ابراهيم البهرزي - أنْ يَعبُدَ الرجلُ إمرأةً

(نصٌّ في الغُفران)

لَمْ أتَسَلّل مِن شُبّاكها ،وَلَمْ أربُض خَلفَ السياج مُتَرَبَّصاً
لَقَدْ رَأيتُها كاملةً وكُنتُ كاملاً وكانَتْ الدائرة خِتامَ الهندسةِ القديمةِ ، لا تَفيضُ الدائرةُ عن زوائدَ مُرهِقةٍ كالحياةِ الآدميّةِ ،
وماكُنْتُ وما كانَتْ تَحتاجُ لِحكمةِ الناصحينَ ،كُنَّا نَمزحُ في
خَطأٍ لا يَجرحُ الحياةَ ، خطأُ الأغنيةِ التي يَغُصُّ مُنشدُها بالبكاءِ
ويستَمرُّ بعدَكَفْكَفةِ الدموع

أكانَ يَنْبغي أنْ تكوني الكمالَ المستَحيل لأفقدَ هَيْبتي
وأنحني مُقَبّلاً أصابعَ قدميكِ مَثلاً ؟
لَمْ أخسَرْ وَلَمْ تَخسري شيئاً ، كان افتراضاً لتَربيعِ الدائرة
من أجلِ معرفةِ الأضلاعِ التي تحدّدُ المسافاتَ ، كُلّ شُعورٍ طِفْليٍّ صارَ رهيناً بمعرفةِ المسافةِ ، حتّى رعونة الملّيمترات القليلة معكِ صارت في حساب تلكَ الدائرةِ كالنسبةِ الثابتةِ ، رغم أنَّ حُبّيَ لكِ كانَ مُتواليةً هندسيّةً ما كانَ بإمكاني إيقافَ تواترها ،كانت قَطرةَ مطرٍ ثُمَّ ضاقتْ عنها المحيطات ، أكانَ ينبغي أنْ تكوني الكَمال المستَحيل لأعودَ الى قَداسةِ الصِفْر ؟

خارجَ الإيمانِ الذي لُقَّنْت ، رَأيتُكِ فَجأةً كَبُرْكةٍ في السماء ، عاليةً ومَحجوبةً بضبابٍ من أنفاس المخلوقاتِ اللاهثةِ ، كنتُ أراكِ وحدي بِعينِ اللّوعة ، حيث الْحَيَاةُ تعبرُ لاهيةً بالنسبةِ لِمَنْ يُمازحونَ الحياةَ ، وكنتُ أمْتَصُّ ضِحْكَتكِ الغريرة بِألَمٍ صُلْبٍ ينظرُ بعينينِ مِنْ ماس ، وكنتِ تعرفين جيّداً أنَّ هذا الألم لم يكُنْ نَدَماً على خَسارةٍ بِقَدَرِ ماهو الأمل بأنْ تكوني مُتاحةً دوماً كَوَمضةٍ تَتَقَلّبُ في زوايا الماس ، مِثْل دَمعةٍ مراوغةٍ ، ولا شيءَ أكثر من هذا أبداً

صغيرةٌ في الْحِسَاب ، كَبيرةٌ في المعنى
كانَ مَعناكِ الهائل أصعبَ مِنْ قُدرةِ العقل العَمَليِّ على صِناعةِ السعادةِ ، وكنتُ حَزيناً بقوّةِ فَيلسوف لا يعرفُ الفرَحَ سواه ، هكذا نَحْنُ يا صغيرتي ، نَبرعُ دوماً في معرفةِ ما خسرناهُ ، كنتِ رقيقةً كالجَهلِ الجميل ، وكنتُ صبوراً على لوعتي بِقناعِ الدَهشةِ ، تنزلقُ نظرتي في بئر عينيك كدلوٍ يقرعُ القاعَ ويعودُ فارغاً

مُتَورطاً بعبادتكَ دون أن أشْرِكَ بحقيقةٍ أخرى ، ربما الإيمانُ شقيق المرض ، أو الحُمّى التي تُنبِيءُ عنه ، وَتَقتلُ أحيانا ، آمَنْتُ بأشياء كثيرةً قَبلكِ وخرجتُ منها ملعوناً ، اللعنة يسيرةٌ عندنا كالتَسميةِ ، ما يجعلني متأكداً مِنْ قُوّةِ إيماني ذلك الرضا الصامتُ وهو يتسلّلُ من ابتسامتكِ المُتعبَه ، طالما أنَّ هنالكَ ما يُتعبنا ، فنحن لم نَزَل على قَيْدِ الضمير

لم تَكوني صَنَماً مُفرِطَ الجمالِ ، بَل الحَرَكَة الحارّة في سكونِ الدهشةِ ، أمًدُّ يَدِي عِبْركِ كراقصةِ باليهٍ مِن ضباب ، وأتَبَددُ في رقصتي ، لم تَكُن الروح الا بياضكِ الشفيف ، لا املكُ منها غَيْرَ أنسامكِ حينَ تَميسينَ ، هاهناوهناكَ ، في الحضورِ والفقدانِ ، لا أعبرُ المسافةَ المهولةَ ،بل يَختَزلني وقتكِ الوامضَ كحركةً في الفراغِ ، لا قَبٍل ولا بٍعْد ، ذَوبانُ الندى في طاسةِ الشمس هو الوقتُ والفعلُ يَمتزجانِ ، أيَّ وقتٍ وَأيَّ فعلٍ تَبدَّدَ ، أو ظَلَّ ، في لحظةِ الاختراق ؟

خَجِلةٍ مِنِّي ،وَزعلانةً رُبّما ، كَمَا يَليقُ بِنَبيّةٍ لا تُجيدُ العتاب ، كنتُ أخشى أنْ أمُرَّ على ظِلّك النَحيل فَيَتّأوّهُ النور الذي يَتَرَذْرَذُ مَنْ عبوركَ الساطع ،حَيرانَ لا يدلّني طريقٌ أليكِ ولا تُضيّعني فِكرةٌ رعناءَ ، أقفُ حيثُ لا تَمُرّينَ وأنتظركِ ، وِأجلس كالشَحّاذِ في البّريّةَ ، لا مُنقذَ لي مِن خَيبتي غيرَ الظلام ، وزعلانةٌ مني ، وخَجِلةٌ رُبّما ، وكانَ ذلكّ أقسى الظلام الذي يَفضَحُ خَيبتي ، كَذئبٍ بارق العينين ..

الآخرُ الذي وَصلَ قَبلي إليكِ ، كانَ ساعةً عاطلةً تَرَكها لنا قَدرٌ لا يُجيدُ قراءةَ المواقيتِ ، أصلُ قَبلكِ أحياناً ، فَأستقلُّ القطارَ الخَطَأَ الى المدينةِ الخَطأ، وتأتينَ بعدي ولا تَنتظرينَ ، كانَ ثَمّةَ راكبٍ آخرٍ يَجلسُ مكاني ، ولا مقعدَ آخرَ ، ولا موعد آخر ولا قطارا آخر ، هكذا الرحلاتُ في مُدن الأوقاتِ الضالّةِ ، نَذهب في اتجاهاتٍ مُختلفةً من أجلِ أن نتغَنّى بأساطير الفراق ..

كَمَا يَنبغي أنْ تُقَدّس الأمّهات والجِدّات والبنات والحفيدات ، كَمَا يَنبغي أن تكونَ الطقوس شديدةَ الوثنيّة والصدقِ ، لا دَنَسَ فيها غَيْرَ دمِ الأضاحي ، أحبُّ أن أوَدّعكِ بِقصيدة مَن ياقوتٍ أحمر ، أقفُ تحتَ شَجرةِ الرُمّان وأصلّي فَتستيقظُ الزَهراتُ ويَنْتظِمْنَ عَقداً طويلاً ، أنا لَنْ أُكَبّلكِ حتى بِعِقدٍ من الحُب ، سيكونُ سائبَ الطرفينِ يَسّاقطُ عليكِ حيثما تطرق قَدماكِ وَجهَ الأرضِ الكريم ..

أحبُ أن أودّعكِ كَمُقْبل على حربٍ لا يُحِبُّ أي مَجْدٍ فيها ، يخوضها لِمجَرّدِ الخَجلِ مِنَ الجُبٍنِ ، يسقطُ قتيلاً وهو يضحكُ مِن تفاهةِ المصادفاتِ السيِّئةِ ،وكما كُنتِ أجملَ مُصادفاتي الخاسرةِ ، سَأقولُ أنَّ الأمرَ كُلّهُ كانَ مُجرّدَ مصادفةٍ ساخرةٍ ، أو عِبادة جاهليةٍ ،لأجلِ أن لا أسيءَ لشهيد حقيقي ..
 
أعلى