نقوس المهدي
كاتب
«القبلية»، المذهبية»، «التطبيع»، هي تابوهات جديدة أضيفت إلى «الجنس» و«السياسة» و«الدين». مما يعني أن الكاتب العربي يحاصر بمزيد من الممنوعات التي لا يحق له تخطيها أو المساس بها. كيف تتنامى المحرمات، وتتكاثر التابوهات. ما الذي تم كسره، وكيف استعيض عنه بغيره، هذا ما يناقشه التحقيق التالي.
عرفت التابوهات بأنها ثلاثة أنواع: الجنس والسياسة والدين، أما اليوم فيؤكد البعض أن التابوهات الثلاثة تكاثرت وتنامت، بعيدا عن سطوة المحرمات القديمة، بينما لا يزال هناك من يعتقد أن المحرمات هي من صنع الخيال، وبمقدور من يريد أن يتخطاها بسهولة.
توارت التابوهات الثلاثة التقليدية كثيرا لصالح تابوهات أخرى، برأي الروائي يوسف القعيد، «فمع معدل الأمية المرتفع، وإقلاع الناس عن القراءة قلت قبضة التابو السياسي، كما تعدى الروائيون الجدد بمراحل ما كنا نعتبره خطوطا حمراء في الجنس، وانتقل تمردهم من حالة إحسان عبد القدوس، الذي كان يكتفي بوصف المشهد الجنسي بوضع نقاط فارغة في الصفحة إلى العلاقات المثلية. وقد انتهك التابو الجنسي بفعل رياح غربية وعواصف العولمة إضافة إلى تراجع نمط الدولة التقليدية القديمة».
ولفت القعيد إلى أنه مع تراجع التابوهات القديمة ظهرت أخرى أكثر حداثة، وأشد خطرا على المبدعين، ومنها التابو القبلي. فهناك ناشرة عربية تعرضت للقتل لأنها نشرت كتابا لمؤلفة مست فيه قبيلتها. والأمر متغلغل في كل البلاد العربية تقريبا، بحسب القعيد. فلا يستطيع الكاتب أن يكتب بحرية عن بدو سيناء، ولا عن الهوارة والأشراف مثلا في جنوب مصر.
وعن تجربته الذاتية في التعامل مع التابوهات يقول القعيد: «أؤمن بشعار سبقني إليه نجيب محفوظ، وهو القائل: عندما أكتب لا أعبأ بشيء على الإطلاق. وقد قال ذلك عام 1961، وهي جملة لخصت تجربته، خاصة وهو أشجع الكتاب تحديا للتابوهات. ولا ننسى «أولاد حارتنا»، التي تحدى بها الفهم المنغلق للدين».
بدوره كان القاص سعيد الكفراوي، من الذين دفعوا ثمن اشتداد ساعد التابو السياسي في فترات سابقة، تعرض للسجن بعد كتابته قصة «المهرة» في العصر الناصري، كما منع من دخول مصر في سبعينيات القرن الماضي، عقب كتابته قصة قصيرة بعنوان «الفلاح المصري والرئيس المؤمن»، وقد نشرت في مجلة «الحوادث» اللبنانية.
عن تجربته مع التابوهات يقول الكفراوي: «نحن ضحايا المقدس بكل صوره، والمقدس ينسحب معناه على كل القيم الجامدة، ومنها قيم عائلية، وأخرى مجتمعية ومذهبية وطائفية، تحرمك الخوض في مناطق جديدة، كما تقف حائلا دون التجريب. يقدس الناس القائم ولا يغيرونه، وبالتالي فقدنا فعل الحرية، وفقدنا النقد الذي يقودنا إلى قيم إيجابية خلاقة». أضاف الكفراوي: «كنا جميعا ضحية التابو السياسي لفترات طويلة، وتجربتي الشخصية أبسط من تجارب صنع الله إبراهيم، ويوسف إدريس بل نجيب محفوظ». ولفت الكفراوي إلى طرق تهربه من التابو السياسي قائلا: «أنا ابن هذا الواقع ومحرماته، كنا نلجأ إلى الرمز والدوران حول المعنى حتى نفلت من سطوة الرقابة، ومع ذلك لم تكن تنطلي تلك الحيلة على المسؤولين، وكثيرا ما دفعنا ثمنا لمعان لم نكن نقصدها».
ويرى الكفراوي أن الواقع الحالي أشد سوءا من السابق، فإذا كان المبدع برأيه اعتاد على التابوهات التقليدية، فهي الآن تكاثرت وتنامت وحاصرت الإبداع وخنقته. ومن بين التابوهات الجديدة لقمة العيش، فالكاتب قد يتغاضى عن عيوب ظاهرة من أجل الحفاظ على وظيفته، وقد يغفل أشياء كثيرة من أجل حسابات رئيس تحرير يعمل تحت مسؤوليته، أو خوفا على وظيفة حكومية يفقدها أو منحة يتلقاها.
ومن بين التابوهات المستحدثة بحسب الكفراوي: «الطائفية والمذهبية، فالكاتب اليوم لا يحاسب على إبداعه بل وفق انتماءاته العرقية والمذهبية. فلم يعد من السهولة أن يكتب مبدع شيعي عن مجتمعات سنية، والعكس أيضا. والحساسية نفسها موجودة بين المسلمين والمسيحيين، بما يخلق واقعا مخيفا، في حالة استمراره سيجفف منابع الموهبة».
من جانبه يرى المسرحي علي سالم، أن الواقع الحالي أشبه بحركة اصطياد الساحرات، مع ظهور تابوهات مستحدثة، ومنها ما يعاني منه شخصيا وهو التطبيع، فقد تحولت أفكاره الداعية إلى التطبيع والسلام مع إسرائيل إلى محرمات أخطر من المحرمات القديمة كالجنس والسياسة، بل تحول الكاتب نفسه الذي مس التابوه إلى تابوه بذاته، فتفرض العزلة عليه وعلى إبداعه، ويلاحق باتهامات التخوين والعمالة.
وعن المحرمات القديمة يقول سالم: «إن التابو الجنسي من السهل التغلب عليه فهو يملأ الحواديت الشعبية في تراث الأدب العربي. أما عن التابو الديني فلسنا بصدد حركة تطهير مثل التي عاشتها إنجلترا ذات يوم».
على العكس تماما يرفض الروائي يوسف زيدان، رئيس مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، الحاصل على «بوكر الرواية العربية» لهذا العام بروايته المثيرة للجدل «عزازيل»، اعتراف الثقافة العربية بوجود تابو أو مقدس ينتهك إبداعاتها، ويقول: «التابو» مصطلح أطلق في المجتمعات البدائية ويرتبط بما يسمى الطوطم المقدس للجماعة، والطوطم هو الرمز المقدس للجماعة. فقد كانت تلك الجماعات تعبد ما تخشاه من حيوانات، فمثلا في أعالي النيل كان الناس يقدسون التماسيح لأنها تهدد حياتهم، وارتبط بتقديس تلك الحيوانات أو الآلهة المزعومة كل ما يرتبط بها، سواء كانوا أشخاصا أو أماكن ممنوع دخولها أو جمادا، وهذه الممنوعات هي ما أطلق عليه «التابو».
وقال زيدان، إن الثقافة العربية لم تعرف هذه الممنوعات، حتى بعد أن خرجت الكلمة من معناها الأصلي إلى استخدامها الدلالي كعائق أمام الفكر مشيرا إلى أن التابوهات الثلاثة، الجنس والدين والسياسة غير موجودة في الفكر العربي الممتد إلى 1500 سنة مضت على أقل تقدير.
ودلل زيدان على ذلك بقوله: «بالنسبة للجنس كتب امرؤ القيس ما قيل إنه أفحش أبيات الشعر على الإطلاق. ومنذ 400 عام كتب السيوطي وغيره مؤلفات نعجز الآن عن ذكر اسمها كاملا، ومنها مثلا مؤلفه الشهير «الأيك في...»، كما ساهم العرب في مؤلفات تخص علم الباه، وهو علم الأداء الجنسي، وخرجت مؤلفات جريئة مثل «ألف ليلة وليلة». وفي السياسة كانت هناك «كليلة ودمنة». وفيما يخص الدين، لا بد أن نحدد أولا أي دين، وهل هو اليهودية أم المسيحية أم الإسلام، وفي الإسلام يجدد الفقهاء أحكام الشريعة وتظهر اجتهادات تثور على القديم».
وحول الاعتراضات المسيحية على روايته «عزازيل»، في سياق «التابو» الديني نفى زيدان ذلك، لافتا إلى أن «الديانة المسيحية قائمة على التسامح، وأن الانتقادات صدرت من أشخاص يعدون على أصابع اليد الواحدة، ومبعثها سوء الفهم وليس المحرمات الدينية».
من جانبها أشارت الروائية صفاء عبد المنعم، إلى إمكانية تغير موقف المبدع من المحرمات بتغير ظروفه، وقالت إنها كانت تتخطى «التابو» الجنسي أحيانا، وتكتب عن حرية الجسد، لكن مع كبر بناتها وقفت إمكانية التأثير السلبي على تربية أبنائها حائلا أمام هذا النوع من الكتابة. وقالت عبد المنعم، إن «من بين المحرمات الجديدة التي يضعها الكاتب في ذهنه أحيانا، وسيلة النشر. فما تنشره مجلة ثقافية لن تنشره أخرى، وفقا للسياسة التحريرية ونمط الملكية والمصالح». وعن أوضاع المحرمات التقليدية حاليا قالت عبد المنعم: «المحرم الجنسي تخطاه الإبداع منذ التسعينيات. بينما يبقى المحرم السياسي قويا، من أعلى هرم في السلطة حتى عمدة القرية في ريف مصر، ويخضع تخطي المحرم الديني إلى توازنات ومصالح».
ورفض الكاتب والسيناريست أسامة أنور عكاشة، فكرة وجود محرمات جديدة، معتبرا أن المحرمات المستحدثة هي تفريعات للمحرمات القديمة الثلاثة.
وعن ترتيب سطوة التابوهات الثلاثة، في مجتمعنا قال عكاشة، إن الأمر يتغير بتغير ظروف كل مجتمع، فمصر في فترة من الفترات كان السياسي فيها هو الأقوى، أما اليوم فيعتلي المحرم الديني قمة جبل المحرمات.
وحول المحرمات الجديدة، قال الناقد عبد المنعم تليمة، إن أبرزها التخوين والتكفير، فأصبح كل صاحب طرح جديد خائن بالضرورة، أو كافر بقيم المجتمع ومقدساته.
وحمل تليمة السلطة مسؤولية إزكاء المعارك الناتجة عن تنامي المحرمات، لأنها برأيه تجد فيها وسيلة لإبعاد الأنظار عن سلبياتها، وتفتيتا لطاقة مجتمعية كان يمكن أن توجه لإصلاحها. ويعبر الوضع الآني عن أزمة تواجهها السلطة وتنفث عنها بتلك الممارسات.
وقال تليمة، إن التصدي للمحرمات المتنامية اليوم بات أمرا بالغ الصعوبة، على عكس ما كان يحدث في الستينات والسبعينات، مستطردا: «كنت كثيرا ما أتخطى «التابو» السياسي، عبر ندوات وأفكار وأنشطة أكاديمية بين طلابي في الجامعة، وكنت أتمتع بقدرة نسبية على التمرد، وحتى إذا تعديت الخطوط الحمراء كانت النتيجة معروفة، بضعة أسابيع في المعتقل أخرج بعدها لأواصل طريقي، لكن اليوم وفي ظل التكفير والتخوين، النتائج غير محمودة العواقب».
وبدورها فرقت الروائية سلوى بكر، بين ما تسميه الحسابات والتابوهات. فالثانية من وجهة نظرها تشترط الاتفاق الجمعي والقيمي عليها بشكل يحدد ما هو مقدس في أذهان المجتمع، وهي هنا المحرمات الثلاثة المتفق عليها، بينما العصر الحالي حافل بالحسابات، التي ترى خطورتها أكبر من خطر المحرمات المعروفة.
وتابعت: «هناك من يكتب وعينه على السينما، وآخر عينه على الشهرة والإعلام والبحث عن الإثارة، أو المجاملة والمصالح، وكلها أشياء تمنع انسياب الإبداع بشكل صحي». وقالت بكر عن ترتيب التابوهات حاليا: «الجنس لم يعد تابو في العصر الحالي، والحضارة العربية لم تتعامل معه يوما باعتباره محرما، لكن الكتابات التي تتخطى خطوطه الحمراء لا تزال تفتقد العمق الكافي، وفي مجتمعاتنا يظل المحرم الديني في المقدمة».
وعن تجربتها الشخصية مع المحرمات اعتبرت بكر، أن الاصطدام بها غير ذي فائدة، فلا بد أن يكون الاختراق عبر طرائق إبداعية جديدة، مع رسائل ناعمة لا تجرح. وعلى ذلك لا تحبذ بكر طريقة توجيه اللكمات مباشرة للمحرمات، فالأهم هو الفائدة النهائية للقارئ والمجتمع، وأسلوب اللكمات لا يعود إلا بالإثارة.
وأضافت بكر أنها تعرف كتابا تعمدوا خرق التابوهات دون رؤية أو قضية، ووصل الأمر ببعضهم أن يرسل للصحف ما يطلق عليه إبداعا ويخط بالقلم الأحمر تحت الجمل الصادمة، كي يثير ضجة حول نفسه.
عرفت التابوهات بأنها ثلاثة أنواع: الجنس والسياسة والدين، أما اليوم فيؤكد البعض أن التابوهات الثلاثة تكاثرت وتنامت، بعيدا عن سطوة المحرمات القديمة، بينما لا يزال هناك من يعتقد أن المحرمات هي من صنع الخيال، وبمقدور من يريد أن يتخطاها بسهولة.
توارت التابوهات الثلاثة التقليدية كثيرا لصالح تابوهات أخرى، برأي الروائي يوسف القعيد، «فمع معدل الأمية المرتفع، وإقلاع الناس عن القراءة قلت قبضة التابو السياسي، كما تعدى الروائيون الجدد بمراحل ما كنا نعتبره خطوطا حمراء في الجنس، وانتقل تمردهم من حالة إحسان عبد القدوس، الذي كان يكتفي بوصف المشهد الجنسي بوضع نقاط فارغة في الصفحة إلى العلاقات المثلية. وقد انتهك التابو الجنسي بفعل رياح غربية وعواصف العولمة إضافة إلى تراجع نمط الدولة التقليدية القديمة».
ولفت القعيد إلى أنه مع تراجع التابوهات القديمة ظهرت أخرى أكثر حداثة، وأشد خطرا على المبدعين، ومنها التابو القبلي. فهناك ناشرة عربية تعرضت للقتل لأنها نشرت كتابا لمؤلفة مست فيه قبيلتها. والأمر متغلغل في كل البلاد العربية تقريبا، بحسب القعيد. فلا يستطيع الكاتب أن يكتب بحرية عن بدو سيناء، ولا عن الهوارة والأشراف مثلا في جنوب مصر.
وعن تجربته الذاتية في التعامل مع التابوهات يقول القعيد: «أؤمن بشعار سبقني إليه نجيب محفوظ، وهو القائل: عندما أكتب لا أعبأ بشيء على الإطلاق. وقد قال ذلك عام 1961، وهي جملة لخصت تجربته، خاصة وهو أشجع الكتاب تحديا للتابوهات. ولا ننسى «أولاد حارتنا»، التي تحدى بها الفهم المنغلق للدين».
بدوره كان القاص سعيد الكفراوي، من الذين دفعوا ثمن اشتداد ساعد التابو السياسي في فترات سابقة، تعرض للسجن بعد كتابته قصة «المهرة» في العصر الناصري، كما منع من دخول مصر في سبعينيات القرن الماضي، عقب كتابته قصة قصيرة بعنوان «الفلاح المصري والرئيس المؤمن»، وقد نشرت في مجلة «الحوادث» اللبنانية.
عن تجربته مع التابوهات يقول الكفراوي: «نحن ضحايا المقدس بكل صوره، والمقدس ينسحب معناه على كل القيم الجامدة، ومنها قيم عائلية، وأخرى مجتمعية ومذهبية وطائفية، تحرمك الخوض في مناطق جديدة، كما تقف حائلا دون التجريب. يقدس الناس القائم ولا يغيرونه، وبالتالي فقدنا فعل الحرية، وفقدنا النقد الذي يقودنا إلى قيم إيجابية خلاقة». أضاف الكفراوي: «كنا جميعا ضحية التابو السياسي لفترات طويلة، وتجربتي الشخصية أبسط من تجارب صنع الله إبراهيم، ويوسف إدريس بل نجيب محفوظ». ولفت الكفراوي إلى طرق تهربه من التابو السياسي قائلا: «أنا ابن هذا الواقع ومحرماته، كنا نلجأ إلى الرمز والدوران حول المعنى حتى نفلت من سطوة الرقابة، ومع ذلك لم تكن تنطلي تلك الحيلة على المسؤولين، وكثيرا ما دفعنا ثمنا لمعان لم نكن نقصدها».
ويرى الكفراوي أن الواقع الحالي أشد سوءا من السابق، فإذا كان المبدع برأيه اعتاد على التابوهات التقليدية، فهي الآن تكاثرت وتنامت وحاصرت الإبداع وخنقته. ومن بين التابوهات الجديدة لقمة العيش، فالكاتب قد يتغاضى عن عيوب ظاهرة من أجل الحفاظ على وظيفته، وقد يغفل أشياء كثيرة من أجل حسابات رئيس تحرير يعمل تحت مسؤوليته، أو خوفا على وظيفة حكومية يفقدها أو منحة يتلقاها.
ومن بين التابوهات المستحدثة بحسب الكفراوي: «الطائفية والمذهبية، فالكاتب اليوم لا يحاسب على إبداعه بل وفق انتماءاته العرقية والمذهبية. فلم يعد من السهولة أن يكتب مبدع شيعي عن مجتمعات سنية، والعكس أيضا. والحساسية نفسها موجودة بين المسلمين والمسيحيين، بما يخلق واقعا مخيفا، في حالة استمراره سيجفف منابع الموهبة».
من جانبه يرى المسرحي علي سالم، أن الواقع الحالي أشبه بحركة اصطياد الساحرات، مع ظهور تابوهات مستحدثة، ومنها ما يعاني منه شخصيا وهو التطبيع، فقد تحولت أفكاره الداعية إلى التطبيع والسلام مع إسرائيل إلى محرمات أخطر من المحرمات القديمة كالجنس والسياسة، بل تحول الكاتب نفسه الذي مس التابوه إلى تابوه بذاته، فتفرض العزلة عليه وعلى إبداعه، ويلاحق باتهامات التخوين والعمالة.
وعن المحرمات القديمة يقول سالم: «إن التابو الجنسي من السهل التغلب عليه فهو يملأ الحواديت الشعبية في تراث الأدب العربي. أما عن التابو الديني فلسنا بصدد حركة تطهير مثل التي عاشتها إنجلترا ذات يوم».
على العكس تماما يرفض الروائي يوسف زيدان، رئيس مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، الحاصل على «بوكر الرواية العربية» لهذا العام بروايته المثيرة للجدل «عزازيل»، اعتراف الثقافة العربية بوجود تابو أو مقدس ينتهك إبداعاتها، ويقول: «التابو» مصطلح أطلق في المجتمعات البدائية ويرتبط بما يسمى الطوطم المقدس للجماعة، والطوطم هو الرمز المقدس للجماعة. فقد كانت تلك الجماعات تعبد ما تخشاه من حيوانات، فمثلا في أعالي النيل كان الناس يقدسون التماسيح لأنها تهدد حياتهم، وارتبط بتقديس تلك الحيوانات أو الآلهة المزعومة كل ما يرتبط بها، سواء كانوا أشخاصا أو أماكن ممنوع دخولها أو جمادا، وهذه الممنوعات هي ما أطلق عليه «التابو».
وقال زيدان، إن الثقافة العربية لم تعرف هذه الممنوعات، حتى بعد أن خرجت الكلمة من معناها الأصلي إلى استخدامها الدلالي كعائق أمام الفكر مشيرا إلى أن التابوهات الثلاثة، الجنس والدين والسياسة غير موجودة في الفكر العربي الممتد إلى 1500 سنة مضت على أقل تقدير.
ودلل زيدان على ذلك بقوله: «بالنسبة للجنس كتب امرؤ القيس ما قيل إنه أفحش أبيات الشعر على الإطلاق. ومنذ 400 عام كتب السيوطي وغيره مؤلفات نعجز الآن عن ذكر اسمها كاملا، ومنها مثلا مؤلفه الشهير «الأيك في...»، كما ساهم العرب في مؤلفات تخص علم الباه، وهو علم الأداء الجنسي، وخرجت مؤلفات جريئة مثل «ألف ليلة وليلة». وفي السياسة كانت هناك «كليلة ودمنة». وفيما يخص الدين، لا بد أن نحدد أولا أي دين، وهل هو اليهودية أم المسيحية أم الإسلام، وفي الإسلام يجدد الفقهاء أحكام الشريعة وتظهر اجتهادات تثور على القديم».
وحول الاعتراضات المسيحية على روايته «عزازيل»، في سياق «التابو» الديني نفى زيدان ذلك، لافتا إلى أن «الديانة المسيحية قائمة على التسامح، وأن الانتقادات صدرت من أشخاص يعدون على أصابع اليد الواحدة، ومبعثها سوء الفهم وليس المحرمات الدينية».
من جانبها أشارت الروائية صفاء عبد المنعم، إلى إمكانية تغير موقف المبدع من المحرمات بتغير ظروفه، وقالت إنها كانت تتخطى «التابو» الجنسي أحيانا، وتكتب عن حرية الجسد، لكن مع كبر بناتها وقفت إمكانية التأثير السلبي على تربية أبنائها حائلا أمام هذا النوع من الكتابة. وقالت عبد المنعم، إن «من بين المحرمات الجديدة التي يضعها الكاتب في ذهنه أحيانا، وسيلة النشر. فما تنشره مجلة ثقافية لن تنشره أخرى، وفقا للسياسة التحريرية ونمط الملكية والمصالح». وعن أوضاع المحرمات التقليدية حاليا قالت عبد المنعم: «المحرم الجنسي تخطاه الإبداع منذ التسعينيات. بينما يبقى المحرم السياسي قويا، من أعلى هرم في السلطة حتى عمدة القرية في ريف مصر، ويخضع تخطي المحرم الديني إلى توازنات ومصالح».
ورفض الكاتب والسيناريست أسامة أنور عكاشة، فكرة وجود محرمات جديدة، معتبرا أن المحرمات المستحدثة هي تفريعات للمحرمات القديمة الثلاثة.
وعن ترتيب سطوة التابوهات الثلاثة، في مجتمعنا قال عكاشة، إن الأمر يتغير بتغير ظروف كل مجتمع، فمصر في فترة من الفترات كان السياسي فيها هو الأقوى، أما اليوم فيعتلي المحرم الديني قمة جبل المحرمات.
وحول المحرمات الجديدة، قال الناقد عبد المنعم تليمة، إن أبرزها التخوين والتكفير، فأصبح كل صاحب طرح جديد خائن بالضرورة، أو كافر بقيم المجتمع ومقدساته.
وحمل تليمة السلطة مسؤولية إزكاء المعارك الناتجة عن تنامي المحرمات، لأنها برأيه تجد فيها وسيلة لإبعاد الأنظار عن سلبياتها، وتفتيتا لطاقة مجتمعية كان يمكن أن توجه لإصلاحها. ويعبر الوضع الآني عن أزمة تواجهها السلطة وتنفث عنها بتلك الممارسات.
وقال تليمة، إن التصدي للمحرمات المتنامية اليوم بات أمرا بالغ الصعوبة، على عكس ما كان يحدث في الستينات والسبعينات، مستطردا: «كنت كثيرا ما أتخطى «التابو» السياسي، عبر ندوات وأفكار وأنشطة أكاديمية بين طلابي في الجامعة، وكنت أتمتع بقدرة نسبية على التمرد، وحتى إذا تعديت الخطوط الحمراء كانت النتيجة معروفة، بضعة أسابيع في المعتقل أخرج بعدها لأواصل طريقي، لكن اليوم وفي ظل التكفير والتخوين، النتائج غير محمودة العواقب».
وبدورها فرقت الروائية سلوى بكر، بين ما تسميه الحسابات والتابوهات. فالثانية من وجهة نظرها تشترط الاتفاق الجمعي والقيمي عليها بشكل يحدد ما هو مقدس في أذهان المجتمع، وهي هنا المحرمات الثلاثة المتفق عليها، بينما العصر الحالي حافل بالحسابات، التي ترى خطورتها أكبر من خطر المحرمات المعروفة.
وتابعت: «هناك من يكتب وعينه على السينما، وآخر عينه على الشهرة والإعلام والبحث عن الإثارة، أو المجاملة والمصالح، وكلها أشياء تمنع انسياب الإبداع بشكل صحي». وقالت بكر عن ترتيب التابوهات حاليا: «الجنس لم يعد تابو في العصر الحالي، والحضارة العربية لم تتعامل معه يوما باعتباره محرما، لكن الكتابات التي تتخطى خطوطه الحمراء لا تزال تفتقد العمق الكافي، وفي مجتمعاتنا يظل المحرم الديني في المقدمة».
وعن تجربتها الشخصية مع المحرمات اعتبرت بكر، أن الاصطدام بها غير ذي فائدة، فلا بد أن يكون الاختراق عبر طرائق إبداعية جديدة، مع رسائل ناعمة لا تجرح. وعلى ذلك لا تحبذ بكر طريقة توجيه اللكمات مباشرة للمحرمات، فالأهم هو الفائدة النهائية للقارئ والمجتمع، وأسلوب اللكمات لا يعود إلا بالإثارة.
وأضافت بكر أنها تعرف كتابا تعمدوا خرق التابوهات دون رؤية أو قضية، ووصل الأمر ببعضهم أن يرسل للصحف ما يطلق عليه إبداعا ويخط بالقلم الأحمر تحت الجمل الصادمة، كي يثير ضجة حول نفسه.