نقوس المهدي
كاتب
لعل أكثر الأغراض الشعرية التي طرقها الشعراء على مر الزمن هي الغزل، وقد عرفه ابن منظور بأنه «اللهو مع النساء....ومغازلتهن ومحادثتهن ومراودتهن»(1).
ومن هذا المفهوم اتجه الغزل ليعبر عن العواطف التي تجيش في نفس الشاعر، مصورا ما يكابده من آلام وأشواق، فهو يتصل بالمرأة، وهي - كانت ولا تزال - ملجأ الرجل وملاذه إذا أجدبت نفسه بالحوادث الآزمة، والكوارث العاصفة»(2).
وقد وجد الغزل في الأندلس بيئة خصبة، لشيوع مجالس اللهو والأنس وتحرر المرأة.. ومن الشعراء الذين شببوا وتغزلوا: ابن زيدون الذي قدم «لديوان الشعر العربي تجربة حب لا نقول فريدة في نوعها، بل يحق لنا أن ننعتها بالتميز؛ لكونها وصمت بنبرتي الاختلاس(3) والاحتراس»(4).
وتجدر الإشارة إلى أن الغزل الأندلسي رغم تطوره، ومع إفراد الشعراء له قصائد مستقلة، فإننا نجد بعضهم استمر في جعله فاتحة للقصائد، على عادة الجاهليين، وممن كان يفعل ذلك ابن زيدون وابن دراج القسطلي(5).
الغزل عند المعتمد بن عباد(6):
شغل الغزل عند المعتمد بن عباد الحيز الأكبر من الديوان بأكثر من خمسين قطعة، ولعل لهذا الزخم الشعري الهائل – بالنظر إلى باقي الأغراض – أسبابا مردها إلى حياة الترف التي كان يعيشها، فضلا على تميزه برقة النفس والشعور.
«والحق أن المعتمد وفق في أيام مجده وسعوده إلى درجة من التجويد، مكنته من أن يصل بشعره في أبواب الغزل ووصف مجالس السرور.. إلى آفاق استدرت إعجاب البدو أنفسهم» (7).
الغزل العذري:
درج الشعراء العذريون على شكوى الفراق والبعد والجفاء، والحنين إلى أيام السعادةوالصفاء، والمعتمد في هذا لم يخرج عن المألوف، فهو يشكو القسوة ويطلب الرحمة، فيقول:
لكِ الله كمْ أودعتِ قلبي من
أسَى وكم لكِ ما بينَ الجَوانح من كَلْمِ
لِحاظكِ طول الدّهرِ حربٌ لمُهجتي
ألا رحْمة تثنيك يوما إلى سلمي(8)
ويطلب في موضع آخر الرحمة والعطف، في حوار مع المحبوبة:
قلت: فقد أيأستني
من الحياة.. قال: قــد
قلت: متى ترحمني؟
قال: ولا طول الأبد(9)
ويشكو المعتمد كغيره من العشاق آلام الفراق والهجر، والعذاب الذي يعانيه جراء ذلك، فيقول:
أسر الهوى نفسي فعذبها
يوم الوداع فلم أطق منعا
فأذاب حر صبابتي كبدي
وأسالها في وجْنتي دمعا(10)
ويقول في وصف لحظات الوداع:
ولما التقينا للوداع غدية
وقد خفقت في ساحة القصر رايات
وقربت الجرد العتاق وصفقت
طبول ولاحت للفراق علامات
بكينا دما حتى كأن عيوننا
لجري الدموع الحمر منها جراحات(11)
ما أجمل وصف لحظات الوداع هذه التي صورها المعتمد من كل الجوانب: لحظة الوداع، الأجواء المحيطة، والشعور النفسي.. كل ذلك في أبيات تتناغم فيها الكلمات في أصدق اللحظات وأصعبها.
ثم يصف في موضع آخر كيف رحل صبره عنه، رافضاً العودة إلا برجوع الأحبة:
رحل اصطباري إذ رحلتم قائلاً
أَوْبُ الأحبة بيننا الميعاد(12)
وسواء أكان المعتمد هو المودِّع أم المودَّع، فالأمر سيان حين يتعلق بالحنين والشوق إلى الأحبة، يقول مخاطباً «اعتماد» حظيته:
فما حل خل من فؤاد خليله
محل «اعتمادٍ» من فؤاد محمــــد
ولكنها الأقدار تُردي بلا ظُبى
وتُصمي بلا قتل وترمي بلا يد(13)
والمعتمد عاشق يستلذ عذابه، بل يتمنى دوام العلة إن كان في ذلك سبيل لقرب الحبيب:
إذا علة كانت لقربك علة
تمنيت أن تبقى بجسمي وأن تقــوى
فيا علتي دومي فأنت حبيبة
ويا رب سمعاً من ندائي والشكوى(14)
ومع كل هذا العذاب يظل المعتمد ذلك العاشق المخلص الوفي، الذي لا يغيره شيء :
وودي على حسب ما تعلمين
تزول الجبال وما إن يزول
فلا تستحيلي لبعد الديار
فإني مع البعد لا أستحيــل(15)
إلى هنا نجد المعتمد أشبه ما يكون بعنترة الجاهلي، أو جميل الأموي، شغله الشاغل طلب الوصال، ولسان حاله التفجع والبكاء.
الغزل الماجن:
خاض المعتمد الغزل بكل أطيافه حتى التي تخالف العرف، وهذا راجع لحياة الترف التي كان يعيشها أيام الملك والشباب، فقد كان «يكثر من مجالس الشراب والطرب... وكان يميل إلى الاستكثار من الجواري والمغنيات» (16)
ومن جملة هذه الأشعار ما قاله في «شلب» موطن اللهو والشباب، أو التي قالها وهو يحن إليها بعد توليه زمام الملك:
وكم ليلة قد بت أنعم جنحها
بمخصبة الأرداف مجدبة الخصر
وباتت تساقيني المدام بلحظها
فمن كأسها حيناً وحيناً من الثغر(17)
وقد لا يُشبع الواقع حاجات الشاعر، فلا يجد غير الحلم ملاذاً له(18):
إني رأيتك في المنام ضجيعتي
وكأن ساعدك الوثير وسادي
وكأنما عانقتني وشكوت ما
أشكوه من وجدي وطول سهادي (19)
الغزل العادي :
اتجه المعتمد اتجاهاً وسطاً بين الغزل العفيف والغزل الماجن، هو الغزل الذي يعنى بوصف المرأة دون مغالاة أو إسراف، فمن الطبيعة أخذ أجمل ما فيها وأسبغه على محبوبته، فقال:
يا صفوتي من البشر
يا كوكباً بل يا قمر(20)
و من القمر إلى الهلال، فقال:
يا هلالاً إذا بدا لي تجلت *** عن فؤادي دُجُنّة الكربات(21)
و في ثالثة لن تكون إلا شمساً سناءً وضياءً ورفعة، وقلبه أحد أبراجها:
يا أيها الشمس التي
قلبي لها أحد البروج(22)
والمعتمد لا يكاد يخرج عن معاني السابقين، فالمحبوبة أخذت من الغصن قده، ومن الغزال مقلتيه، ومن الروض عطره :
هي الظبي جيداً والغزالة مقلة
وروضُ الربى فوحاً وغصن النقا قداً (23)
والمتتبع لأشعار المعتمد في الغزل، يقف على توظيفه لألفاظ ومعان تدل على القوة، فهو لم ينس الفروسية والحماسة، وإن نظم في أرق الأغراض الشعرية(24)، ومما قاله:
لحاظك طول الدهر حرب لمهجتي
ألا رحمة تثنيك يوما إلى سِلْمي(25)
ويذكر في موضع آخر أثر الغانيات فيه، مشبهاً إياه بوقع الصفائح البيض:
وبيضٌ وسمرٌ فاعلاتٌ بمهجتي
فعال الصفاحِ البيض والأسل السمر(26)
وهنا مقابلة رائعة بين لون بشرة الغانيات من بياض وسمرة بالسيوف والرماح.
وأما الزمن عند المعتمد فهو رديف القسوة والحزن والهجران، ولأجل هذا فهو غير راض عنه، يقول:
لست أرضى عن زماني أو أرى
منك حسنا لا أراه من أحد(27)
ويقول:
فكأنما زمن التهاجر بيننا
ليلٌ وساعات الوصال بدور(28)
وللأعداد عند المعتمد نصيب في الغزل، غير أننا لاحظنا تركيزه على العدد (3)، يقول:
داوى ثلاثته بلطف ثلاثة
فثنى بذاك رقيبه لم يشعر
أسرارَه بتستر وأُوارَه
بتصبر وخيالهَ بتوقُّر(29)
ويقول:
ثلاثة منعتها عن زيارتنا
خوفُ الرقيب وخوفُ الحاسد الحنق
ضوءُ الجبين ووسواسُ الحلي وما
تحوي معاطفها من عنبر عبق(30)
ويقول:
وكنا نرجي الأوبَ بعد ثلاثة
فكيف وقد طالت عليها زيادات(31)
فهل كان تركيز المعتمد على العدد (3) راجعاً إلى أنه الملك العبادي الثالث، أو لأسباب أخرى؟
ولا ينسى المعتمد أن يوظف الخمر في أشعاره الغزلية، ولا عجب فكلاهما يذهب العقل ويسلب اللب، يقول:
أنا في عذاب من فراقك
سكران من خمر اشتياقك(32)
ثم هو يربط ربطاً عجيباً بين عيني المحبوبة وسكرة الخمر:
محيرة العينين في غير سكرة
متى شربت ألحاظ عينيك إسْفَنْطا(33)
وذكر اسم المحبوبة أمر شائع في الغزل(34)، والمعتمد ذكر من تغزل بهن، فهي مرة سحر:
عفا الله عن سحر على كل حالة
ولا حوسبت عما بها أنا واجد(35)
وهي حينا آخر جوهر:
سموك بالجوهر مظلومة
مثلك لا يدركه غائص(36)
بيد أن الاسم الذي ظل المعتمد يذكره كناية وتصريحا، هو اسم حظيته «اعتماد» الرميكية، حتى إنه اشتق اسمه من اسمها، فأصبح «لقبه الرسمي في تاريخ دولة بني عباد، بعد أن عرف بالظافر»(37).
و«اعتماد» هذه ليست أي امرأة، فهي حظيته وأم أولاده ومهوى فؤاده(38)، تقول زيغريد هونكه: «كان المعتمد شاعراً غنائياً شهيراً٫، خضع لحب الرميكة خضوعا أعمى... وتغنى فيها بشعره العذب الجميل»(39).
ومن قوله فيها:
تظن بنا أم الربيع سآمة
ألا غفر الرحمن ذنبا تواقعه(40)
ويبين في موضع آخر كيف سكن حب «اعتماد» قلبه، فلم يتسع لغيرها:
حب اعتماد في الجوانح ساكن
لا القلب ضاق به ولا هو راحل(41)
وهو يرى أن لا أحد بلغ من حب محبوبه ما بلغه حبه لاعتماد:
فما حل خل من فؤاد خليله
محل اعتماد من فؤاد محمد(42)
ثم هو يضمن اسم اعتماد في مقطوعة شعرية رائعة، تلك هي الصلة القويـة والحب الآسر:
أغائبة الشخص عن ناظري
وحاضرة في صميم الفؤاد
عليك السلام بقدر الشجون
ودمع الشؤون وقدر السهاد
تملكت مني صعب المرامي
وصادفت ودي سهل القياد
مرادي لقياك في كل حين
فيا ليتَ أني أعطى مرادي
أقيمي على العهد ما بيننا
ولا تستحيلي لطول البعاد
دسست اسمك الحلو في طي شعري
وألفت فيه حروف اعتماد(43)
الهوامش:
(1)- لسان العرب: ابن منظور – مادة (غزل): 492. (2)- الغزل في تاريخ الأدب العربي: أحمد الشايب: 17. (3)- يكثر الشاعر من ذكر الاختلاس، ومنها قوله: واغتنم صفو الليالي ** إنما العيش اختلاس. (4)- أندلسيات غرناطة والشعر: عبد الله حمادي: 52. (5)- ينظر قصيدة المديح في الأندلس: أشرف محمد نجا : 122-123. (6)- هو محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل.. لخمي النسب، ولد بمدينة باجة سنة 431هـ، تولى حكم إشبيلية بعد وفاة أبيه المعتضد أحد ملوك الطوائف، أسره ابن تاشفين وتوفي بأغمات نحو 488 هـ - ينظر: الإحاطة في أخبار غرناطة: 2 : 108 وم تلاها. (7)- المعتمد بن عباد: عبد الوهاب عزام: 17. (8)- ديوان المعتمد بن عباد: تح: رضا الحبيب السويسي: 19. (9)- الديوان: 20. (10)- نفسه: 43. (11)- نفسه : 44-45. (12)- الديوان : 45. (13)- نفسه: 51. (14)- نفسه: 57. (15)- نفسه : 56. (16)- قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس: سيد عبد العزيز سالم: 103. (17)- الديوان : 47-48. (18)- يكون الحلم عند الشاعر المحب هروبا من الواقع، وأحيانا انعكاسا له كما في قول ابن حزم: رأيتك في نومي كأنك راحل *** وقمنا إلى التوديع والدمع هامل - طوق الحمامة: 190. (19)- الديوان: 50. (20)- الديوان: 20. (21)- نفسه: 21. (22)- نفسه: 24. (23)- نفسه: 50. (24)- من أشهر الشعراء الذين زاوجوا بين الغزل ومعاني القوة عنترة، ومن قول هذا الأخير مخاطبا عبلة: وحقك لازال ظهر الجواد *** مقيلي وسيفي ودرعي وسادي – الديوان: 119. (25)- ديوان المعتمد بن عباد: 19. (26)- نفسه:48. (27)- نفسه: 30. (28)- الديوان: 53. (29)- م ن:42. (30)- م ن:43. (31)- م ن: 45. (32)- م س: 56. (33)- م ن: 58. (34)- «للشعراء أسماء تخف على ألسنتهم وتحلو في أفواههم، فهم كثيرا ما يأتون بها زورا نحو ليلى وهند وسلمى وفاطمة... وأشباههن» – العمدة: 2: 338. (35)- م س: 31. (36)- م ن: 32. (37)- القطوف اليانعة: عبد الله أنيس الطباع: 196. (38)- كان فاتحة حب المعتمد لاعتماد البيت الذي أجازته في شطره الثاني: صنع الريح على الماء زرد *** أي درع لقتال لو جمد! م ن: 196. (39)- شمس العرب تسطع على الغرب: 517. (40)- ديوان المعتمد: 33. (41)- م س:38. (42)- م ن: 40. (43)- إن المعتمد بن عباد لم يخرج في شعره الغزلي – في الغالب – عن دائرة القدماء، ولا عمن عاصره، فالمعاني التي ذكرها متداولة على ألسنة الشعراء، على أننا سجلنا تميزا في المزاوجة بين الحماسة والقوةومعاني الغزل الرقيقة. ولئن غلب التصنع على أشعاره التي قالها في بعضهن، فإن شعره في اعتماد فاض رقة وعذوبة وصدقا، وإذا كان الشعراء العذريون قد اقترنت أسماؤهم بأسماء محبوباتهم كجميل بثينة وعنترة عبلةوقيس ليلى وكثير عزة... فإن المعتمد بزهم باشتقاق لقب الملك من اسم محبوبته، وهو منتهى الحب والوجد.
مصادرومراجع البحث:
- الإحاطة في أخبار غرناطة: لسان الدين بن الخطيب، تح: محمد عبد الله عنان، مكتبة الناجي، ط1، القاهرة 1974. - الأدب العربي في الأندلس: عبد العزيز عتيق، دار النهضة العربية، ط2، بيروت، 1976. - أندلسيات غرناطة والشعر: عبد الله حمادي، جامعة منتوري، قسنطينة، 2004. - ديوان المعتمد بن عباد، تح: رضا الحبيب السويسي، الدار التونسية للنشر، د ط. - ديوان عنترة بن شداد، دار صادر، ط1، بيروت، 1992. - طوق الحمامة: ابن حزم الأندلسي، تح: صلاح الدين القاسمي، الدار التونسية للنشر، تونس، 1985. - العمدة في صناعة الشعرونقده: أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني، تح: مفيد قميحة دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 1983. - الغزل في تاريخ الأدب العربي: أحمد الشايب، دار المعارف للطباعةوالنشر، تونس. - قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس: سيد عبد العزيز سالم، مؤسسة شباب الجامعة، الاسكندرية، 1997. - قصيدة المديح في الأندلس: أشرف محمد نجا، دار الوفاء، ط1، الاسكندرية. - القطوف اليانعة: عبد الله أنيس الطباع، دار ابن زيدون، ط1، بيروت، 1986. - لسان العرب: أبو الفضل بن منظور، دار صادر، بيروت. - المعتمد بن عباد: عبد الوهاب عزام، دار المعارف، ط2، مصر 1975.
* عن مجلة الرافد
ومن هذا المفهوم اتجه الغزل ليعبر عن العواطف التي تجيش في نفس الشاعر، مصورا ما يكابده من آلام وأشواق، فهو يتصل بالمرأة، وهي - كانت ولا تزال - ملجأ الرجل وملاذه إذا أجدبت نفسه بالحوادث الآزمة، والكوارث العاصفة»(2).
وقد وجد الغزل في الأندلس بيئة خصبة، لشيوع مجالس اللهو والأنس وتحرر المرأة.. ومن الشعراء الذين شببوا وتغزلوا: ابن زيدون الذي قدم «لديوان الشعر العربي تجربة حب لا نقول فريدة في نوعها، بل يحق لنا أن ننعتها بالتميز؛ لكونها وصمت بنبرتي الاختلاس(3) والاحتراس»(4).
وتجدر الإشارة إلى أن الغزل الأندلسي رغم تطوره، ومع إفراد الشعراء له قصائد مستقلة، فإننا نجد بعضهم استمر في جعله فاتحة للقصائد، على عادة الجاهليين، وممن كان يفعل ذلك ابن زيدون وابن دراج القسطلي(5).
الغزل عند المعتمد بن عباد(6):
شغل الغزل عند المعتمد بن عباد الحيز الأكبر من الديوان بأكثر من خمسين قطعة، ولعل لهذا الزخم الشعري الهائل – بالنظر إلى باقي الأغراض – أسبابا مردها إلى حياة الترف التي كان يعيشها، فضلا على تميزه برقة النفس والشعور.
«والحق أن المعتمد وفق في أيام مجده وسعوده إلى درجة من التجويد، مكنته من أن يصل بشعره في أبواب الغزل ووصف مجالس السرور.. إلى آفاق استدرت إعجاب البدو أنفسهم» (7).
الغزل العذري:
درج الشعراء العذريون على شكوى الفراق والبعد والجفاء، والحنين إلى أيام السعادةوالصفاء، والمعتمد في هذا لم يخرج عن المألوف، فهو يشكو القسوة ويطلب الرحمة، فيقول:
لكِ الله كمْ أودعتِ قلبي من
أسَى وكم لكِ ما بينَ الجَوانح من كَلْمِ
لِحاظكِ طول الدّهرِ حربٌ لمُهجتي
ألا رحْمة تثنيك يوما إلى سلمي(8)
ويطلب في موضع آخر الرحمة والعطف، في حوار مع المحبوبة:
قلت: فقد أيأستني
من الحياة.. قال: قــد
قلت: متى ترحمني؟
قال: ولا طول الأبد(9)
ويشكو المعتمد كغيره من العشاق آلام الفراق والهجر، والعذاب الذي يعانيه جراء ذلك، فيقول:
أسر الهوى نفسي فعذبها
يوم الوداع فلم أطق منعا
فأذاب حر صبابتي كبدي
وأسالها في وجْنتي دمعا(10)
ويقول في وصف لحظات الوداع:
ولما التقينا للوداع غدية
وقد خفقت في ساحة القصر رايات
وقربت الجرد العتاق وصفقت
طبول ولاحت للفراق علامات
بكينا دما حتى كأن عيوننا
لجري الدموع الحمر منها جراحات(11)
ما أجمل وصف لحظات الوداع هذه التي صورها المعتمد من كل الجوانب: لحظة الوداع، الأجواء المحيطة، والشعور النفسي.. كل ذلك في أبيات تتناغم فيها الكلمات في أصدق اللحظات وأصعبها.
ثم يصف في موضع آخر كيف رحل صبره عنه، رافضاً العودة إلا برجوع الأحبة:
رحل اصطباري إذ رحلتم قائلاً
أَوْبُ الأحبة بيننا الميعاد(12)
وسواء أكان المعتمد هو المودِّع أم المودَّع، فالأمر سيان حين يتعلق بالحنين والشوق إلى الأحبة، يقول مخاطباً «اعتماد» حظيته:
فما حل خل من فؤاد خليله
محل «اعتمادٍ» من فؤاد محمــــد
ولكنها الأقدار تُردي بلا ظُبى
وتُصمي بلا قتل وترمي بلا يد(13)
والمعتمد عاشق يستلذ عذابه، بل يتمنى دوام العلة إن كان في ذلك سبيل لقرب الحبيب:
إذا علة كانت لقربك علة
تمنيت أن تبقى بجسمي وأن تقــوى
فيا علتي دومي فأنت حبيبة
ويا رب سمعاً من ندائي والشكوى(14)
ومع كل هذا العذاب يظل المعتمد ذلك العاشق المخلص الوفي، الذي لا يغيره شيء :
وودي على حسب ما تعلمين
تزول الجبال وما إن يزول
فلا تستحيلي لبعد الديار
فإني مع البعد لا أستحيــل(15)
إلى هنا نجد المعتمد أشبه ما يكون بعنترة الجاهلي، أو جميل الأموي، شغله الشاغل طلب الوصال، ولسان حاله التفجع والبكاء.
الغزل الماجن:
خاض المعتمد الغزل بكل أطيافه حتى التي تخالف العرف، وهذا راجع لحياة الترف التي كان يعيشها أيام الملك والشباب، فقد كان «يكثر من مجالس الشراب والطرب... وكان يميل إلى الاستكثار من الجواري والمغنيات» (16)
ومن جملة هذه الأشعار ما قاله في «شلب» موطن اللهو والشباب، أو التي قالها وهو يحن إليها بعد توليه زمام الملك:
وكم ليلة قد بت أنعم جنحها
بمخصبة الأرداف مجدبة الخصر
وباتت تساقيني المدام بلحظها
فمن كأسها حيناً وحيناً من الثغر(17)
وقد لا يُشبع الواقع حاجات الشاعر، فلا يجد غير الحلم ملاذاً له(18):
إني رأيتك في المنام ضجيعتي
وكأن ساعدك الوثير وسادي
وكأنما عانقتني وشكوت ما
أشكوه من وجدي وطول سهادي (19)
الغزل العادي :
اتجه المعتمد اتجاهاً وسطاً بين الغزل العفيف والغزل الماجن، هو الغزل الذي يعنى بوصف المرأة دون مغالاة أو إسراف، فمن الطبيعة أخذ أجمل ما فيها وأسبغه على محبوبته، فقال:
يا صفوتي من البشر
يا كوكباً بل يا قمر(20)
و من القمر إلى الهلال، فقال:
يا هلالاً إذا بدا لي تجلت *** عن فؤادي دُجُنّة الكربات(21)
و في ثالثة لن تكون إلا شمساً سناءً وضياءً ورفعة، وقلبه أحد أبراجها:
يا أيها الشمس التي
قلبي لها أحد البروج(22)
والمعتمد لا يكاد يخرج عن معاني السابقين، فالمحبوبة أخذت من الغصن قده، ومن الغزال مقلتيه، ومن الروض عطره :
هي الظبي جيداً والغزالة مقلة
وروضُ الربى فوحاً وغصن النقا قداً (23)
والمتتبع لأشعار المعتمد في الغزل، يقف على توظيفه لألفاظ ومعان تدل على القوة، فهو لم ينس الفروسية والحماسة، وإن نظم في أرق الأغراض الشعرية(24)، ومما قاله:
لحاظك طول الدهر حرب لمهجتي
ألا رحمة تثنيك يوما إلى سِلْمي(25)
ويذكر في موضع آخر أثر الغانيات فيه، مشبهاً إياه بوقع الصفائح البيض:
وبيضٌ وسمرٌ فاعلاتٌ بمهجتي
فعال الصفاحِ البيض والأسل السمر(26)
وهنا مقابلة رائعة بين لون بشرة الغانيات من بياض وسمرة بالسيوف والرماح.
وأما الزمن عند المعتمد فهو رديف القسوة والحزن والهجران، ولأجل هذا فهو غير راض عنه، يقول:
لست أرضى عن زماني أو أرى
منك حسنا لا أراه من أحد(27)
ويقول:
فكأنما زمن التهاجر بيننا
ليلٌ وساعات الوصال بدور(28)
وللأعداد عند المعتمد نصيب في الغزل، غير أننا لاحظنا تركيزه على العدد (3)، يقول:
داوى ثلاثته بلطف ثلاثة
فثنى بذاك رقيبه لم يشعر
أسرارَه بتستر وأُوارَه
بتصبر وخيالهَ بتوقُّر(29)
ويقول:
ثلاثة منعتها عن زيارتنا
خوفُ الرقيب وخوفُ الحاسد الحنق
ضوءُ الجبين ووسواسُ الحلي وما
تحوي معاطفها من عنبر عبق(30)
ويقول:
وكنا نرجي الأوبَ بعد ثلاثة
فكيف وقد طالت عليها زيادات(31)
فهل كان تركيز المعتمد على العدد (3) راجعاً إلى أنه الملك العبادي الثالث، أو لأسباب أخرى؟
ولا ينسى المعتمد أن يوظف الخمر في أشعاره الغزلية، ولا عجب فكلاهما يذهب العقل ويسلب اللب، يقول:
أنا في عذاب من فراقك
سكران من خمر اشتياقك(32)
ثم هو يربط ربطاً عجيباً بين عيني المحبوبة وسكرة الخمر:
محيرة العينين في غير سكرة
متى شربت ألحاظ عينيك إسْفَنْطا(33)
وذكر اسم المحبوبة أمر شائع في الغزل(34)، والمعتمد ذكر من تغزل بهن، فهي مرة سحر:
عفا الله عن سحر على كل حالة
ولا حوسبت عما بها أنا واجد(35)
وهي حينا آخر جوهر:
سموك بالجوهر مظلومة
مثلك لا يدركه غائص(36)
بيد أن الاسم الذي ظل المعتمد يذكره كناية وتصريحا، هو اسم حظيته «اعتماد» الرميكية، حتى إنه اشتق اسمه من اسمها، فأصبح «لقبه الرسمي في تاريخ دولة بني عباد، بعد أن عرف بالظافر»(37).
و«اعتماد» هذه ليست أي امرأة، فهي حظيته وأم أولاده ومهوى فؤاده(38)، تقول زيغريد هونكه: «كان المعتمد شاعراً غنائياً شهيراً٫، خضع لحب الرميكة خضوعا أعمى... وتغنى فيها بشعره العذب الجميل»(39).
ومن قوله فيها:
تظن بنا أم الربيع سآمة
ألا غفر الرحمن ذنبا تواقعه(40)
ويبين في موضع آخر كيف سكن حب «اعتماد» قلبه، فلم يتسع لغيرها:
حب اعتماد في الجوانح ساكن
لا القلب ضاق به ولا هو راحل(41)
وهو يرى أن لا أحد بلغ من حب محبوبه ما بلغه حبه لاعتماد:
فما حل خل من فؤاد خليله
محل اعتماد من فؤاد محمد(42)
ثم هو يضمن اسم اعتماد في مقطوعة شعرية رائعة، تلك هي الصلة القويـة والحب الآسر:
أغائبة الشخص عن ناظري
وحاضرة في صميم الفؤاد
عليك السلام بقدر الشجون
ودمع الشؤون وقدر السهاد
تملكت مني صعب المرامي
وصادفت ودي سهل القياد
مرادي لقياك في كل حين
فيا ليتَ أني أعطى مرادي
أقيمي على العهد ما بيننا
ولا تستحيلي لطول البعاد
دسست اسمك الحلو في طي شعري
وألفت فيه حروف اعتماد(43)
الهوامش:
(1)- لسان العرب: ابن منظور – مادة (غزل): 492. (2)- الغزل في تاريخ الأدب العربي: أحمد الشايب: 17. (3)- يكثر الشاعر من ذكر الاختلاس، ومنها قوله: واغتنم صفو الليالي ** إنما العيش اختلاس. (4)- أندلسيات غرناطة والشعر: عبد الله حمادي: 52. (5)- ينظر قصيدة المديح في الأندلس: أشرف محمد نجا : 122-123. (6)- هو محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل.. لخمي النسب، ولد بمدينة باجة سنة 431هـ، تولى حكم إشبيلية بعد وفاة أبيه المعتضد أحد ملوك الطوائف، أسره ابن تاشفين وتوفي بأغمات نحو 488 هـ - ينظر: الإحاطة في أخبار غرناطة: 2 : 108 وم تلاها. (7)- المعتمد بن عباد: عبد الوهاب عزام: 17. (8)- ديوان المعتمد بن عباد: تح: رضا الحبيب السويسي: 19. (9)- الديوان: 20. (10)- نفسه: 43. (11)- نفسه : 44-45. (12)- الديوان : 45. (13)- نفسه: 51. (14)- نفسه: 57. (15)- نفسه : 56. (16)- قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس: سيد عبد العزيز سالم: 103. (17)- الديوان : 47-48. (18)- يكون الحلم عند الشاعر المحب هروبا من الواقع، وأحيانا انعكاسا له كما في قول ابن حزم: رأيتك في نومي كأنك راحل *** وقمنا إلى التوديع والدمع هامل - طوق الحمامة: 190. (19)- الديوان: 50. (20)- الديوان: 20. (21)- نفسه: 21. (22)- نفسه: 24. (23)- نفسه: 50. (24)- من أشهر الشعراء الذين زاوجوا بين الغزل ومعاني القوة عنترة، ومن قول هذا الأخير مخاطبا عبلة: وحقك لازال ظهر الجواد *** مقيلي وسيفي ودرعي وسادي – الديوان: 119. (25)- ديوان المعتمد بن عباد: 19. (26)- نفسه:48. (27)- نفسه: 30. (28)- الديوان: 53. (29)- م ن:42. (30)- م ن:43. (31)- م ن: 45. (32)- م س: 56. (33)- م ن: 58. (34)- «للشعراء أسماء تخف على ألسنتهم وتحلو في أفواههم، فهم كثيرا ما يأتون بها زورا نحو ليلى وهند وسلمى وفاطمة... وأشباههن» – العمدة: 2: 338. (35)- م س: 31. (36)- م ن: 32. (37)- القطوف اليانعة: عبد الله أنيس الطباع: 196. (38)- كان فاتحة حب المعتمد لاعتماد البيت الذي أجازته في شطره الثاني: صنع الريح على الماء زرد *** أي درع لقتال لو جمد! م ن: 196. (39)- شمس العرب تسطع على الغرب: 517. (40)- ديوان المعتمد: 33. (41)- م س:38. (42)- م ن: 40. (43)- إن المعتمد بن عباد لم يخرج في شعره الغزلي – في الغالب – عن دائرة القدماء، ولا عمن عاصره، فالمعاني التي ذكرها متداولة على ألسنة الشعراء، على أننا سجلنا تميزا في المزاوجة بين الحماسة والقوةومعاني الغزل الرقيقة. ولئن غلب التصنع على أشعاره التي قالها في بعضهن، فإن شعره في اعتماد فاض رقة وعذوبة وصدقا، وإذا كان الشعراء العذريون قد اقترنت أسماؤهم بأسماء محبوباتهم كجميل بثينة وعنترة عبلةوقيس ليلى وكثير عزة... فإن المعتمد بزهم باشتقاق لقب الملك من اسم محبوبته، وهو منتهى الحب والوجد.
مصادرومراجع البحث:
- الإحاطة في أخبار غرناطة: لسان الدين بن الخطيب، تح: محمد عبد الله عنان، مكتبة الناجي، ط1، القاهرة 1974. - الأدب العربي في الأندلس: عبد العزيز عتيق، دار النهضة العربية، ط2، بيروت، 1976. - أندلسيات غرناطة والشعر: عبد الله حمادي، جامعة منتوري، قسنطينة، 2004. - ديوان المعتمد بن عباد، تح: رضا الحبيب السويسي، الدار التونسية للنشر، د ط. - ديوان عنترة بن شداد، دار صادر، ط1، بيروت، 1992. - طوق الحمامة: ابن حزم الأندلسي، تح: صلاح الدين القاسمي، الدار التونسية للنشر، تونس، 1985. - العمدة في صناعة الشعرونقده: أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني، تح: مفيد قميحة دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 1983. - الغزل في تاريخ الأدب العربي: أحمد الشايب، دار المعارف للطباعةوالنشر، تونس. - قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس: سيد عبد العزيز سالم، مؤسسة شباب الجامعة، الاسكندرية، 1997. - قصيدة المديح في الأندلس: أشرف محمد نجا، دار الوفاء، ط1، الاسكندرية. - القطوف اليانعة: عبد الله أنيس الطباع، دار ابن زيدون، ط1، بيروت، 1986. - لسان العرب: أبو الفضل بن منظور، دار صادر، بيروت. - المعتمد بن عباد: عبد الوهاب عزام، دار المعارف، ط2، مصر 1975.
* عن مجلة الرافد