نقوس المهدي
كاتب
الغزل كلام في الهوى بين النساء ومحادثتهن ومراودتهن، هكذا تحدده المعاجم في احد معانيه الأولية. إنه تودد يترجم المشاعر ويوصلها، باستدارة والتفاف على اللغة، ومن هنا تأتي سحرية الكلمة، من حيث علاقاتها الاشتقاقية بالمغزل الذي يدور، إنه هكذا استعمال مثير للغة، وانتخاب عاشق لألفاظها الأرقّ، وانتقاء باذخ لجواهرها الرائعة.
قصد إبلاغ اللوعة وشديد الهيام. وقليلة هي قصائد الشعر منذ الجاهلية، وعلى امتداد تاريخ الشعرية العربية الكلاسية، التي تخلو من رقيق الشعر الغزلي الذي تدبج به القصائد والذي يسمى تشبيبا، ناهينا عن الانتشار الشديد للغزل كغرض محوري يشمل قصائد برمتها، انطلاقا من العصر الأموي.
وفي هذا العصر (نقصد العصر الأموي) نشأ الغزل العذري في بادية الحجاز ونجد، عكس صنوه الإباحي الذي عرفته الحواضر[1]، وكان أهل البادية الحجازية أميل، بحكم نمط عيشهم، إلى حياة روحية تكرست مع تشبعهم بتعاليم الإسلام، ومثاليته السامية، واستوثقت منهم التقوى التي لم يتحصلها بالقدر نفسه أهل المدن، فانصرفوا إلى أنفسهم متأملين، فجعلوها أرق وأقرب إلى العفة، ومن ثم كان شعرهم أولى بهذه الصفة، فاتشح بالعذرية، ثم تطهر ليشبب بأعلى السمات الخلقية، وأعذبها، فكان غزل كثير منهم عذريا خالصا.
وإذن يكاد يتفق غالبية الباحثين على هذه المعطيات، التي يقدمها تاريخ الأدب كحقائق، مدعمة بوثائق تاريخية، وقياسات منطقية معقولة، وهي قياسات أفضت إلى أحكام لا يمكن التشكيك في كثير من نتائجها عند زمرة من الدارسين، الذين انشغلوا بتلك العلاقات الإسقاطية بين وقائع تاريخية، وحقائق نصية منبتة في متن ديوان العرب، في تناغم مع اختيار منهجي قائم على استثمار نظرية الانعكاس الماركسية، أو المنهج التاريخي اللانصوني (نسبة إلى غوستاف لانصون). غير أن قراءات نقدية أخرى عدلت من زاوية النظر، لتقارب مسألة الغزل العذري على نحو مختلف، يقوض كثيرا من النتائج التي كان الاطمئنان إليها جزءا من الاشتغال النقدي لمدة طويلة.
ومن هذه الدراسات الفارقة كتاب (سوسيولوجيا الغزل العربي : الشعر العذري نموذجا)، للباحث وعالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب الذي ظهرت طبعته الأولى سنة 1974 باللغة الفرنسية، قبل أن تصدر ترجماتها الأربع[2]، وهو كتاب يسائل كثيرا من الأحكام الثابتة وفق ابستيمي جديد. وتكمن راهنية تقديم قراءة في الاشتغال المنهجي لهذا الكتاب في استمرار قدرته على الحضور القوي، وإمكانية اندماجه بقوة في مشروع الدراسات الثقافية، والتحليل الثقافي، بوصفه خطابا نقديا مهد لهذا المشروع الذي يحظى بالمتابعة الهامة في أيامنا، فكتاب الطاهر لبيب يتميز بمرونته المنهجية ومكنة صاحبه في اجتراح آليات متقدمة في أجرأة البنيوية التكوينية تدمغه بصبغة تكاد تلتصق به، وتضيف كثيرا إلى ما قدمه لوسيان غولدمان، ولوكاتش المنظران الأولان لهذا المنهج.
1) القصدية الفارقة:
يؤكد الطاهر لبيب في مقدمة كتابه، أن غايته الأساس أن يسائل ويطرح الإشكالات أكثر من مما يمكن أن يقدمه من أجوبة، إنه يرمي إلى نوع من المشاكسة المنهجية، إذ يعتبر الأدب العربي مفتقدا لحس الإشكالية، التي تجعله يشكك في كثير من الإثباتات الراسخة والتي تنافح الإمكانات النقدية الجديدة. ويشير أيضا إلى أن مشكلة النقد هي نزوعه نحو فكرة (التقويم) القائم على اجتزاء منتخبات نصية تناسب أحكامه المسبقة، أو استلهامه البارد لآراء بعض المستشرقين إيهاما (بتجديد منهجي).
والحقيقة أن الطاهر لبيب، يعتبر هذه الاجتهادات محض نقدات، وهي تسمية تعتور موصوفها وتقع في درجة أقل من تسمية النقد، وكانت تطلق على الآراء النقدية للقدامى، وخطراتهم. وهي عموما لا تسمو نحو الدقة المنهجية، التي يقترحها في كتابه. ومنه فإن إشارته السابقة تتضمن وعدا ضمنيا، بأن ما مقتربه يسعى إلى القطع مع تلك الخطرات أو الوسائط المدرسية كما سماها. ومن ثم فإننا يمكن أن نقف على غايتين مركزيتين :
*الأولى أن الكتاب يسعى إلى فحص منهج النقاد التقليديين الذي تناولوا بالدرس ظاهرة الغزل العذري.
*الثانية، أنه يقدم إجراء منهجيا جديدا،، يفضي إلى نتائج مغايرة تحظى بالمقبولية العلمية والدقة الضرورية.
إن الأمر يتعلق إذن، باجتراح منهجي جديد يسير في طريقه إلى النص وشاعره، مع العودة التي تجعله قادرا على الظفر بحقيقة النص وإضاءة عن صاحبه، ومشكلة المناهج والخطرات النقدية أنها تتجه 'مباشرة لملاقاة الشاعر'[3]. وهو ما يحاول تجازوه والنأي عن خوارمه. وبالتالي فهو مشروع نقدي طموح يستلهم الجديد في المنهج.
2) سحرية المفهوم النقدي:
القارئ لكتاب الطاهر لبيب، يلمس الحضور القوي لمفاهيم نقدية، يكاد الانزياح الدلالي يصير جزءا من سماتها، وهي مفاهيم لا تختلف كثيرا عن تلك التي نجدها في كتابات تخييلية خالصة كالأدب، وهذا الحرص مرتبط بطبيعة الاشتغال المنهجي عند الطاهر لبيب، الذي يرى أن مقاربته ينبغي أن تند عن تقديم تطبيق ' تقني' للمنهج؛ بل أًن ْيستنفر الإمكانات التأويلية الممكنة، بما لا يقدم، احتراسا، أحكاما بروكستية أو نتائج قسرية، في انسجام مع الحركية التي يفرضها البذخ التخييلي للخطاب المقارَب.
هكذا نجد الباب الأول من الكتاب موسوما بالجوهر، الذي يشير من خلاله إلى عماد الدراسة ومنطلقها النظري (الابستيمي)، المتحدد في علاقة اللغة العربية بالحياة الجنسية، التي تصّعد عبر اللغة؛ بالرغم من أنها سابقة عليها، إذ يكاد الإيروسي يحضر في اللغة بشكل لافت في ألفاظ الشعر، ديوان العرب الأوحد، الأمر الذي حذد بنساء رفيعات في مقامهن الاجتماعي في الحقبة الأموية إلى الارتباط جنسيا بشعر الشاعر لا الشاعر ذاته، إذ تحل الكلمة محل صاحبها. ويحضر الإيروسي في مفاهيم البلاغة العربية، إذ غالبيتها مشتق من حقل الجنس، ومنه مفهوم التضمين الذي يفيد الطمر في الأرض، والذي يقع في مقابل التخريج الذي يفيد معنى الإخصاب، والأمر يحيل إلى عملية جنسية كاملة تحدث إخصابا هو نتاج فعل إيروسي، ناهينا عن مفهوم المطابقة الذي يستدعي صورة الجنسين المختلفين (الذكر والأنثى) القابلين للتطابق. أما في النحو، فالمذكر يقدم على المؤنث ويُشَرًّف بالقياس إليه عند النحاة. وفي القرآن الكريم نجد أن كلمة الصوم يقترن فيها حفظ اللسان بحفظ الفرج. وصوم مريم كان أن لا تكلم إنسيا. كما أن المثال القرآني يقدم قصة يوسف عليه السلام مع غواية زليخا، ضمن ثنائية الحركة والسكون، فسكونية يوسف (الذكر) المؤقتة كانت السبيل في خلاصه ونجاحه وتفوقه ليصير عزيز مصر بعد صبر وينفك من غوايات الأنثى، أما حركية زليخا (الأنثى) فأدت إلى سكونية دائمة ( الفشل في إشباع رغبتها والاعتراف بخطلها).
معنى هذا الكلام أن التذكير يحتل مرتبة سنية في اللسان العربي، وهو أقوى من المؤنث بالنظر إلى ما يحوزه من أناة، وحركية، وقدرة على التحكم في غرائزه. وترتبط هذه الفرضية بإمكانية أن يكون الاشتغال على مكون اللسان مدخلا لفهم الشعر العذري واستكناه خصائصه. ويقوم هذا المدخل على ضرورة النظر إلى البنـــية التي تعني العلاقات بين مجموعة من العناصر الضرورية التي تكون شبكة من العلاقات، في ارتباطها بالدلالة، أي الكون الأدبي بوصفه بنية كلية لها ارتباط بالواقع، مع استبعاد نظرية الانعكاس الماركسية القائمة على علاقات إسقاطية بين العالم الواقعي والإبداع الشعري. فالتصوير الشعري، كما قال شيلر في مراسلته مع غوته، لا يسعه أن يتوافق مع الواقع(ص34). والشعر العربي نفسه قام على المبالغة، وعند العرب فأعذب الشعر أكذبه (ص35). ومنه فإن الأدب يغير في الواقع ولا يمتثل له كلية دون القلق الذي يولده السؤال. وهنا يكون الطاهر لبيب قد نسج علاقة جديدة بين البنية بمفهومها البنيوي المعروف، وبين الدلالة التي تنتج عنها رموز تدلل على دلالات تبدعها الزمرة الاجتماعية، التي يتكلم الشاعر في الغالب بلسانها، بل إنها تعد الشاعر الوحيد الموجود حقيقة (ص38).
إن مفهوم الزمرة الاجتماعية، عند لبيب، يحيل على الجماعة المتحكمة في توجه الشاعر، وهي لا تحيل على بعد جغرافي بقدر كونها نسقا من العلاقات ذات الدلالة يستند إليها أفراد الزمرة في تأويل علاقاتهم مع الآخرين، وقد كانت الصائغ لتصور الشاعر الملحمي (الفارس المغوار)، الذي تسكنه صورة الموت، كما هو عند عنترة الذي يصف خصمه بالقوة والأخلاق قبل أن يعالجه بطعنة سريعة في سادية مغرقة يبدع في جعلها بهية التصوير، تبرز تلذذه بصناعة الموت، والموت عنده دون المجد عار. أما في العصر الإسلامي، فصار الموت سبيلا للبهجة الخالدة (الشهادة)، أما في العصر في الأموي، فإن الزمرة العذرية فأبدلت سلطة الموت بسلطة الحب المطلقة، وقد الحب العذري كونا رمزيا، ولم يكن انعكاسا مباشرا للقطاع الديني، لأنه يستند إلى قطاع الزمرة العذرية، التي لها علاقاتها ونسقها الخاص.
والزمرة العذرية مهمشة اجتماعيا، وملاحقة سياسيا، فالشاعر العذري مرفوض من قبيلة محبوبته، ومهدد من قبل السلطة، لكنه مع ذلك يتشح بالعفة، برغم جنونه كما هي حال قيس بن الملوح، والعاشق للحبيبة الواحدة، والمتماهي كلية معها، لأنه يعتبر أن ذات الشريك هي ذاته، وتلبية متطلباتها هي تلبية لمتطلبات الذات. وفي الكون العذري يتحدى الشاعر السلطة، لكنه يتذلل لمحبوبته، فالتذلل تملك ثان وقوة (ص84). وضمنه أيضا يشبع الرغبة عن طريق الإعراض عن الزواج (الإشباع الإيروسي) بالابتعاد عن المحبوبة والنأي، اختيارا أو قسرا، عنها.
والغريب أن الشعراء العذريين سيعانون من اليتم المضاعف، حين سينمي النقاد العرب القدامى تهميشا أكبر لهم، ولشاعريتهم، فلا نجد ذكرا لهم في كتاب مهم كالشعر والشعراء لابن قتيبة، أو عند ناقد متأخر كالباقلاني. وقد يكون لذلك ارتباط باشتغالهم اللغوي، القائم على إعادة النظر في التشريف المطلق للمذكر في اللسان العربي المنغرس عميقا في ديوان العرب.
) التجـــاوز المنهــــجي:
نقصد بالتجاوز المنهجي، القفزة التي بموجبها نستعيض عن نتيجة ثابتة، بفرضيات أخرى، تفضي إلى نتائج جديدة، وذات مقبولية. وحين نعود إلى كتاب الطاهر لبيب نلفاه، يقدم هذه النتيجة الثابتة في خطرات النقاد التقليديين الكلاسية، وتقول هذه النتيجة (أن الشعراء العذريين مجموعة من ذوي العفة الذين تشربوا بالإسلام على نحو عميق، بحيث صاروا من الوجهة الدينية، أكثر الشعراء (امتثالية)، والدليل على ذلك، كما يقال، يتغنون بحب قصي، ويبتعدون عن تحقيق مآثر جنسية محظورة). ص : 6.
والواضح أن هذه النتيجة تمتح من تصور ثيولوجي خالص يمثل مرجعيتها الأكيدة، المكونة من الدين الإسلامي والنظرة الخلقية، والتي تربط بشكل انعكاسي بين تأثر الشعراء بالدين الإسلامي، وبين ظهور الشعراء العذريين، مما جعل شعرهم أبعد عن الفحش والحسية والفجور، وأقرب إلى استحضار مبادئ الدين واحترامها. وهي نتيجة لا يقبلها الطاهر لبيب، إذ أن فحصه لهذه النتيجة أفضى به إلى نتائج غير متوقعة، ومخالفة جذريا لما سبق أن تلقاه، ومفاد هذه النتيجة الجديدة، الكشف عن الجانب الوظيفي والدال للشعر العذري، بوصفه بنية لغوية، شعرية وذهنية. وهي بنية ذات كثافة دلالية مرتفعة، بالرغم من التهميش الذي عاش فيه العذريون، وهو ما شبهه الطاهر لبيب، استنادا إلى لوفيفر بسقوط النقطة المرجعية، كما هي ممثلة عند التكعيبيين، حيث يكشفون (العذريون) عن دوالهم ورموزهم الخاصة التي لا ترتبط بنسق رمزي مسبق، إذ ليلى وبثينة ولبنى هي رموز عذرية خاصة، تند عن تصنيف النقاد الأخلاقيين.
ومنه يبدو أن الاشتغال المنهجي المقرون بالتغيير في مسألة الابستيمي، هي ما أفضى إلى هذه النتيجة الجديدة، وواضح من خلال الاشتغال المفهومي، ومن خلال إعلان الكاتب نفسه، أن قراءته النقدية، تستثمر البنيوية التكوينية. فما توصل إليه، هي رؤية للعالم مختلفة عن التصور الديني، ومعلوم أن الرؤية للعالم، هي إحدى مفاهيم لوسيان غولدمان، وقبله أستاذه جورج لوكاتش، إضافة إلى مفاهيم البنية الدلالة، والفهم والتفسير.
ويمكن أن نقرأ في هذه ببليوغرافيا الكتاب مؤلف (درجة الصفر في الكتابة 1970 ) حيث الحديث عن فكرة الالتزام السارترية، لحظة الامتداد الأيديولوجي للماركسية، التي قدم بصددها موقفا وسطيا يقول بإمكانية تحقيق الالتزام ضمن الكتابة الأدبية، التي يمكن أن تزاوج بين مسؤولية الشكل واللغة، وبين الالتزام. بمعنى أنه يشير إلى إمكانية أن يقارب النقد العمل الأدبي من جهة أسلوبه ولغته، إضافة إلى علاقته الممكنة مع الشروط الاجتماعية والاقتصادية.
وهذا نفسه الوعي النقدي الذي تبلور، مع البنيوية التكوينية كمنهج يجمع بين هذه المعطيين، بالتنبيه على خصيصة العمل الإبداعي ممثلا في لغته التي أهملتها نظرية الانعكاس، لذا نجد في ثبت المراجع الأساس كتب لوسيان غولدمان (الإله الخفي 1956، ومن أجل سوسيولوجيا الرواية، والعلوم الإنسانية والفلسفة: من أجل بنيوية تكوينية ...)، وأعمال جورج لوكاتش (نظرية الرواية) ومونيي (الشعر والمجتمع). ص187.
وهي كتب مؤسسة للبنيوية التكوينية، والتي يتحدد إجراؤها عند غولدمان من خلال مفاهيم، البنية الدالة: ومفادها أن الأعمال الإنسانية عموما لابد أن تجتمع عناصرها في وحدة شاملة لا يمكن أن تفسر إلا عن طريق المنهج التوليدي الذي يعتمد عمليتي الفهم والتفسير. مفهوم الرؤية للعالم:وتقول إن الأديب لا ينطق في عمله الإبداعي عن الضمير الفردي والهواجس الذاتية؛ ولكنه بحكم انتمائه إلى قطاعات اجتماعية متعددة فإنه يتحدث باسم الضمير الجماعي الذي ينتمي إليه. الفهـــــــــم: وهي عملية عقلية بحث ترمي إلى فهم دلالة النص مع الابتعاد عن الذات والوجدان والشخصي والعاطفي. الشرح أو التفسير: وهي عملية أعم من الفهم وتالية له، وترتبط بالواقع الخارجي (الحياة النفسية للمؤلف، رؤيته للعالم التي يشترك فيها مع فئة اجتماعية محددة).[4]
وهي المفاهيم التي استحضرها الطاهر لبيب، في كتابه مع بعض المرونة، التي تتبدىحين استحضر كتابات بنيوية خالصة مثل كتاب (مقالات في الألسنية العامة) لرومان ياكبسون و(الأدب والدلالة) لتودوروف، واستدمجها في مشروعه النقدي التي تخضع لاشتغال خاص على المفهوم النقدي، تجعله حافا بسحرية اللغة والأسلوب، دون أن تفقد بعدها اللوغوسي الأكيد. فضلا عن التنويع الذي يمكن أن نلمسه في طبيعة المراجع التي تنتمي إلى القسم الخاص (بالحضارة العربية: دراسات تاريخية وسوسيولوجية)، ويضم كتابات المستشرقين كجاك بيرك الذي أشرف على هذه الأطروحة، وكلود كوهن، ولويس بيرنار، وموريس لامبارد ... وغيرهم. إضافة إلى مراجع خاصة بالشعر (تضم كتب شوقي ضيف، وريجيس بلاشير، وأمجد الطرابلسي.) وأخرى تهم مصادر النصوص الشعرية والحكائية (الأصفهاني صاحب الأغاني، ودواوين عنترة، جميل بثنية، وكثير عزة).
وهي تنويعات مهمة تظهر الائتلاف المنهجي، الذي اعتمده الطاهر لبيب، وهو توليف يظهر أن تغيير زاوية النظر هي المحدد المركزي التي أفضت إلى تغيير النتائج التي رسخته القراءات التقليدية، ناهيك عن مرونة الاشتغال المفهومي. وهو اشتغال ركز على استثمار المخزون السحري للمفاهيم الإبداعية، واستدماجها في الجهاز المفهومي للبنيوية التكوينية، ومنه نجد مصطلح الكون العذري إشارة خفية للرؤية للعالم، ومحور البنية والدلالة إشارة إلى عمليتي الفهم والتفسير، ومفهوم الاستراتيجية الجنسية إلى اشتغالات النسق بما هو مفهوم بنيوي، فضل عن التماثل والتجاوز، بما هي استراتيجيات منهجية لمقاربة العمل تكشف العيب التحليلي، وتقدم على تجاوزه.
وإذن فكتاب الطاهر لبيب هو كتاب فارق، إذ يكشف كيف تشكل (الغزل العذري) في مرحلة بعينها، العصر الأموي على توجيه التخصيص. وهو فتح لم يكن متيسرا قبلا، وهو ما أشار إليه أندري ميكيل، في تقديمه المثبت في الصفحة الرابعة للغلاف. فضلا عن أثره العلمي الأكيد، الذي أفضى إلى محاولة تتبع هذا المسار قصد إعادة قراءة المنجز الشعري القديم، من وجهة نظر جديدة.
المغرب ـ عبدالرزاق المصباحي
.
قصد إبلاغ اللوعة وشديد الهيام. وقليلة هي قصائد الشعر منذ الجاهلية، وعلى امتداد تاريخ الشعرية العربية الكلاسية، التي تخلو من رقيق الشعر الغزلي الذي تدبج به القصائد والذي يسمى تشبيبا، ناهينا عن الانتشار الشديد للغزل كغرض محوري يشمل قصائد برمتها، انطلاقا من العصر الأموي.
وفي هذا العصر (نقصد العصر الأموي) نشأ الغزل العذري في بادية الحجاز ونجد، عكس صنوه الإباحي الذي عرفته الحواضر[1]، وكان أهل البادية الحجازية أميل، بحكم نمط عيشهم، إلى حياة روحية تكرست مع تشبعهم بتعاليم الإسلام، ومثاليته السامية، واستوثقت منهم التقوى التي لم يتحصلها بالقدر نفسه أهل المدن، فانصرفوا إلى أنفسهم متأملين، فجعلوها أرق وأقرب إلى العفة، ومن ثم كان شعرهم أولى بهذه الصفة، فاتشح بالعذرية، ثم تطهر ليشبب بأعلى السمات الخلقية، وأعذبها، فكان غزل كثير منهم عذريا خالصا.
وإذن يكاد يتفق غالبية الباحثين على هذه المعطيات، التي يقدمها تاريخ الأدب كحقائق، مدعمة بوثائق تاريخية، وقياسات منطقية معقولة، وهي قياسات أفضت إلى أحكام لا يمكن التشكيك في كثير من نتائجها عند زمرة من الدارسين، الذين انشغلوا بتلك العلاقات الإسقاطية بين وقائع تاريخية، وحقائق نصية منبتة في متن ديوان العرب، في تناغم مع اختيار منهجي قائم على استثمار نظرية الانعكاس الماركسية، أو المنهج التاريخي اللانصوني (نسبة إلى غوستاف لانصون). غير أن قراءات نقدية أخرى عدلت من زاوية النظر، لتقارب مسألة الغزل العذري على نحو مختلف، يقوض كثيرا من النتائج التي كان الاطمئنان إليها جزءا من الاشتغال النقدي لمدة طويلة.
ومن هذه الدراسات الفارقة كتاب (سوسيولوجيا الغزل العربي : الشعر العذري نموذجا)، للباحث وعالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب الذي ظهرت طبعته الأولى سنة 1974 باللغة الفرنسية، قبل أن تصدر ترجماتها الأربع[2]، وهو كتاب يسائل كثيرا من الأحكام الثابتة وفق ابستيمي جديد. وتكمن راهنية تقديم قراءة في الاشتغال المنهجي لهذا الكتاب في استمرار قدرته على الحضور القوي، وإمكانية اندماجه بقوة في مشروع الدراسات الثقافية، والتحليل الثقافي، بوصفه خطابا نقديا مهد لهذا المشروع الذي يحظى بالمتابعة الهامة في أيامنا، فكتاب الطاهر لبيب يتميز بمرونته المنهجية ومكنة صاحبه في اجتراح آليات متقدمة في أجرأة البنيوية التكوينية تدمغه بصبغة تكاد تلتصق به، وتضيف كثيرا إلى ما قدمه لوسيان غولدمان، ولوكاتش المنظران الأولان لهذا المنهج.
1) القصدية الفارقة:
يؤكد الطاهر لبيب في مقدمة كتابه، أن غايته الأساس أن يسائل ويطرح الإشكالات أكثر من مما يمكن أن يقدمه من أجوبة، إنه يرمي إلى نوع من المشاكسة المنهجية، إذ يعتبر الأدب العربي مفتقدا لحس الإشكالية، التي تجعله يشكك في كثير من الإثباتات الراسخة والتي تنافح الإمكانات النقدية الجديدة. ويشير أيضا إلى أن مشكلة النقد هي نزوعه نحو فكرة (التقويم) القائم على اجتزاء منتخبات نصية تناسب أحكامه المسبقة، أو استلهامه البارد لآراء بعض المستشرقين إيهاما (بتجديد منهجي).
والحقيقة أن الطاهر لبيب، يعتبر هذه الاجتهادات محض نقدات، وهي تسمية تعتور موصوفها وتقع في درجة أقل من تسمية النقد، وكانت تطلق على الآراء النقدية للقدامى، وخطراتهم. وهي عموما لا تسمو نحو الدقة المنهجية، التي يقترحها في كتابه. ومنه فإن إشارته السابقة تتضمن وعدا ضمنيا، بأن ما مقتربه يسعى إلى القطع مع تلك الخطرات أو الوسائط المدرسية كما سماها. ومن ثم فإننا يمكن أن نقف على غايتين مركزيتين :
*الأولى أن الكتاب يسعى إلى فحص منهج النقاد التقليديين الذي تناولوا بالدرس ظاهرة الغزل العذري.
*الثانية، أنه يقدم إجراء منهجيا جديدا،، يفضي إلى نتائج مغايرة تحظى بالمقبولية العلمية والدقة الضرورية.
إن الأمر يتعلق إذن، باجتراح منهجي جديد يسير في طريقه إلى النص وشاعره، مع العودة التي تجعله قادرا على الظفر بحقيقة النص وإضاءة عن صاحبه، ومشكلة المناهج والخطرات النقدية أنها تتجه 'مباشرة لملاقاة الشاعر'[3]. وهو ما يحاول تجازوه والنأي عن خوارمه. وبالتالي فهو مشروع نقدي طموح يستلهم الجديد في المنهج.
2) سحرية المفهوم النقدي:
القارئ لكتاب الطاهر لبيب، يلمس الحضور القوي لمفاهيم نقدية، يكاد الانزياح الدلالي يصير جزءا من سماتها، وهي مفاهيم لا تختلف كثيرا عن تلك التي نجدها في كتابات تخييلية خالصة كالأدب، وهذا الحرص مرتبط بطبيعة الاشتغال المنهجي عند الطاهر لبيب، الذي يرى أن مقاربته ينبغي أن تند عن تقديم تطبيق ' تقني' للمنهج؛ بل أًن ْيستنفر الإمكانات التأويلية الممكنة، بما لا يقدم، احتراسا، أحكاما بروكستية أو نتائج قسرية، في انسجام مع الحركية التي يفرضها البذخ التخييلي للخطاب المقارَب.
هكذا نجد الباب الأول من الكتاب موسوما بالجوهر، الذي يشير من خلاله إلى عماد الدراسة ومنطلقها النظري (الابستيمي)، المتحدد في علاقة اللغة العربية بالحياة الجنسية، التي تصّعد عبر اللغة؛ بالرغم من أنها سابقة عليها، إذ يكاد الإيروسي يحضر في اللغة بشكل لافت في ألفاظ الشعر، ديوان العرب الأوحد، الأمر الذي حذد بنساء رفيعات في مقامهن الاجتماعي في الحقبة الأموية إلى الارتباط جنسيا بشعر الشاعر لا الشاعر ذاته، إذ تحل الكلمة محل صاحبها. ويحضر الإيروسي في مفاهيم البلاغة العربية، إذ غالبيتها مشتق من حقل الجنس، ومنه مفهوم التضمين الذي يفيد الطمر في الأرض، والذي يقع في مقابل التخريج الذي يفيد معنى الإخصاب، والأمر يحيل إلى عملية جنسية كاملة تحدث إخصابا هو نتاج فعل إيروسي، ناهينا عن مفهوم المطابقة الذي يستدعي صورة الجنسين المختلفين (الذكر والأنثى) القابلين للتطابق. أما في النحو، فالمذكر يقدم على المؤنث ويُشَرًّف بالقياس إليه عند النحاة. وفي القرآن الكريم نجد أن كلمة الصوم يقترن فيها حفظ اللسان بحفظ الفرج. وصوم مريم كان أن لا تكلم إنسيا. كما أن المثال القرآني يقدم قصة يوسف عليه السلام مع غواية زليخا، ضمن ثنائية الحركة والسكون، فسكونية يوسف (الذكر) المؤقتة كانت السبيل في خلاصه ونجاحه وتفوقه ليصير عزيز مصر بعد صبر وينفك من غوايات الأنثى، أما حركية زليخا (الأنثى) فأدت إلى سكونية دائمة ( الفشل في إشباع رغبتها والاعتراف بخطلها).
معنى هذا الكلام أن التذكير يحتل مرتبة سنية في اللسان العربي، وهو أقوى من المؤنث بالنظر إلى ما يحوزه من أناة، وحركية، وقدرة على التحكم في غرائزه. وترتبط هذه الفرضية بإمكانية أن يكون الاشتغال على مكون اللسان مدخلا لفهم الشعر العذري واستكناه خصائصه. ويقوم هذا المدخل على ضرورة النظر إلى البنـــية التي تعني العلاقات بين مجموعة من العناصر الضرورية التي تكون شبكة من العلاقات، في ارتباطها بالدلالة، أي الكون الأدبي بوصفه بنية كلية لها ارتباط بالواقع، مع استبعاد نظرية الانعكاس الماركسية القائمة على علاقات إسقاطية بين العالم الواقعي والإبداع الشعري. فالتصوير الشعري، كما قال شيلر في مراسلته مع غوته، لا يسعه أن يتوافق مع الواقع(ص34). والشعر العربي نفسه قام على المبالغة، وعند العرب فأعذب الشعر أكذبه (ص35). ومنه فإن الأدب يغير في الواقع ولا يمتثل له كلية دون القلق الذي يولده السؤال. وهنا يكون الطاهر لبيب قد نسج علاقة جديدة بين البنية بمفهومها البنيوي المعروف، وبين الدلالة التي تنتج عنها رموز تدلل على دلالات تبدعها الزمرة الاجتماعية، التي يتكلم الشاعر في الغالب بلسانها، بل إنها تعد الشاعر الوحيد الموجود حقيقة (ص38).
إن مفهوم الزمرة الاجتماعية، عند لبيب، يحيل على الجماعة المتحكمة في توجه الشاعر، وهي لا تحيل على بعد جغرافي بقدر كونها نسقا من العلاقات ذات الدلالة يستند إليها أفراد الزمرة في تأويل علاقاتهم مع الآخرين، وقد كانت الصائغ لتصور الشاعر الملحمي (الفارس المغوار)، الذي تسكنه صورة الموت، كما هو عند عنترة الذي يصف خصمه بالقوة والأخلاق قبل أن يعالجه بطعنة سريعة في سادية مغرقة يبدع في جعلها بهية التصوير، تبرز تلذذه بصناعة الموت، والموت عنده دون المجد عار. أما في العصر الإسلامي، فصار الموت سبيلا للبهجة الخالدة (الشهادة)، أما في العصر في الأموي، فإن الزمرة العذرية فأبدلت سلطة الموت بسلطة الحب المطلقة، وقد الحب العذري كونا رمزيا، ولم يكن انعكاسا مباشرا للقطاع الديني، لأنه يستند إلى قطاع الزمرة العذرية، التي لها علاقاتها ونسقها الخاص.
والزمرة العذرية مهمشة اجتماعيا، وملاحقة سياسيا، فالشاعر العذري مرفوض من قبيلة محبوبته، ومهدد من قبل السلطة، لكنه مع ذلك يتشح بالعفة، برغم جنونه كما هي حال قيس بن الملوح، والعاشق للحبيبة الواحدة، والمتماهي كلية معها، لأنه يعتبر أن ذات الشريك هي ذاته، وتلبية متطلباتها هي تلبية لمتطلبات الذات. وفي الكون العذري يتحدى الشاعر السلطة، لكنه يتذلل لمحبوبته، فالتذلل تملك ثان وقوة (ص84). وضمنه أيضا يشبع الرغبة عن طريق الإعراض عن الزواج (الإشباع الإيروسي) بالابتعاد عن المحبوبة والنأي، اختيارا أو قسرا، عنها.
والغريب أن الشعراء العذريين سيعانون من اليتم المضاعف، حين سينمي النقاد العرب القدامى تهميشا أكبر لهم، ولشاعريتهم، فلا نجد ذكرا لهم في كتاب مهم كالشعر والشعراء لابن قتيبة، أو عند ناقد متأخر كالباقلاني. وقد يكون لذلك ارتباط باشتغالهم اللغوي، القائم على إعادة النظر في التشريف المطلق للمذكر في اللسان العربي المنغرس عميقا في ديوان العرب.
) التجـــاوز المنهــــجي:
نقصد بالتجاوز المنهجي، القفزة التي بموجبها نستعيض عن نتيجة ثابتة، بفرضيات أخرى، تفضي إلى نتائج جديدة، وذات مقبولية. وحين نعود إلى كتاب الطاهر لبيب نلفاه، يقدم هذه النتيجة الثابتة في خطرات النقاد التقليديين الكلاسية، وتقول هذه النتيجة (أن الشعراء العذريين مجموعة من ذوي العفة الذين تشربوا بالإسلام على نحو عميق، بحيث صاروا من الوجهة الدينية، أكثر الشعراء (امتثالية)، والدليل على ذلك، كما يقال، يتغنون بحب قصي، ويبتعدون عن تحقيق مآثر جنسية محظورة). ص : 6.
والواضح أن هذه النتيجة تمتح من تصور ثيولوجي خالص يمثل مرجعيتها الأكيدة، المكونة من الدين الإسلامي والنظرة الخلقية، والتي تربط بشكل انعكاسي بين تأثر الشعراء بالدين الإسلامي، وبين ظهور الشعراء العذريين، مما جعل شعرهم أبعد عن الفحش والحسية والفجور، وأقرب إلى استحضار مبادئ الدين واحترامها. وهي نتيجة لا يقبلها الطاهر لبيب، إذ أن فحصه لهذه النتيجة أفضى به إلى نتائج غير متوقعة، ومخالفة جذريا لما سبق أن تلقاه، ومفاد هذه النتيجة الجديدة، الكشف عن الجانب الوظيفي والدال للشعر العذري، بوصفه بنية لغوية، شعرية وذهنية. وهي بنية ذات كثافة دلالية مرتفعة، بالرغم من التهميش الذي عاش فيه العذريون، وهو ما شبهه الطاهر لبيب، استنادا إلى لوفيفر بسقوط النقطة المرجعية، كما هي ممثلة عند التكعيبيين، حيث يكشفون (العذريون) عن دوالهم ورموزهم الخاصة التي لا ترتبط بنسق رمزي مسبق، إذ ليلى وبثينة ولبنى هي رموز عذرية خاصة، تند عن تصنيف النقاد الأخلاقيين.
ومنه يبدو أن الاشتغال المنهجي المقرون بالتغيير في مسألة الابستيمي، هي ما أفضى إلى هذه النتيجة الجديدة، وواضح من خلال الاشتغال المفهومي، ومن خلال إعلان الكاتب نفسه، أن قراءته النقدية، تستثمر البنيوية التكوينية. فما توصل إليه، هي رؤية للعالم مختلفة عن التصور الديني، ومعلوم أن الرؤية للعالم، هي إحدى مفاهيم لوسيان غولدمان، وقبله أستاذه جورج لوكاتش، إضافة إلى مفاهيم البنية الدلالة، والفهم والتفسير.
ويمكن أن نقرأ في هذه ببليوغرافيا الكتاب مؤلف (درجة الصفر في الكتابة 1970 ) حيث الحديث عن فكرة الالتزام السارترية، لحظة الامتداد الأيديولوجي للماركسية، التي قدم بصددها موقفا وسطيا يقول بإمكانية تحقيق الالتزام ضمن الكتابة الأدبية، التي يمكن أن تزاوج بين مسؤولية الشكل واللغة، وبين الالتزام. بمعنى أنه يشير إلى إمكانية أن يقارب النقد العمل الأدبي من جهة أسلوبه ولغته، إضافة إلى علاقته الممكنة مع الشروط الاجتماعية والاقتصادية.
وهذا نفسه الوعي النقدي الذي تبلور، مع البنيوية التكوينية كمنهج يجمع بين هذه المعطيين، بالتنبيه على خصيصة العمل الإبداعي ممثلا في لغته التي أهملتها نظرية الانعكاس، لذا نجد في ثبت المراجع الأساس كتب لوسيان غولدمان (الإله الخفي 1956، ومن أجل سوسيولوجيا الرواية، والعلوم الإنسانية والفلسفة: من أجل بنيوية تكوينية ...)، وأعمال جورج لوكاتش (نظرية الرواية) ومونيي (الشعر والمجتمع). ص187.
وهي كتب مؤسسة للبنيوية التكوينية، والتي يتحدد إجراؤها عند غولدمان من خلال مفاهيم، البنية الدالة: ومفادها أن الأعمال الإنسانية عموما لابد أن تجتمع عناصرها في وحدة شاملة لا يمكن أن تفسر إلا عن طريق المنهج التوليدي الذي يعتمد عمليتي الفهم والتفسير. مفهوم الرؤية للعالم:وتقول إن الأديب لا ينطق في عمله الإبداعي عن الضمير الفردي والهواجس الذاتية؛ ولكنه بحكم انتمائه إلى قطاعات اجتماعية متعددة فإنه يتحدث باسم الضمير الجماعي الذي ينتمي إليه. الفهـــــــــم: وهي عملية عقلية بحث ترمي إلى فهم دلالة النص مع الابتعاد عن الذات والوجدان والشخصي والعاطفي. الشرح أو التفسير: وهي عملية أعم من الفهم وتالية له، وترتبط بالواقع الخارجي (الحياة النفسية للمؤلف، رؤيته للعالم التي يشترك فيها مع فئة اجتماعية محددة).[4]
وهي المفاهيم التي استحضرها الطاهر لبيب، في كتابه مع بعض المرونة، التي تتبدىحين استحضر كتابات بنيوية خالصة مثل كتاب (مقالات في الألسنية العامة) لرومان ياكبسون و(الأدب والدلالة) لتودوروف، واستدمجها في مشروعه النقدي التي تخضع لاشتغال خاص على المفهوم النقدي، تجعله حافا بسحرية اللغة والأسلوب، دون أن تفقد بعدها اللوغوسي الأكيد. فضلا عن التنويع الذي يمكن أن نلمسه في طبيعة المراجع التي تنتمي إلى القسم الخاص (بالحضارة العربية: دراسات تاريخية وسوسيولوجية)، ويضم كتابات المستشرقين كجاك بيرك الذي أشرف على هذه الأطروحة، وكلود كوهن، ولويس بيرنار، وموريس لامبارد ... وغيرهم. إضافة إلى مراجع خاصة بالشعر (تضم كتب شوقي ضيف، وريجيس بلاشير، وأمجد الطرابلسي.) وأخرى تهم مصادر النصوص الشعرية والحكائية (الأصفهاني صاحب الأغاني، ودواوين عنترة، جميل بثنية، وكثير عزة).
وهي تنويعات مهمة تظهر الائتلاف المنهجي، الذي اعتمده الطاهر لبيب، وهو توليف يظهر أن تغيير زاوية النظر هي المحدد المركزي التي أفضت إلى تغيير النتائج التي رسخته القراءات التقليدية، ناهيك عن مرونة الاشتغال المفهومي. وهو اشتغال ركز على استثمار المخزون السحري للمفاهيم الإبداعية، واستدماجها في الجهاز المفهومي للبنيوية التكوينية، ومنه نجد مصطلح الكون العذري إشارة خفية للرؤية للعالم، ومحور البنية والدلالة إشارة إلى عمليتي الفهم والتفسير، ومفهوم الاستراتيجية الجنسية إلى اشتغالات النسق بما هو مفهوم بنيوي، فضل عن التماثل والتجاوز، بما هي استراتيجيات منهجية لمقاربة العمل تكشف العيب التحليلي، وتقدم على تجاوزه.
وإذن فكتاب الطاهر لبيب هو كتاب فارق، إذ يكشف كيف تشكل (الغزل العذري) في مرحلة بعينها، العصر الأموي على توجيه التخصيص. وهو فتح لم يكن متيسرا قبلا، وهو ما أشار إليه أندري ميكيل، في تقديمه المثبت في الصفحة الرابعة للغلاف. فضلا عن أثره العلمي الأكيد، الذي أفضى إلى محاولة تتبع هذا المسار قصد إعادة قراءة المنجز الشعري القديم، من وجهة نظر جديدة.
المغرب ـ عبدالرزاق المصباحي
.
صورة مفقودة