إيناس خنسه - رياض وبياض، قصة حب دمشقية أندلسية من العصور الوسطى

رياض وبياض قصة حب من القرن الثالث عشر بين شاب دمشقي وفتاة أندلسية، اجتمعا في بيت إحدى سيدات المجتمع، في مجلس يدور فيه الغناء والطرب، وكؤوس الخمر، وتبادلا في اللقاء أشعار الحب والشغف.

تعيش أحاديث وأشعار مجنون ليلى بقوة في المخيلة العربية، وتحيا في أشكال عديدة، كقصة حب عذري مستحيل. كما روى الحكواتي قصة عبلة وعنترة في أنحاء العالم العربي لقرون طويلة، ودرستها كتب الأدب على أنها قصة فريدة انفرد بها العصر الجاهلي. وكلتا القصتان تتمتعان بخصوصية جعلت منهما مثالاً استثنائياً مثيراً للدهشة والتعاطف مع العاشق، في إخلاصه العذري المطلق للمحبوبة، وفي آلام العاشقين الناجمة عن الافتراق بسبب عدم التكافؤ في المستوى الاجتماعي، أو بسبب نفور وخصام بين أهالي الطرفين.

من الغريب حقاً أن قصة حب بياض ورياض التي نعرضها باختصار هنا لم تلق أي اهتمام حتى اليوم، ولا يرد ذكرها على الإطلاق في أي سياق شعبي، ولا حتى أكاديمي أو تاريخي. والكتاب الوحيد الذي درس مخطوطتها، وترجمها إلى اللغة الإنكليزية، هو كتاب البروفيسورة سنثيا روبنسون من جامعة كورنيل الأمريكية، وهي باحثة في تاريخ فن الأندلس وثقافتها.


شخصيات القصة

ابن تاجر دمشقي، سافر مع والده إلى الأندلس، وبقي فيها ليكون قريباً من فتاة تعلق بها.

رياض

إحدى جواري السيدة، ومعشوقة بياض. تصفها القصة بأنها جميلة كـ"البدر"، ودمثة ومليحة "كالكوكب الدري في ظلام الليل"، ونحيلة ورشيقة، و"خصرها يكاد ينقطع من رقته".

السيدة

هي ابنة الحاجب أو الوزير، من أغنياء الأندلس، وفي دارها تدور مجالس مؤانسة فيها ترف ورخاء.

العجوز

هي راوية القصة، تساعد العاشقين على اللقاء، وهي مرسال بينهما عند الفراق.

شمول

رفيقة رياض، وإحدى جاريات السيدة. تساعد العاشقين بنقل الرسائل سراً بينهما.

القريب

إنما هو قريب العجوز، الذي يقدم المساعدة لبياض في شغفه وحزنه لفراق رياض.

هناك عدد من شخصيات القصة ليس لديهم اسم خاص، وتكتفي الرواية بالإشارة إليهم بصفة محددة: "العجوز" أو "القريب"، "السيدة" و"الحاجب".

الحبكة

في إحدى زيارات تاجر دمشقي إلى الأندلس، تروي لنا القصة، أن ابنه بياض التقى بفتاة على ضفاف نهر، ووقع في حبها. ثم تدور الأيام، وتشاء الصدفة أن تقدم "عجوز" مساعدتها لجمع العاشقين، وتستخدم نفوذها لتدعو بياض إلى محفل مجلس غناء في بيت ابنة "الحاجب"، أو السيدة كما تسميها القصة، وعندها يلتقي بياض بمعشوقته، رياض، إحدى جواري السيدة.

نعرف من القصة أن الحاجب، والد السيدة، وصاحب القصر، أراد رياض لجمالها. إلا أن السيدة رفضت، وأقنعت أباها أن يتركها لأنها صغيرة في السن، فحمتها وأبقتها في مجلسها. ومع أن السيدة تحب رياض وتدللها، إلا أن رياض تقوم بخطأ فادح حين تعترف بحبها لبياض في قصيدة تغنيها في المجلس.

شعر رياض الذي أغضب المجلس

بلاني وأبلاني وأسْهَرَ مُقْلَتي = حبيبٌ أراهُ مِنْ قريبٍ ولا يدنو
وأصبحتُ في أعلى مكانٍ من الهوى = سقامي لي كفنٌ وأجفاني الحزنُ
ولا صبْرَ لي نفسي تذوب صبَابَةً = ولا كتمَ بَلْ دمعي سحائبهُ هُتنُ
تمكَّنَ منِّي ذا الهوى فأذابَنِي = فجِسمي مضنًى قَد أضرَّ به الوهنُ
وقد كان لي رُكْنٌ من الصبر فاغتدى = مهيضاً فلا صبرٌ لديَّ ولا رُكْنُ
ولا مُسْعِدٌ في الناس يسعدني على = شجون الهوى إلا المدامعُ والجفْنُ

خدشت رياض بهذه الفعلة، كما نفهم من القصة، أعراف المجلس، وتخطت حدودها، مثيرة غضب السيدة، ونقمة العجوز، اللتين فضتا المجلس على الفور، وفرقتا الحبيبين، خوفاً من أن تصل أخبار ما حدث للحاجب، أو أن تتسرب ثرثرات تفضح المجلس، وتجلب العار للسيدة. تلبس العجوز بياض ثياب جارية، وتخرجه خفية من المجلس، ثم تعاتبه على ما فعله هو ورياض.

تبدأ قصة عذاب الحبيبين، وفي الوقت نفسه تظهر شخصيات في القصة تقدم مساعدة لكل منهما في نقل رسائله إلى الطرف الآخر. تشحب رياض، وتقضي أيامها تندب وتشكو الحب، أما بياض، فيبقى هائماً، ضائعاً، يزور المكان الذي التقى فيه رياض للمرة الأولى، ويرجو أن يحن عليه الدهر ويجمعه بها.
يترجى بياض عفو العجوز، ويصف لها لهفته وولعه برياض، في أشعار بديعة، منها:

لا تعذليني أنني لا أقدرُ = في الحبّ أن أنأى ولا أتصبّرُ
سلب الهوى عقلي وخامرني الأسى = ودموعُ عيني كالسحائب تقْطُرُ
لو تعلمين صبابتي لرحمْتِنِي = الله يَرْحَمُ من يشاءُ ويعذِرُ


بعد أن يعترف العاشقان بخطئهما، تشفق العجوز على حالهما، وتتدخل لتشفع لهما عند السيدة.

للحبِّ أهوالٌ وفيه بلابلٌ = فأقلها قلبُ المتيمِّ يحترقُ
فعسى الذي يقضي الأمور بعلمهِ = يقضي اجتماعاً بيننا لا نفترقْ
في مجلسٍ من تحتِ ظلِّ كرامةٍ = للوصلِ نلهو بالحديث ونعتنقْ
طوبى لعينٍ قد رأَت أحبابها = أو عاشق نال المنى ممّن عشقْ


يرقّ قلب السيدة لحال رياض، فتصفح عنهما، وتجمعهما مرة أخرى في مجلسها. يلتقي العاشقان بعد فراق مضن، ولكن هذه المرة، يلتزمان بأصول وآداب المجلس، كما كان يقبلها مجتمع الأندلس في ذلك العصر، على الأقل كما تقدمه القصة. وبذلك تختتم القصة بنهاية سعيدة.

ما يستدعي الاهتمام بهذه القصة، كما تنبهنا روبنسون، هو أن العجوز تنقل المراسيل بين العاشقين، وهذا يشبه إلى حد بعيد النوع الأدبي الإسباني (وأدب منطقة البحر المتوسط) في العصور الوسطى. إذ كان هناك دائماً قصة حب، وشخصية تلعب دور الوسيط. كما أن ملامح الترف في قصر السيدة تنسجم مع أدب البلاط الذي كان رائجاً في أوروبا، على أن له خصوصية أندلسية في قصة رياض وبياض.

ما تقدمه هذه القصة، إذاً، يدعونا إلى إعادة النظر في تاريخ الأندلس الذي نسجته كتب التاريخ، والفكر السياسي الذي قدم الهوية العربية بخطاب إقصائي. وبدلاً من اعتبار الحكم العربي في الأندلس رمزاً لفشل علاقات العرب بأوروبا اليوم، أو أن الأندلس هي الفردوس العربي الذي ضاع و"سقط" على أيدي الأوروبيين، فإننا نستطيع أن نرى بوضوح أن الثقافة العربية الأندلسية تقاطعت تقاطعاً عميقاً مع الثقافة الأوروبية. وتجاوبت مع أشكال أدبية وفنية جعلت الأندلس، مجتمعاً وثقافة، مميزة وغنية بتعدديتها إلى أبعد الحدود. كما أن ذلك التفاعل الذي تم كان متبادلاً بين العربي والأوروبي في مستويات عدة، فلا يمكننا فهم تاريخ أوروبا بمعزل عن تاريخ العرب في الأندلس بالمعنى الثقافي المنفتح الواسع.
 
أعلى