منقول - سرد راق بلغة السواطير.. المغربي نيد علي يرصد غراميات جزاره المحب لزينب

يمكن اعتبار هذا الكتاب، من كتب فن الحب والهوى، إنه مثل كتاب أوفيد، يليق لأشياء كثيرة، منها تعلم الحكمة من الكتب، ومنها أيضا استغوار عالم المرأة بتتبع خيط الحب إلى آخره حتى وإن كانت اللحمة الأساسية التي تقوم عليها رواية ''غراميات متعلم جزار'' لمحمد نيد علي الصادرة عن منشورات ''الفنك'' لا تقوى على حمل القارئ إلى مناطق بعيدة، لكنها مع ذلك ونظرا لطابع موضوعها الطريف، تفرد لنفسها مكانا في ح

يشكل عنوان رواية الكاتب المغربي محمد نيد علي عتبة أساسية فيها درجة مركوزة من الإغراء ومن دهاء وضع العناوين، وهو حين وضع العنوان التالي يكون قد فكر فيه جيدا ''قطع مختارة، غراميات متعلم جزار''، إنه عنوان مركب من بنيتين لغويتين، تؤكد الواحدة على الأخرى في نوع من التضامن الدلالي، عن قصدية أن يقع في دائرة التشابه مع كثير من القصص في موضوع شواكل الغرام، لكنه ينفرد عن هذه القصص في كون سروده المذكورة تتعلق بغرام مخصوص، هو غرام متعلم جزار، والذي بحسب التنامي الحكائي سيصبح ''معلما'' حقيقيا في فرم اللحم وتقطيعه ببراعة نادرة، وأيضا سيتحول من مجرد بصاص لزبوناته إلى مفتون بهن ومراود لهن ومقتنص للذة متخفية في ثياب المنع.

سيكون قدر بطل الرواية ''التهامي'' أو لنقل الشخصية الرئيسية المتكلمة في الرواية والتي تسيطر على دفتي الحكي من البداية إلى النهاية سيطرة مطلقة و ببراعة تجمع بين حنكة الجزار وبين فتوة الشباب وطلاوة اللسان، سيكون قدره أن يقع في حب زينب، الزوجة الشابة غير المقتنعة بزوجها في فراش الزوجية، والتي تخرج من البيت بعلة التسوق واقتناء كيلو من اللحم كل يوم.. موعد في التوطئ من أجل كيلو لحم بين المتعلم الذي صار معلما جزارا يشهد الجميع بجودة ''لحمه'' وبين الفتاة الشابة طرية العود واللحم، ينتهي بتلك الخلوات التي يختلط فيها المنع بالشوق الجارف بالولع بمساندة من ''الحاجة'' المرأة ذات الماضي المقدود من اللذة، تلك اللحظات التي تمر سراعا دون أن يتمكن الجزار الشاب من إطفاء جمرة الشوق من زينب الجموح، والتي لا تكفي ساعة أو بعض ساعة كي يكون الوطر أحسن ما يكون.

مناصات وحواشي

في هذه الرواية التي كتبت أساسا بالفرنسية وقام بترجمتها كل من حسان بورقية ومحمد الناجي بدعم من القسم الثقافي للسفارة الفرنسية في المغرب ووزارة الثقافة المغربية، الكثير من ''المناصات'' الجميلة والتي تكتسي طابعا ترصيعيا أو طابع الحواشي أو بعدا زخرفيا، أو تتشابه مع لعبة المطالع في القصيدة العربية، يستقي الروائي أو لنقل السارد مادته من الكتب، من كتب قديمة وكتب حديثة، بما يخدم ''التوجه'' السردي العام، وهو يفلح في ذلك من حيث جعل نصه الروائي ينفتح على نصوص أخرى أو أنه يهويه بشراجم كثيرة حتى ليبدو النص مثل المعمار المشيد.

ربما كانت هذه هي قصدية الكاتب الفعلي، لكنه من حيث لا يدري سقط في لغة ''عالمة'' ربما تتجاوز موضوعه أو طبيعة موضوعه، ذلك أن صلب الحكاية وتفرعاتها لا يحتملان هذه المثاقفة العالية، بل أن الكثير من المقاطع السردية الجميلة والفاتنة فعلا، تدعونا إلى طرح السؤال التالي: هل يستطيع مجرد جزار أن يتكلم هذه اللغة العالمة، الفارهة التي لا يستطيع أبوه ''الفقيه'' العدل، في الرواية أن يتكلمها؟ ولماذا كلما ثاقفنا كلامنا صار غير حقيقي؟ وهل يجوز للروائي مالا يجوز لغيره؟ ثم ما وظيفة هذه القصة الطويلة من حب النساء، العامرة بالمنولوغات والتداعيات في الوقت الذي كان فيه ''التكنيك'' الروائي المتاح يوفر للكاتب فرصا أكبر لبناء روايته على صروح أخرى؟.

هذه الأسئلة، وغيرها، يوفر لنا مداخل لقراءة هذا العمل غير المسبوق على مستوى موضوعه، لكونه تيمة غير ''مستحبة'' بالنسبة للكاتب الروائي على وجه العموم، فعالم كتاب الرواية المغربية ما يزال يحلق غالبا في فضاءات ''نموذجية'' هي حصر على الفضاء الثقافي العام، وكأن الرواية أو الأدب عامة حين يزيغ عن هذه الفضاءات يضع نفسه خارج الأدب الصافي، وهي النظرة المهيمنة على فضاء الكتابة في المغرب أو على جلها، في الوقت الذي تتسع فيه الحياة، وتمتد إلى أرخبيلات ومجاهل سحيقة وفي غاية الطرافة، كما هو الأمر بالنسبة لهذه القطع المختارة من ''غراميات متعلم جزار''. لمحمد نيد علي، والذي بدون شك يمتلك شجاعة اختراق موضوع غير ''مستطرق'' روائيا، لكنه دال وعميق ويدعو إلى التفكير في عوالم أصحاب المهن و''الأغلبية الصامتة''، تلك العوالم التي تتطلب الكتابة عنها معرفة عميقة وملازمة لصيقة، وتقمصا، في تدليل على أن الخيال الروائي هو المادة الأساسية للكاتب، مهما كانت القصص حقيقية في الواقع ومهما كانت حياة ألوف الجزارين تسير على غير منوال صاحبنا في الرواية.

نصوص مستقلة

مما يثير في الرواية هو المقتبسات التي انتقاها الكاتب الفعلي بدقة، وهي نصوص مستقلة بذاتها لكنها ترتبط في نفس الوقت مع المناخ الروائي العام، وهو يلجأ إلى هذه التقنية لتكسير رتابة السرد وأيضا لخلق فجوات في النص تسمح بامتدادات أخرى أو ربما كي يمنح نصه نوعا من التغذية المتوازنة التي تتيح له الوجود على قدم وساق مع تلك الإحالات الدالة على الإنتماء الأدبي أو القيمة البيانية.

نجد ترصيعات من الثقافة العربية لكل من أبي تمام وجبران وطوق الحمامة لابن حزم وأبي فراس الحمداني وألف ليلة وليلة والطاهر بن جلون، وترصيعات من الثقافة الأوروبية لكل من بازان ووتيرينس وتينسي وليامز وماكين وكازانوفا وجول فالي وغيرها من الإحالات والتي تتقدم في النص الروائي باعتبارها مرشدا ودليلا من أدلاء القراءة، فالنص الأدبي ايضا مثل صحراء مقفرة يحتاج إلى دليل أمين يقودك إلى المخرج والنجاة، وإلا دونك والهلاك.

رواية تدور في المدينة القديمة في مراكش، لاشك أنها تلتبس مع الواقع وتفرخ الكثير من الأسئلة، في مغامرة القراءة، قراءة قصة التهامي ابن العادل، التهامي متعلم الجزارة الذي صار ''ماشاء الله'' جزارا معلما يعرف كيف يفرم اللحم، وله علم ومعرفة بلحم النساء من النظرة الأولى، هو الذي يعرف اللحم الطيب من الخبيث كيف لا يعرف موطن المرأة الزكية من العجفاء؟. هل رواية نيد علي رواية في ''فن الهوى''؟ وهل هي نص إيروتيكي؟ اعتقد أن الفعل الإيروتيكي في الرواية لا يأتي من لغتها لأنها لا توغل في الوصف ولكنها رواية إيروتيكية إذا جاز الوصف لناحية الموضوع الذكي، فالبطل منذ نعومة أظافره افتتن باللحم وبمنظر رؤية اللحم يقول المتكلم في الرواية ''أحب الشحوم الطافحة بالنعومة والصفاء، احب المخ الموضوع بعناية على سيقان الكزبرة، وقلوب العجول القوية، المنتزعة كأجراس خرساء، كنت أحب حتى الأحشاء الملفوفة، اللامعة، وهي تقطر ماء، وهي لا تزال تنبض بالحياة''.

هل هناك أقوى من جزار يتكلم لغة رفيعة كهذه، لغة الشعراء لا لغة الجزارين.
 
أعلى