د
د.محمد عبدالحليم غنيم
بعض الرجال من كبار السن مخيفون، ولكن هذا الرجل جعلنى أشعر بالارتياح منذ البداية .
- ألست أعرفك ؟
ليست هذه أبدا جملة تصلح للتعارف أو التواصل . إنها مجرد سؤال بسيط ، بدا الرجل مألوفا لى ، من المؤكد أننى قد رأيته من قبل ، قلت :
ـ ربما
ـ أنت زوجة مايك كوين . بيتى .
ـ نعم
ـ أنا هارى ، الجميع يدعوننى بولى أو الشرس .اعتدت أن أذهب إلى شارع إكسفير مع زوجك .
بدا صوته عميقا ، وذا جرس رنان ، لذلك تساءلت فى نفسى ماذا لو غنى
ـ مرحبا بولى .
تصافحنا ، كانت يداه ضخمتين ، لكنه صافحنى بلطف ، وسألنى إذا ما كنت أرغب فى مشروب آخر ، قلت بالتأكيد ، لم لا . وتلك كانت البداية ، وهكذا . لكنى سرحت بعيدا !
منذ ثلاثة شهور كنت أنتظر الولادة . أعرف أن الحمل الثانى عادة ما يكون أسرع من الأول ، لذلك قلت لمايك قبل أن يذهب إلى العمل أننى أشعر بأننى سألد هذه الظهيرة ، وأردت منه أن يكون مستعدا للحضور إلى المنزل لكى يأخذنى إلى المستشفى ، وظل هو يقول أكيد أكيد، لا تقلقى بخصوص هذا .و فى حوالى الثانية عشرة ظهرا شعرت بازدياد الطلق ، اتصلت بالشركة الكهربائية ، فقالوا لى أن مايك ليس هنا ، لقد أخذ اليوم إجازة مرضية ، أين كان ، لا أحد يعرف ! استدعيت تاكسى أجرة .
كنت على وشك الوضع دون أن أعرف ، أمسك الدكتور تامركين الطفل إلى أعلى من كاحليه ، وخبطه خبطة جعلته يكح ، ثم يبدأ فى الصراخ ، كان الطفل صغيرا جدا ، رفيعا بوجه أزرق دام وفم واسع مفتوح ، كان طفلى يرتعد بكل أجزاء جسده ويصرخ صراخا متواصلا ، أكانت لحظة غضب ضدى لأنه قد خرج من جسدى . قالت واحدة من الممرضات :
ـ آه .. إنه ولد .
- تومى
كنت قد التقطت هذا الاسم من القبعة ، كل الأسماء التى اقترحتها من قبل لم تكن جيدة فى رأى مايك . رفض أن يسمى الطفل على اسمه ، ورفض أن يسميه على اسم أبيه سان ولا حتى باتريك على اسم أبى . وبالتأكيد رفض أن يسميه جاك على اسم أخى . وهكذا كان تومى .
كنت ما أزال دائخة وشبه فاقدة للوعى ، عندما سمعت الضجة فى المدخل عبر باب غرفتى الثقيل :
ـ أريد أن أرى ابنى .. أوكيه ؟
ثم أضاف صارخاً :
ـ ولابد أن أراه الآن .
اهتزت الحوائط بفعل كل هذا الشخير والصراخ والهبد ، أخبرونى فيما بعد أن مايك دفع بالمقعد الهزاز نحو الطبيب المقيم ، وأن المقعد نزل بهم إلى الأرض حتى جائت الشرطة ، وفى اليوم التالى بعد أن خرج من السجن جاء إلى هنا وهو غير حليق وقذر الثياب ، عيناه حمروان وظل ينتظر رؤية ابنه . ذلك بالفعل ما كان يجب أن يعمله ، ولكننى كنت أحتاج إلى شئ أكثر من ذلك .
بعد يومين أوصلنى مايك وتومى إلى المنزل . حمل هو الحقيبة وحملت أنا تومى ، ووضعت الطفل فى مهد جديد ، ثم دخلت المطبخ ووضعت براد الشاى ، وقال مايك إنه يحتاج إلى الذهاب إلى العمل بعد تناول الشاى . ذهبت إلى غرفة النوم لكى آخذ غفوة سحبت الغطاء والوسادة ، ، وهناك وجدته ، دبوس شعر ، لم يكن لى . إنه لواحدة غيرى . أخذته ، وتسألت ما العمل ؟ هل أضعه مع سكين مايك وشوكته بجوار طبق اللحم والبطاطس ثم أجلس فى مواجهته أراقب تعبيرات وجهه . سأتركه يقول كل الكلام الذى يحاول به أن يتجاهل الموضوع .
مايك وصديقته فى سريري . لماذا هنا ؟ !
بالتأكيد لأنه أحمق ، هذا هو السبب . يتصور أنه يستطيع أن ينجو بفعلته دون عقاب .
ضحكت . ما الذى يجب أن أقوم به جراء فعلته اللعينة هذه ؟
يبكى تومى . نهضت . ذهبت إلى الغرفة الآخرى وأخذته ، كان يرفس بساقيه خارج البطانية ، ويعوى ويحرك يديه وأصابعه الممتلئة مفرودة . حملته إلى المقعد الهزاز ، بالكاد يمسك نفسه من شدة العواء ، فتحت أزرار بلوزتى ألقمته صدرى . هجم تومى على حلمة ثديي ، أبقى عينيه مغلقتين تماماً ، رضع وارتجف لم ينظر لى بعينيه الكبيرتين مثلما كانت تفعل روبرتا قبل أن تموت ، بقيت عيناه مغلقتين بإحكام ، كما لو كان لا يهتم من أكون .وضعته فى سريره من جديد . اتصلت بجليسة أطفال ، لابد أن أخرج من هنا . وهكذا كنت هناك ، عند بار أضواء الميناء ، حيث أتحدث إلى هذا الرجل الكبير هارى أو بولى الآن .
منذ اللحظة الأولى قارنت بينهما ، هارى ذو عضلات بارزة ومايك نحيف ونحيل ، بولى واثق من نفسه ، راس ، ومايك متوتر ونزق ، كأنه ينتظر الركلة الثانية للكرة .
طلب بولى نبيذاً وصوداً ، توقعت منه تماماً أن يشرب النبيذ دفعة واحدة ،ثم يطلب كأسا آخر على الفور. ولكن لا . رفع الشراب ببطء إلى شفتيه وتمهل كما لو كان يستمتع برائحته ، ثم أخذ فى رشفه على مهل . أحببت ذلك البار ، صفوف مرتبة بأناقة لزجاجات الويسكى و الفودكا والجن على الأرفف الزجاجية . الصنابير ذات اللون الكرومى تلمع فى الضوء المعتم . النادل فى قميصه الأبيض ورابطة عنقه السوداء ، والبنطلون الأسود المجعد يقظ ، عيناه مركزتان على الزبائن ، جاهز لإحضار الطلبات الجديدة دون حاجة إلى أن يلفت أحدٌ انتباهه .
ثمة شئ قد حدث لى ، ولكننى متعبة جدأ أو ربما مقتنعة بأن لا أهتم ، فعندى من الهموم ما يكفى .مايك . تزن أمه فى أذنه طوال الوقت ، متهمة إياى بأننى أهملت روبرتا وتركتها تموت .
- هل وقف أبداً مايك بجانبى ؟
لم أعد أريد التفكير فى هذا الموضوع . من الأفضل أن أفكر فى هذا الرجل بولى . فهو مختلف تماما إنه لا يشدد على بعض الكلمات كما يفعل مايك . يريد مايك أن يصفع وجهك بكلماته " أريد أن أرى ابنى . أوكيه ؟ " ليس بولى فى حاجة إلى صفع أى أحد بكلماته . ياربى أنت قادر على كل شئ ، يمكنك أن تتخيل ذلك ؟ رجل بدون حقد .
سألت بولى بصراحة :
ـ أنت متزوج . أليس كذلك ؟
لم يتردد ، لم يرمش ، لم يقل " آه " فقط قال :
ـ نعم
فسألته وأنا أميل إلى الأمام :
ـ فماذا تعمل هنا ؟
ـ ربما الشئ نفسه الذى تعلمينه .
ـ أى شئ ؟
ـ محاولة النسيان
ـ نسيان ماذا ؟
ـ لقد حملت . تزوجنا . وكانت غلطة كبيرة .
ـ خطأ من يا بولى ؟
ـ خطؤنا معا .
لم يدهشنى شئ مما قاله ، لا شئ :
ـ وماذا فعلت عندما ولد ابنك ؟
ـ كنت أجلس فى حجرة الانتظار .
ثم أضاف :
ـ أتطلع إلى أثداء نساء الجزر فى كتاب الجغرافية الوطنية .
ابتسمت ابتسامة عريضة :
ـ ألم تسكر؟
ـ لا
ـ و لم تتشاجر مع الأطباء المقيمين ؟
ـ لا
ـ وبينما زوجتك فى المستشفى ، ألم تأخذ امرأة إلى المنزل وتضاجعها فى سرير زوجتك ؟
اقترب بولى ووضع يده الكبيرة على يدى وهز رأسه :
ـ لا لم أخنها بعد .
ـ لكنك ستفعل
ـ لا أعرف ،هذا يعتمد على ...
ـ على ماذا ؟
ـ على من يطلب منى ذلك .
ـ هل تحتاج إلى أن تكون مطلوباً ؟
ـ قال لى رجل عجوز ذات مرة : "لا تذهب أبداً إلى حيث لمٌ تدعٌ ولا تغتصب دعوة . "
ـ رجل ذكى !
ـ نعم . وقد حصل على كثير من الدعوات .
ـ هل الابن مثل الأب ؟
ـ آمل أن يكون كذلك .
ضحكنا معاً .
اقترب من منضدتنا رجل طويل فى بدلة سوداء ، أومأ إلى بولى ، وانحنى فوقه وتحدث فى أذنه ، أمال بولى رأسه جانباً ، التقطت فقط بعض الكلمات ، لكننى لم أفهم . أومأ بولى ، وغادر الرجل المكان :
ـ لا تقل لى أنك ناشر كتب
ابتسم بولى حتى ظهرت أسنانه البيضاء تماماً :
ـ أوكيه . لن أخبرك .
ـ أنت وشأنك.
أوضح لى بولى أنه لا يهم كيف تحدث الأشياء السيئة ، فالناس دائماً ما ينجحون فى الحصول على ربع دولار هناك . لقد تولى مسئولية تجارة والده . فلم يزد شئ ، فقط بقيت التجارة صغيرة وثابتة .
ـ لكنك لم تسجل شيئاً .
ربت بولى على صدغه بسبابته وقال :
ـ احتفظت بكل ذلك هنا .
سألته :
ـ كم عمر ابنك
ـ ثلاثة أشهر
ـ أنت تمزح .
ـ لا . ثلاثة شهور لقد ولد فى أول مارس .
- يا إلهى ! بالضبط نفس اليوم الذى ولد فيه تومى . يستحق ذلك مشروباً آخر .
أخبر بولى النادل أنه مازال على مايرام .
لقد ولد ابنه وابنى فى يوم واحد . لكن حتى تلك المصادفة الكبيرة لم تدهشنى كثيراً ، مثل كل شئ فى هذا المساء .!
تحدثنا كثيراً ، بولى بصوته العميق الهادئ الذى يتلاءم تماماً مع الهدوء المظلم فى البار . واثق ومتأن ومطمئن ، أخبرونى أنه كان ذات مرة فى قلب دفاع فريق كرة القدم حتى أصيب . اهتز فى مقعده ، وجذب ساقه المصابة . ثمة أثار جراحة بيضاء رقيقة ذائبة عبر ركبته المشعرة . عندئذ توقف بولى عن الكلام ، وبدأ كل منا ينظر إلى الآخر . لا أعرف من أين تدفقت الكلمات ، فقط قلت بصوت عالٍ واضح ، وهادئ فى واقع الأمر :
ـ ابنى الآن مع جليسة الأطفال فى شقتنا ، ولكننى لن أعود إلى هناك أبداً .
أومأ بولى ، وثمة نظرة استحسان على وجهه الوسيم . وبتلك العينين السوداوين الكبيرتين . وبتلك الابتسامة تفهمنى تماماً ، وفهم نفسه أيضا، قال :
ـ تريدين صديقاً .
ـ بالتأكيد .
ـ إذن هيا نذهب إ..
وخزنى جلدى بطريقة غريبة جداً ونحن نسير نحو موقف السيارا ت، فتساءلت فى نفسى :
أكل ذلك حقيقى ؟ أأنا هى أنا ؟ كانت هناك سيارة من ماركة الكاديلاك الجديدة . ماذا غير هذه يقود الناشر ؟ فتح الباب ، دخلت ، الفرش أبيض ناعم ، رائحة الثراء الجديدة ، ركب ، وأدار المحرك ، ثم غادر الموقف فى بطء .
على نحو ما توقعت أن يزيد من سرعة المحرك ، ويجعل الإطارات تصدر صوتا ، ربما توقعت حدوث ذلك ، لأن ذلك ما يمكن أن يفعله مايك لو كان لديه مثل هذه السيارة الكاديلاك البيضاء الجديدة ،غير أن بولى سار بالضبط على سرعة خمس وثلاثين ميلاً فى الساعة ، كما واضح فى عداد السرعة .وعندما وصلنا إلى الطريق السريع زاد السرعة إلى خمسين ميلاً ، بالضبط فى حدود السرعة المسموح بها ولم يزد أبداً عن هذا المعدل طوال الطريق إلى نيويورك.
ــــــــــــــــــ
المؤلف : ( Jhon Palcewesky ) جون بالسويسكى ، كاتب متعدد المواهب والوظائف ، فهو مصور صحفى وموسيقى وناقد مسرح ومحرر بمجلة مكونات الجسم ( ( Corporate كاتب قصة وشاعر ومصور فنون جميلة . ظهرت أعماله فى عديد من الصحف حول العالم وفى المجالات الأكاديمية .
د. محمد عبد الحليم غنيم
.
- ألست أعرفك ؟
ليست هذه أبدا جملة تصلح للتعارف أو التواصل . إنها مجرد سؤال بسيط ، بدا الرجل مألوفا لى ، من المؤكد أننى قد رأيته من قبل ، قلت :
ـ ربما
ـ أنت زوجة مايك كوين . بيتى .
ـ نعم
ـ أنا هارى ، الجميع يدعوننى بولى أو الشرس .اعتدت أن أذهب إلى شارع إكسفير مع زوجك .
بدا صوته عميقا ، وذا جرس رنان ، لذلك تساءلت فى نفسى ماذا لو غنى
ـ مرحبا بولى .
تصافحنا ، كانت يداه ضخمتين ، لكنه صافحنى بلطف ، وسألنى إذا ما كنت أرغب فى مشروب آخر ، قلت بالتأكيد ، لم لا . وتلك كانت البداية ، وهكذا . لكنى سرحت بعيدا !
منذ ثلاثة شهور كنت أنتظر الولادة . أعرف أن الحمل الثانى عادة ما يكون أسرع من الأول ، لذلك قلت لمايك قبل أن يذهب إلى العمل أننى أشعر بأننى سألد هذه الظهيرة ، وأردت منه أن يكون مستعدا للحضور إلى المنزل لكى يأخذنى إلى المستشفى ، وظل هو يقول أكيد أكيد، لا تقلقى بخصوص هذا .و فى حوالى الثانية عشرة ظهرا شعرت بازدياد الطلق ، اتصلت بالشركة الكهربائية ، فقالوا لى أن مايك ليس هنا ، لقد أخذ اليوم إجازة مرضية ، أين كان ، لا أحد يعرف ! استدعيت تاكسى أجرة .
كنت على وشك الوضع دون أن أعرف ، أمسك الدكتور تامركين الطفل إلى أعلى من كاحليه ، وخبطه خبطة جعلته يكح ، ثم يبدأ فى الصراخ ، كان الطفل صغيرا جدا ، رفيعا بوجه أزرق دام وفم واسع مفتوح ، كان طفلى يرتعد بكل أجزاء جسده ويصرخ صراخا متواصلا ، أكانت لحظة غضب ضدى لأنه قد خرج من جسدى . قالت واحدة من الممرضات :
ـ آه .. إنه ولد .
- تومى
كنت قد التقطت هذا الاسم من القبعة ، كل الأسماء التى اقترحتها من قبل لم تكن جيدة فى رأى مايك . رفض أن يسمى الطفل على اسمه ، ورفض أن يسميه على اسم أبيه سان ولا حتى باتريك على اسم أبى . وبالتأكيد رفض أن يسميه جاك على اسم أخى . وهكذا كان تومى .
كنت ما أزال دائخة وشبه فاقدة للوعى ، عندما سمعت الضجة فى المدخل عبر باب غرفتى الثقيل :
ـ أريد أن أرى ابنى .. أوكيه ؟
ثم أضاف صارخاً :
ـ ولابد أن أراه الآن .
اهتزت الحوائط بفعل كل هذا الشخير والصراخ والهبد ، أخبرونى فيما بعد أن مايك دفع بالمقعد الهزاز نحو الطبيب المقيم ، وأن المقعد نزل بهم إلى الأرض حتى جائت الشرطة ، وفى اليوم التالى بعد أن خرج من السجن جاء إلى هنا وهو غير حليق وقذر الثياب ، عيناه حمروان وظل ينتظر رؤية ابنه . ذلك بالفعل ما كان يجب أن يعمله ، ولكننى كنت أحتاج إلى شئ أكثر من ذلك .
بعد يومين أوصلنى مايك وتومى إلى المنزل . حمل هو الحقيبة وحملت أنا تومى ، ووضعت الطفل فى مهد جديد ، ثم دخلت المطبخ ووضعت براد الشاى ، وقال مايك إنه يحتاج إلى الذهاب إلى العمل بعد تناول الشاى . ذهبت إلى غرفة النوم لكى آخذ غفوة سحبت الغطاء والوسادة ، ، وهناك وجدته ، دبوس شعر ، لم يكن لى . إنه لواحدة غيرى . أخذته ، وتسألت ما العمل ؟ هل أضعه مع سكين مايك وشوكته بجوار طبق اللحم والبطاطس ثم أجلس فى مواجهته أراقب تعبيرات وجهه . سأتركه يقول كل الكلام الذى يحاول به أن يتجاهل الموضوع .
مايك وصديقته فى سريري . لماذا هنا ؟ !
بالتأكيد لأنه أحمق ، هذا هو السبب . يتصور أنه يستطيع أن ينجو بفعلته دون عقاب .
ضحكت . ما الذى يجب أن أقوم به جراء فعلته اللعينة هذه ؟
يبكى تومى . نهضت . ذهبت إلى الغرفة الآخرى وأخذته ، كان يرفس بساقيه خارج البطانية ، ويعوى ويحرك يديه وأصابعه الممتلئة مفرودة . حملته إلى المقعد الهزاز ، بالكاد يمسك نفسه من شدة العواء ، فتحت أزرار بلوزتى ألقمته صدرى . هجم تومى على حلمة ثديي ، أبقى عينيه مغلقتين تماماً ، رضع وارتجف لم ينظر لى بعينيه الكبيرتين مثلما كانت تفعل روبرتا قبل أن تموت ، بقيت عيناه مغلقتين بإحكام ، كما لو كان لا يهتم من أكون .وضعته فى سريره من جديد . اتصلت بجليسة أطفال ، لابد أن أخرج من هنا . وهكذا كنت هناك ، عند بار أضواء الميناء ، حيث أتحدث إلى هذا الرجل الكبير هارى أو بولى الآن .
منذ اللحظة الأولى قارنت بينهما ، هارى ذو عضلات بارزة ومايك نحيف ونحيل ، بولى واثق من نفسه ، راس ، ومايك متوتر ونزق ، كأنه ينتظر الركلة الثانية للكرة .
طلب بولى نبيذاً وصوداً ، توقعت منه تماماً أن يشرب النبيذ دفعة واحدة ،ثم يطلب كأسا آخر على الفور. ولكن لا . رفع الشراب ببطء إلى شفتيه وتمهل كما لو كان يستمتع برائحته ، ثم أخذ فى رشفه على مهل . أحببت ذلك البار ، صفوف مرتبة بأناقة لزجاجات الويسكى و الفودكا والجن على الأرفف الزجاجية . الصنابير ذات اللون الكرومى تلمع فى الضوء المعتم . النادل فى قميصه الأبيض ورابطة عنقه السوداء ، والبنطلون الأسود المجعد يقظ ، عيناه مركزتان على الزبائن ، جاهز لإحضار الطلبات الجديدة دون حاجة إلى أن يلفت أحدٌ انتباهه .
ثمة شئ قد حدث لى ، ولكننى متعبة جدأ أو ربما مقتنعة بأن لا أهتم ، فعندى من الهموم ما يكفى .مايك . تزن أمه فى أذنه طوال الوقت ، متهمة إياى بأننى أهملت روبرتا وتركتها تموت .
- هل وقف أبداً مايك بجانبى ؟
لم أعد أريد التفكير فى هذا الموضوع . من الأفضل أن أفكر فى هذا الرجل بولى . فهو مختلف تماما إنه لا يشدد على بعض الكلمات كما يفعل مايك . يريد مايك أن يصفع وجهك بكلماته " أريد أن أرى ابنى . أوكيه ؟ " ليس بولى فى حاجة إلى صفع أى أحد بكلماته . ياربى أنت قادر على كل شئ ، يمكنك أن تتخيل ذلك ؟ رجل بدون حقد .
سألت بولى بصراحة :
ـ أنت متزوج . أليس كذلك ؟
لم يتردد ، لم يرمش ، لم يقل " آه " فقط قال :
ـ نعم
فسألته وأنا أميل إلى الأمام :
ـ فماذا تعمل هنا ؟
ـ ربما الشئ نفسه الذى تعلمينه .
ـ أى شئ ؟
ـ محاولة النسيان
ـ نسيان ماذا ؟
ـ لقد حملت . تزوجنا . وكانت غلطة كبيرة .
ـ خطأ من يا بولى ؟
ـ خطؤنا معا .
لم يدهشنى شئ مما قاله ، لا شئ :
ـ وماذا فعلت عندما ولد ابنك ؟
ـ كنت أجلس فى حجرة الانتظار .
ثم أضاف :
ـ أتطلع إلى أثداء نساء الجزر فى كتاب الجغرافية الوطنية .
ابتسمت ابتسامة عريضة :
ـ ألم تسكر؟
ـ لا
ـ و لم تتشاجر مع الأطباء المقيمين ؟
ـ لا
ـ وبينما زوجتك فى المستشفى ، ألم تأخذ امرأة إلى المنزل وتضاجعها فى سرير زوجتك ؟
اقترب بولى ووضع يده الكبيرة على يدى وهز رأسه :
ـ لا لم أخنها بعد .
ـ لكنك ستفعل
ـ لا أعرف ،هذا يعتمد على ...
ـ على ماذا ؟
ـ على من يطلب منى ذلك .
ـ هل تحتاج إلى أن تكون مطلوباً ؟
ـ قال لى رجل عجوز ذات مرة : "لا تذهب أبداً إلى حيث لمٌ تدعٌ ولا تغتصب دعوة . "
ـ رجل ذكى !
ـ نعم . وقد حصل على كثير من الدعوات .
ـ هل الابن مثل الأب ؟
ـ آمل أن يكون كذلك .
ضحكنا معاً .
اقترب من منضدتنا رجل طويل فى بدلة سوداء ، أومأ إلى بولى ، وانحنى فوقه وتحدث فى أذنه ، أمال بولى رأسه جانباً ، التقطت فقط بعض الكلمات ، لكننى لم أفهم . أومأ بولى ، وغادر الرجل المكان :
ـ لا تقل لى أنك ناشر كتب
ابتسم بولى حتى ظهرت أسنانه البيضاء تماماً :
ـ أوكيه . لن أخبرك .
ـ أنت وشأنك.
أوضح لى بولى أنه لا يهم كيف تحدث الأشياء السيئة ، فالناس دائماً ما ينجحون فى الحصول على ربع دولار هناك . لقد تولى مسئولية تجارة والده . فلم يزد شئ ، فقط بقيت التجارة صغيرة وثابتة .
ـ لكنك لم تسجل شيئاً .
ربت بولى على صدغه بسبابته وقال :
ـ احتفظت بكل ذلك هنا .
سألته :
ـ كم عمر ابنك
ـ ثلاثة أشهر
ـ أنت تمزح .
ـ لا . ثلاثة شهور لقد ولد فى أول مارس .
- يا إلهى ! بالضبط نفس اليوم الذى ولد فيه تومى . يستحق ذلك مشروباً آخر .
أخبر بولى النادل أنه مازال على مايرام .
لقد ولد ابنه وابنى فى يوم واحد . لكن حتى تلك المصادفة الكبيرة لم تدهشنى كثيراً ، مثل كل شئ فى هذا المساء .!
تحدثنا كثيراً ، بولى بصوته العميق الهادئ الذى يتلاءم تماماً مع الهدوء المظلم فى البار . واثق ومتأن ومطمئن ، أخبرونى أنه كان ذات مرة فى قلب دفاع فريق كرة القدم حتى أصيب . اهتز فى مقعده ، وجذب ساقه المصابة . ثمة أثار جراحة بيضاء رقيقة ذائبة عبر ركبته المشعرة . عندئذ توقف بولى عن الكلام ، وبدأ كل منا ينظر إلى الآخر . لا أعرف من أين تدفقت الكلمات ، فقط قلت بصوت عالٍ واضح ، وهادئ فى واقع الأمر :
ـ ابنى الآن مع جليسة الأطفال فى شقتنا ، ولكننى لن أعود إلى هناك أبداً .
أومأ بولى ، وثمة نظرة استحسان على وجهه الوسيم . وبتلك العينين السوداوين الكبيرتين . وبتلك الابتسامة تفهمنى تماماً ، وفهم نفسه أيضا، قال :
ـ تريدين صديقاً .
ـ بالتأكيد .
ـ إذن هيا نذهب إ..
وخزنى جلدى بطريقة غريبة جداً ونحن نسير نحو موقف السيارا ت، فتساءلت فى نفسى :
أكل ذلك حقيقى ؟ أأنا هى أنا ؟ كانت هناك سيارة من ماركة الكاديلاك الجديدة . ماذا غير هذه يقود الناشر ؟ فتح الباب ، دخلت ، الفرش أبيض ناعم ، رائحة الثراء الجديدة ، ركب ، وأدار المحرك ، ثم غادر الموقف فى بطء .
على نحو ما توقعت أن يزيد من سرعة المحرك ، ويجعل الإطارات تصدر صوتا ، ربما توقعت حدوث ذلك ، لأن ذلك ما يمكن أن يفعله مايك لو كان لديه مثل هذه السيارة الكاديلاك البيضاء الجديدة ،غير أن بولى سار بالضبط على سرعة خمس وثلاثين ميلاً فى الساعة ، كما واضح فى عداد السرعة .وعندما وصلنا إلى الطريق السريع زاد السرعة إلى خمسين ميلاً ، بالضبط فى حدود السرعة المسموح بها ولم يزد أبداً عن هذا المعدل طوال الطريق إلى نيويورك.
ــــــــــــــــــ
المؤلف : ( Jhon Palcewesky ) جون بالسويسكى ، كاتب متعدد المواهب والوظائف ، فهو مصور صحفى وموسيقى وناقد مسرح ومحرر بمجلة مكونات الجسم ( ( Corporate كاتب قصة وشاعر ومصور فنون جميلة . ظهرت أعماله فى عديد من الصحف حول العالم وفى المجالات الأكاديمية .
د. محمد عبد الحليم غنيم
.