نقوس المهدي
كاتب
حفّزني على هذه القراءة السؤال الفلسفي الأول للدكتور يوسف زيدان الذي طرحه على متابعيه في الفيسبوك يوم 4 يناير. وقد استهلّ به هذا العام 2013 الذي أعلن من جانبه أنه سيكون "سنة الفلسفة". و يعنى بهذا : "الإبحار ضدّ التيار ، فى وقت يسودُ فيه الهرجُ و التسطيحُ و السماجةُ ، و يتم إبعاد "العقل الجمعي" عن الفهم و التعمُّق و إعمال المنطق " أما نص السؤال : "المفروض أن لكل شئ تعريف ، فما هو تعريف الحب ؟"،وجائزته: موسوعة الشامل لابن النفيس التي حققها بنفسه وأعاد إحياءها، بأجزائها الثلاثين. وقد نصح بقراءة عدد من الكتب في المسألة: "محاورة المأدبة" لأفلاطون، "طوق الحمامة" لابن حزم، و"مشكلة الحب" لد. زكريا إبراهيم، كما أشار إلى موقعه الإلكتروني ، حيث نجد في ديوان العشق، نصوصا في الحب العذري، وفي العشق عند الصوفية من كتاب "عبهر العاشقين" للشيخ روزبهان البقلى، وفي العشق عند الأطباء من كتب "القانون فى الطب" للشيخ الرئيس ابن سينا، " الروضة الطيبة " لعبيد الله بن بختيشوع ، "قاموس الأطباء" للقوصونى، الطب الرُّوحاني للرازي.
لِننظر إذاَ إلى ما قاله أفلاطون في الموضوع من خلال "المأدبة " أو "الندوة": هذا الكتاب يضم ، في الغالب، أشهرحوارات أفلاطون ويختلف عن باقي كتابات الفيلسوف الأخرى بهيكلته ، وهو ليس عبارة عن حوار، بقدر ما هو أجزاء مختلفة من الخطابة ، حيث كل واحد من الضيوف المختارين من زهرة المثقفين الأثينين، يعرض كلمة موسعة حول نظريته في الحب (إيروس) ، وقد كتب أفلاطون هذا النص حوالي380 ق.م. وجعله على لسان الراوي أبولودورالذي يعيد تشكيل قصة هذه المأدبة والأمسية التي تمت خلالها، كما ينقل تبادل كل الكلمات المهمة التي قيلت خلالها. ومن هنا تتجلّى ثلاث نظريات رئيسية في الحب.
1ـ نظرية الحب النبيل أو"الفروسي": تظهر من خلال أطروحة "فيدر" التي تركز على مشاعر الشرف والوفاء واحترام الالتزامات المأخوذة. "فليس هناك خزي أكبر من أن يفاجئك صديقك وأنت ترتكب فعلا دنيئا ، كما أنه ليس هناك فخر يضاهي استحقاقك تقديره لإنجازاتك ". وهكذا، فإن الحب المبني على التقدير المتبادل يخلق عددا من الأفعال الرفيعة تظهر أهميتها بالغةَ حتى بالنسبة للدولة. فلو تصوّرنا جيشا من المحبين ومحبوبيهم، لما تصوّرنا له سوى الانتصار على أي عدو ولو كانت البشرية جمعاء، فلن يرضى حبيب أمام حبيبه أن يستسلم أو يفر أو ألاّ يساعده أو يسعفه وهو جريح أو في خطر...إذن: الحب النبيل يؤدى إلى أعمال نبيلة... ولكن المشكلة هنا أن الحب من الأساس ينبغي أن يكون نبيلا ... أما "پوزانياس" فسيقبل بمسألة التقدير المتبادل معمّقا إياها، فهو يعتبر أن ليست كل أنواع الحب نبيلة أو تستحق التقدير، فهناك حب نابع من أفروديت السماوية وهو في غاية الجمال وهناك حب نابع من أفروديت الأرضية (الشعبية )وهو حب دنيئ، والفرق بينهما لا يكمن في المظاهر الخارجية بقدر ما يكمن في العواطف التي تحركهما، فالنوع السماوي لا يختار إلا الأشخاص الذين يملكون الفضيلة والذكاء، ويتطلب وقتا للتأكد من أخلاقهم وطبيعتهم ونواياهم ثم بعد ذلك ينشأ عقد أومعاهدة بين الطرفين من أجل الإخلاص والمحافظة على سمعتهما ومصالحهما...
2ـ نظرية توأم الروح أو أخت الروح
يقول أريسطوفان: كان في بدء الخليقة نوع ثالث من البشر الأوائل (أندروجين) له جنس ثالث: أي أنه يمتلك جنس الذكر وجنس الأنثى معا وكان للبشر شكل مختلف فقد كانوا عبارة عن كرة بوجهين متقابلين بأربعة أذرع وأربع سيقان وكانت أعضاؤهم التناسلية مزدوجة، إلا أن غرورهم اشتد لدرجة أنهم تجرّؤوا على مهاجمة الآلهة، فقرر الإله الأكبر زيوس، عقابا لهم ، أن يشطرهم إلى جزءين، وقد قام بالمهمة "الجراحية" أپولون(... )وهكذا أصبح كل نصف يحن إلى نصفه الثاني، وبالتزاوج يتحقق الرجوع إلى الطبيعة الأولى لكل نوع من البشر...
من خلال هذه النظرية يبدو لنا أن الحب هو استعادة الجزء الناقص من كل إنسان للرجوع إلى حالة الاكتمال الأولى وإلى أصله، في محاولة أن يصبح الكائنان كائنا واحدا. وهذا يفسر لنا الحب بين الرجال للنساء وكذلك الحب المِثْليّ بنوعيه .
فحين يلتقي إنسان بنصفه الآخر، يشعر بإحساس قوي من الصداقة والقرابة والمحبة، بشكل عجيب.، وهذا الشعور العارم الغامر ليس من طبيعة الانجذاب الجنسي القصير المدى، إذ أن الرغبة الأساسية في هذه الحالة تتجلى في أن يستمرّا معا دون أن ينفصل الواحد عن الآخر طوال العمر، وأن يشاركا بعضهما حياتهما بسمو وإخلاص، وبعد الموت، في هاديس، يذوب الواحد في الآخر، ليعودا واحدا، كما كانا يعيشان في الحياة كشخص واحد....وهكذا يختم أريسطوفان قوله، بأن وصيته للنوع البشري من أجل الوصول إلى السعادة، هو أن يتزاوج كل واحد مع الحبيب الذي خلق له و يخصّه بالذات حتى يتم الرجوع إلى الطبيعة الأولى. وهذا يعني أيضا أن محبة الآخرهي في ذات الوقت حب الشخص لنفسه.
3ـ نظرية الحب ـ الخلّاق
يقول سقراط إن الحب يكون دائما حبا لشيء ينقصنا أو نحن محرومون منه. وهو يخص ما يفضي بنا للأشياء الجميلة والخيّرة، لأن الجمال والخير هما ما يُحَبّان. فمن امتلاك الأشياء الجميلة والخيّرة تنتج السعادة التي تعتبر آخر محطات الرغبة،ولا صعود بعدها أكثر. وبما أن البشر كلهم، بدون استثناء، يتمنون أن يكونوا سعداء، فإنهم كلهم يتوقون إلى امتلاك حالة حرموا منها، وبالتالي، يمكننا القول عن الكل إنهم محبّون (أو يحبّون).
وهنا لا يتفق سقراط مع أريسطوفان ، فهو يرى أنه لا يكفي أن يكون الآخر نصفي كي أحبه، ينبغي أيضا وخاصة أن يكون خيّرا، فمثلا يمكنني أن أقبل ببتر جزء من جسمي إذا كان غير صالح لبقية الجسم...ولهذا فالشيء الوحيد المحبوب هو الخيّر والطيّب أو ما يُعتبر كذلك.
ثم يخبر سقراط عما تعلمه في أركاديا عن النبية (العرافة ) "مانتيني" وهو أن "الحب هو عملية ولادة أو خلق في الجمال، عبر الجسد وعبر الروح". إذن، هذه الرغبة في الولادة (الخلق) التي يمتلكها كل البشر لا يمكنها أن تتم إلا أمام الجمال، فالإنسان أمام القبح يشعر بالنفور والانطواء على النفس. لذا فالجمال في الحب ضروري إذ لا يمكن من دونه الخلق ولكنه ليس هدفا في حد ذاته لأن الهدف من الحب هو الخلق. فالولادة هي الجانب الأبدي عند الأحياء (الذين سيموتون)، والخلود يحسب من الأشياء الجميلة، ولهذا من الطبيعي أن يكون محبوبا. ورغبة الخلود هذه لا تتمثل عند البشر فقط في الولادة بل حتى في الطموح ، وفي حبهم لمجد خالد، يتحملون من أجله مخاطر أكثر من تلك التي يتحملونها من أجل أبنائهم، ويدفعون من أجله المال، وقد يتعبون حد الموت من أجل الحصول عليه. إذن للبشر طريقتان في الخلق: الأولى تتمثل في إكثار النوع البشري وولادة الأبناء من أجل سعادة ألا تضيع ذكراهم وهي الولادة أو الخلق عبرالجسد، أما الذين يلدون بالروح فيتم ذلك لديهم عبرأعمال خالدة ، وهم الشعراء والفنانون والمخترعون والسياسيون وغيرهم من المبدعين. وفي هذا الصدد سيثير أفلاطون مشكلة المِثلية، فبصفة عامة يعتبر أن الذين يلدون بالروح ، يحبون الفتيان الجميلين، لأن جمالهم سيحرضهم على خلق أعمال جميلة، أما هم فسوف يخلقون فيهم أنبل الصفات وهي الرغبة في المعرفة والفضيلة. وهنا لا يعتبر الحب الجنسي هدفا كما هو الحال عند أريسطوفان في العلاقة المغلقة بين اثنين، بل بهذا الحب يرفع المعلم (المربي ) المحبوب إلى علاقة أقوى من تلك التي تربط الآباء بأبنائهم
لِننظر إذاَ إلى ما قاله أفلاطون في الموضوع من خلال "المأدبة " أو "الندوة": هذا الكتاب يضم ، في الغالب، أشهرحوارات أفلاطون ويختلف عن باقي كتابات الفيلسوف الأخرى بهيكلته ، وهو ليس عبارة عن حوار، بقدر ما هو أجزاء مختلفة من الخطابة ، حيث كل واحد من الضيوف المختارين من زهرة المثقفين الأثينين، يعرض كلمة موسعة حول نظريته في الحب (إيروس) ، وقد كتب أفلاطون هذا النص حوالي380 ق.م. وجعله على لسان الراوي أبولودورالذي يعيد تشكيل قصة هذه المأدبة والأمسية التي تمت خلالها، كما ينقل تبادل كل الكلمات المهمة التي قيلت خلالها. ومن هنا تتجلّى ثلاث نظريات رئيسية في الحب.
1ـ نظرية الحب النبيل أو"الفروسي": تظهر من خلال أطروحة "فيدر" التي تركز على مشاعر الشرف والوفاء واحترام الالتزامات المأخوذة. "فليس هناك خزي أكبر من أن يفاجئك صديقك وأنت ترتكب فعلا دنيئا ، كما أنه ليس هناك فخر يضاهي استحقاقك تقديره لإنجازاتك ". وهكذا، فإن الحب المبني على التقدير المتبادل يخلق عددا من الأفعال الرفيعة تظهر أهميتها بالغةَ حتى بالنسبة للدولة. فلو تصوّرنا جيشا من المحبين ومحبوبيهم، لما تصوّرنا له سوى الانتصار على أي عدو ولو كانت البشرية جمعاء، فلن يرضى حبيب أمام حبيبه أن يستسلم أو يفر أو ألاّ يساعده أو يسعفه وهو جريح أو في خطر...إذن: الحب النبيل يؤدى إلى أعمال نبيلة... ولكن المشكلة هنا أن الحب من الأساس ينبغي أن يكون نبيلا ... أما "پوزانياس" فسيقبل بمسألة التقدير المتبادل معمّقا إياها، فهو يعتبر أن ليست كل أنواع الحب نبيلة أو تستحق التقدير، فهناك حب نابع من أفروديت السماوية وهو في غاية الجمال وهناك حب نابع من أفروديت الأرضية (الشعبية )وهو حب دنيئ، والفرق بينهما لا يكمن في المظاهر الخارجية بقدر ما يكمن في العواطف التي تحركهما، فالنوع السماوي لا يختار إلا الأشخاص الذين يملكون الفضيلة والذكاء، ويتطلب وقتا للتأكد من أخلاقهم وطبيعتهم ونواياهم ثم بعد ذلك ينشأ عقد أومعاهدة بين الطرفين من أجل الإخلاص والمحافظة على سمعتهما ومصالحهما...
2ـ نظرية توأم الروح أو أخت الروح
يقول أريسطوفان: كان في بدء الخليقة نوع ثالث من البشر الأوائل (أندروجين) له جنس ثالث: أي أنه يمتلك جنس الذكر وجنس الأنثى معا وكان للبشر شكل مختلف فقد كانوا عبارة عن كرة بوجهين متقابلين بأربعة أذرع وأربع سيقان وكانت أعضاؤهم التناسلية مزدوجة، إلا أن غرورهم اشتد لدرجة أنهم تجرّؤوا على مهاجمة الآلهة، فقرر الإله الأكبر زيوس، عقابا لهم ، أن يشطرهم إلى جزءين، وقد قام بالمهمة "الجراحية" أپولون(... )وهكذا أصبح كل نصف يحن إلى نصفه الثاني، وبالتزاوج يتحقق الرجوع إلى الطبيعة الأولى لكل نوع من البشر...
من خلال هذه النظرية يبدو لنا أن الحب هو استعادة الجزء الناقص من كل إنسان للرجوع إلى حالة الاكتمال الأولى وإلى أصله، في محاولة أن يصبح الكائنان كائنا واحدا. وهذا يفسر لنا الحب بين الرجال للنساء وكذلك الحب المِثْليّ بنوعيه .
فحين يلتقي إنسان بنصفه الآخر، يشعر بإحساس قوي من الصداقة والقرابة والمحبة، بشكل عجيب.، وهذا الشعور العارم الغامر ليس من طبيعة الانجذاب الجنسي القصير المدى، إذ أن الرغبة الأساسية في هذه الحالة تتجلى في أن يستمرّا معا دون أن ينفصل الواحد عن الآخر طوال العمر، وأن يشاركا بعضهما حياتهما بسمو وإخلاص، وبعد الموت، في هاديس، يذوب الواحد في الآخر، ليعودا واحدا، كما كانا يعيشان في الحياة كشخص واحد....وهكذا يختم أريسطوفان قوله، بأن وصيته للنوع البشري من أجل الوصول إلى السعادة، هو أن يتزاوج كل واحد مع الحبيب الذي خلق له و يخصّه بالذات حتى يتم الرجوع إلى الطبيعة الأولى. وهذا يعني أيضا أن محبة الآخرهي في ذات الوقت حب الشخص لنفسه.
3ـ نظرية الحب ـ الخلّاق
يقول سقراط إن الحب يكون دائما حبا لشيء ينقصنا أو نحن محرومون منه. وهو يخص ما يفضي بنا للأشياء الجميلة والخيّرة، لأن الجمال والخير هما ما يُحَبّان. فمن امتلاك الأشياء الجميلة والخيّرة تنتج السعادة التي تعتبر آخر محطات الرغبة،ولا صعود بعدها أكثر. وبما أن البشر كلهم، بدون استثناء، يتمنون أن يكونوا سعداء، فإنهم كلهم يتوقون إلى امتلاك حالة حرموا منها، وبالتالي، يمكننا القول عن الكل إنهم محبّون (أو يحبّون).
وهنا لا يتفق سقراط مع أريسطوفان ، فهو يرى أنه لا يكفي أن يكون الآخر نصفي كي أحبه، ينبغي أيضا وخاصة أن يكون خيّرا، فمثلا يمكنني أن أقبل ببتر جزء من جسمي إذا كان غير صالح لبقية الجسم...ولهذا فالشيء الوحيد المحبوب هو الخيّر والطيّب أو ما يُعتبر كذلك.
ثم يخبر سقراط عما تعلمه في أركاديا عن النبية (العرافة ) "مانتيني" وهو أن "الحب هو عملية ولادة أو خلق في الجمال، عبر الجسد وعبر الروح". إذن، هذه الرغبة في الولادة (الخلق) التي يمتلكها كل البشر لا يمكنها أن تتم إلا أمام الجمال، فالإنسان أمام القبح يشعر بالنفور والانطواء على النفس. لذا فالجمال في الحب ضروري إذ لا يمكن من دونه الخلق ولكنه ليس هدفا في حد ذاته لأن الهدف من الحب هو الخلق. فالولادة هي الجانب الأبدي عند الأحياء (الذين سيموتون)، والخلود يحسب من الأشياء الجميلة، ولهذا من الطبيعي أن يكون محبوبا. ورغبة الخلود هذه لا تتمثل عند البشر فقط في الولادة بل حتى في الطموح ، وفي حبهم لمجد خالد، يتحملون من أجله مخاطر أكثر من تلك التي يتحملونها من أجل أبنائهم، ويدفعون من أجله المال، وقد يتعبون حد الموت من أجل الحصول عليه. إذن للبشر طريقتان في الخلق: الأولى تتمثل في إكثار النوع البشري وولادة الأبناء من أجل سعادة ألا تضيع ذكراهم وهي الولادة أو الخلق عبرالجسد، أما الذين يلدون بالروح فيتم ذلك لديهم عبرأعمال خالدة ، وهم الشعراء والفنانون والمخترعون والسياسيون وغيرهم من المبدعين. وفي هذا الصدد سيثير أفلاطون مشكلة المِثلية، فبصفة عامة يعتبر أن الذين يلدون بالروح ، يحبون الفتيان الجميلين، لأن جمالهم سيحرضهم على خلق أعمال جميلة، أما هم فسوف يخلقون فيهم أنبل الصفات وهي الرغبة في المعرفة والفضيلة. وهنا لا يعتبر الحب الجنسي هدفا كما هو الحال عند أريسطوفان في العلاقة المغلقة بين اثنين، بل بهذا الحب يرفع المعلم (المربي ) المحبوب إلى علاقة أقوى من تلك التي تربط الآباء بأبنائهم