شاكر مطلق - أسطورةُ "قَدموس" ومأساته

" قدموس – Kadmos " هو ابن الملك " أغينور – Agenor " الذي حكم في آسيا ( لبنان : صيد وصور ) ، وفي رواية أخرى لأسطورة " قدموس " فإنه وأخته " أوروبا " أبناء الملك " فويْنيكس – Foinix " وليس الملك " أغينور " .
أرسله والده برفقة أخيه للبحث عن أخته " أوروبا – Europa " التي خطفها كبير آلهة الإغريق " زيود "( تسويْس –Zeus ) لأنه فتن بجمالها وكان متنكّراً على شكل ثور جميلٍ وديعٍ .
خطفها وطار بها على ظهره فوق البحر ، وحطّ في جزيرة " كريت " حيث أحبها فحملت منه ، فزوّجها من ملك الجزيرة وغاب –كعادته – بحثاً عن مغامرات عشق جديدة مع بنات البشر ، كما فعل مع " غانيميد – Ganymed " التي خطفها وهو متخفٍ على شكل نَسر .
وصل " قدموسُ " إلى بلاد اليونان وزار العديد من مدنها ، وأبدت جميعها التَّرحاب به وقدّمت له حسن الضيافـة لأنه كان يقدّم الخدمات للسكان ويضحي للآلهة ، آلهتهم ،كلّما حلّت مناسبةٌ لذلك . حملَ وعلَّم " قدموسُ " الأبجدية الفينيقية للإغريق .
في تجواله الطويل في بلاد الإغريق بحثاً عن أخته المخطوفة " أوروبا " وصل " قدموسُ " إلى مدينة " دِلفي– Delphi " التي تضم المعبد الشهير والعرّاف الأكثر شهرة في بلادهم . هناك ترجّى الرب " أبوللو – Apollo " – إله الموسيقى – أن يكشف له عن مكان وجود أخته ، فنصحه بأن يتبع خطى البقرة المقدسة ، التي ستُريه المكان الذي سيستقر فيه وينشئ مملكته عليه. توقفت البقرة في موضع يسمى "بووتين - Boeotien "، وهو الموقع الذي قامت عليه مدينة "كادِمِيا –Kadmeia" والكلمة مشتقـّةٌ من اسمه والمعروفة أيضاً بـاسم "طيبة - Theben"، كما سُمّيت مملكة أخيه " كِليكسْ –Kilix" تيمّناً باسمه "كِيليكيا" وكذلك مملكة" فينيقيا " باسم أخيه الآخر " " فويْنيكس – Foinix". أصبح إخوته بعد موتهم قضاةً في العالم السّفليّ .
قبل أن يتسلم " قدموس "مقاليد الحكم في مملكته الجديدة ، كان عليه أن يقتل الأفعى العملاقة المريعة التي تحرس للرب " آريس – Ares " - إله الحرب الجميل الشّرس - النبعَ الوحيد هناك، نبع " آريس " وهذا ما لم يستطعه أحد من قبله وقضوا نحبهم في القتال مع الأفعى .
بما أن " قدموس " كان على علم بدعم الربة " أثينا " له فإنه أقدم على المواجهة وأضعف الأفعى برميها بالحجارة قبل أن يقضي عليها بسيفه . هذا المشهد، مشهد قتل " قدموس " للأفعى، مرسوم على جرّة " Hydria " ومحفوظ في متحف " إرْمِيتاج – Ermitage " الشهير في مدينة ( سانكت بيتَرسْبورغ – لينينغراد سابقاً ) في روسيا ، وهي المدينة الشهيرة التي بناها بطرس الأكبر في أرض المستنقعات على ضفاف نهر " نيفا " .
يصور المشهد ( كغيره من الصور التي حذفت من النص هنا )كيف تتابع مجموعة من الأرباب الحدَث المثير :
في وسط المشهد نرى الخصمين (الأفعى وقدموس المسلح بالسيف) وبينهما تقف ربة الحكمة (أثينا) بخوذتها الشهيرة مستندة إلى الرُّمح ، تحمل في يدها اليمنى إكليلاً من الغار ، وتلتفت نحو " قدموس " الذي تحميه . فوقه في المشهد نرى " نيكه – Nike " تحمل إكليل النصر ، مشيرة إلى انتصار " قدموس " في الصراع المُنـتَظَر. بين الأرباب المشاهير نتعرف على إله البحر " بوزيْدون – Poseidon " من خلال رمحه ذي الرؤوس الثلاثة الذي يستند عليه واضعاً يده اليمنى على خاصرته واقفاً فوق صخرة ، ونرى "هيرميس – Hermes " - ساعي الآلهة - وكذلك " ديميتر – Demeter " –ربة الزراعة – بصولجانها الملكي ، وفي أسفل المشهد إلى اليمين نرى الربة " برسيفون – Persephone " ابنة الإله " ديميتر " تحمل مشعلان " إيلوسينيان " . أمام " قدموس " وتحت أقدام " أثينا " نرى إله اللذة " إيروس – Eros " يضع إكليلاً عند قدمي حورية الماء الخاصة بموقع " طيبة ".
بعد انتصار " قدموس " على الأفعى وقتلها ، أشارت عله " أثينا " بقلع أسنانها ونثرها على الأرض ، حيث منها سينمو سكان " طيبة " (!! ) .كان على " قدموس " ، قبل أن يبدأ حكمه ، أن يعمل بخدمة الرب " آريس " مدة ثمانية أعوام تعويضاً له عن قتل أفعاه . ( يذكرنا هذا بخدمة " يعقوب " – إسرائيل لاحقاً – مدة سبعة أعوام عند والد زوجه المستقبلي للحصول عليها وكانت الابنة الصغرى ، وبعدها أخلف وعده وزوّجه أختها الكبرى وعاد يطالبه بالعمل السّخرة عنده مرة أخرى ليتزوج لاحقاً من الأخت الصغرى التي أحبها ، كما ورد في التوراة ).
بعد أن أنهى " قدموس " ما ترتّب عليه القيام به من عمل سُخرةٍ عند " آريسْ"، أسّس الـ " كادمييا - Kadmeia" - الأكروبوليس - المرتَفع، التي ستنشأ حوله لاحقاً مدينةُ "طيبة" .
بعد أن تصالحا قام "آريس" بتزويجه ابنته " هارمونيا – Harmonia "، من زوجته " أفروديت " ، باحتفال صاخب مهيب، أهدت فيه " أثينا " العروسَ ثوباً رائعاً ، وأهدتها أمها " أفروديت " عقداً ثميناً من صنع " هيفايْستوس – Hephaistos " – إله الحدادة - .
نتج عن هذا الزواج أولاد خمسة: أربع بنات هن "سيميله – Semele "، " أغاوه – Agaue"، "أوْتونويي - Autonoe" والابنة الأخيرة "إنو- Ino" وولد وحيد" بوليدوروس - Polydoros".
كل حياة بناته وجدت نهايةً مأساويّتة فاجعة ، سببها ، مرة أخرى ، حبّ كبير الآلهة " زيود " لابنة " قدموس " من البشر " سيميله " كما أحب قبلها عمتها " أوروبا " وقام بخطفها . أثار هذا الحب ،كالعادة ، غيرة أخته وزوجته الشريرة الربة " هيرا – Hera " التي عانت من نزواته العديدة مع بنات البشر الشيء الكثير ، وقامت بقتل غريمتها " سيميله " بعد أن حمَلت منه بابنهما " ديونيسوس – Dionysos " – باخوس إله اللذة والخمرة والمرح – فأخرجه " زيود " سريعاً من بطن أمه القتيلة و خبّأه في فخذه حيث نما هناك .
عند ولادة الطفل " ديونيسوس " استشاطت " هيرا " غضباً ، وانتقمت من عمته " إينو" التي كانت ترعاه ، وزرعت الشقاق بينها وبين زوجها " أتامانتاس – Atamantas " الذي قتل ابنهما " ليرخوس – Learchos " في ثورة غضب ، فأصيبت أمه بالجنون وألقت بنفسها وابنها الصغير الآخر " ميليكيرتيس – Melikertes " بين ذراعيها من أعالي الصخور إلى البحر فماتا معاً .استقبل البحر جسديهما وعطفت عليهما الآلهة وحولتهما إلى كائنات بحرية أطلقوا عليها اسم " لويْكوتيا - Leukotea" و"بالايْمون – Palaimon". أما الابنة الأخرى " أغاوة " فقد عاقبها " ديونيسوس " بقسوة لرفضها علاقة والدة " زيود " بأمها " سيميله ".
هذه المرحلة المأساوية الدرامية عالجها المسرحي العظيم " أويْريبيديس – Euripides " في عمله " باكْشين – Bakchen ".
بعد انتشار عبادة " ديونيسوس" وطقوسه الحسّية في مناطق عديدة شملت لاحقاً حوض البحر المتوسط كله، جاء مع أتباعه إلى " طيبة " ليبشّر فيها بديانته الجديدة، غير أنه وجد هناك رفضاً من الملك وأمه ، وكان ملك طيبة يومها " بينْـتيوس – Pentheus "، وهو ابن " أغاوة " وزوجها " إيشيوش " ، أي أنه حفيد " قدموس " ، ولاسيما أنه جاء مع أتباعه بشكل بشري جعلهم يشكون بكونه إلهاً ، وكادوا يقبضون عليهم ويزجونهم بالسجن ، خلافاً لما نصح به
" قدموس " – الجد الهرم – وكذلك العراف " تاير يسْياس – Teiresias " فانصرف عنهم حانقاً ، وقرر " ديونيسوس " الغاضب أن يُري الجميع بأس وسطوة مذهبه ، فقام بإصابة الملك بالجنون ونفخ في نساء " طيبة " من روحه الماجنة وقادهم إلى صخور جبال " كيتايْرون – Kitairon " ، وهناك أصابهم انفلات المشاعر فأخذوا بالرقص والغناء والمجون والصيد في الغابات والتهام الطّرائد نيئةً كما يفعل الـ " مانادين - Maenden " المتوحشون.
عندما علم الملك " بينْـتيوس – Pentheus " بالأمر أسرع إلى هناك ليتحقق مما يجري ومما يسمع . هناك أمسى الملكُ ضحيةً لمجموعة من النِّسوة الهائجات بقيادة أمه " أغاوة " التي قتلته بيديها وذهبت إلى " طيبة " حاملة رأسه بفخر واعتزاز.
هذا المشهد المأساوي يمثل انتصار طقوس عبادة "ديونيسوس" وعزمها على سحق كل معارض لها.
الابنة الثالثة من " قدموس " " أوتونييو " لم تكن أيضاً بأحسن حظٍ من أختيها ، وكانت نهايتها سيئة ، فبعد موت ابنها " أكاتْيون – Akation " ، وكان صياداً شهيراً ، قتلته ربّـةُ الصيد " أرْتيميس – Artemis " وهو يسترق النظر إليها وهي تستحم، قتلته بأن جعلت كلابه تنهشه ( لديّ صورة عن المشهد وهو من الفسيفساء من القرن الثالث أو الرابع الميلادي ، على ما أذكر ، عثر عليه في سورية ).
أما الابن الوحيد لهما ويدعى " بوليدوروس " فكان له حظ الوصول إلى عرش " طيبة " ويتزوج من " نيكتايس – Nykteis " ، ويلد لهما الابن " لابداكوس – Labdakos "، وهو الجد الأكبر لكل اللبداكيين وبالتالي لـ " أوديبوس – Oedipus " – أوديب – الذي اقترن اسمه بأحداث مأساوية وباضمحلال " طيبة " وهو ينتمي إلى نسل " قدموس " أيضاً.
 
أعلى