وشقاءه ، ولكنه بدلا من ذلك يجد زوجة مرهقة ، لا هي سكن ولا هي مستريحة الأعصاب ، ولا هي قادرة على أن تستقبل زوجها بابتسامة .. لو نظرنا إلى عمل المرأة لأشفقنا عليها لأنه في هذه الحالة ستكون مهمتها أصعب وأشق من مهمة الرجل ، لأن عمل الرجل هو السعي في سبيل الرزق ، ثم الراحة بعد ذلك ، أما عمل المرأة فهو سعي في سبيل الرزق ، ثم الحمل وأثناء الحمل المرأة تعاني ).
ويرى الشعراوي في جانب رعاية الطفل أنه " عندما يأتي فهو محتاج إلى الرعاية والعناية،وتغيير لملابسه ،وإعداد الطعام له على فترات قصيرة ، بينما تذهب الأم إلى عملها وقلبها مشغول بطفلها ، لا تستطيع أن تعمل ، ولا أن تفكر تفكيرا سليما، لأنها مشغولة بشيئين ، ثم تعود إلى بيتها لتجد طفلها محتاجا إلى أن تعد له أشياء،وتجد زوجها محتاجا إلى أن تعد له أشياء،وإذا كان لها أولاد آخرون فهم محتاجون أيضا منها إلى أشياء تعدها لهم ".
ورغم كل ما يقال ومنه ما به إشفاق على حال المرأة كما ذكر الشعراوي فالمرأة ترى في ذلك خروج عن وضعية الشراكة بين الرجل والمرأة ، والذي يحفزها لتقوم بأدوارها المنزلية والمجتمعية في صورة الإنسان الكامل الأهلية والمسؤولية .. في صورة النصف المكمل للنصف الآخر والمساوي له وليس الأدنى منه أو التابع له ، امتثالا لقوله تعالى : ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) الأعراف:189
وللكاتب أحمد لطفي السيد رؤية مختلفة ، فهو يرى أن المرأة مالكة للرجل ، فإذا غصب الرجل حق المرأة في المساواة ، وحقها في الانتخاب والتوظف ، فهي ستغصبه حريته ، وتقيم عليه ملكا لا يرحم عند المقدرة ، ولا يجامل عند الحاجة ، ويبرر الكاتب ذلك في أن المرأة تستغل حب الرجل لجمالها سلاحا تنتقم منه على ما فرط في تقدير المساواة بينها وبينه ، وتقتص منه على فكرته السيئة في اعتبارها موضعا للاستمتاع فقط .. فهو يتحكم عليها في المملكة ، وهي تتحكم عليه في البيت ، وهو يتحكم ويظلمها في وضع القوانين ، ولكنها تظلمه بشيء أشق من ذلك بكثير ، وهو مصادرتها له في إحساسها ووجوده الخاص .
إن مثل هذه الرؤية للمرأة في منحها الحرية ، تدور حول حلقة الانتقام والمعاملة بالمثل ، وان الرجل مطالب بمنح المرأة الحرية والمساواة ليس كحق من حقوقها وإنما خوفا من بطشها وانتقامها منه في حياته الخاصة .
ولا يبدو منطقيا من - وجهة نظري - أن يسعى الرجل لمساواة المرأة به ، انطلاقا من هذا الاعتقاد ، الذي لا يحمل أهدافا وخططا محددة .
أما د. عدنان علي رضا النحوي فيقول :أن الرجال والنساء متساويين عندما يقوم كل واحد منهما بأداء المسؤوليات المكلف بها وهي أن تقوم المرأة بدورها كأم وزوجة وترعى وتربي أبنائها ويقوم الرجل بدوره في في القوامة والأبوة .ويقول في ذلك : (مسؤولية الإنسان عظيمة وممتدة مع الحياة والأجيال ولا يستطيع الرجل أن يخوضها وحده ولا المرأة وحدها وإنما هي مسؤولية مشتركة بين الرجل والمرأة حين يقوم الرجل بالتكاليف المنوطة به وتقوم المرأة بالتكاليف المنوطة بها وتظل المرأة امرأة والرجل رجلا حتى تكون النساء بذلك شقائق الرجال ، لا أن يصبحن رجالا ، ولا أن يصبح الرجال نساء ..ففي الحياة الزوجية لا يكون النساء شقائق الرجال إلا إذا كان الرجل زوجا يقوم بمسؤوليات الزوج والقوامة والأبوة ، والمرأة تقوم بمسؤولية الزوجة و الأمومة ، فإذا أخذت المرأة بعض دور الزوج ، والرجل بعض دور الزوجة تحت شعار المساواة وجعلت القوامة لها مثلا ، فلا هي أصبحت رجلا حقيقة ولا مساوية للرجل ، ولا هي قامت بالدور الذي خلقت له – دور الأم – فتضطرب الحياة الزوجية وتفسد ولا تعود النساء بذلك شقائق الرجال )(2).
هذه الصورة التي يقدمها الكاتب عن علاقة الرجل بالمرأة لا تخرج عن ذات النطاق المتكرر في تحديد الأدوار، دون مراعاة لتقلبات الزمن والتغييرات في الحياة المعاصرة.
ولا يعني ذلك أنني مع تبادل الأدوار الحياتية بين الرجل والمرأة ، ولكني مع أحقية المرأة في أن تلعب أدوار أوسع وأعم من أداء الأعمال المنزلية على اعتبار أنها بالفعل قادرة عقليا ونفسيا وجسديا، بل بمعنى أشمل إنسانيا على تحقيقها.
ولنفرض تأطير دور المرأة كمربية للأجيال .. فهل يستنفذ ذلك يومها كاملا ومن ثم عمرها كإنسان يعيش على هذه الأرض ، مع ما ترغب من عطاء ونشاطات متعددة ، ولنفرض ثانيا أننا يجب تأطير عملها في أطار الأمومة .. أليس في ذلك تهميش للإناث بمستوياتهن المختلفة .. فهناك الأم التي كبر أولادها ، وهناك العوانس وما أكثرهن في مجتمعاتنا العربية ، وهناك الأرامل ، وهناك من لا تنجب الأولاد ، وما أكثر عدد من ذكرت .. أين أدوار كل هؤلاء إذا أخذنا عمل المرأة بتلك الصورة الضيقة الأفق .. ومتى سيحين الوقت كي نتطوّر ونتقدّم مع كل هذه الأمم المتقدمة والتي عرفت أن المرأة هي سلاح المستقبل ؟ ولماذا عندما نذكر المرأة الغربية لا نرى إلا المرأة السافرة ولا نرى المرأة العالمة والمهندسة والأديبة والمفكرة ورائدة الفضاء والجيولوجية وسيدة الأعمال وغيرهن .. متى سيحين وقتنا لتنطلق المرأة العربية في بناء مجتمعها إذا كانت لا تزال ملتحفة بلحاف الجهل وتضييق الخناق عليها من كل الجهات ؟؟.
إن الكتابات التي تقدم صور سلبية عن المرأة لا تزال مخزنة في فكر شبابنا ، وتتناولها طواعية الأجيال اللاحقة كأنها عقائد دينية لا محيص عنها ،وقد كان لها دور ضمن أمور أخرى سنناقشها لاحقا في تهميش دور وحياة المرأة .
ولكنني في المقابل لا أنكر وجود كتابات أخرى أكثر نضجا وإيجابية في النظرة للمرأة سجلتها أقلام أبرز وأشهر الكتاب والأدباء سواء عربيا أو عالميا، وعندما يطلع الشخص على هذه الكتابات سواء ما تناولت المرأة بسلبية أو بإيجابية يتساءل في قرارة نفسه ترى لماذا هذا الاختلاف وعدم التوافق ؟.. وهل هذه الكتابات تعكس علاقة كل كاتب بالمرأة ؟.. أي أن هذه الكتابات لا تعطي حقائق علمية بقدر نقلها لعواطف ومشاعر وانفعالات وأفكار هؤلاء الكتاب عن المرأة اعتمادا على تجارب شخصية في محيط بيئي محدود ، أو استجابة لتيارات فكرية معينة ، ثم يقدمها الكاتب لقرائه كحقائق ثابتة وعمومية تتميز بها كافة نساء العالم ، أي أن المرأة التي يلتقيها الكاتب وتلهمه تلك الكتابات هي الصورة المتكررة للمرأة في كل زمان ومكان .. هل يحدث الأمر بهذه الطريقة وبتلك البساطة ؟!.
وجه آخر للمرأة وأفكار ايجابية..
في مقابل الكتاب والأدباء والمفكرين ممن أعطوا أفكارا سلبية عن المرأة ينبري كتاب وأدباء عرب لم يكتفوا بالدفاع عن المرأة وتجميل صورتها ، بل كانوا يستغربون هذا الهجوم على المرأة ، ونعتها بصفات تتوفر أيضا في الرجال ، فمثلا الإمام ابن حزم لا يرى أن هناك فرق بين الرجال والنساء في تعمد الإغواء والعمل كأداة للشيطان إذ يقول :( إني لأسمع قولا كثيرا ممن يقول الوفاء في قمع الشهوات في الرجال دون النساء فأطيل العجب من ذلك وإن لي قول لا أحول عنه : الرجال والنساء في الجنوح إلى هذين الشيئين سواء ، وما رجل عرضت له امرأة جميلة بالحب وطال ذلك ولم يكن ثم من مانع إلا وقع في شرك الشيطان واستهوته المعاصي واستفزه الحرص وتغوله الطمع ، وما امرأة دعاها رجل بمثل هذه الحالة إلا وأمكنته ، حتما مقضيا وحكما نافذا لا محيد عنه البتة ).
من هنا نلحظ الصورة المغايرة في فكر الإمام ابن حزم عن غيره وهم كُثر ، والذين لا يتوقفوا عن تصوير المرأة بأنها أغوتهم لارتكاب الخطايا متناسيين مغامراتهم ومحاولاتهم لإغواء النساء وأدوارهم كأداة في يد الشيطان ، فمثلا ظهر في عصرنا هذا تكوين شبكات وتنظيمات للاتجار بالنساء مما أدى لتفشي البغاء بشكل كبير في العديد من الدول ، وقد كان الظن الساري بين العامة أن النساء هن أساس انتشار هذا البغاء ، ولكن الحقائق تكشّفت بعد أن انتشرت حقيقة سرقت النساء من العديد من الدول كجنوب شرق آسيا وشرق أوروبا وغيرها من الدول ، ويتم نقلهن بسرية تامة إلى أماكن ودول أخرى ،حيث يتعرضن للسجن والاغتصاب تحت التهديد، فهذه التنظيمات يديرها رجال أصحاب نفوذ وما النساء إلا ضحايا الرغبة في إشباع الشهوات التي يبذل لها بعض الرجال أموال طائلة ،ومع ذلك فلا يرون في أنفسهم أداة من أدوات الشيطان .
إن عدم التوافق في النظر إلى المرأة والرجل من حيث نوازع الخير والشر لديهم ، تستحوذ على اهتمام الكثير من الأدباء والكتاب الكبار ، والتي عادة ما يحاولون فيها تقديم المرأة بصورة سلبية ، رغم أن الخير والشر موجود في الإنسان بغض النظر عن جنسه .
عندما نتحدث عن الأدباء والمفكرين الذين قدموا صورة ايجابية عن المرأة ، لا ننسى كبار رجال الفكر والأدب في الوطن العربي كطه حسين والإمام محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين وميخائيل نعيمة وأحمد رامي والمنفلوطي وغيرهم ، والذين سآتي على ذكر مقتطفات من كلماتهم ، وأغلب هؤلاء عاصروا كتّاب آخرين قدموا صور سلبية عن المرأة ، وهو ما يجعلنا نلتمس وجود معركة بين الكتاب حول النظر للمرأة في تلك المرحلة ، وغالبا ما كان الاختلاف بين هؤلاء الكتاب مرتبط بالتيارات الفكرية التي ينتمون إليها ، وهو ما يبرر الكلمات التي كتبتها في مقدمة كتابي من أن " النظر لأدوار المرأة المختلفة في الحياة المعاصرة يتم تناولها كنوع من توجهات الجماعات والأحزاب السياسية والدينية ، فلكل جماعة تصور خاص حول طبيعة التعامل والنظر للمرأة يدخل ضمن أطر مجموعة من تصورات ومعتقدات تلك الجماعة وبالتالي فالإطلاع على هذا التصور يحمل لنا دلالات واسعة عن النظام العام أو الصورة ضمن إطارها الواسع حول مبادئ وأسس تلك الجماعات "- راجع مقدمة الكتاب -.
إذاً فالكتابة عن المرأة عربيا ذات طابع ايدولوجي عميق ، ورغم ارتباطها برؤية مجتمعية فهذا لا يلغي التأثير السيكولوجي للكاتب .. أي ماذا تعني المرأة لشخص الكاتب ومدى تأثيرها على حياته الخاصة منذ طفولته وحتى شيخوخته .
وعندما نتحدث عن الكتّاب العرب الذين قدموا صور ايجابية عن المرأة ، علينا أن نتلمس نوعية هذه الكتابات وأهدافها ، فهي ليست مجرد كلمات رنانة أو مرصوفة بشكل معبر ومؤثر ، بل تحمل فكر وبعد نظر ، لا أقول ذلك على اعتبار أن هذه الكتابات أنصفت المرأة وحسب ، وإنما لأنها تقدم ما فيه الخير للرجل والمرأة على السواء.
وحتى أكون واضحة في مقصدي ، سأقدم مقتطفات من بعض تلك الكتابات المنصفة للمرأة ، مع تعقيبي عليها ، ونبدأ بالإمام محمد عبده والمعروف عنه في كتاباته إبرازه لمدى تكريم الإسلام للمرأة ورفعه من شأنها ، إذ يقول : (هذه الدرجة التي رفع النساء إليها ، لم يرفعهن إليها دين سابق ، ولا شريعة من الشرائع ..بل لم تصل إليها أمّة من الأمم قبل الإسلام ولا بعده .. وهذه الأمم الأوروبية – التي كان من آثار تقدمها في الحضارة والمدنية – أن بالغت في تكريم النساء واحترامهن ، وعنيت بتربيتهن وتعليمهن العلوم والفنون ، لا تزال دون هذه الدرجة التي رفع الإسلام النساء إليها ، ولا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من حق التصرف في مالها بدون إذن زوجها ، وغير ذلك من الحقوق التي منحتها إياها الشريعة الإسلامية من نحو ثلاثة عشر قرنا ونصف ، وقد كانت النساء في أوروبا منذ خمسين سنة بمنزلة الأرقاء في كل شيء، كما كن في عهد الجاهلية - عند العرب- أسوأ حالا ...وكان ارتقاؤها من أثر المدنية الجديدة في القرن الماضي ، وقد صار هؤلاء الإفرنج الذين قصرت مدنيتهم عن شريعتنا في إعلاء شأن النساء يفخرون علينا بل ويرمون بالهمجية في معاملة النساء ، ويزعم الجاهلون منهم بالإسلام أن ما نحن عليه هو أثر ديننا).
ويقول أيضا : (خاطب الله تعالى النساء بالإيمان والمعرفة والأعمال الصالحة في العبادات والمعاملات كما خاطب الرجال ، وجعل لهن عليهم مثل ما جعله لهم عليهن ، وقرن أسمائهن بأسمائهم في آيات كثيرة .. وبايع النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنات كما بايع المؤمنين ، وأمرهن بتعلم الكتاب والحكمة كما أمرهم .. وأجمعت الأمة على ما مضى به الكتاب والسنة من أنهن مجزيات على أعمالهن في الدنيا والآخرة ، أفيجوز بعد هذا كله أن يحرمن من العلم بما عليهن من الواجبات والحقوق لربهن ولبعولتهن ولأولاهن ، ولذي القربى وللأمة والملة ؟ العلم الإجمالي بما يطلب فعله شرط في توجه النفس إليه ، إذ يستحيل أن تتوجه إلى المجهول المطلق ، والعلم التفصيلي به المبين لفائدة فعله ومضرة تركه يعد سببا للعناية بفعله والتوقي من إهماله ..فكيف تسعد في الدنيا أو الآخرة أمة نصفها كالبهائم ، لا يؤدي ما يجب عليه لربه ولا لنفسه ولا لأهله ولا للناس ).
نلحظ من هذه المقتطفات ما أشرت إليه سابقا حيث يربط الإمام محمد عبده بين أحقية المرأة في اكتساب العلم والمعرفة ، وحقيقة أن الإسلام قد أتاح لها ذلك ، ويقال عن الإمام أنه كان شريكا في تأليف الكتاب الشهير "تحرير المرأة" لقاسم أمين في الفصول التي عرضت لرأي الشرع في قضايا الحجاب والزواج والطلاق وتعدد الزوجات ، حيث ورد ذلك في المجلد الأول من كتاب الأعمال الكاملة للإمام والذي وضعه الكاتب محمد عمارة ، وما نلتمسه في كتابات وآراء الأمام محمد عبده أنه يتبع الأسلوب الوسطي ويستند إلى ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية دون تشدد.
أما عبد الرحمن الكواكبي فيقول :( إن لانحلال أخلاقنا سببا مهما يتعلق بالنساء ، وهو تركهن جاهلات على خلاف ما كان عليه أسلافنا ، حيث كان يوجد نساء كأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، التي أخذنا عنها نصف علوم ديننا ، وكمئات من الصحابيات والتابعيات وراويات الحديث والمتفقهات ، فضلا عن ألوف من العالمات والشاعرات اللاتي في وجودهن ، في العهد الأول بدون إنكار ، حجة دامغة ترغم أنف غيرة الذين يزعمون أن جهل النساء أحفظ لعفتهن ...ثم إن ضرر جهل النساء ، وسوء تأثيره في أخلاق البنين والبنات أمر واضح غني عن البيان ).
نلحظ هنا التركيز على تعلم المرأة ، ونجد في أغلب كتابات أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين هذه السمة من تأكيد الأحقية في العلم والذي يعتبر تمهيدا لحصول المرأة العربية على حقوقها والمساواة بينها وبين الرجل .
كما أن هذه الكتابات تعتبر ردا على كتابات أخرى مناهضة لأي دور مجتمعي يجب أن تلعبه المرأة ، ونلمس في الكتابات التي وقفت ضد المرأة أنها ليست قائمة على أسس شرعية ولا واقعية تمليها طبيعة المجتمع ، بل هي مجرد ادعاءات حول شخصية المرأة وطبائعها تم تقديمها كطبيعة سيكولوجية في المرأة رغم تساوي الجنسين في طبائع الخير والشر .
ولنعد لكتابنا العرب ، ومع ابرز من عرف بتحرير المرأة وهو قاسم أمين الذي يقول ( المرأة إنسان مثل الرجل ، لا تختلف عنه في الأعضاء ووظائفها ، ولا في الإحساس ، ولا في الفكر ، ولا في كل ما تقتضيه حقيقة الإنسان من حيث هو إنسان ... فإذا تعلمت المرأة القراءة والكتابة ، واطلعت على أصول الحقائق العلمية ، وعرفت مواقع البلاد ، وأجالت النظر في تاريخ الأمم ، ووقفت على شيء من علم الهيئة والعلوم الطبيعية ، وكانت حياة ذلك كله في نفسها وعرفانها بالعقائد والآداب الدينية ، استعد عقلها لقبول الآراء السليمة ، وطرح الخرافات والأباطيل التي تفت الآن بعقول النساء)- يقصد الكاتب بالآن الفترة التاريخية التي عاشها أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين- .
وقاسم أمين كما أشرت صاحب الكتاب الشهير تحرير المرأة الذي صدر سنة 1899م ، وهذا الكتاب قد أحدث ضجة وانقسامات فكرية في المجتمع المصري والمجتمعات الشرقية ، نظرا للأفكار الجديدة التي قدمها في كتابه حول قضايا المرأة العربية ..قضايا المرأة العربية التي لا تزال إلى الآن تثير الاختلاف والانقسام .
ومن قاسم أمين إلى الكاتب محمد إقبال ( 1873- 1938 ) الذي يقول : ( إن المسلم الذي لا يقدر المرأة ، لم ينل نصيبا من حكمة القرآن ..إن الأمومة رحمة ، ولها إلى النبوة نسبة ، وإنها لكاتبة الأمة .. ومن يفكر في لفظ (الأمة) و(الأم) تبدو له دقائق الحكم .. وقد قال سيد الكائنات صلى الله عليه وسلم : الجنة تحت أقدام الأمهات .. إن الأمة من صلة الأرحام .. والحياة بدونها لا تبلغ المرام .. وبالأمومة تسير الحياة ، وتجلو أسرارها .. وربما تنجب بنت الزارع الجاهلة – التي لا تحسن الكلام ، ولا تبين في الخصام – مسلما نجيبا غيورا ، للحق نصيرا ، إن حياتنا من آلام الأم .. وصبحنا من ظلامها ).
أما الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي (1876 – 1924) صاحب النظرات والعبرات وغيرهما من الأعمال الأدبية ،والمعروف باعتماده التعبير المؤثر والشاعري ، فله مقالة معبرة وقوية المعاني حول المرأة، يقول فيها : ( ليت شعري هل شكرنا المرأة تلك النعمة التي أسدتها إلينا ، وجازيناها بها خيرا ؟ لا .. لأننا إن منحناها شيئا من عواطف قلوبنا ، ومشاعر نفوسنا ، فإننا لا نمنحها أكثر من عواطف الحب والود ، ونظن عليها كل الظن بعاطفة الاحترام والإجلال ، وهي إلى نهلة واحدة ، من موارد الإجلال والإعظام ، أحوج منها إلى شؤبوب متدفق من سماء الحب والغرام .. قد نحنو عليها ونرحمها ، ولكنها رحمة السيد بالعبد ، لا رحمة الصديق بالصديق .. وقد نصفها بالعفة والطهارة ، ومعنى ذلك عندنا أنها عفة الخدر والخباء ، لا عفة النفس والضمير .. وقد نهتم بتعليمها وتخريجها ، لا باعتبار أنها إنسان كامل ، لها الحق في الوصول إلى ذروة الإنسانية التي تريدها ، وفي التمتع بجميع صفاتها ، وخصائصها ، بل لنعهد إليها بوظيفة المربية أو الخادمة أو الممرضة ، أو لنتخذ منها ملهاة لأنفسنا ، ونديما لسمرنا ، ومؤنسا لوحشتنا .. أي أننا ننظر إليها بالعين التي ننظر بها إلى حيواناتنا المنزلية المستأنسة ، لا نسدي إليها من النعم ، ولا نخلع عليها من الحلل، إلا ما ينعكس منظره على مرآة نفوسنا ، فيملؤها غبطة وسرورا .. أنها لا تريد شيئا من ذلك .. إنها لا تريد أن تكون سرية الرجل ، ولا حظيته ولا أداة لهوه ولعبه ، بل صديقته وشريكة حياته .
إنها تفهم معنى الحرية كما يفهمها الرجل ، فيجب أن يكون حظها منها مثل حظه .. أنها لم تخلق من أجل الرجل ، بل من أجل نفسها .. فيجب أن يحترمها الرجل لذاتها ، لا لنفسه .
يجب أن ننفس عنها قليلا من ضائقة سجنها ، لتفهم أن لها كيانا مستقلا ، وحياة ذاتية : وأنها مسئولة عن ذنوبها وآثامها أمام نفسها وضميرها ، لا أمام الرجل .. يجب أن تعيش جو الحرية ، وتستريح رائحته المنعشة الأريجة ، ليستيقظ ضميرها الذي أخمده السجن والاعتقال من رقدته ، وتولى بنفسه محاسبتها على جميع أعمالها ، ومراقبة حركاتها وسكناتها ، فهو أعظم سلطانا ، وأقوى يدا ، من جميع الوازعين والمسيطرين .. يجب أن نحترمها ، لتتعود احترام نفسها ، ومن احترم نفسه فهو أبعد الناس من الزلات والسقطات .
لا يمكن أن تكون العبودية مصدرا للفضيلة ، ولا مدرسة لتربية النفوس على الأخلاق الفاضلة والصفات الكريمة ، إلا إذ صح أن يكون مصدرا للدور ، والموت رغبة في الحياة ، والعدم سلما للوجود .
كما لا أريد أن تتخلع المرأة ، وتستهتر ، وتهيم على رأسها في مجتمعات الرجال وأنديتهم ، وتمزق حجاب الصيانة والعفة المسبل عليها ، وهو المعنى الذي يفهمه البسطاء من العامة عادة من كلمة الحرية عند إضافتها إلى المرأة .. كذلك لا أحب أن تكون مستعمرة ذليلة ، يسلبها مستعمرها كل مادة من مواد حياتها ، ويأخذ عليها كل طريق حتى طريق النظر والتفكير .
وبعد .. فإما أن تكون المرأة مساوية للرجل في عقله وإدراكه ، أو أقل منه ، فإن كانت الأولى ، فليعاشرها معاشرة الصديق للصديق ، والنظير للنظير .. وإن كانت الأخرى ، فليكن شأنه معها شأن المعلم مع تلميذه ، والأب مع أبنه .. أي يعلمها ويدربها ، ويأخذ بيدها ، حتى يرفعها إلى مستواه الذي هو فيه ، أو ما يقرب منه ، ليستطيع أن يجد منها الصديق الوفي ، والعشير الكريم ، والمعلم لا يستعبد تلميذه ولا يستذله ، والأب لا يحتقر ابنه ولا يزدريه ).
برغم أن المنفلوطي عاش في فترة كان أقصى من يطالب بحرية المرأة فيه يتناول بإسهاب جانب الحق في طلب العلم ، فإننا نجد في هذه الكلمات ، أن المنفلوطي تعدى هذا الجانب ، إلى فضاءات أكثر رحابة واتساعا ، إنه الجانب الإنساني بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، أن تعيش المرأة كما يجب أن تكون ..كإنسان .
ومن الذين ناصروا قضية المرأة وكتب تحديدا في مشاركتها في الحياة العامة ، الأديب أحمد حسن الزيات ( 1885- 1968)وهو أيضا من كتاب تلك الحقبة حيث يقول : (... لا يزالون يرون إقصاء المرأة عن الحياة العامة أمراً من أوامر الدّين ، وقاعدة من قواعد الخلق ، فكتبوا إلينا ، وإلى بعض الصحف يفنّدون هذا الرأي بحجج انتزعوها من أحاديث الظنون ، وهواجس الخوف ، ومواضعات العرف .. أما صلة الحجاب بالدّين فقد فرغ من توهينها العلماء من أمد طويل ، وشديد على العقل أن يسلم بأن البدويات والقرويات ، ومعظم الحضريات قد تعدين بسفورهن حدود الله منذ ظهر الإسلام ، ولم يأخذ على أيديهن إمام ولا حاكم حتى اليوم ، وأما الاعتقاد بأن احتجاب المرأة هو الضمان الوحيد لحصانتها وعفتها ، فذلك إفلاس للتربية ، وسوء ظن بالدّين ، وإلقاء بالنفس إلى الرذيلة ، فلو أن الفتاة وهي صغيرة فتحت عينها على القدوة الحسنة ، وأذنها لصوت الواجب ، وقلبها لنور الله ، لوجدت من روحها القوى ، وضميرها النقي حماية من الفتنة ، وعصمة من الغواية .
فالتربية الصحيحة -إذن – هي الضمان الذي لا يضر معه سفور ، ولا ينفع بدونه حجاب ، هي وحدها السبيل المأمون إلى الغاية التي قصدناها من تلك الكلمة ، وما زلنا نعتقد اعتقادا لا ظل عليه للريب أن غاية الكمال الاجتماعي أن يكون الرجل في كفة والمرأة في كفة من ميزان المجتمع . . وتلك هي السنة التي فطرنا عليها الله ، والنظام الذي فرضته علينا الطبيعة ، والواجب الذي يتطلبه منا العدل .. أما المجتمع الأعرج الأشل البليد الخشن ، فغير جدير بالسباق ، ولا باللحاق في هذا العصر الطموح الطائر .
ومجتمعنا بغير المرأة هو ذلك المجتمع .. فهو أعرج لأنه يمشي على رِجل واحدة ، أشل لأنه يعمل بيد واحدة ، بليد لحرمانه حدة العواطف ، وخشن لفقدانه لطافة الأنوثة ).
ويوضح الزيات مقصده من عبارة فقدان لطافة الأنوثة في مثاله ( لاحظ مجلسا من مجالسنا احتشدت فيه الرجال شباباً وشيباً ، فماذا تجد ؟ تجد الحركات العنيفة ، والأصوات الناشزة ، والمناقشات الفجة، والأحاديث الجريئة ، والكلمات المندية ، والذوق العامي ، والإحساس البطيء .. ثم لاحظ هذا المجلس نفسه وقد حضرته امرأة –امرأة واحدة لا غير – تجد الحركات تتزن ، والأصوات ترق ، والمناقشات تنتج ، والأحاديث تحتشم ، والكلمات تنتقى ، والذوق يسمو ، والإحساس يدق .. ذلك لأن الرجل حريص بطبعه على أن يجمل سَمته في عين المرأة ، ويحسن صوته في أذن المرأة ، ويسوغ رأيه في عقل المرأة .. والأخلاق المكتسبة تبتدئ بالتطبع ، وتنتهي إلى الطبع ).
ثم يتحدث عن رؤية الأولون للمرأة وواجب معاصريه اتجاهها فيقول :(جهل الأولون وظيفة المرأة فلم يعرفها إلا متاعا وزينة ، لذلك اشتد تنافسهم فيها ، وتنازعهم عليها ، واستئثارهم بها ، حتى ضربوا دونها الحُجُب ، وأحصوا عليها الأنفاس ، وبثوا حولها العيون ، فجعلوها بذلك قينة لا شريكة ، ومملوكة لا مليكة ..وكان من جريرة ذلك عليها أن وهن جسمها لقلة العمل ، وساء خلقها لفقد الحرية ، وضعف تفكيرها لترك التدبير ، وغفل ضميرها لعدم المسئولية ، فلم تفكر إلا في حُللها وحُليِّها، ومدافعة الضرائر والجواري عن نصيبها من زوجها .. لقد كان للأسلاف ولا شك عذر في إقصاء المرأة عن مكانها من المجتمع وخير أعذارهم أنهم كانوا ينظرون إلى المرأة نظرهم إلى الكنز الثمين ، وكان من عاداتهم في الكنوز أن يدفنوها في الأرض أو يحفظوها في الخزائن ، ذلك أن عمرانهم لم يكن من السعة والتعقد بحيث يطلب نشاط الجنسين جميعا ، فحمل الرجال وحدهم أعباءه وقالوا : كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول
أما نحن ، فبأي عذر نعتذر ، وعلى أي حجة نعتمد ؟ إن الأمم الراقية التي نعاصرها ونصارعها لم تزل تنظر إلى المرأة نظر الأسلاف إليها، ولكنها عرفت كيف تحتفظ بالكنوز ، وتستفيد منها ، فهي تعرضها اليوم في المتاحف أداة علم ومتعة ، وفي المصارف رأس مال وقوة .. وعمراننا قد زخر ، واستبحر حتى اعتدى فيه العمل على الراحة ، والتنافس على العدل ، والقوة على الحق ، وتسلخ الغربي في جهاده الحياة بقوى الطبيعة في السماء والأرض ، ونحن مازال نصفنا قاعدا عن الإنتاج ، عاطلا عن العمل ! .. أنا لا أريد أن ندفع بفتاتنا في أتون الحياة المستعر فتحمل الفأس ، وترفع المطرقة ، وتقعد للبيع ، وتجلس للحُكم ، إنما أريد أن تعطى حريتها الطبيعية في حدود عملها الطبيعي ، وأن تعمل كيف تسهم في شركة الزوجية : فتربي الولد ، وتدير البيت ، وتدير الأسرة ، وتعدل ميزانية الرجل ، وتشعر أنها تعمل متضامنة مع بنات جنسها وبني قومها لتكوين أمة متماسكة الأجزاء ، وثيقة البناء ، لا ينال من وحدتها شهوة من هوى ، ولا نزوة من جهل ، ذلك ما قصدنا إليه في تلك الكلمة الموجزة اليوم بعض البسط لعل فيه جلاء لما اختلج في بعض النفوس من هذا الموضوع ).
من الملاحظ في كلمات الكاتب أحمد حسن الزيات محاولة إبعاد الشبهة حول نواياه ومقصده في كتابات سابقة له متضمنة مشاركة المرأة في العمل والشؤون العامة في المجتمع ، وهو أحد النماذج لوجود معركة فكرية تناولت قضايا المرأة وأحدثت انقسامات بين المفكرين والكتاب ، والتي لا تزال إلى يومنا هذا.. ويأتي تأكيده لعبارات : تربي الولد ، وتدير البيت ، وتدير الأسرة وكلها تسير في فلك واحد حول بقاءها في بيتها ، وهو ما يتناقض مع كل عباراته وكلماته في بداية المقالة ، في عدم حجب المرأة وتهميشها وربطها بشؤون البيت ، وعلى الأرجح فقد واجه الكاتب ضغوط كغيره من الكتاب حول أفكاره اتجاه تحرر المرأة ، وهو ملحوظ تقريبا في أغلب كتابات الأدباء في تلك الفترة .
ولكن تبقى حقيقة ما ساقه الكاتب من أن حجب المرأة لدى الأسلاف ومنعها من العلم والعمل أدى لاهتمام المرأة بالأمور السطحية وتوافه المشكلات ، والتركيز على التزين وعدم إعارة إعمال الفكر أدنى اهتمام ، وهو الذي سار على نهج متواصل لفترات زمنية طويلة ، ثم يأتي البعض ليتهمها بقلة الحيلة وضعف الخبرة ويضربون فيها الأمثال والمقولات ، التي كان لهم أبعد الأثر في تكونها لدى المرأة ، وهو وضع يشبه قيام حاكم بسلب أموال الرعية والتعسف في المعاملة والظلم والتجبر ، وعندما تخرج عنه جماعات وتحاربه يتساءل بكل غباء عن مبرراتهم ..ولنقرأ مقالة للأديب والكاتب العربي زكي مبارك (1891- 1952)بعنوان لا تدللوا النساء يقول فيها: (... فقد ثبت أن الزوجة لا ترد سكوت الزوج عن الملاطفة إلى أسباب من اشتغاله بمتاعب الحياة ، وإنما تردها إلى أسباب من اشتغاله بغيرها من النساء ، والمرأة لا تدرك أن للرجال متاعب غير الاشتغال بالنساء .. وأنا لا ابتدع هذا الرأي ، فقد التفت إليه أقطاب القصص الفرنسي ، وعندهم عبارة يضيفونها إلى الزوجة عند معاتبة الزوج في أتفه الشئون ، وهي عبارة : لم تعد تحبني ... والظاهر أن المرأة تخلّفت عن موكب الحياة ، فهي لا تزال تنظر إلى النعيم بالعين الحيوانية ، ولم تدرك أن النعيم صارت له ألوان من التطلع والتوثب والتسامي إلى المراتب لا تخطر للحيوان في بال .. والحق أن الرقي العقلي والروحي والأدبي والمدني ، الرقي الذي نقل الإنسانية من حال إلى أحوال بصورة تفوق أحلام القدماء بمراحل طوال ، هذا الرقي من صنع الرجل ، وليس به للمرأة نصيب ، وستظل في تأخر إلى الأبد ، مادامت تؤمن بأن النعيم في الحياة الزوجية هو نعيم الحيوان .. ضعوا المرأة حيث وضعتها الطبيعة ، ولا تدللوها أكثر مما فعلتم ، يا أغبياء التمدن الحديث ).
يدعوا الكاتب إلى عدم الالتفاف للنهوض بالمرأة ، في اعتقاد غريب أن التقدم والحضارة في المجتمع سيسير بالرجل وحده ، بينما المرأة التي تخالطه أينما كان ، كأم وزوجة وأخت وحبيبة وابنة ، تظل قابعة في جهلها .. فأي تقدم حضاري وإنساني تتصورونه وهو يسير أعرجاً ؟ .. ثم أن الكاتب يرى أن المرأة متخلفة عن موكب الحياة مع تركيزها على النعيم المادي الحيواني ، بدون إيضاح من السبب الذي أسهم في ذلك – إن كان محقا-.
وبنفس الفكر يقول د.أحمد أمين : ( المرأة من أول عهدها بالحياة كثيرة التفكير في جمالها وقبحها ، كثيرة النظر في المرآة لتطمئن على شكلها ، دائبة على تصفيف شعرها ، وتحلية منظرها ، متطلعة دائما لمعرفة مستقبلها ، كثيرة الحديث عن زواجها ، متخيلة الخيالات العديدة لمن تتزوجه قبل أن تتزوج ، متقصية كل حركة من حركاته بعد أن تتزوج ، وإذا قرأت في كتاب ، فأحب شيء إليها ما يغذي عاطفتها الشخصية ، ويصور حالاتها وحالات مثيلاتها .. أما العالم الخارجي الذي لا يتصل بها من قريب ، وأما المعاني المجردة ، وأما الفلسفة النظرية فأشياء لا تأبه بها ، وقلما تمهر فيها لأنها بعيدة عن شخصها ).
وأسألكم من الذي أسهم في اهتمام المرأة بهذه الأمور السطحية ، والتركيز على ذاتها ، دون هذا العالم بمشكلاته وجمالياته وعلومه – وعادة من تقوم بذلك المرأة الجاهلة -.
ثم أن تكرار قول أن المرأة تهتم بالأمور السطحية وعدم قدرتها على تحمل المسؤوليات خارج منزلها بكل ثقة لا يخرج لدى البعض عن الرغبة في الشعور بالمكانة ، فلدى الشخصيات الضعيفة قليلة الثقة بالنفس تصور معين ، وهو أن المرأة الضعيفة تشعرهم بوجودهم وأهميتهم ، وخروج المرأة للعمل معناه اعتمادها على نفسها ، وقدرتها على تدبير شؤونها التي لطالما كانت حكرا على رجل قريب لها ، أكان أباً أو أخاً أو زوجاً ، وبالتالي زوال تلك الهالة العظيمة التي تشكلت عنهم على مرور الزمن.
ولدى البعض هو نوع من التملك ، أي يرى في المرأة كأحد أملاكه الخاصة ، التي يجب أن تكون تحت سيطرته ، وإذا خرجت لتدبير شؤونها ، فقد تنتقل لأملاك الآخرين المتربصين بها ، كما هم في المقابل يتربصون بأملاك الآخرين ، وبالتالي عليه الحفاظ على هذه الأملاك الشبيهة بالمباني والسيارات الخاصة ، حيث يجب أن تكون موجودة دائما بين جدرانها الأربعة ، وتصوروا معي .. يعتقد الكثير من الرجال أن عودتهم إلى البيت ورؤية الزوجة وهي فعلا موجودة ضمن قطع الأثاث المنزلي من البديهيات التي لا مجال لتوقع غيرها .
وبالنسبة لما ذكره الكاتب في إعطاء المرأة حريتها الطبيعية في حدود عملها الطبيعي ، فبلا أدنى شك هو الوضع الذي تسعى إليه ، أو يجب أن تسعى إليه المرأة ، العمل والمشاركة ضمن نطاق يحترم طبيعتها وإمكاناتها الجسدية ، فهناك أعمال لا تستطيع أو تحتاج المرأة عند أدائها لمجهود كبير ، وفي المقابل أيضا هناك أعمال خاصة بالنساء ليس بإمكان الرجال النجاح فيها بنفس القدر ، ومقابل هذا هناك أعمال في متناول الجنسين وهي التي ترتبط بإعمال العقل والفكر والإدارة والقيادة وغيرها ، وبالتالي يتم التصنيف حسب طاقات وقدرات كل أفراد المجتمع ، بحيث يعمل كل واحد ضمن نطاق قدراته الجسدية والعقلية والنفسية وبما يكفل حفظ الكرامة في سبيل خير الوطن .
إن المقالات التي أعلت من شأن المرأة ونظرت إليها بتقدير واحترام .. مقالات تنظر بوسطية في قضايا المرأة وهو ذاته توجهي الذي أشرت إليه في عدة نقاط ، فلا نحن نرغب بالمرأة أن تكون سافرة وتستعمل كلمة الحرية في سبيل حرية جسدية ، ولا أن تكون حبيسة جدران بيتها .. أنها الحرية الوسط التي تستغل فيها المرأة طاقاتها الفكرية والعملية لخدمة نفسها ومجتمعها ، وأن تأخذ مخالطتها للرجال معنى بعيد عن الإغراء وإنما للمشاركة الفعلية في البناء .
وفي مجال العمل فالمرأة لم تخلق إما معلمة أو ممرضة ، فإن كان بمقدورها أن تبدع في مجال ذي طبيعة تخصصية وذات فائدة عامة ، فما المانع ؟.. ثم كيف علينا أن ننظر لكُم المبدعات في التخصصات العلمية والفكرية والإعلامية والهندسية والإدارية.. إنهن نساء لديهن عقول وطاقات وقدرات مميزة إضافة للرغبة الصادقة والشعور بالمتعة في انجاز هذه الأعمال والتي لا تقل عن متعة ورغبة الرجل في انجازها والعمل بها .. فلما تحرم المرأة نفسها من هذه الاهتمامات في سبيل اعتقادات بالية أرهقت أمهاتنا وجداتنا ، أما آن الأوان لنلغيها من أفكارنا وأفكار رجالنا ؟!.
وعودة مع كتابنا الكبار وآرائهم حول المرأة ، وللأديب الكبير طه حسين (1889- 1773) رأي فيما يتعلق بمسألة المرأة طرحها في عدد من مقالاته إذ يقول : ( ... وإذا عني الرجال في هذه الأيام بمسألة المرأة ، فإنما يعنون بمسألتهم قبل كل شيء ، وإذا كان ما ينالهم وينال أنسالهم من هوى ورقي نتيجة لا زمة لما تكون عليه المرأة من صلاح وفساد ، كيف لا ، والمرأة هي قالب النوع الإنساني يفرغه الله فيه ، ويصوغه على مثاله ، تحمل وليده تسعا ، وترضعه شفعا ، وتربيه طفلا ، وتؤدبه يافعا ، وترشده غلاما وكهلا .. أفلا يكون حقا على الرجل بعد ذلك أن يختص مسألة المرأة بالبحث والتمحيص ؟ ويصفي جوهرها من أخلاط الشك وأدناس الوهم حتى تخلص من كل شائبة ، وتصير من قلبه إلى مكان اليقين ؟ ..بلى ..إن هذا حق لا شك فيه ولا مندوحة عنه ، ولذلك لم نجد بداً من أن نلقي دلونا في الدلاء ، ونضرب مع القائلين بسهم في مسألة المرأة رغبة في تأييد الحق ، والذود عنه ... ليست مسألة المرأة منحصرة في الحجاب والسفور كما يظن بعض الكاتبين ، وإنما ترجع في الحقيقة إلى أصلين كبيرين ، أحدهما :تربية المرأة ، والثاني : حريتها .
ولسنا بقائلين في الأصل الأول شيئا اليوم ، وإنما نرجئه إلى الفصول التالية لأنه يحتاج إلى كلام كثير ، وسنكتب الآن في الأصل الثاني ، فنقول : الحرية المطلقة ظل الحياة المطلقة ، فحيثما وجدت الأولى وجدت الثانية ، ومعنى ذلك أن الحرية المطلقة حق فطري للذكر والأنثى من الحيوان على السواء ، وليس الإنسان إلا فرد من أفراد الحيوان ، وفرعا من فروعه .. فالرجل والمرأة إذن قسيمان في الحرية المطلقة ، والمنفعة وحدها هي التي تحدّ من هذه الحرية العامة بحدود العقل ، والعادة ، والدّين .. فكل ما يقيد حرية الرجل من هذه الحدود يقيد حرية المرأة كذلك .. هذا شيء متفق عليه ، لا معنى للبحث عنه ، والجدال فيه ...وإنما نبحث عما جعل الرجل سلطانا على المرأة وميزة عليها ، وقيدها بقيود خاصة لا ينال الرجل منها شيء .
ونقول ليس لهذه القيود مصدر إلا نظام الأسرة ، فهو الذي اقتضى أن يكون قيامة الرجل على المرأة فيكسب لها القوت ، ويجمع من أسباب الراحة والدعة ما يمكّنها من أن تقضي حاجة المنزل ، وتقوم بتربية البنين والبنات .. وليس من الممكن غير ذلك لأنه بمقتضى الفطرة والطبيعة .. ولكن هل قيام المرأة بحاجة المنزل ، وفروض التربية يقضي بأن تسلب حريتها ، وتقصر في القيود كما تقصر الأمتعة؟.. هذا ما لا يمكن القول به ، بل يجب القول بنقضه ، فإن المرأة إذا لم تكن مطلقة اليد ، حرة في أعمالها وأقوالها ، يستحيل أن تقوم بما يجب عليها حق القيام .. لذلك لم يأت الدين الإسلامي بما يقيد هذه الحرية ، أو يقص جناحها .. وإنما جاء بما يجعل هذه الحرية صالحة نافعة ، يقوّم بها أمر المرأة وتنتظم أحوالها .
ما الذي فرضه الإسلام على المرأة ؟ وما الذي أمرها به ؟ ..فرض عليها العفة كما فرض على الرجل ، وأمرها بأن تتجنب سبيل المظنة كما أمر بذلك الرجل .. عرف أن في المرأة وجمالها فتنة للرجل هي مظنة الفسوق ، فنهاها أن تبدي من زينتها ما تستطيع إخفاءه، وهو غير الوجه واليدين ، فقد قال تعالى : (..ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ..)- النور 31 - .
أباح الإسلام للمرأة أن تخرج من منزلها ، فتغشي مجالس العلم ، ومساجد الصلاة ، ومواضع الرياضة في غير فتنة ولا فسوق ...عرف الإسلام طبيعة الرجل والمرأة أكثر مما نعرف ، فحظر عليها أن تخلو بالأجنبي كما حظر ذلك على الرجل .
من هذا كله تنتج نتيجة لازمة ، وهي أن الإسلام قد جاء للمرأة بأحسن نظام تسمو إليه ، وسنّ لها أقوم سنّة تطمح فيها ، وإنها لو اتبعت ذلك النظام ، واستنت هذه السُّنَّة لبلغت أقصى ما تطلبه وتطمع فيه من الرقي والكمال .
ولنخلص في كلمات قليلة حُكم الإسلام في المرأة وحريتها ، فنقول : لا فرق بين المرأة والرجل في الحرية ، وكلاهما مأمور بمكارم الأخلاق منهي عن مساوئها ، محظور عليه أن يتعرض لمظان الشُبه.. فالمرأة لا تخلو بالأجنبي ، ولا تسافر وحدها ، ولا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى ، ولها بعد ذلك أن تفعل ما تشاء في غير إثم ولا لغو ..هذا حُكم الإسلام ، وهذا رأينا الذي لا نحيد عنه ، ولا نعدل به رأيا آخر).
هذه كلمات أخرى نضيفها لقافلة الكتابات التي أنصفت المرأة العربية ، ورغبت أن تلعب أدوارا أوسع في مجتمعها، كما يريدها أن تكون دينها ، وليس كما يريد الرجعيين ، ولا أولئك الذين لا يتوقفون عن نعتها بالغموض والنقص والذين يرد عليهم الأديب ميخائيل نعيمة (1889- 1988) قائلا : ( ليس من الغرابة في شيء أن نرى في المرأة لغزا يصعب علينا حله ، ولكن الغرابة أن تتكلم عن المرأة كما لو كانت اللغز الوحيد الذي أشكل علينا حلّه ، فكأنما شقيقها الرجل : كتاب مفتوح ، لا يعوزنا لفهمه إلا معرفة القراءة البسيطة .. وكأن كل ما عداها من الكائنات ما بين ناطقة وعجماء ، حية وجامدة ، أمور تافهة يكفينا لفهمها أن نتناول بحاسة من حواسنا الخمس .. لعمري إن ذلك منتهى السذاجة ، إن تكن المرأة لغزا فلأن الرجل لغز ..أو يكُن الإنسان بشطريه : المؤنث والمذكر لغزا ، فلأنه يعيش في عالم كل ما فيه ألغاز .. وأي شيء في هذه الأكوان ليس لغزا ؟..
أهي الأرض بشكلها وحجمها ، ودورانها الأبدي حول محورها ، وحول الشمس ؟
أم هي نباتات الأرض وحيواناتها ومعادنها على اختلاف أصنافها ؟
أم هو جو الأرض بما فيه من مجار سرية للنور والفكر والشعور ؟
أهو الزمان ، وأين يبتدئ وينتهي ؟
أم هو الفضاء بكل ما فيه من عوالم لا تقع تحت حصر ووصف ؟
إنه ليكفيك كلما فكرت في شيء من الأشياء ، أو حدث من الأحداث أن تسأل نفسك : لماذا؟ لتعرف أنك في حضرة لغز من الألغاز .. فأنت لا تدري لماذا تكوّنت الأشياء كما هي ، لا على غير ما هي ، ولماذا تحدث الأحداث حين تحدث ، لا قبل ذلك بدقيقة ، ولا بطرفة عين .. وإن أنت خدعت نفسك ، فتوهمت أنك واقف على أسرار كافة الأشياء والأحداث ، فأنت بالعبادة أولى منك بمطالعة هذا المقال .. أجل ..نحن ألغاز في عالم كله ألغاز ...ولنرجع الآن إلى المرأة ، إنها لغز .. وأي لغز ولكنه لغز إذا أشكل علينا حله اليوم ، فلن يشكل إلى الأبد .. وبالأخص على الذين لا يقفون في نظرهم إلى المرأة عند مظاهرها الخارجية ووظائفها الجسدية .. فهي عند هؤلاء أكثر من أُنثى ، وأكثر من مستودع للبذار البشري ..وفتنتها ليست بما يتأجج في لحمها ودمها من شهوات متضاربة ، بل بما يجيش في كيانها من الشوق إلى الهناءة والسعادة والحظوة بحياة لا تنهزم من أمام الموت بانهزام اللحم والدم ، وهذه كلها لا تكون بغير المعرفة – معرفة النفس التي تفتح الباب لمعرفة كل شيء.
فغاية المرأة من وجودها هي غاية الرجل عين بعين ، ولكنها غاية يتعذر على المرأة إدراكها بغير الرجل ، وعلى الرجل بغير المرأة ، وفي ذلك كُنه اللغز الذي هو الإنسان .. وما هو الإنسان ؟ أيجوز أن ندعو الرجل إنسانا ، وهو لولا المرأة لما كان رجلا ؟ أو ندعو المرأة إنسانا ، وهي لولا الرجل لما كانت امرأة؟إنما المرأة نصف إنسان ، وإنما الرجل نصف إنسان ، أما الإنسان الكامل فلا يكون إلا بالاثنين متحدين ..وإذن ، كان من العبث أن نتكلم عن لغز هو المرأة من غير أن نتكلم في الوقت عينه عن لغز هو الرجل ، وكان من الجهل المطبق ن نحاول حل اللغز الذي هو الإنسان بحل نصفه الواحد دون الآخر.
إن في انشطار الإنسان ، وما دونه من الكائنات الحية إلى شطرين ، أحدهما ذكر والآخر أُنثى، لحكمة تفوق حد التصور .. فالكائن الفرد من نوعه لا نصيب له من الحياة إلا الجمود ، فلا وعي ، ولا سعي ، ولا شهوة ، ولا هدف ، ولا إرادة ، ولا أمل له بالمعرفة ، إذ ليس في الكائنات ما يشبهه ، فيكون له محكا وحافزا ، ويكون مرآة يبصر فيها نفسه فيتأملها ويدرسها ، وهو إذ ذاك أشبه ما يكون بسلك مشحون بالكهرباء السلبية أو الإيجابية ، فلا هو نور ولا هو ظلام ، ولا هو حرارة ، ولا هو برودة . . كذلك كان آدم قبل أن تكون حواء ، أي قبل أن يصبح ذكرا وأنثى ، أما بعد أن انشطر شطرين ، فقد راح كل شطر يفتش عن الآخر ليكتمل به ، فكان احتكاك ، وكان نور ، وكانت حرارة ، وكان سعي ، وكان وعي ، وكانت شهوة ، وكان فكر ، وكان هدف ، وكانت إرادة، وكان شوق وحنين إلى المعرفة ، فإلى الغلبة على الموت ، فإلى الاكتمال ..تلك خاطرة ألقي بها إلى الكتاب والشعراء الذين لا يحلو لهم شيء مثلما يحلو لهم التحدث عن المرأة وألغازها .. فهي عندهم الشيطان وهي الملاك وهي باب التهلكة ومعين اللهام ، وهي التي لا حياة للرجل معها ، ولا حياة له بدونها .. ذاك هرف وافتراء وهراء ، فالمرأة في كل ما تعمل وتشتهي وتفكر ، إنما تفتش عن ذاتها في شطرها الآخر الذي هو الرجل .. وما يقال في المرأة ، يقال في الرجل .. فالاثنان يسعيان أبداً، عن وعي وعن غير وعي ، إلى المعرفة التي يستحيل أن تتم للواحد بدون الآخر ) .
و يقول د. رشاد رشدي (1912- 1983)في مقالة بعنوان المرأة تمنحني القوة والقدرة: (...فالرجل لا يكتمل إلا بالمرأة ، والمرأة لا تكتمل إلا بالرجل ، ولذلك فصورة كل منهما لا تتضح حقيقتها إلا في ضوء الحب ، وفي كل ما كتبت كنت دائما أحاول أن أكشف للمجتمع عن صورته كما أراها ، حتى يراها المجتمع ، ويدرك نفسه .. والعملية في أغلبها تعرية بهدف التعرف على الذات ، وفي اعتقادي أن المرأة هي نصف المجتمع .. والمرأة العربية أنضج عاطفيا من الرجل ، هكذا كنت دائما أراها ، وهكذا ما زلت أراها ، فالرجل ما زال إلى حد كبير يعيش عصر الحريم ، أما المرأة ، فقد تعدت هذه المرحلة ... المرأة باختصار تمنحني القوة على العمل ، والقدرة على اكتشاف الذات ، إنها مخلوق نبيل .. هذه المرأة في اعتقادي ، ولم أصدق يوماً أنها يمكن أن تكون غير ذلك ).
ويؤكد الكاتب مصطفى أمين على الدور الذي تلعبه المرأة في حياة الرجل بقوله :( كل الذين نجحوا في الحياة مدينون لامرأة ما ..قد تكون هي الوحي ، وقد تكون هي القلعة ، وقد تكون هي الإكسير ، وقد تكون هي العذاب .. فبعض الرجال مدينون بما وصلوا إليه لامرأة عذبتهم ، أو جرحتهم ، أو حاولت أن تحطمهم ، فأخرجت أحسن ما فيهم ) .
حيث يرى الكاتب أنه حتى المبدعين والعظماء فالمرأة لعبت دورا في حياتهم أسهمت في إبراز نجاحهم ، وهناك العديد من الأدباء والكتاب الذين رسموا كلمات مؤثرة وجميلة في المرأة اعتمادا على تجاربهم الشخصية معها، وأنصفوها بالتالي من خلال عدم نكرانهم لجميلها معهم ، ومن أمثلة ذلك ما قاله الكاتب يوسف السباعي (1917- 1978) :( لقد كانت المرأة دائما تمثل في حياتي شيئا ثمينا ، أحس له بالتقدير والإجلال بعد أن ترك في حياتي دائما أطيب الأثر .. ولعل هذا يعكس الصورة التي بدت بها في جل كتاباتي ، إن لم يكن كلها ..فأنا أحب المرأة وأحترمها وأُقدرها واُجلها في كل صورة لها ..وفي كل مرحلة من مراحل عمرها .. ولعل تجربتي في الحياة معها كما قلت تفيض بكل أثر طيب ، يدعو إلى هذا الشعور الطيب ). أما الكاتب والروائي الكبير إحسان عبد القدوس (1919- 1990) فيقول في أُمه : (... هي التي صنعتني بيديها .. هي التي أرضعتني .. وهي التي أعدت طعامي .. وهي التي بدلت ثيابي .. وهي التي قامت على مرضي .. وهي التي وضعتني في فراشي .. وهي التي علمتني كيف أخطو وعلمتني كيف أنطق .. وضعتني بيديها كما صنعت مجدها بيديها .. كل يوم من أيام هذا المجد ولك حرف فيه ، وكل خطوة من خطواتها هي وحدها صاحبة الفضل فيه ، وليس لأحد فضل عليها ) .
وللأديب الكبير يوسف إدريس (1927- 1991) بصمة في الكتابة عن المرأة إذ يقول : (...وأنا بادئ ذي بدء ..مع المرأة لأني مع الحياة .. وأن ما أكتبه عن المرأة هو مزيج مما أحب أن تكون عليه ، أو أتمناه لها ، ومما هي فيه فعلا ، بمعنى أن أكتب عنها ..بتفاؤل ).
بينما يقدم د.محمد خفاجي تصوره عن دور المرأة في صنع الرجل في منحه القوة كي يكون رجلا عظيما : ( المرأة سر العبقرية عند الأدباء ، إنها الملهمة والموحية لأروع الآثار الأدبية الخالدة ...لازمت المرأة الرجل في مسيرة الحياة ، فآدم كانت حواء معه في كل مكان ، وظلت المرأة شريكة بيته على طول عصور التاريخ ، ومسار الإنسانية ..إن وراء كل أديب كبير امرأة تلهمه .. وأمامنا امرؤ القيس أمير الشعراء في العصر الجاهلي ، أليست فاطمة هي التي أنطقته بخالدته المشهورة ، معلقته التي يقول في مطلعها :
قَفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
والتي وضعت النهج الجديد للقصيدة الشعرية العربية ، هذا النهج الذي احتذاه الشعراء بعد امرئ القيس .
ويستمر الكاتب في سرد لأسماء شعراء عرب كبار من العصر الجاهلي مرورا بالعصر الأموي والعصر الحديث خلدهم التاريخ وكان ملهمهم الأول والأخير هي المرأة ).
وللأديب أحمد أمين وجهة نظر حول تتطور الدول الغربية إذ يقول : زرت أوروبا فدققت في رقيهم وانحطاطنا ، فقلت :إن رقيهم سببه ميمان : المرأة والمطر .
ويرى الكاتب السوداني الكبير الطيب صالح أن ( الحضارة في رأيي هي أنثى ، وكل ما هو حضاري هو أنثوي )(3).
فالمرأة شاء أم أبى من يسعى لتحجيم دورها في المجتمع ، أساس الحضارة ، ولم تقم حضارة من الحضارات وبقيت آثارها إلا وكان للمرأة دورا فيها ، فالدول التي قامت فقط على أيد الرجال في الأزمنة الماضية ، كانت دول حروب ودمار ، فالرجال من طبيعتهم النزعة إلى العنف والعدوان ، والذي يطغى على السلوك حتى لدى الصبية الصغار ، بدليل ملحوظ في عصرنا الحالي من كثرة الانقسامات والأحزاب والحروب في العديد من الدول التي منعت المرأة من المشاركة في شؤونه العامة، بينما نلحظ أن دولا كالدول الأوروبية لجأت لتعيين النساء في العديد من المناصب القيادية والإدارية وغيرها – نجد ذلك بنسب مرتفعة في الدول الإسكندنافية الراقية والهادئة - لضمان الاستقرار والأمن ، حيث أن من طبيعة النساء الميل إلى توفير الاستقرار والطمأنينة وهدوء الأوضاع ، فالشعور بالأمن مطلب ضروري كي تعيش المرأة مرتاحة البال لأنها أول المتضررين من اندلاع الحروب سواء لوضعها الشخصي أو ما ستفقد من الأبناء ، ونحن لا نجد أسماء النساء تظهر في مجتمعات الحروب والدمار وتشكيل العصابات والجماعات ، بينما نجده بارزا بقوة وبشكل ملحوظ في مجتمعات الأمن والاستقرار ، وكمثال على بعدها عن العنف ففي الأفلام الحربية يستطيع مخرج العمل الاستغناء شبه الكلي عن وجود نساء في التمثيل .. لأن بيئة القتل والتدمير ليست بيئتهن .
ويرى الكاتب د.أحمد الشرباصي ( 1918- 1980) أن الرجل هو الذي بدأ بمقاتلة المرأة .. فيقول في ذلك : ( طوال قرون طويلة سيطر عليها ، خوفا من أن يراها تتخلص من روابطه وقيوده ، ونحن لم نكتشف هذه المعركة إلا بعد زمن طويل .. كشفها لنا التاريخ ، فرأيناها معركة تشق مجراها في مسارب تحتية خفية تغطيها معارك أخرى هي معارك الشعوب والجماهير والطبقات، وفهمنا أن معركة الرجل والمرأة لا تقل خطرا عن معارك التحرر الوطني ، والسياسي ، والاقتصادي ...إن دراما الجنسين ، التي أصبحت معروفة اليوم ، لن تتوقف بعد الرقي الذي أحرزته المرأة المعاصرة ، وهنا مكمن خطر جديد ، إن المرأة المعاصرة تثأر لنفسها .. إن بعض الأماني والمطالب لا تزال تثير بعض الاعتراضات من جانب الرجل مثال ذلك كل ما يتعلق بتخطيط الأسرة والأحوال الشخصية .. ومن ناحية أخرى تبدو مطالب المرأة بلا حدود ، فما هو السبب ؟ ... لقد كان هناك ، لمدة قرون طويلة ، نوعا وهميا من الحكمة الرجولية يحظر على النساء الوصول إلى السلطة ، بل ويحظر عليهن أن يتطلعن إلى ذلك .
هذه أبرز كتابات مفكرين وفلاسفة حول المرأة ، منهم من تناولها بشكل سلبي ومنهم من تناولها بشكل ايجابي ، أترك لك – أخي القارئ – مجال الإطلاع والتأمل والاستفادة .. وربما الرؤية للمرأة بشكل مختلف .