عبدالله الجعيثن - الغزل على لسان المرأة

بعض الشعراء يحلو لهم ان يقولوا الغزل على لسان المرأة، ويصورون مشاعرها حين تعشق، وينوبون عنها في تجسيد عواطفها وتقديم هيامها وغرامها..

واشتهر في هذا المجال نزار قباني، وإن لم يكن هو الوحيد، أو الأجمل أيضاً، فأنور سليمان له غزل يذوب، وضَعَهُ على لسان المرأة، ولكن الكثيرين لا يعرفونه، ولعل السبب الأول في هذا ان قصائده الرائعة لم تشدُ بها المطربات، أما نزار فقد فتن بشعره النسائي الذي قيل على لسان المرأة مطربات ذائعات جداً في مقدمتهن فايزة أحمد ونجاة الصغيرة التي غنت له:

ماذا أقول له؟

إلى حبيبي؟

اسألك الرحيلا..

أما فايزة فقد غنت تلك القصيدة الفريدة:

رسالة من امرأة..

بل إن ربع شعر نزار.. تقريباً.. صاغه على لسان امرأة.. وهو بهذا - على ما يظهر لي - يتلذذ.. ويطرب.. ويشبع صفة النرجسية.. فكأنما هو يجعل امرأة تتغزل فيه.. وتقول له ما يشاء..

وما يلذ له.. وما يطربه وينشيه:

"لأني أحبك أصبحتُ أجمل..

وبعثرتُ شَعري على كتفيّ

طويلا طويلا كما تتخيل

فكيف تمل سنابل شعري

وتتركه للخريف وترحل؟

وكنتَ تُريح الجبين عليه

وتغزله باليدين فيُغزل

وكيف سأخبر مشطي الحزين

إذا جاءني عن حنانك يسأل

أجبني ولو مرة يا حبيبي

إذا رحتَ ماذا بشعري سأفعل"

وكان من أسعد أيامي تلك الأيام التي ألفت فيها كتابي "الغزل بصوت أنثوي" فقد كنت أحرق فحمة الليل الطويل قراءة في دواوين الشاعرات العاشقات، ان الشعر جميل، والعشق جميل، والمرأة جميلة، فإذ تتغزل المرأة يجتمع الجمال كله، وقد بان لي - وقد أكون مخطئا - ان هناك فروقاً بين أدب المرأة وأدب الرجل، وان مصطلح "الأدب النسائي" صحيح.

وان كان كثيرون لا يرون هذا.. يرون ان الانسان هو الإنسان.. وأن الصحيح هو مصطلح "أدب إنساني" يشمل الجنسين.. يشمل كل أدب فيه إبداع..

لكنني اعتقد ان شعر المرأة يختلف عن شعر الرجل بشكل عام، وفي الحب بشكل خاص، فعواطف المرأة أكثر رقة وجمالا، وعواطف الرجل أكثر قوة وجلالا، حتى حين يشعر الرجل على لسان امرأة، ويتغزل باسمها، فإن ملامح شخصيته تفضحه، ورائحة أنفاسه الرجالية تدل عليه..

ونقدّم هنا نموذجين من شعر الحب..

الأول لامرأة عاشقة لا ريب في ذلك، تقول في معشوقها أصالة لا نيابة ولا وكالة:

"بكل مرارة الواقع

بحرقة جفني الدامع

بحمق تصرّف الأنثى

بسحر حديثها الرائع

أصرّح دون تفكير

بأنك ضوء أيامي

وحفنة عمري الضائع".

برفض حقيقتي المره

بعبء خسارتي الكبرى

بزفرة قلبها الحرى

سأصرخ ملء أيامي

بشوق يمامة حيرى

أؤكد دون تزييف

بأنك صرت لي حرفاً

وصرت لحرفي الشعرا

"بنسف عواطفي الحبلى

بعمق مشاعري الثملى

أحس بدافع مغر

يحول زهر ريحاني

إلى حقل من الدّفلى

ويدفعني بأن أصبو

للخطة فرصة جذلى

بسحر حلاوة الدنيا

أراهن انكَ الأحلى

والنموذج الثاني لشاعر عشق المرأة حتى تقمص شخصيتها واستعار لسانها في ربع شعره على الأقل وهو نزار قباني..

يقول على لسان امرأة:

"خبئني في خلجان يديك

فإن الريح شماليه

خبئني في أصداف البحر

وفي الأعشاب المسائية

خبئني في يدك اليمنى

خبئني في يدك اليسرى

لن أطلب منك الحرية!

فيداك هما المنفى.. وهما

أروع أشكال الحرية

أنت السجان وأنت السجن

وأنت قيودي" الذهبية

قيدني يا ملكي الشرقي

فإني امرأة شرقية!

تحلم بالخيل.. وبالفرسان

وبالكلمات الشعرية!"

لعل الشاعر هو الذي يحلم بامرأة من هذا النوع! وقد جسد أحلامه في شعر صنعه صناعة!

في النموذج الأول للشاعرة التونسية "فاطمة الدريدي" أنفاس أنثى.. وطابعها.. وخاتمها.. وفي النموذج الثاني رائحة رجل يضع على ملابسه بعض العطر النسائي السريع الطيران.

وهناك نموذجان آخران أحدهما قديم والآخر حديث، وموضوعهما واحد، الأول لشاعر قاله على لسان امرأة، والثاني لامرأة تبوح بمشاعرها..

يروي صاحب كتاب "نفح الطيب" الجزء الثاني ص 1097ان ابن زيدون صاغ قصيدته المشهور "ودّع الصبر.." على لسان ولادة بنت المستكفي التي شغف بها حباً:

"ودع الصبر محب ودعك

ذائع من سره ما استودعك

يقرع السن على ان لم يكن

زاد في تلك الخطى إذ شيعك

يا أخا البدر سناء وسنى

حفظ الله زمانا اطلعك

إن يطل بعدك ليلي فلكم

بتّ أشكو قصر الليل معك!".

أما النموذج الثاني فهو للشاعرة سعاد الصباح وفي ذات الموضوع وهو "الوداع"..

تقول:

"عندما أودّعك في المطار

ويغيب وجهك في المجهول

تنتشر رائحة حنيني إليك

ويشم الناس في قاعة المسافرين

رائحة غريبة..

رائحة امرأة تحترق!"

الواقع ان المرأة تحترق حباً وقلما تقول شعراً!

الشعر فضيحة والمرأة أكره ما تكره الفضائح!

على ان شعر ابن زيدون - إن صدقت رواية المقريزي - لا يكاد يصلح على لسان امرأة.. هل هناك امرأة تتغزل برجل لتقول عنه انه قمر؟!!

مع انه من الثابت ان ابن زيدون قال شعراً على لسان ولادة ومنه البيتين المشهورين: "أنا والله أصلح للمعالي.." الخ.

ولعل إحساس الشاعر الذي يتغزل على لسان امرأة، بأنه يمثل في مسرح مكشوف، هو الذي يجعل بطل هذا الفن نزار قباني يكثر في شعره على لسان المرأة من تكرار الأشياء النسائية كالفساتين والمرايا والعطور والشعر والمشط والدموع لعله يقنعنا - أو يقنع نفسه - بأن التمثيل صار حقيقة..

"خبأت رأسي عنده وكأنني

طفل أعادوه إلى أبويه

حتى فساتيني التي أهملتها

فرحت به.. رقصت على قدميه

سامحته وسألت عن أخباره

وبكيتُ ساعات على كتفيه"

"ماذا أقول له لو جاء يسألني إن كنت أكرهه أو كنت أهواه؟

ماذا أقول إذا راحت أصابعه تلملم الليل عن شعري وترعاه؟!"

"حبيبي!.. أخاف اعتياد المرايا عليك

وعطري وزينة وجهي عليك

أخاف اهتمامي بشكل يديك

أخاف أموت أخاف أذوب

كقطعة شمع على ساعديك!"

"حبيبتي!.. هل أنا حقاً حبيبته؟

وهل أصدق بعد الهجر دعواه

أما انتهت من سنين قصتي معه

ألم تمت كخيوط الشمس ذكراه؟

أما كسرنا كؤوس الحبّ من زمن

فكيف نبكي على كأس" كسرناه

ربّاه!.. أشياؤه الصغرى تعذبني

فكيف انجو من الأشياء.. رباه؟!

مالي أحدق في المرآة أسألها:

بأي ثوب من الأثواب ألقاه؟!"

"فساتيني!!

لماذا صرت أكرهها؟

لماذا لا أمزقها؟

أقلّب فوقها طرفي

كأني لست أعرفها

كأني لم أكن فيها!!

لمن عطر فرنسي

يقيم الأرض من حولي ويقعدها؟!

"متى ستعرف كم أهواك يا رجلاَ

أبيع من أجله الدنيا وما فيها!

ألا تراني ببحر الحب غارقة

والموج يمضغ آمالي ويرميها

كفاك تلعب دور العاشقين معي

وتنتقي كلمات لست تعنيها

كم اخترعتُ مكاتيباً سترسلها

وأسعدتني ورودٌ سوف تهديها

وكم ذهبتُ لوعد لا وجود له

وكم حلمتُ بأثواب سأشريها!

"ارجع إليّ فإن الأرض واقفة

كأنما الأرض فرت من ثوانيها

إرجع!!

فبعدك لا عقد أعلّقه

ولا لمستُ عطوري في أوانيها

ارجع كما أنت صحواً كنت

أم مطراً.. فما حياتي إن لم تكن فيها؟!"

إننا أمام شاعر يتلصص على حياة المرأة الخاصة! أو لنقل يتخيل ما تفعل في مثل هذه المواقف ثم يعلن خيالاته على أنها حقائق!.. أو لنقل يصور المرأة في هذه المواقف كما يريد أن تكون!

في كل الأحوال نحن الرابحون!!..

ظفرنا بشعر جميل.. وبمشاعر جديدة.. على البرزخ!! لا هي بشعر رجالي.. ولا نسائي.. فن جديد!! ومكسب عظيم حين نظفر بفن جديد!!
 
أعلى