نقوس المهدي
كاتب
ربما يكون المتنبي قد لامس جوهر المسألة الأخلاقية حينما أرسل قولته الشهيرة مثلا شرودا بين الناس يرددونه كلما تعذر عليهم إيجاد اللغة التي تناسب مواقفهم، أو تعذر عليهم صياغة الفكرة التي تختلج في أعماقهم حينما قال: ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ * يَجدْ مُرّاً بهِ المَاءَ الزُّلالا.
في معرض من ينكر فضل شعره وسبقه في أفانين القول. غير البيت الشعري صار مثلا شرودا منفلتا من قيده ذاك حينما وجد فيه عامة المتحدثين خير تمثيل لما يجدونه من فساد الأذواق، وقبولها للمرذول من القول والعبارة. حينما صار الغناء مثلا، لا يخاطب المشاعر والأحاسيس بل عاج إلى دغدغة الشهوات واللذات، ثم تمادى ليكون دعوة صريحة للفجور. فكان في تدني الأذواق إيذان بتدني الأخلاق، أو هما متلازمان لا ينفكان في التدحرج مع بعضهما بعض بعض. حتى صار من المتعذر اليوم الاستماع إلى المذياع في وسط عائلي خوفا من أن تفاجئك أغنية هابطة تفرق الجماعة.
بدأ أمر الفحش في الأدب والفن من دعوات مشبوهة عرفت كيف تلبس لبوس النصح، حينما تقدمت آراء تريد للفن أن يكون قريبا من الواقع، ملاصقا له، متصفا بالصدق الفني الذي يرغب في نقل الواقع كما هو من غير تزييف ولا تحريف. وقُبلت الأفكار على أنها حركة تصحيحية في الأداب والفنون لتحاشي التدليس الذي كانت تمارسه كثير من الكتابات الكلاسيكية والرومنسية والواقعية في بداية أمرها.. وكذلك سرى الأمر في الشعر والمسرح.. وحينما استحكمت الفكرة من النقاد والأدباء، تحركت مرة أخرى لتقول أنه لا يجب البتة أن يتحدث الأشخاص في الرواية الواحدة بلسان واحد ومستوى واحد، بل يجب أن يتحدث كل شخص بلسانه ومستواه الثقافي وطبقته الاجتماعية.. ففُتح بذلك باب اللهجات العامية، والعبارت المسكوكة الخاصة بمنطقة وأخرى.. ثم قُبل من الجلف الغليظ حوشية ألفاظه، ومن الغاضب العاصف سبه وشتيمته، ومن المعربد بذاءته.. إلى أن وصلنا إلى العهر الفاضح الفاحش يُنقل في الحوارات على أنه واقعية ضرورية في الرواية ليكون مستوى الكلام مناسبا لأصحابه ومقاماتهم الاجتماعية والخلقية.. وربما نَعت النقد هذه القضية بتعدد الأصوات التي يراد من ورائها نفي صوت المؤلف المهيمن على الحوارات في اختلاف مستوياتها وتنوع شخصياتها.. هذه الخطوة كانت ضرورية لتكون مقدمة لما يعرف اليوم ب"الواقعية القذرة" التي باركتها أفلام هوليوود مع نخبة من المخرجين المتمردين على الأبوية الهوليوودية التي سطرت نهج الحوار منذ خمسينيات القرن الماضي وفتحت لنفسها باب الفحش في القول والفعل واسعا، وأجبرت الممثلين على ذلك أثناء تقمص الشخصيات الهامشية والمنبوذة وغيرها من أراذل الناس. كما عملت الحصص المتلفزة المباشرة على نقل هذا الفحش إلى الحوارات الجادة والهزلية على الهواء، فدخلت العبارات الفاحشة ساحة الأسرة بعدما كانت حكرا على الساحات العمومية والشوارع والحانات.. وغيرها من الأماكن المفتوحة والمغلقة.. وكانت ردات فعل المحافظين والأسريين عنيفة تجاه هذا التيار الذي لم يشهد نجاحا ملحوظا ولا إقبالا جماهريا.
واكتسحت "الواقعية القذرة" مجال الشعر مع الرواد الشعر الحر، والقصيدة النثرية.. أمثال "عزرا بوند" و"وولت وتمان" بعدما كانت مجرد كلمات جارحة في شعر " شارل بودلير" و"أرثور رامبو" غير أنها لم تكن تيارا "فنيا" يمثل خط سير للشعر في عمومه، وإنما كانت في أشعار بعضهم شارة على التمرد الاجتماعي والشخصي وحسب. غير أنه في الشعر العربي أخذت منحى آخر حينما تبناه بعض الشعراء استجابة لظروفهم الاجتماعية والسياسية الخاصة، وشعورهم بالغربة والاغتراب وإحاسسهم بالنبذ والتهميش في أوساطهم الدينية والطائفية والاجتماعية. فكانت ردات فعلهم تغترف من معين غضبهم أولا، ثم من استحسان جمهور يعيش على الهامشي والشاذ وبستجيب للماجن الخليع.. تعويضا عن فراغ أدبي وفني وجمالي أحدثته المناهج الدراسية المفبركة والتوجهات السياسية المرتجلة، وغياب النظرة المستقبلية، وانعدام المشروع الحضاري في خطابات وأحاديث الزعامة والزعماء.. فهو جمهور يعاني الجرح عينة الذي تعاني منه هؤلاء الشعراء، ويتجرع من كأس النبذ والحرمان والقهر والاغتراب.. فيجد في هذا الشاعر أو ذاك لسان حاله الذي يعبر عن غضبه ويتحمل مسؤولية ذلك كله بمفرده. ولعل ظاهرة "مظفر النواب" من هذا القبيل.. فهي الظاهرة ليست في حاجة إلى دراسة نقدية أو جمالية فنية.. بقدر ما هي في حاجة إلى دراسة نفسية واجتماعية تفكك الكلام الفاحش، وطبيعة لغته، وأبعاد وقعه في الأسماع والأذواق. وتنظر إليه على أنه متنفس وتنفيس ينوب عن نوايا شريحة واسعة من المجتمع العربي في تعاملها مع السياسي والاجتماعي في السر والعلن، وما يحيط بها من إكراهات تعيق تحقيق حقها في العيش الكريم..
د. حبيب مونسي: الأدب الفاحش.. ظاهرة في حاجة إلى تفكيك
في معرض من ينكر فضل شعره وسبقه في أفانين القول. غير البيت الشعري صار مثلا شرودا منفلتا من قيده ذاك حينما وجد فيه عامة المتحدثين خير تمثيل لما يجدونه من فساد الأذواق، وقبولها للمرذول من القول والعبارة. حينما صار الغناء مثلا، لا يخاطب المشاعر والأحاسيس بل عاج إلى دغدغة الشهوات واللذات، ثم تمادى ليكون دعوة صريحة للفجور. فكان في تدني الأذواق إيذان بتدني الأخلاق، أو هما متلازمان لا ينفكان في التدحرج مع بعضهما بعض بعض. حتى صار من المتعذر اليوم الاستماع إلى المذياع في وسط عائلي خوفا من أن تفاجئك أغنية هابطة تفرق الجماعة.
بدأ أمر الفحش في الأدب والفن من دعوات مشبوهة عرفت كيف تلبس لبوس النصح، حينما تقدمت آراء تريد للفن أن يكون قريبا من الواقع، ملاصقا له، متصفا بالصدق الفني الذي يرغب في نقل الواقع كما هو من غير تزييف ولا تحريف. وقُبلت الأفكار على أنها حركة تصحيحية في الأداب والفنون لتحاشي التدليس الذي كانت تمارسه كثير من الكتابات الكلاسيكية والرومنسية والواقعية في بداية أمرها.. وكذلك سرى الأمر في الشعر والمسرح.. وحينما استحكمت الفكرة من النقاد والأدباء، تحركت مرة أخرى لتقول أنه لا يجب البتة أن يتحدث الأشخاص في الرواية الواحدة بلسان واحد ومستوى واحد، بل يجب أن يتحدث كل شخص بلسانه ومستواه الثقافي وطبقته الاجتماعية.. ففُتح بذلك باب اللهجات العامية، والعبارت المسكوكة الخاصة بمنطقة وأخرى.. ثم قُبل من الجلف الغليظ حوشية ألفاظه، ومن الغاضب العاصف سبه وشتيمته، ومن المعربد بذاءته.. إلى أن وصلنا إلى العهر الفاضح الفاحش يُنقل في الحوارات على أنه واقعية ضرورية في الرواية ليكون مستوى الكلام مناسبا لأصحابه ومقاماتهم الاجتماعية والخلقية.. وربما نَعت النقد هذه القضية بتعدد الأصوات التي يراد من ورائها نفي صوت المؤلف المهيمن على الحوارات في اختلاف مستوياتها وتنوع شخصياتها.. هذه الخطوة كانت ضرورية لتكون مقدمة لما يعرف اليوم ب"الواقعية القذرة" التي باركتها أفلام هوليوود مع نخبة من المخرجين المتمردين على الأبوية الهوليوودية التي سطرت نهج الحوار منذ خمسينيات القرن الماضي وفتحت لنفسها باب الفحش في القول والفعل واسعا، وأجبرت الممثلين على ذلك أثناء تقمص الشخصيات الهامشية والمنبوذة وغيرها من أراذل الناس. كما عملت الحصص المتلفزة المباشرة على نقل هذا الفحش إلى الحوارات الجادة والهزلية على الهواء، فدخلت العبارات الفاحشة ساحة الأسرة بعدما كانت حكرا على الساحات العمومية والشوارع والحانات.. وغيرها من الأماكن المفتوحة والمغلقة.. وكانت ردات فعل المحافظين والأسريين عنيفة تجاه هذا التيار الذي لم يشهد نجاحا ملحوظا ولا إقبالا جماهريا.
واكتسحت "الواقعية القذرة" مجال الشعر مع الرواد الشعر الحر، والقصيدة النثرية.. أمثال "عزرا بوند" و"وولت وتمان" بعدما كانت مجرد كلمات جارحة في شعر " شارل بودلير" و"أرثور رامبو" غير أنها لم تكن تيارا "فنيا" يمثل خط سير للشعر في عمومه، وإنما كانت في أشعار بعضهم شارة على التمرد الاجتماعي والشخصي وحسب. غير أنه في الشعر العربي أخذت منحى آخر حينما تبناه بعض الشعراء استجابة لظروفهم الاجتماعية والسياسية الخاصة، وشعورهم بالغربة والاغتراب وإحاسسهم بالنبذ والتهميش في أوساطهم الدينية والطائفية والاجتماعية. فكانت ردات فعلهم تغترف من معين غضبهم أولا، ثم من استحسان جمهور يعيش على الهامشي والشاذ وبستجيب للماجن الخليع.. تعويضا عن فراغ أدبي وفني وجمالي أحدثته المناهج الدراسية المفبركة والتوجهات السياسية المرتجلة، وغياب النظرة المستقبلية، وانعدام المشروع الحضاري في خطابات وأحاديث الزعامة والزعماء.. فهو جمهور يعاني الجرح عينة الذي تعاني منه هؤلاء الشعراء، ويتجرع من كأس النبذ والحرمان والقهر والاغتراب.. فيجد في هذا الشاعر أو ذاك لسان حاله الذي يعبر عن غضبه ويتحمل مسؤولية ذلك كله بمفرده. ولعل ظاهرة "مظفر النواب" من هذا القبيل.. فهي الظاهرة ليست في حاجة إلى دراسة نقدية أو جمالية فنية.. بقدر ما هي في حاجة إلى دراسة نفسية واجتماعية تفكك الكلام الفاحش، وطبيعة لغته، وأبعاد وقعه في الأسماع والأذواق. وتنظر إليه على أنه متنفس وتنفيس ينوب عن نوايا شريحة واسعة من المجتمع العربي في تعاملها مع السياسي والاجتماعي في السر والعلن، وما يحيط بها من إكراهات تعيق تحقيق حقها في العيش الكريم..
د. حبيب مونسي: الأدب الفاحش.. ظاهرة في حاجة إلى تفكيك