محمود الزيباوي - حديثُ بياض ورياض

عُرف مخطوط "بياض ورياض" من خلال مجموعة المنمنمات البديعة التي تزينه، غير أن نصّه ظلّ سجين مكتبة الفاتيكان التي تحتفظ به. تخرج هذه القصة التراثية اليوم إلى النور في كتاب جميل صدر حديثا عن "دار الوراق"، بتحقيق رصين يحمل توقيع الباحث العراقي صباح جمال الدين.

في العام 1962، وضع مؤرخ الفن ريتشارد ايتيغهاوسن كتابا عنوانه "الرسم العربي" تناول فيه تطوّر هذا الفن من الحقبة الأموية إلى بداية الحقبة المملوكية. في هذا الكتاب الذي بات اليوم من المراجع الكلاسيكية المعتمدة، أشار الكاتب إلى ندرة المخطوطات المزوّقة الخاصة بأدب الغزل، وقال إن هذا النوع يقتصر على أثرين فحسب. الاثر الأول صفحة من العصر الفاطمي تزيّنها منمنمة تمثّل قبرين تفصل بينهما شجرة، من محفوظات مكتبة فيينّا. أما الأثر الثاني، فمخطوط بخطّ مغربي جميل مكوّن من ثلاثين ورقة تزيّنه أربع عشرة منمنمة بديعة، وصلنا ناقصا من دون توقيع ولا تاريخ، وهو من محفوظات مكتبة الفاتيكان، ويُعرف باسم "حديث بياض ورياض". أثار هذا المخطوط انتباه العلاّمة جورجيو ليفي دي لافيدا في العام 1934، وجذب البحّاثة في مرحلة لاحقة، وعُرف بشكل واسع عندما ذكره ايتيغهاوسن في كتابه الذي صدر في خمس لغات عالمية. ضمّ هذا الكتاب ثلاث منمنمات من "بياض ورياض" نجدها اليوم في كثير من المطبوعات، غير أن الأثر الأدبي الذي شكّل أساسا لها بقي مجهولاً، ولم تتعرّف إليه إلا قلة نادرة من أهل الاختصاص العاملين على دراسة الأدب الغزلي في القرون الوسطى.
تحت عنوان "بياض ورياض: قصة من التراث العربي"، يخرج هذا الأثر الأدبي اليوم من الظل إلى النور في كتاب من إصدارات دار "الوراق للنشر" تزيّنه مجموعة من منمنماته المميزة. يأتي النص الأصلي في تحقيق علمي متين من توقيع صباح جمال الدين يسمح للقارئ بالتعرّف إلى هذا النص الأدبي بشكل سليم. بداية النص مفقودة للأسف، ولم تصلنا إلى اليوم نسخة مخطوطة أخرى من المخطوط تسمح بالتعرّف إلى هذه المقدمة. في المقابل، تبدو النهاية مبتورة، والأرجح أنها كذلك مفقودة، كحال المقدمة. مؤلف هذا النص مجهول، ومصدره الأوّل كذلك غير معروف، وقد تضاربت الآراء في تحديد هويّته بشكل دقيق. يقول صباح جمال الدين في المقدّمة القصيرة التي وضعها للكتاب: "إنّ وجود نسخة واحدة من الكتاب ضاع منها تاريخ نسخها ومالكها جعل من الصعب تقدير الزمان والمكان الذي نسخت به القصة". كل ما يمكن الجزم به أن المخطوط أثر أندلسي انتقل من فرنسا إلى روما أيام شارل الخامس، ملك إسبانيا وأمبراطور الأمبراطورية الرومانية المقدسة في النصف الأول من القرن السادس عشر، وهو من نتاج القرن الثالث عشر كما يُستدل من أسلوب مجموعة المنمنمات التي تزيّنه.
يروي هذا المخطوط قصة غرام بين ابن تاجر سوري وجارية في بيت أحد الأمراء، وتلعب دور الراوية في هذه القصة عجوز بابلية تقوم بدور الوسيط بين الحبيبين. يصعب تحديد المكان الذي تدور فيه الأحداث. أُنجز المخطوط في حلّة أندلسية، مما يوحي بأن أحداثه تجري في الأندلس أو في شمال أفريقيا، غير أننا نجد البطل في فصل من فصول الرواية مرمياً من لواعج الهيام على نهر الثرثار، وهو نهر في شمال العراق يذكره ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، ويقول في تعريفه به: "واد عظيم بالجزيرة يمدُ إذا كثرت الأمطار فأما في الصيف فليس فيه إلا مناقع ومياه حامية وعيون قليلة ملحة، وهو في البرية بين سنجار وتكريت، كان في القديم منازل بكر بن وائل واختص بأكثره بنو تغلب منهم، وكان للعرب بنواحيه وقائع مشهورة، ولهم في ذكره أشعار كثيرة، رأيته أنا غير مرة، وتنصبّ إليه فضلات من مياه نهر الهرماس، وهو نهر نصّيبين، ويمرّ بالحضر مدينة الساطرون ثم يصبّ في دجلة أسفل تكريت، ويقال إن السُفُنَ كانت تجري فيه وكانت عليه قُرى كثيرة وعمارات". في موقع آخر، يذكر ياقوت مرة أخرى نهر الثرثار في حديثه عن الحضر حيث يقول: "كان نهراً عظيماً عليه قرى وجنانٌ، ومادته من الهرماس، نهر نصّيبين، وتصبّ فيه أودية كثيرة"، مما يعني أن النهر يقع في شمال العراق. في الخلاصة، يرى صباح جمال الدين أن اغلب الاحتمالات تشير إلى "أن حوادث القصة أو مؤلفها استوحى أو كتب القصة بالعراق، أو في مكان ما بالمشرق العربي، ثم كُتبت ثانية بشمال أفريقيا".

الشوق والوجد
عند مطالعة هذه القصة الأندلسية، يجد القارئ العادي نفسه وسط عالم أليف عرفه من خلال كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني. تبدو السهرة الأندلسية التي تجمع فيها العجوز البابلية بطلَي القصة، أشبه بسهرة سمر عباسية يُتلى فيها الشعر كأغنيات، والخمرة في هذه السهرة تمرّ بين العاشقين والعجوز والجواري "مرور الماء"، بحسب تعبير محقّق النصّ. يجمع النص بين النثر والشعر في وحدة متكاملة، بحيث يصعب الفصل بين الأسلوبين. أشخاص الرواية هم تباعاً: الحاجب، ثم ابنته الموكلة على حريم القصر وجواريه، ومعها العجوز البابلية، وهي كما أشرنا "راوية القصة والمحور الذي يدول حوله لقاء الحبيبة بحبيبته لموقعها من الحاجب وابنته". إلى العجوز، تحضر كوكبة من الجواري، منهن: كاعب وشمول وغيداء وعُقار ومُدام وطروب وسرور وهواء وعتاب ولعبة ولاعب. بطلا الرواية، بياض الجارية المتولهة، وعاشقها بياض "ابن التاجر السوري الذي أودعه أبوه لدى العجوز البابلية".
تطلّ بياض"كالكوب الدري في ظلام الليل"، وتتبارى الجواري في إلقاء الشعر المغنّى. في البدء، تأخذ الجارية شمول العود وتسوّيه ثم تغنّي قصيدة مطلعها: "تعبّدني الهوى فبقيت صبّاً/ وخامرني فذاب القلب حبّاً". تأتي من بعدها "جارية صغيرة السنّ كأنّها الشّمس في أفق السّماء"، اسمها غيداء، وتغنّي بدورها: "واحسرتاه من الهوى وعذابه/ والصّبر بعزُب والحشى متثلّم". في المقام الثالث، تدخل الجارية عقار، وتغنّي: "ما كُنت أدري قبل هذا ما الهوى/ حتّى بُليت فصرت من أسراه". ثمّ تسترسل في الإنشاد، وتقول: "لا تعذلوني إنّني عبد الهوى/ والقلب ذو كمد بمن يهواه". ختام هذه الوصلة غناء يجمع بين سكرة الهوى وسكرة الخمرة، يتجلّى في أبيات تقول:
"إن سكرت من الهوى والخمر لا/ أدري بها سكرا وإن هو اكثرا
الخمر تسري في العروق وذو الهوى/ لم يجر مجرى الخمر مني إذا جرى
الحب نار في الفؤاد وما له/ عنه محيد لا كخمر أسكرا
السّكر يُقلع والهوى لا ينجلي/ والخمر زهو والغرام تفكّرا
الخمر شاربها تريه لذاذة/ راح الهوى ما أن تُطاق تصبّرا
لا تنتهي السهرة هنا. تغنّي الجارية مُدام: "ما لي عزاء ولا لي راحة/ حتّى ألاقي للقضاء حماما". وتغنّي من بعدها زميلتها طروب: "أسهم اللّحظ صدّعت كبدي/ بان صبري وقد وها جسدي". تدعو العجوز البابلية ضيفها بياض للغناءـ وتقول له: "كن يا سيدي عند ظنّي بك". ويغنّي العاشق الولهان: "لحرّ الهوى بين الضلوع لهيب/ وللشوق في أقصى الفؤاد دبيب". نتعرّف هنا إلى هوية بياض، وهو كما يقول لسائله: "أنا بياض من حسين بن محمد بن إدريس الخزاعي من مدينة دمشق من الشام، وكنت سافرت مع أبي إلى بلدكم هذا للتجارة، فرحل أبي وتركني على بعض المتاع، فكانت راحتي ونزهتي على شاطئ هذا النهر أسلّي فيه نفسي وتقرّ به عيني، حتى عرضت لي منذ أيام جارية في بعض الأشجار فما أتيت بعدها إلى هذا الموضع إلّا يومي هذا". يتحدّث بياض عن معشوقته رياض، ويقول في وصفها: "إنما يضيء القمر والنجوم من ضياء الشمس والشمس تضيء من ضيائها". تبوح رياض بحبها وتنشد: "فؤادي شكا عيني وعيني شكت له/ وكلّ له عبء من الشوق والوجد".
مرة أخرى، يسأل السائل بياض عن حبيبته، ويقول له: "لا بد أن يصف اختنا رياض بما أمكن مع أنّها لا توصف على الحقيقية". ويجيب العاشق نثراً: وما عسى أصف، الحياء، أم البهاء، أم الجمال، أم الفضل، أم الكمال، أم السكينة، أم الوقار، أم الشمائل، أم اللحظ، أم البياض، أم التوريد، أم الصمت، أم القدّ، أم اللين، أم الجيد، أم الصدر، أم النهد، أم الكشح، أم الغنج، أم الحسن، أم الظرف، فأنا وحقّك حائر لا أدري على أيّ شيء أقدم في الوصف؟". وتردّ رياض شعراً: "بلاني وأبلاني وأسقم مقلتي/ حبيب أراه من قريب ولا يدنو". كلّ هذا، و"العود يخفق والكأس تدور". يبعد القدر بين بياض و"رياض التي تقصر الألسنة عن وصفها". يتيه العاشق ويقصد نهر الثرثار ويميل نحو مياهه، ثم يسقط "على وجهه مغشيا عليه". هو "غريب رماه الدّهر بالبين والنوى"، يتوق إلى حبيبته، ولا يجد سبيلا للوصال. تنقل الجواري الرسائل المتبادلة خلسة بين الحبيبين. تبكي رياض وتئن، وتقول ودموعها تسيل على خدّيها:
أين حبي وأين أنسي وإلفي/ أين روحي وأين عيشي وحتفي
أين من حبّه أذاب فؤادي/ ورماني بنار كرب ولهف
قد براني الهوى وانحلّ جسمي/ وكساني ثياب سقم وضعف

التشكيل العباسي
يبدو النصّ الأندلسي عباسياً في أشعاره كما في تعابيره النثرية. وتتجلّى هذه القرابة بشكل واضح في المنمنمات التي ترافق فصول النصّ وتجسدها بلغة الرسم واللون. كما أشار ريتشارد ايتيغهاوسن في كتابه "الرسم العربي"، تنتمي هذه الرسوم إلى المدرسة التي اعتاد دارسو تاريخ الفن على تسميتها بمدرسة بغداد. أبرز ما يميّزها ابتعاد أتباعها عن مبدأ محاكاة الواقع المحسوس وإسقاطهم لما يُعرف بقواعد المنظور. ينأى المصوّر عن التقيد بالنسب الخارجية للعناصر المرئية ويجنح نحو التسطيح. يقوم تأليف الصورة على بعدين من أبعادها هما طولها وعرضها، أما البعد الثالث فشبه معدوم. لا عمق هنا ولا منظور أفقياً. يفكّك المصوّر العناصر ويعيد خلقها محوّلاً إياها إلى مفردات تشكيليّة ثابتة. المؤثرات عديدة لكنّ الخلاصة جديدة. هو أسلوب خاص في تصوير الطبيعة والأشخاص والأشياء يختلف عمّا ساد في الشرق الأقصى أو في العالم البيزنطي. يبرز هذا الأسلوب في ابتداعه منهجاً ثابتاً في تصوير المياه والصخور والأشجار كما في رسم الكائنات والمخلوقات المختلفة. كذلك، تظهر خصوصيّة هذه المدرسة في استحداث طريقة جديدة في تصوير المشاهد الداخليّة التي تتحوّل هنا إلى مشاهد خارجيّة تتحرّك أمام المشاهد بمعزل عن أيّ جدار يفصل بينها وبينه.
أفق المنمنمة أشبه بخشبة المسرح. حركة الأبطال محدودة في أغلب الأحيان. تتميز الوجوه البيضوية بعيونها المشدودة الأطراف التي تعطيها طابعا آسيويا. يعتمد المصوّر على تصويرها بشكلها الجانيي والنصف الجانبي، أما الشكل المواجه فلا نجده إلا في ما ندر. السمات الفرديّة معدومة. يتمّيز الأشخاص بثيابهم المتعدّدة الأشكال والألوان. النزعة التشريحية التي شكّلت أساس الكلاسيكية الإغريقية مقصيّة تماماً. يتجرّد الجسد من مفاصله ويحتجب خلف كتلة الثياب المطرزة بالزخارف. تتحول ثنايا الأقمشة المعهودة إلى كتل بيضوية مرصوصة تهبها سمة فنية خاصة بها. تبتعد الهامات عن تصوير الانفعالات الجيّاشة والتعبيريّة الصارخة ويتخاطب أبطال المشهد بحركات محدّدة من الأيدي تتكرّر من مقامة إلى مقامة. تنصت الوجوه وتستمع وتراقب بصمت.
يجنح الرسام في كلّ ما يصوّره إلى التجريد والتزويق. تتميّز الأشجار والنباتات بأغصانها المفتوحة على شكل مروحة. ترتفع الأبراج في الأفق بعيداً عن المنطق الطبيعي الواقعي. يتجلّى فن التزويق العباسي في رسم العقود والقبب والشرفات والحنايا والأعمدة، كما في تصوير عناصر الطبيعة المتعدّدة. يخرج المصوّر عن حدود النص المكتوب ليبني عالماً تشكيلياً صرفا تتجلّى صوره وتتجدّد من منمنمة إلى منمنمة.
 
أعلى