نقوس المهدي
كاتب
سافر الرحّالة الغربيون إلى الشرق بحثا عن السعادة الجنسية المطلقة وكنا قد ذهبنا الى بلادهم لذات الغرض ولم نصرّح بذلك انسجاما مع ثقافتنا السرية الخجولة، لذا لم يظهر بين رحّالتنا من يكتب رسائل فاضحة على غرار "فلوبير" الذي يباهي بعلاقاته مع بنات الهوى، وطبعا لنا ان نستثني من كتابات رحالتنا بعض الاشارات الجنسية الفاضحة في مشاهدات ابن فضلان او نزهات الادريسي وهي صريحة أحيانا وملغوزة في معظم الصفحات .
من القاهرة كتب فلوبيرالى بويليه يتفاخر بأنه نام مع ثلاث نساء في يوم واحد وقضى وطره أربع مرات وحاول اغواء السمسارة التي كانت تحضر له بنات الهوى لكنها رفضته نظرا لأنه لم يهتم بها منذ البداية . والكلام الرخيص من هذا النوع كثير عنده وعند غيره فالشرق لم يكن اكثر من منجم – للايروتيكا - الفجة التي تجدها بغزارة عنده وعند لورنس وعند السير ريتشارد بيرتون ودوما تنتزع المشاهد من طنجة والقاهرة وتونس واستانبول حيث يختلط الشبق التركي بالعربي وتولد منه تلك النصوص التي تبدو غريبة وغير مفهومة عند سكان البلاد الاصليين لأن مخيّلة الرحالة الغربيين كانت تضيف اليها الكثير من الفانتازيا، فالحمّام التركي سواء في الاستانة او الجزائر او تونس او القاهرة صار مسرحا لتوليد الصور التي كان يطرب لها الغربيون اكثر من غيرها. وهكذا صار على الراوي ان يخلط ويزيد ويحكي عما تخيله بلغة انه لمسه وشاهده والا كسد سوقه بين من ينقل لهم تلك الايروتيكا المكثفة التي ما تزال لها أسواقها .
وقد كفانا الكاتب الاسباني خوان غويتيسولو مؤنة نقد قومه حين قام هو بتلك المهمة المحرجة بشجاعة فائقة وكتب عن دور الشبقية في صناعة الصورة داخل الخطاب الاستشراقي وفاته ان يضيف الى الشبقية الكراهية التاريخية. فأغلب الذين زارونا لم يستطيعوا التخلص من إرث الحروب الدينية في القرون الوسطى وكان معظمهم يتابعون الحروب الصليبية بطريقة اخرى هي التبشير، فثلاثة أرباع الرحّالة الغربيين في الشرق والعالم العربي بجناحه الغربي جاؤوا عن طريق جمعيلت تبشيرية هدفها تنصير الشرق بالكلمة بعد ان فشلت الاسلحة في تحقيق ذلك الهدف .
ولا يمكن ان ننكر وجود فئة قليلة كان لها أهدافها السياسية فوليم بلجريف – مثلا –لا يخفي أنه جاء لتحريك مياه الشرق الراكدة وكانت رحلته يسوعية ايضا وبتشجيع وتمويل من نابليون الثالث الذي تورط في الشرق والعالم العربي اكثر من نابليون الاول واضاف الى القابه امبراطور الجزائر .
بلجريف هذا الذي زار وسط الجزيرة العربية وشرقها في صيف وخريف عام 1862 تجد عنده الحقد المصفى على القوم الذين عاش بينهم فالبدو عنده يظهرون اسوأ مما هم عليه الف مرة ومن شدة ذكائه فهو لا يشتمهم مباشرة في الغالب لكنه يوكل تلك المهمة الى العرب أنفسهم ففي كتابه الضخم (وسط الجزيرة العربية وشرقها ) يعطي هذه المهمة لشيخ قبيلة، قال له –على ذمته -:
( المعتمد على البدو كالذي يبني له بيتا على سطح الماء فهم لا وزن لهم في المعارك الحربية الخطيرة بسبب افتقارهم الى الاسلحة والتجهيزات والنظام العسكري علاوة على ضعفهم في المعارك المشتركة لانهم منقسمون الى فرق وطوائف شتى بسبب صراعاتهم الصبيانية المستموة التي لا تسمح لهم بالتوحد حول أي هدف من الاهداف الحقيقفية اكثر من شهر واحد. فالبدو لا يهمهم الماضي ولا المستقبل لانهم مخلوقات اللحظة فحسب وليس عند هؤلاء أي مبدأ ديني او وطني فكل واحد منهم منعزل ومتفرغ لمصالحة الذاتية الخاصة فالجميع ضد الجميع ومحاباة.. البدو الحقيقية لمن يدفع اكثر فهم لا يخدمون الا من لا يزال طعامه في بطونهم وليس ذلك من قبيل الاخلاص للمستأجر بل حبا في السلب والنهب والغنائم )
اما لماذا البدوي هكذا فالتفسير يأتي هذه المرة على لسان بلجريف نفسه:
(البدوي سلاب ونهّاب ومسرف في آن واحد فهو يتوق الى الحصول على كل ما يرى ويشاهد دون ان يعرف قيمته كما انه على استعداد ليتخلى بسرعة عما حصل عليه والسبب هو عجز البدوي عن تقييم او تقدير الشئ، فالعطاء والشحاذة والنهب والسلب كلها امور مترابطة في ذهنه وتنتج اصلا عن جهل البدوي المطلق بقيمة الملكية واهميتها )
وقبل ان نفرز الغث عن السمين في هذه الاحكام المتطايرة لابد ان نلاحظ ان اوصاف بلجريف للبدو على لسانه ولسان غيره تنطبق تماما على وصف سكان المدن المغاربة والجزائريين فكأنها خارجة من اشخاص درسوا المفردات والصفات نفسها في ذات الكلية .
ان افريقيا بكاملها عند – الاركون – أرض البشاعة والقذارة والكسل وحتى عرق الناس فيها من نوع خاص كريه لا يشبه عرق الاخرين والمغرب عند علي بيك وهو مستشرق اسباني متنكر اسمه الاصلي – دومينغو باديا – بلاد البطالة واللهو و والجنس فالناس في الساحات العامة والمقاهي غارقون في كسلهم وغبائهم يقضون اليوم في التسكع ولافائدة ترجى منهم في الحروب لانهم كبدو بلجريف دون اسلحة ولا تدريب ولا تنظيم من أي نوع كان والخلاصة ان كل ما حوله كان لا يوحي له بغير الانحطاط والفوضى .
وقد اقترنت الكراهية المبطنة بالشبقية عند هذا الرحالة الاسباني الذي تنكر في زي حاج مسلم وجميعهم يتنكرون فبلجريف الانجليزي تنكر في ثياب طبيب سوري والفنلندي جورج والن لبس الثياب المصرية واطلق على نفسه اسم عبد الولي وهو قريب من حيث النطق مع اسمه الاصلي المهم ان – دومينغو باديا - الذي زعم انه لم ينغمس بالغرائز وجد الوقت لينعي على المسلمين تحررهم الاخلاقي فمناخ القسطنطينية الجزائرية يشجع على الاباحية والفجور ومسارح خيال الظل التركية في المدن العربية مليئة بالمشاهد الشبقية وحب المغاربة للجواري السوداوات يثير انزعاجه فاؤلئك الجواري يتبرجن اكثر مما يلزم لايقاظ الغرائز ومع انه ظل اقل فضائحية من فلوبير، الا ان عقد كبته تظهر كعقد كبت الرحالة العرب في العديد من المواقف لا يستثنى من ذلك غير ابن بطوطة الذي كان يحل مشاكله الجنسية بالمبالغة في الزواج حتى انه تزوج حين عمل كقاض في المالديف اكثر من خمسين مرة الامر الذي دفع اهل تلك الجزيرة النائية الى الثورة على قاضيهم الذي اوشك ان يدمغ نصف نساء الجزيرة شرعا .
ان فيلسوف الشبق الحقيقي بين الرحالة الغربيين هو السير ريتشارد بيرتون الذي اعطى لنفسه اسم الحاج ميرزا عبد الله وترك في كتابيه – جولات في افريقيا الشرقية – ورواية شخصية لرحلة حج الى المدينة ومكة - مجموعة من النصوص النادرة عن مشاهداته وهو في طريقه الى تلك البلاد في القاهرة والصومال وزنجبار وكان قبل هذه المشاهدات العيانية الفاضحة قد ترجم معظم الادبيات الايروتيكية الشرقية وقضى فترة من الوقت في الهند لدراسة كتاب – الكاموسوترا- وبذا صار حجة في الايروتيكا لكن المشكلة معه ان زوجته الورعة ايزابيل احرقت بعد موته الكثير من اوراقه، فضاعت نظرة رجل موضوعي أهم انجازاته أنه اصيب بمرض الزهري و نقل موضوع الختان ومحبة الغلمان الى قلب الثقافة الاوربية. وبعيدا عن الشبقية والكراهية فان ميزة بيرتون الاساسية كانت كميزة لورنس وهي حب مناخ الصحراء، يعني لا مانع من وجهة نظر هؤلاء ان تحب المكان وتكره اهله فرغم كل هجائيات العرب والبدو نجد عند هذا الكاتب نصا بديعا عن حب الصحراء العربية
يقول بيرتون:(عجيب انبساط النفس لمشهد لا يتمتع للوهلة الاولى بجاذبية ان ادنى تحول للون في هذه البلاد يلفت النظر وينعش ملكات المعاينة والتدقيق ومع انك جاف الجلد وريقك يتحرق ظمأ فانت لا تشعر بالخدر ولا باثر الرطوبة فرئتاك تتسعان ويحتد بصرك ويتحمس خيالك وتصبح الروح في غاية البذخ ويوقظ ذلك المناخ البدائي الفاتن الذي يحيط بك كل حيويتك فتصبح اخائيا مضيافا بصدق وليس بدماثة مرائية كاهل المدينة وفي الصحراء لا تحتاج حواسك الى أي منبه فالخمور في الصحراء لا تثير غير الاشمئزاز فالمتعة في الوجود البدائي البسيط حيث الهواء يهزم كتيبة امراض والرمل اكثر نعومة من رياش الوسائد )
ان هذا الصافي الرائق هو نفسه الذي لم يترك بيتا للبغاء في اوروبا والشرق الا طرقه فماذا تفعل الصحراء حتى تملك هذه القدرة العجيبة على غسل الانسان من الداخل .
نحن هنا امام تناقض مفصلي فإما ان تكون الصحراء بهذه القدرة فتجعل اهلها وغيرهم انقياء واصفياء او انها لا تؤثر الا على الزائر العابر، اما أبناؤها فينسون النعمة التي هم فيها وحول التفسير الثاني لاحظ المستشرق الهولندي مؤلف كتاب – البدوي الاخير – وهو من آخر موجة من المستشرقين ان البدو لا ينتبهون لجمال غروب الشمس في الصحراء ونسب ذلك الى اضطرارهم لصلاة المغرب وهذا زعم باطل فالصلاة دقائق معدودات والغروب في الصحراء حالة ممتدة متداعية وقابلة للالتقاط من مختلف الزوايا والاقات .
رحالة الماني اسمه – جوليوس اويتنغ- لم يعرف عنه الاهتمام بالشبقيات خالف من سبقه باظهار الكراهية الفجة للبشر وصب جام غضبه على الابل ليلعن من خلالها اصحابها واهم ما في ابتكاره الذي ظن ان احدا لم يسبقه اليه ان لغة صاحب الناقة تتأثر باصوات ركوبته فهذا الرحالة الذي زار دومة الجندل المعروفة حديثا باسم الجوف نزل عليه وحي المعرفة عند قرية كاف فقال :
(هنا انيرت بصيرتي حول نشأة بعض العرب فمن يقضي وقتا طويلا مع الابل يتأثر بصوتياتها ولا شك ان فئة من العرب استقوا اصواتهم من الابل او قلدوها فحشرجة العين والغين لا يمكن ان تأتي الا عن طريق أصوات الابل )
وهذه حالة سبقه اليها بلجريف بسبعة اعوام وحاول ان يصوغ منها نظرية علمية فالعرب انتقاميون ويحبون الثأر لانهم كجمالهم مجبولون على ذلك وربما تأثروا او اخذوا تلك العادات الكريهة من كثرة اكلهم للحم الجمال فهو وبعد ان ان يحكي عن جمل شاهده في بعلبك يقتل صبيا انتقاما من ضرب الصبي له يقول :
(والواقع ان هذه النزعة الكريهة تبلغ من البروز حدا يجعل بعض الفلاسفة يعزون طبيعة العرب الانتقامية الى الحصة الكبيرة من غذائهم التي يستمدونها من لحم الابل وحليب النياق والتي من المفروض ان تنقل الى اؤلئك الذين يتناولونها بكميات كبيرة الصفات الاخلاقية وغير الاخلاقية للحيوان المأخوذة منه وانا لست مؤهلا لاصدار هذه الاحكام ولكن بوسعي ان اقول ان الجمل وسيده بينهما اوجه شبه كثير واضحة )
ونحن لا نستطيع ان ننكر اننا سبقنا غيرنا في اسباغ هذه الصفات الحيوانية والمقارنات غير المتحضرة على شعوب اخرى كانت اقل منا تحضرا حين كانت لنا حضارة فدوما تقوم الحضارات الغالبة بالتقليل من شأن غيرها كما تفعل اميركا حاليا والغريب ان رائد التصوير الذي يحفر في دهاليز الكراهية دون وعي بخطورتها واحد من المع كتابنا واكثرهم تسامحا وهو الجاحظ الذي قال في كتاب الحيوان عن مجموعة شعوب :
(وقد خبرنا عددا من الناس قد ادركوا رجالا من نبط بيسان ولهم اذناب تكون كاذناب التماسيح والبقر والخيل او كاذناب السلاحف والجرذان وربما رأينا الملاح النبطي على وجهه شبه القرد وربما رأينا الرجل من المغرب فلا نجد بينه وبين المسخ الا القليل وقد يجوز ان يصادف ذلك الهواء الفاسد والتربة الردية ناسا على صفة هؤلاء ويكونون جهالا فلا يرتحلون ضنانة بمسكنهم واوطانهم ولا ينتقلون فاذا طال عليهم ذلك زاد في تلك الشعور وفي تلك الاذناب وفي تلك الالوان الشقر وفي تلك الصور المناسبة للقرود ).
انها ليست حكاية تربة بل ازمة تربية عنصرية عندنا وعندهم منها الشئ الكثير اما كيف نستخدم وكيف يستخدمون ذلك المخزون في تكريس الصورة النمطية وفي زرع بذور الكراهية فهذا ما يحتاج الى وقفة تأمل طويلة ودراسة نماذج أخرى من تراثنا وتراث الآخرين لنفهم جيدا وبالأدلة كيفية صنع الصورة المكروهة و طريقة عمل وأساليب انتاج مصانع الحقد والكراهية.
محيي الدين اللاذقاني
من القاهرة كتب فلوبيرالى بويليه يتفاخر بأنه نام مع ثلاث نساء في يوم واحد وقضى وطره أربع مرات وحاول اغواء السمسارة التي كانت تحضر له بنات الهوى لكنها رفضته نظرا لأنه لم يهتم بها منذ البداية . والكلام الرخيص من هذا النوع كثير عنده وعند غيره فالشرق لم يكن اكثر من منجم – للايروتيكا - الفجة التي تجدها بغزارة عنده وعند لورنس وعند السير ريتشارد بيرتون ودوما تنتزع المشاهد من طنجة والقاهرة وتونس واستانبول حيث يختلط الشبق التركي بالعربي وتولد منه تلك النصوص التي تبدو غريبة وغير مفهومة عند سكان البلاد الاصليين لأن مخيّلة الرحالة الغربيين كانت تضيف اليها الكثير من الفانتازيا، فالحمّام التركي سواء في الاستانة او الجزائر او تونس او القاهرة صار مسرحا لتوليد الصور التي كان يطرب لها الغربيون اكثر من غيرها. وهكذا صار على الراوي ان يخلط ويزيد ويحكي عما تخيله بلغة انه لمسه وشاهده والا كسد سوقه بين من ينقل لهم تلك الايروتيكا المكثفة التي ما تزال لها أسواقها .
وقد كفانا الكاتب الاسباني خوان غويتيسولو مؤنة نقد قومه حين قام هو بتلك المهمة المحرجة بشجاعة فائقة وكتب عن دور الشبقية في صناعة الصورة داخل الخطاب الاستشراقي وفاته ان يضيف الى الشبقية الكراهية التاريخية. فأغلب الذين زارونا لم يستطيعوا التخلص من إرث الحروب الدينية في القرون الوسطى وكان معظمهم يتابعون الحروب الصليبية بطريقة اخرى هي التبشير، فثلاثة أرباع الرحّالة الغربيين في الشرق والعالم العربي بجناحه الغربي جاؤوا عن طريق جمعيلت تبشيرية هدفها تنصير الشرق بالكلمة بعد ان فشلت الاسلحة في تحقيق ذلك الهدف .
ولا يمكن ان ننكر وجود فئة قليلة كان لها أهدافها السياسية فوليم بلجريف – مثلا –لا يخفي أنه جاء لتحريك مياه الشرق الراكدة وكانت رحلته يسوعية ايضا وبتشجيع وتمويل من نابليون الثالث الذي تورط في الشرق والعالم العربي اكثر من نابليون الاول واضاف الى القابه امبراطور الجزائر .
بلجريف هذا الذي زار وسط الجزيرة العربية وشرقها في صيف وخريف عام 1862 تجد عنده الحقد المصفى على القوم الذين عاش بينهم فالبدو عنده يظهرون اسوأ مما هم عليه الف مرة ومن شدة ذكائه فهو لا يشتمهم مباشرة في الغالب لكنه يوكل تلك المهمة الى العرب أنفسهم ففي كتابه الضخم (وسط الجزيرة العربية وشرقها ) يعطي هذه المهمة لشيخ قبيلة، قال له –على ذمته -:
( المعتمد على البدو كالذي يبني له بيتا على سطح الماء فهم لا وزن لهم في المعارك الحربية الخطيرة بسبب افتقارهم الى الاسلحة والتجهيزات والنظام العسكري علاوة على ضعفهم في المعارك المشتركة لانهم منقسمون الى فرق وطوائف شتى بسبب صراعاتهم الصبيانية المستموة التي لا تسمح لهم بالتوحد حول أي هدف من الاهداف الحقيقفية اكثر من شهر واحد. فالبدو لا يهمهم الماضي ولا المستقبل لانهم مخلوقات اللحظة فحسب وليس عند هؤلاء أي مبدأ ديني او وطني فكل واحد منهم منعزل ومتفرغ لمصالحة الذاتية الخاصة فالجميع ضد الجميع ومحاباة.. البدو الحقيقية لمن يدفع اكثر فهم لا يخدمون الا من لا يزال طعامه في بطونهم وليس ذلك من قبيل الاخلاص للمستأجر بل حبا في السلب والنهب والغنائم )
اما لماذا البدوي هكذا فالتفسير يأتي هذه المرة على لسان بلجريف نفسه:
(البدوي سلاب ونهّاب ومسرف في آن واحد فهو يتوق الى الحصول على كل ما يرى ويشاهد دون ان يعرف قيمته كما انه على استعداد ليتخلى بسرعة عما حصل عليه والسبب هو عجز البدوي عن تقييم او تقدير الشئ، فالعطاء والشحاذة والنهب والسلب كلها امور مترابطة في ذهنه وتنتج اصلا عن جهل البدوي المطلق بقيمة الملكية واهميتها )
وقبل ان نفرز الغث عن السمين في هذه الاحكام المتطايرة لابد ان نلاحظ ان اوصاف بلجريف للبدو على لسانه ولسان غيره تنطبق تماما على وصف سكان المدن المغاربة والجزائريين فكأنها خارجة من اشخاص درسوا المفردات والصفات نفسها في ذات الكلية .
ان افريقيا بكاملها عند – الاركون – أرض البشاعة والقذارة والكسل وحتى عرق الناس فيها من نوع خاص كريه لا يشبه عرق الاخرين والمغرب عند علي بيك وهو مستشرق اسباني متنكر اسمه الاصلي – دومينغو باديا – بلاد البطالة واللهو و والجنس فالناس في الساحات العامة والمقاهي غارقون في كسلهم وغبائهم يقضون اليوم في التسكع ولافائدة ترجى منهم في الحروب لانهم كبدو بلجريف دون اسلحة ولا تدريب ولا تنظيم من أي نوع كان والخلاصة ان كل ما حوله كان لا يوحي له بغير الانحطاط والفوضى .
وقد اقترنت الكراهية المبطنة بالشبقية عند هذا الرحالة الاسباني الذي تنكر في زي حاج مسلم وجميعهم يتنكرون فبلجريف الانجليزي تنكر في ثياب طبيب سوري والفنلندي جورج والن لبس الثياب المصرية واطلق على نفسه اسم عبد الولي وهو قريب من حيث النطق مع اسمه الاصلي المهم ان – دومينغو باديا - الذي زعم انه لم ينغمس بالغرائز وجد الوقت لينعي على المسلمين تحررهم الاخلاقي فمناخ القسطنطينية الجزائرية يشجع على الاباحية والفجور ومسارح خيال الظل التركية في المدن العربية مليئة بالمشاهد الشبقية وحب المغاربة للجواري السوداوات يثير انزعاجه فاؤلئك الجواري يتبرجن اكثر مما يلزم لايقاظ الغرائز ومع انه ظل اقل فضائحية من فلوبير، الا ان عقد كبته تظهر كعقد كبت الرحالة العرب في العديد من المواقف لا يستثنى من ذلك غير ابن بطوطة الذي كان يحل مشاكله الجنسية بالمبالغة في الزواج حتى انه تزوج حين عمل كقاض في المالديف اكثر من خمسين مرة الامر الذي دفع اهل تلك الجزيرة النائية الى الثورة على قاضيهم الذي اوشك ان يدمغ نصف نساء الجزيرة شرعا .
ان فيلسوف الشبق الحقيقي بين الرحالة الغربيين هو السير ريتشارد بيرتون الذي اعطى لنفسه اسم الحاج ميرزا عبد الله وترك في كتابيه – جولات في افريقيا الشرقية – ورواية شخصية لرحلة حج الى المدينة ومكة - مجموعة من النصوص النادرة عن مشاهداته وهو في طريقه الى تلك البلاد في القاهرة والصومال وزنجبار وكان قبل هذه المشاهدات العيانية الفاضحة قد ترجم معظم الادبيات الايروتيكية الشرقية وقضى فترة من الوقت في الهند لدراسة كتاب – الكاموسوترا- وبذا صار حجة في الايروتيكا لكن المشكلة معه ان زوجته الورعة ايزابيل احرقت بعد موته الكثير من اوراقه، فضاعت نظرة رجل موضوعي أهم انجازاته أنه اصيب بمرض الزهري و نقل موضوع الختان ومحبة الغلمان الى قلب الثقافة الاوربية. وبعيدا عن الشبقية والكراهية فان ميزة بيرتون الاساسية كانت كميزة لورنس وهي حب مناخ الصحراء، يعني لا مانع من وجهة نظر هؤلاء ان تحب المكان وتكره اهله فرغم كل هجائيات العرب والبدو نجد عند هذا الكاتب نصا بديعا عن حب الصحراء العربية
يقول بيرتون:(عجيب انبساط النفس لمشهد لا يتمتع للوهلة الاولى بجاذبية ان ادنى تحول للون في هذه البلاد يلفت النظر وينعش ملكات المعاينة والتدقيق ومع انك جاف الجلد وريقك يتحرق ظمأ فانت لا تشعر بالخدر ولا باثر الرطوبة فرئتاك تتسعان ويحتد بصرك ويتحمس خيالك وتصبح الروح في غاية البذخ ويوقظ ذلك المناخ البدائي الفاتن الذي يحيط بك كل حيويتك فتصبح اخائيا مضيافا بصدق وليس بدماثة مرائية كاهل المدينة وفي الصحراء لا تحتاج حواسك الى أي منبه فالخمور في الصحراء لا تثير غير الاشمئزاز فالمتعة في الوجود البدائي البسيط حيث الهواء يهزم كتيبة امراض والرمل اكثر نعومة من رياش الوسائد )
ان هذا الصافي الرائق هو نفسه الذي لم يترك بيتا للبغاء في اوروبا والشرق الا طرقه فماذا تفعل الصحراء حتى تملك هذه القدرة العجيبة على غسل الانسان من الداخل .
نحن هنا امام تناقض مفصلي فإما ان تكون الصحراء بهذه القدرة فتجعل اهلها وغيرهم انقياء واصفياء او انها لا تؤثر الا على الزائر العابر، اما أبناؤها فينسون النعمة التي هم فيها وحول التفسير الثاني لاحظ المستشرق الهولندي مؤلف كتاب – البدوي الاخير – وهو من آخر موجة من المستشرقين ان البدو لا ينتبهون لجمال غروب الشمس في الصحراء ونسب ذلك الى اضطرارهم لصلاة المغرب وهذا زعم باطل فالصلاة دقائق معدودات والغروب في الصحراء حالة ممتدة متداعية وقابلة للالتقاط من مختلف الزوايا والاقات .
رحالة الماني اسمه – جوليوس اويتنغ- لم يعرف عنه الاهتمام بالشبقيات خالف من سبقه باظهار الكراهية الفجة للبشر وصب جام غضبه على الابل ليلعن من خلالها اصحابها واهم ما في ابتكاره الذي ظن ان احدا لم يسبقه اليه ان لغة صاحب الناقة تتأثر باصوات ركوبته فهذا الرحالة الذي زار دومة الجندل المعروفة حديثا باسم الجوف نزل عليه وحي المعرفة عند قرية كاف فقال :
(هنا انيرت بصيرتي حول نشأة بعض العرب فمن يقضي وقتا طويلا مع الابل يتأثر بصوتياتها ولا شك ان فئة من العرب استقوا اصواتهم من الابل او قلدوها فحشرجة العين والغين لا يمكن ان تأتي الا عن طريق أصوات الابل )
وهذه حالة سبقه اليها بلجريف بسبعة اعوام وحاول ان يصوغ منها نظرية علمية فالعرب انتقاميون ويحبون الثأر لانهم كجمالهم مجبولون على ذلك وربما تأثروا او اخذوا تلك العادات الكريهة من كثرة اكلهم للحم الجمال فهو وبعد ان ان يحكي عن جمل شاهده في بعلبك يقتل صبيا انتقاما من ضرب الصبي له يقول :
(والواقع ان هذه النزعة الكريهة تبلغ من البروز حدا يجعل بعض الفلاسفة يعزون طبيعة العرب الانتقامية الى الحصة الكبيرة من غذائهم التي يستمدونها من لحم الابل وحليب النياق والتي من المفروض ان تنقل الى اؤلئك الذين يتناولونها بكميات كبيرة الصفات الاخلاقية وغير الاخلاقية للحيوان المأخوذة منه وانا لست مؤهلا لاصدار هذه الاحكام ولكن بوسعي ان اقول ان الجمل وسيده بينهما اوجه شبه كثير واضحة )
ونحن لا نستطيع ان ننكر اننا سبقنا غيرنا في اسباغ هذه الصفات الحيوانية والمقارنات غير المتحضرة على شعوب اخرى كانت اقل منا تحضرا حين كانت لنا حضارة فدوما تقوم الحضارات الغالبة بالتقليل من شأن غيرها كما تفعل اميركا حاليا والغريب ان رائد التصوير الذي يحفر في دهاليز الكراهية دون وعي بخطورتها واحد من المع كتابنا واكثرهم تسامحا وهو الجاحظ الذي قال في كتاب الحيوان عن مجموعة شعوب :
(وقد خبرنا عددا من الناس قد ادركوا رجالا من نبط بيسان ولهم اذناب تكون كاذناب التماسيح والبقر والخيل او كاذناب السلاحف والجرذان وربما رأينا الملاح النبطي على وجهه شبه القرد وربما رأينا الرجل من المغرب فلا نجد بينه وبين المسخ الا القليل وقد يجوز ان يصادف ذلك الهواء الفاسد والتربة الردية ناسا على صفة هؤلاء ويكونون جهالا فلا يرتحلون ضنانة بمسكنهم واوطانهم ولا ينتقلون فاذا طال عليهم ذلك زاد في تلك الشعور وفي تلك الاذناب وفي تلك الالوان الشقر وفي تلك الصور المناسبة للقرود ).
انها ليست حكاية تربة بل ازمة تربية عنصرية عندنا وعندهم منها الشئ الكثير اما كيف نستخدم وكيف يستخدمون ذلك المخزون في تكريس الصورة النمطية وفي زرع بذور الكراهية فهذا ما يحتاج الى وقفة تأمل طويلة ودراسة نماذج أخرى من تراثنا وتراث الآخرين لنفهم جيدا وبالأدلة كيفية صنع الصورة المكروهة و طريقة عمل وأساليب انتاج مصانع الحقد والكراهية.
محيي الدين اللاذقاني