ربيع السملالي - بينَ الشّيخ عليّ الطّنطاوي.. ونِزَار قَبَّاني

حينَ أصدرَ الشّاعرُ السّوري نزار قبّاني ديوانه الأوّل (قالتْ لي السّمراء) في سبتمبر سنة 1944م وهو إذّاك طالب في الجامعة، انزعجُ الغيورون من علماء ودعاة دِمشق من جرأة هذا الشّاب الذي أتى بمنكر من القول وفاحشه بدعوى الشّعر الحرّ والإبداع.. فهاجموه ورموه عن قوس واحدة.. لاسيما بعدما علموا أنّ هذا الدّيوان الصّغير قد تلقّفتُه يدُ الطّالبات والطّلبة.. وعكفوا على قراءته وليسَ لهم من الإيمان ما يدفعون به شهوات هذا الشّاب الغرّ الذي يوقظ بأشعاره الماجنة غرائزهم النّائمة.. وكان الشّيخُ الأديبُ عليّ الطّنطاوي رحمه الله من الذين ردّوا عليه بعنف وسخرية لاذعة في مقالة مطوّلة بمجلّة الرّسالة في عدد شهر مارس سنة 1946م عنوانها (كلمات في الأدب).. وممّا جاء فيها:

طُبع في دمشق كتابٌ صغير زاهي الغلاف ناعمه، ملفوف بالورق الشَّفاف الذي تُلَفُّ به علب (الشوكولاتة) في الأعراس، معقود عليه شريط أحمرُ (كالّذي أوجب الفرنسيون -أول العهد باحتلالهم الشام- وضعه في خصور بعضهن ليُعرفنَ به. فيه كلام مطبوع على صفة الشِّعر، فيه أشطار طولها واحد إذا قستها بالسنتيمترات..

يشتمل على وصف ما يكون بين الفاسق القارح والبَغيّ المتمرّسة الوقحة وصفًا واقعيًا، لا خيال فيه، لأن صاحبه ليس بالأديب الواسع الخيال، بل هو مُدلّل غني، عزيز على أبويه، وهو طالب في مدرسة. وقد قرأ كتابه الطّلابُ في مدارسهم والطالبات.

وفي الكتاب -مع ذلك- تجديد في بحور العروض، يختلط فيه البحر البسيط، والبحر الأبيض المتوسط، وتجديد في قواعد النّحو لأنَّ النّاس قد ملّوا رفع الفاعل ونصب المفعول، ومضى عليهم ثلاثة آلاف سنة وهم يقيمون عليه، فلم يكن بدُّ من هذا التجديد..

ومع ذلك فقد قرأنا في الجرائد من نحو شهر أنَّ صاحب هذا الكتاب قد دُعي إلى محطّة الإذاعة في القاهرة ليذيع منها شعره، رغبةً منهم بنشر الأدب السوري وتوثيقًا للتعاون الثقافي بين الأقطار العربية.

وإذا نزلت بهذا الأسلوب دركة أخرى، وجعلت الموضوع كله في وصف بنات (المحل العمومي) وما يكونُ منهن وصفًا سافرًا مُفصَّلًا، جاء معك ديوان (قالت لي السمراء) لنزار قباني الذي صدر في دمشق منذ سنتين! (1)

وبما أنّ نزارًا كان يضيقُ بالنّقد والنّقاد ويكرههم كراهية شديدة تخرجه في كثير من الأحيان عن طوره واتّزانه، فقد كتبَ فصلا هجوميا على الشيخ علي الطّنطاوي في سيرته الذّاتية المسماة (قصّتي مع الشّعر) عنونَ له بــ(قالت لي السّمراء) ص:87 فما بعدها وكتب تحته:

وفي جوّ هذه الإنكشارية الشّعرية نشرتُ مجموعتي الشّعرية الأولى (قالت لي السمراء) في أيلول سبتمر سنة 1944 م نشرتُها من مصروف جيبي، وكانت الطبعة الأولى منها 300 نسخة فقط.. لأن ميزانيّتي كطالب لم تكُن تسمح بأكثر.

وبلحظة تحرَّك التاريخ ضدّي.. وتحرَّك التاريخيون. رفضوا الكتاب جملةً وتفصيلًا. رفضوا عنوانه، ورفضوا مضمونَهُ، ورفضوا حتى لون ورقه.. وصورة غلافه..

هاجموني بشراسَة وحشٍ مطعون.. كان لحمي يومئذ طريًّا.. وسكاكينُهم حادّة.. وابتدَأت حفلة الرجم..

ففي عدد شهر مارس 1946 من مجلة (الرّسالة) المصرية كتب الشيخ علي الطنطاوي عنّي وعن كتابي الكلام الدمويّ التالي: …وساقَ كلام الشيخ الذي سُقته آنفا ثمّ قال:

هذا نموذج مُصغّر لواحد من الخَناجر التي اُستعمِلت لقتلي.. وصوتٌ واحدٌ من أصوات القبيلة التي تحلّقت حولي، ترقصُ رقصةَ الموت، وتقرع الطبول، وتتلذذ بأكل لحمي نيّئًا.

وإذا كنتُ قد نجوت من هذا الاحتفال البربريّ بقدرة قادر، فإنّ الحروق، والرضوض، والكَدَمات، جعلتني أكثر تمسّكًا بخشبة صليبي، وأكثر إدراكًا للعلاقة العضوية التي تربطُ الإبداع بالموت.. والكتابة بالاستشهاد..(2)

قال ربيع: يا لجرأته وغروره وإعجابه بنفسه.. فإنّ النّاظر في ديوانه هذا الصّغير -إذا جاز لنا أن نسمّيه ديوانا- فإنّه لا يجد فيه إلا العلاقات العاطفية التي تكون بين الذّكر والأنثى وإيقاظ الغرائز والتّحريض على الفساد، وكذلك في دواوينه الثلاثة التي أتت بعد هذا. وشهرته لم تأتِ بسبب أنّه مبدع أو شاعر فحل.. كلاّ بل لأنّه كان جريئًا لحدّ الوقاحة في خوض غمار الأحاديث ذات الطّابع الجنسي المثير الفاضح.. فقصيدته (نهداكِ) على سبيل المثال ما هي إلا دفع المراهقين والمراهقات إلى هذا المستنقع الوعر الذي يصعب انتشالهم منه إذا غرقوا في أوحاله، وقد كان وصف الشّيخ الطنطاوي صادقًا جدّا حين قال (يشتمل على وصف ما يكون بين الفاسق القارح والبَغيّ المتمرّسة الوقحة وصفًا واقعيًا، لا خيال فيه، لأن صاحبه ليس بالأديب الواسع الخيال)..

ثمّ يأتي بعد ذلك المتعصّبون له العاشقون لمجونه ليقولوا إنّه شاعر المرأة، وهو الذي دافع عن تحريرها من أغلال التّقاليد وسجن المجتمع.. إنّه نَسِيجُ وَحْدِه.. إنّه شاعر دمشق بدون منازع..

ولكي لا يقول لنا أحد إنّ الشّيخ علي الطنطاوي توجّهه إسلامي وهو فقيه ولا يجوز للفقيه أن يتكلّم في الإبداع وما على ذلك من أمثال هذه الشّنشنة التي نعرفها من أخزم، أسوق كلامًا لصديقه الشّاعر والكاتب السّوري شوقي بغدادي يقول:

(باتت الكتابة عن نزار قباني موضوعًا شائكًا، ذلك لأنّ عُشّاق نزار يُطلقون سهامهم فورًا على من يتجرّأ على ذكر بعض السّلبيات في شعره… كيف يُقال إنّه شاعر دمشق الأوحد الذي تغنى بمدينته أفضل من أي شاعر آخر؟

كيف نصدّق هذه المزاعم بعد قصيدته الشهيرة (خبز وحشيش وقمر) التي أثارت ضجّة كبيرة ساخطة على الشاعر الذي يهزأ بأهل دمشق حين يُمارسون تقاليدهم الجميلة، في التواصل مع الطبيعة، كصعودهم إلى سفح (قاسيون) ليلة يكون القمر بدرًا مُكتملًا، فيشربون الشاي ويأكلون المأكولات الخفيفة ويضحكون ويتعارفون بمودّة واضحة مُشتركة بين العائلات القريبة بعضًا من بعض، في تلك الجُليسة القمرية الرائعة بعيدين كل البعد عن تناول المخدرات كما يتهمهم نزار في قصيدته تلك، إذ من المعروف أن الشّوام (الدمشقيين) يكرهون المخدرات.

لا يا نزار… نزار الذي أحببته ولا أزال أحبه، بالرغم من مآخذي عليه، فإنه على كل حال شاعر مُجدد موهوب حقًا. ولكن الحق يجب أن يقال: إن الموهبة وحدها ليست كفارة لأحد حين يستولي عليه الطّيش أو الغرور)..(3).

وفي الختام أحبّ أن أذكّر أنّ مقالتي هذه ليس هدفها إظهار ما لدى نزار من كوارث وبوائق بين ثنايا شعره، فبحمد الله قد تصدّى له ولأشعاره التي فيها مساس بالدّين وبالله سبحانه وتعالى نقّاد وعلماء كثيرون، ولكنّني أردت أن أظهر الوجه المشرق للعلاّمة الأديب الأريب علي الطّنطاوي الذي قضى عمره كلّه في الدّفاع عن المجتمع المسلم وما ينبغي أن يكون عليه من أخلاق فاضلة، والتّحذير من أمثال هذه النّتوءات التي تعترض طريقه بين الفينة والأخرى.. فهو نموذج للعالم العامل الذي يقارع أهل الباطل في كلّ ميدان من ميادين المعرفة، وفي كلّ حقل من حقول الثّقافة والأدب، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على تلك الثّقافة الواسعة التي كان يتمتّع بها رحمه الله.




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- انظر مقالة الشيخ علي في كتابه (فصول في الثّقافة والأدب) ص 236 -237، ط دار المنارة/دار ابن حزم.
2- قصّتي مع الشّعر ص لنزار قباني ص 87-88-89.
3- مقالة بمجلة العربي عدد 684 ص:140.
 
أعلى