سهى صبّاغ - قصّة حب من حضارتنا

"بلاني وأبلاني وأشهَرَ مقلتي، = حبيبٌ أراه من قريبٍ ولا يدنو
وأصبحتُ في أعلى مكانٍ من الهوى، = سقامي لي كفنُ وأجفاني الحزنُ".

هذان البيتان من الشّعر يرجعان لحديث عاشقين هما "بياض ورياض" اللذان لم تكن قصّتهما شائعة، كقصّة "جميل وبثينة" و"عنترة وعبلة" و"مجنون ليلى". قصّة "بياض ورياض" ظهرت في مخطوطات قديمة زيّنتها رسومات تُعبّر عن القصّة التي يحتويها النص. تلك الرسومات هي ما يُسمّى بفن المنمنمات.

في زمن تدمير حضارتنا، في زمن تدمير الإنسان داخلنا، تعالوا نحتمي بما لدينا من حضارة وجمال، تعالوا نستعيدهما ولو بالتّذكير بهما، علّنا ننجح بترميم دواخلنا.

ملفت بأن المصوّرين الذين رسموا المنمنمات، لم يوقّعوا أسماءهم عليها ولم يكتبوا التواريخ، سوى في حقبات لاحقة وعلى وجه التقريب في القرن الثالث عشر، لكنّها بقيت بالحالتين، فالأثر الإنساني لا بد باقٍ.

المنمنمة تحكي قصّة، واقعة، حياة. حياة بشر بأفراحها وأتراحها بحروبها وسلامها. للمنمنمات فضل كبير بمعرفة الكثير من جوانب الحياة اليوميّة، التي عاشها الإنسان فيما مضى. ومن خلالها نتعرّف على فن العمارة والثياب وغيرها من تفاصيل ذاك الزّمان.

المنمنمات التي تحكي قصص العشق لم يبق منها الكثير، لكن هناك قصّة قليلون من سمعوا بها أو كتبوا عنها. كأكثر قصص الحب التي خلّدها التّاريخ، وما عاشه المحبوبان من حالات شوق وبعاد، وصعوبات بتلاقي العاشقين، هي قصّة "بياض" و"رياض" عُرِفت من خلال مخطوط، الباقي منه ثلاثون صفحة دون توقيع أو تاريخ، تزينهم أربعة عشرة منمنمة.
هو مخطوط نادر وسجين مكتبة الفاتيكان التي تحتفظ به، ومن المخطوطات العربيّة القليلة التي سَلِمَت من محرقة كنوز الأدب العربي في الأندلس، خلال الحروب التي شهدتها الدولة الإسلاميّة.
وهناك الكثير أُتلف في حوادث نهب المكتبات كبخارى وسمرقند. ومن محفوظات مكتبة فيينا أيضاً، صفحة من العصر الفاطمي، تزيّنها منمنمة تمثّل، قبرين تفصل بينهما شجرة تتضمّن حديث "بياض ورياض". أيضاً هناك مخطوطات من مقامات الحريري والذي صوّرها "الواسطي"، محفوظة في المكتبة الوطنيّة في باريس.

"بياض ورياض"

كان "بياض" إبن تاجر سوري في رحلة تجارة مع والده إلى الأندلس، حيث صادف الجارية "رياض" قرب النّهر. وقع في غرامها وسعى للقائها، فكان له ما رغب به، بلقاء دبّرته لهما سيّدة عجوز، في سهرة موسيقيّة ببيت إحدى السيّدات النّبيلات. لم يحتمل رؤيتها دون الإجهار بحبّه لها، فغضِبَت السيّدة من تصرّفه المتهوّر وخافت أن يحمل بيتها سمعة سيّئة. أنهت السّهرة التي كانت تقيمها، وطلبت من الجميع الإنسحاب. يذكّر تصرّف بياض هذا، بمجنون ليلى الذي أيضاً وبسبب إجهاره لمشاعره تجاه ليلى، حُرِم منها إلى الأبد. المنمنمات التي زيّنت النص، تحكي الحادثة وما جرى من بعدها ومشاهد أخرى.


يمتاز فن المنمنمات بالدقّة، والتحرّر من التشريح في جسم الإنسان الذي شكّل أساس الكلاسيكيّة الإغريقيّة (يُذكّر إلى حد ما برسوم الأطفال عندما يكون الخط مختصر ومستقيم دون الأخذ بعين الإعتبار، مفاصل جسم الإنسان وتفاصيله الدقيقة) وفي المدرسة البغداديّة والإيرانيّة، أسقط المصوّرون قواعد المنظور والأبعاد الثلاثة، واستفاد لاحقاً العديد من الفنانين الغربيين من هذا الفن، خاصّة من ناحية التبسيط والتجريد، كما استفادوا من فن الزخرفة.

نُقِلَت قصّة "بياض" و"رياض" في مؤلّفات عديدة منها "كتاب الأغاني" "للأصفهاني" ويبدو أنه تم تداوله في الأندلس وكان الخليفة يحتفظ به في خزانته الخاصّة، فهذا الفن بالطبع لم يكن للعامّة، بسبب قيمته العالية، كحال الفن التشكيلي في حاضرنا، وهذا مؤسف طبعاً. وبالرغم من التحريم الديني خوفاً من العودة إلى الوثنيّة، حافظ فن المنمنمات على استمراريّته حتى يومنا الحاضر، خاصّة في العراق وإيران. يجدر الذكر أن هذا الفن يتضمّن مدارس عديدة، منها بالإضافة إلى مدرسة بغداد والإيرانيّة، هناك المدرسة المغوليّة والهنديّة التي اهتمّت برسم المتصوّفين والمتعبّدين، والمدرسة العثمانيّة وغيرهم.. ولا ننسى أن نذكر بأن أول كتاب عربي ذوّقته المنمنمات كان كتاب "كليلة ودمنة" وهو في أصله هندي وترجمه ""إبن المقفّع".



رياض: أسهم اللحظ صدّعت كبدي، = بان صبري وقَد وها جسدي.
بياض: لحرّ الهوى بين الضّلوعي لهيب، = وللشوق في أقصى الفؤاد دبيب.

هذا جزء من الحديث الذي أغضب سيّدة البيت، وحرموا المعشوقة من لقاء معشوقها ثانية، فهام على وجهه، وأصبح هناك مراسلات بين صديقات رياض وبين بياض وغيرهن. لم تُعْرَف نهاية قصّة الحبيبين، بسبب عدم العثور على الصفحات المتبقيّة، كما لم تُعرف تفاصيل البداية بشكل دقيق.

بياض: فؤادي شكا عيني وعيني شكت له، = وكل له عبء من الشّوق والوجد.

إتُّفق على شرح كلمة "منمنمة، بأن كل شيء صغير وناعم، فهي ليس لها شرح دقيق بما تعنيه. وفي الحقيقة هكذا هي المنمنمة صغيرة، كونها لم ترسم سابقاً إلا في الكتب لتزيّنها، لكن رغم صغرها، فقد احتوت عالم وتفاصيل بأكملها.

من الفنانين الغربيين الذين تأثروا بالفن الإسلامي والأيقوني، هما "ماتيس" و"دولاكروا". اخترنا لهما لوحتين لوحة للفنان "دولاكروا" "نساء الجزائر" (1834) التي نالت شهرة كبيرة وهي من أغلى الأعمال الفنيّة في العالم، وأعاد بيكاسو رسمها على طريقته التكعيبيّة، ولوحة ماتيس "المرأة العازفة، ونشاهد تأثّره الأكبر، بتأليف وتوزيع العناصر، وتسطيحها.
 
أعلى