منقول - "خطاب الجنس".. استقراء مفهوم الجنسانية في حركة السرود العربية القديمة

ربما ما يزالُ حضور خطاب الجنس في الأدب العربي القديم في قبضة المسكوت عنه، ويخضع لأدوات منع كثيرة، غير أن كتاب د.هيثم سرحان الجديد "خطاب الجنس" الصادر أخيرا عن المركز الثقافي العربي، قد جلى هذا الحضور باعتباره مكونا ثقافيا حيويا وفاعلا في الحضارة العربية، وليس مقصدا فحوليا أو أنثويا يثير الإثارة والخجل.

فجل ما يطمح إليه الباحث سرحان، يتمثلُ في الكشف عن ملامح خطاب الجنس في الأدب العربي القديم، من أجل فهم طبيعة الجنسانيات وطرائق العلماء والكتاب والمفسرين والفقهاء في التعامل معها ومعالجتها وإدراك خصائصها، بعيداً عن الانغلاق والجمود والتأثيم والتحريم.

وبناء على ما تقدم، التمس سرحان منهجاً تفاعلياً مركباً يقوم على استقراء النصيات، واستخراج البنيات والمفاهيم الجنسانية الدالة، ومعالجتها تأويلياً وسيميائياً، وربط نتائج المعالجة بالسياقات الثقافية التي أنتجتها الظواهر، مبينا فضل أعمال فيلسوف الجنسانية ميشيل فوكو المرتبطة بتحليل الخطاب والجنسانية، التي لولاها لم يكن قادراً على إنجاز هذا العمل.

ويرى د.حسن ناظم أن كتاب خطاب الجنس يستكمل معرفتنا في الثقافة العربية التي تبقى ناقصة من دون تسليط الضوء على تلك المئات من القصص والنوادر والحكايات والطرائف والوقائع والأيام، وتحليلها للوقوع على كنوزها المختفية.

ويقول ناظم إن حقل الكتاب لا يوجد فيه محراث واحد, وسيظل غير مطروق طرقاً جيداً إذا ما قورن بالحقول الأخرى المقتولة بحثاً. ويبين ناظم أن سرحان دشن خوضاً جديداً في هذا الميدان الصعب، وقدَّم ثمرات ستكون بالتأكيد فاتحة لمشروع طويل للعمل على هذه الموضوعة، ولبحث مفاصل أخرى منها.

ويلفت ناظم إلى أنَّ سرحان تمرَّنَ قبل الكتاب سرحان في حقلين: حقل التأويل الدلالي، وحقل السيمياء، حيث أفضى به التمرين الأول إلى بحث أنظمة التأويل لدى المعتزلة متناولاً نظرية المعرفة التي يقوم عليها التأويل الاعتزالي، فاكتسب خبرة من يخوض في بحر واسع من النصوص القديمة ترافقها ملازمة لنصوص حديثة توخي منها العون المنهجي فخرج لنا بكتابه الأول في العام 2003 استراتيجية التأويل الدلالي عند المعتزلة، وكان أطروحته لنيل درجة الماجستير. في ما جاء التمرين الثاني، ليخوض غمار البحث في السرد العربي القديم، ناشداً الكشف عن أنظمتها السيميائية.

ويقول إن سرحان في كتابه "خطاب الجنس: مقاربات في الأدب العربي القديم"، يبحث في خطاب محرم لم يلتفت إليه إلا لماماً. ويزيد ناظم أنه سيظل مجالاً غير مطروق بكفاية لسنين قادمة.

من جهته يرى سرحان أنَّ كتابه يهدف إلى كشف خطاب الجنس في الأدب العربي القديم، وذلك باستخراج نصياته، وتعيين أنظمته، وتحديد مقاصده، ورصد تمثيلاته.

ويدرك سرحان أنَّ ذلك الهدف الطموح محفوف بالمكاره، ومحاط بالعقبات، مبينا أن المكاره الحافة به فتكمن في أن موضوع الجنس يُحيل في المستوى التداولي العام على الحظر والمنع والحجب والتأثيم والتحريم، مما يجعل الاقتراب من دوائره أمراً مشوباً باحلذر والخشية والحرج. وأشار إلى أنَّ العقبات تتمثل في عجز النقد العربي وتعاليه عن إنتاج مفاهيم ورؤى وأدوات منهجية لازمة لمقاربة هذا الحقل الخصب والحيوي.

ويقول سرحان إنَّ النقد العربي، قديمه ومعاصره، لم يجرؤ على الاقتراب من خطاب الجنس في مقارباته الجنسانية، رغم ادعاءاته الحداثية وانفتاحه على المنهجيات اللسانية والنقدية الغربية.

ويبين سرحان أن الأسباب تعود إلى القطيعة بين النقد والجنسانية إلى أن حقل الجنسانية ارتبط بمفاهيم الإسفاف والبذاءة، واكتسى لبوس التأثيم والتحريم الدينيين، الأمر الذي دفع إلى إقصائه واستبعاده من دوائر المقاربات النقدية التي لم تفلح في تخليصه من الالتباسات وسوء القراءة والتأويل اللذين لحقا به.

ويضيف سرحان أن مدونات الأدب العربي تشمل نصيات وأخباراً وحكايات ونوادر وطرائف جنسية هائلة تحتل مساحة كبيرة في جسد الكتابة العربية الأمر الذي يعني بأن الأنشطة والممارسات الجنسية انتشرت في حياة الأفراد والجماعات انتشاراً كبيراً، ولعل هذا ما يفسر عناية مؤسسة الكتابة العربية بها، وانبراء الكتاب والفقهاء والقضاة والأدباء والمناطقة، باختلاف مرجعياتهم المعرفية وخلفياتهم الأيديولوجية والمذهبية, للكتابة فيها.

ويؤكد سرحان أن هذا الأمر يدل على أن الجنسانية مكون أساسي في مكونات الحضارة الثقافية، ومن ثم فإن دراستها وتحليلها يقدمان تصورات فكرية تسهم في تفسير كثير من القضايا والظواهر الثقافية التي رافقت مسيرة العرب والمسلمين الحضارية. كما أنَّ الجنسانية لا تنفصل عن الأشكال والأنساق الثقافية الأخرى مثل: الرحلة، والعشق، والحرب، والكرم، والبخل، وغيرها من الأنساق. بل إنَّ الجنسانية أبلغها أثراً وأعمقها تأثيراً، وأشدها حساسية من جهة أنها نظام لا يمكن للأفراد إلا الانخراط فيه والتفاعل معه، وذلك لأنها شبكة تحيط بالإنسان وتحدد مفاهيمه.

ويقول سرحان إنه وبصرف النظر عن أشكال الجنسانية فإنها "بيت الوجود"، إذ لا يمكن للكائن الإنساني أن يقيم خارجها.

ويرى أنَّ السلطة ساهمت في إنتاج الخطاب الجنسي عندما أشاعت أجواء الملذات وفنون المتع ووظفت العلماء والمفسرين والفقهاء في إيجاد مقاربات تنسجم مع الجنسانيات الجديدة الناشئة عن تفاعل العرب بغيرهم.

ويؤكد سرحان أنه وبالمقابل نجح الفقهاء والعلماء والمفسرون في تطويع السلطة وأصبحوا جزءاً منها وتماهوا معها بعد أن قاموا بتأويل النصوص القرآنية والآثار النبوية المرتبطة بالجنس في سبيل إنتاج خطابات وتشريعات جنسية تتلاءم مع النوازل والحاجات الإنسانية المتجددة.

ويبين سرحان أنَّ الناظر في مدونات الأدب العربي القديم يكتشف أنَّ العرب والمسلمين أولوا الجنسانية اهتماماً بالغا سواء تمثل ذلك في شيوع الأخبار والنصيات الحكائية المتضمنة إحالات مباشرة على الجنسانية، أم في التآليف المخصصة للشؤون الجنسية، أم في التشريعات والقوانين الجنسانية الأمر الذي يعني أن التفكير الجنسي في الثقافة العربية يشكل خطاباً مهماً يمكن لدراسته أن تثمر عن دلالات ونتائج ذات بال.

ويشير سرحان إلى بدايات الخطاب الجنسي العربي، معتبرا أنها تشكلت لتطويق الأنشطة الجنسية الجديدة التي ظهرت وشاعت بشكل لافت في أواخر القرن الثاني الهجري، مبينا أنَّ الخطاب في هذه المرحلة اتخذ صفة الوصف والرصد، من دون أن يثبت ويسجل مفاهيم نقدية تذكر، باستثناء ما نجده عند الجاحظ من رؤى وأفكار نقدية مهمة في سائر أعماله وبخاصة في رسالتيه الموسومتين بـ"مفاخرة الجواري الغلمان", و"القيان".

ويرى سرحان أن المرأة تحضر بجلاء في الخطاب الجنسي، رغم أن جنسانية المرأة تحضر من خلال صوت الرجل وجنسانيته، مشيرا إلى أن النصيات أثبتت للمرأة حضوراً مميزاً يتجلى في تعبيرها عن رغباتها وتمردها على الذكورة والأبوة.
 
أعلى