رجاء بن سلامة - لماذا تريد المرأة أن تكون زهرة؟ ولماذا تُقطع أكمامها؟

لا يشبّه الشّعراء والعشّاق المرأة بالزّهرة فحسب، بل هي نفسها تريد أن تكون زهرة، ولا يشبّهونها بالقمر، بل هي نفسها تتوق إلى أن تطلع كالقمر. تريد أن تتزيّن وتتبرّج ولو بالحجاب، أو رغم الحجاب، وتوقها هذا أقوى من كلّ مؤسّسات المنع والخوف من الفتنة، وكلّ أجهزة القطع والبتر.
من العبارات المكرّرة المسجوعة التي علقت في ذهني منذ أن كنت طفلة أنصت إلى خرافات النّساء، مجموعة من الجمل القصيرة تقدّم بها المرأة نفسها عندما تروي قصّتها بعد أن ترمّلت أو طلّقت أو أصابها “الزمان” الغادر بنوائبه. لم يتبقّ في ذاكرتي من هذه الجمل إلاّ ما انطبع في ذهني، لأنّني ألّفت حوله أسطورة طفوليّة، ها أنّني أعود إليها، أو ها أنّها تعود إليّ بالأحرى، لأمتحن طاقتها التّفسيريّة في عالم الكبار وفكرهم. فربّما تكون الأسطورة فعلا طفولة الفكر، وربّما لا تبرح الفكر إلاّ في الظّاهر، أو لا تبرحه إلاّ بعد لأي وجهد جهيد في نحت المفاهيم وجردها من الواقع. العبارات الحبيبة التي حفظتها ذاكرتي هي التي أحاول تقريبها إلى الفصحى كالتّالي : “عندما كنت في أيّام زماني، وتزوّجت ابن عمّي الحقّانيّ، وكنت أحمل القدر بأكمامي…”
أعتقد أنّ هذه العبارات ترد في خرافة اسمها “عجائز القمر”، وفي هذه الخرافة تجتمع سبع نساء على ضوء القمر، وتروي كلّ واحدة قصّتها وسبب تطليق زوجها إيّاها، وهي تنتظر افتتاح السّوق لكي تبيع شيئا ممّا صنعته بمغزلها أو نولها. كنت أفهم أنّ سياق العبارة هو سياق حنين وفخر بنوع من المجد والرّفاهية ولّى وانقضى بانقضاء الزّواج، وأشعر اليوم بأنّه سياق حسرة ممزوجة بشيء من حكمة المسنّين، وشيء من تمرّد لنّساء، وشيء من جبريّة المؤمنين. ولكنّني لم أكن أفهم جيّدا مدلول الكمّ الذي تفتخر المرأة بطوله، كنت بتفكيري الحسّيّ السّاذج أسند إليه وظيفة عمليّة انطلاقا من “أحمل القدر بأكمامي”، فالكمّ الطّويل يمكن أن يستعمل أداة لحمل القدر إذا كان متّسخا أو ساخنا. ولكنّني كنت أربط الصّلة بين الأكمام المذكورة في الخرافات وأكمام بعض الجدّات والأمّهات اللّواتي يقصصن هذه الخرافات نفسها. فهذه الأكمام كانت في بعض المناطق التّونسيّة عريضة في آخرها، وطويلة نسبيّا، وكانت في بعض الأحيان مصنوعة من الدّانتيل الشّفّاف، فكانت تحمل حشدا من الأزهار والتّلافيف والأشكال النّباتيّة، يضاف إليها حشد آخر من هذه الصّور تحمله الملابس الأخرى. ولكنّ العجائز اللّواتي عرفتهنّ لم يكنّ يأخذن القدور بأكمامهنّ. ففي الخرافة بقايا لا نجد لها نظائر في الواقع.
وعندما انتقلت من الخرافة إلى المدرسة، ومن الدّارجة إلى الفصحى، تعلّمت معنى آخر من معاني”الكمّ”. لم تكن الفصحى، لغة الكبار، في طلاق تامّ مع لغة جدّاتي، لغة النّساء أو لغة الأطفال، أو هكذا فهمت الأمور، بحيث أنّ الكمّ هو كم الزّهرة أو الثّمرة، ولذلك أصبحت أومن بوجود علاقة بين كمّ الزّهرة وأكمام النّساء الطّويلة، وأنا أردّد في نفسي عبارات “عجائز القمر” في الخرافات التي تقصّها عجائزنا.
كنت أقول في نفسي إنّ العجائز اللّواتي يرتدين هذه الأكمام المزهّرة يردن أن يكنّ أزهارا، وأنّهنّ رغم تجاعيد وجوههنّ أزهار ذابلة تحنّ إلى زهرة العمر. وانطلاقا من الأزهار والأكمام، وأكمام الأزهار التي تحلّي أكمام النّساء، صنعت لنفسي أسطورة عن النّساء باعتبارهنّ أزهارا، وباعتبار أنّ كلمة “كمّ” التي تعني اللّباس تريد “كمّ الزّهرة”، أو تحنّ إليه، وكان يحملني إلى هذا الاعتقاد نوع من الإيمان المبهم بأنّ الكلمات تحبّ الأشياء وتحنّ إليها وتشتاق. لم أكن أفقه كنه هذه العلاقة بين الكلمات والأشياء، ولكنّني فهمت بعد سنين طويلة أنّها تعود إلى سطوة الدّوالّ، وقدرتها الإيحائيّة التّناثريّة، بحيث أنّ كلمة “كمّ” لا تحيل إلى القماش الذي يلفّ اليدين فحسب، بل تحيل أيضا إلى الكمّ الذي يلفّ الزّهرة، وتحيل إلى الزّهرة، والمرأة ذات الأكمام، وقد تحيل أيضا إلى القطع والبتر، بما أنّ الزّهرة قد تقطع، أو يقطع منها كمّها.
نعم كلمة “كلب” لا تنبح، كما كان يقول اللّسانيّون لتوضيح مبدإ اعتباطيّة الدّليل اللّغويّ، وانفصال عالم الكلمات عن الأشياء. ولكنّ كلمة “كلب” لا تحيل فحسب إلى الحيوان المعروف، أو لا تحيل قبل كلّ شيء إلى هذا الحيوان، بل إلى النّباح، أو المهانة، أو القبيلة العربيّة التي تحمل نفس الاسم، أو كلب الجيران الشّرس… كلمة “كلب” تنبح إذن، ولكن من حيث أنّ كلّ الكلمات تنبح، وتردّد نباحا مختلفا، وربّما تعضّ…
ما السّرّ في ولع النّساء بالأكمام ورغبتهنّ في أن يكنّ أزهارا؟ هل لأسطورة النّساء ذات الأكمام، أي النّساء اللّواتي يردن أن يكنّ أزهارا معنى؟
الخصاء كما يقول لنا التّحليل النّفسيّ قدر الرّجال والنّساء معا على تفاوت بينهم، ولكنّ جاك لاكان يفيدنا أنّه موزّع على الجنسين بطريقتين مختلفتين : فالرّجل يملك القضيب ويمكن أن يفقده، وسبق أن هُدّد بفقده، والمرأة ليس لها القضيب ولكنّها تريد أن تكون هي القضيب. تريد أن تكون زهرة، لأنّها لا تملك الزّهرة، ولذلك فهي قضيب من الدّرّ والياقوت، أو “قضيب على كثيب”، رغم أنّ القضيب ليس لها. فالاختلاف الجنسيّ هو كذلك اختلاف في نوعيّة الإخصاء بحسب مقولتي الملك والوجود : من له القضيب ليس قضيبا، ومن هو القضيب ليس له القضيب، مع معطى أساسيّ يتمثّل في أرضيّة النّفي التي تعود إلى الإخصاء وإلى الحدود المنجرّة عن المنزلة البشريّة : من له القضيب ليس له القضيب مطلقا، ومن هو القضيب ليس قضيبا مطلقا.
ولكنّ ما يهدّد الرّجال والنّساء ليس الإخصاء بقدر ما هو رفض الإخصاء، أو الإمعان في إخصاء الآخر والزّيادة في إخصائه بأكثر ممّا تقتضيه صيرورة الأوديب والاختلاف بين الجنسين. فقد يريد الرّجل أن يكون مالكا مطلقا للقضيب، وقد يريد أن يكون القضيب، وقد لا تقبل المرأة الإخصاء، فتريد أن تكون القضيب المطلق الدّائم، والزّهرة المعروضة على كلّ الأنظار، أي تتحوّل إلى عابدة للأشياء تتّخذ جسدها شيئا معبودا. وقد يعترض الرّجل الخائف من الإخصاء ومن متعة المرأة طريق المرأة إلى أن تكون زهرة، فيقطع أكمامها، ويحرمها من الزّينة التي تكون بها زهرة ناضرة. وما مؤسّسة الحجاب سوى التّعبير عن القلق الرّجوليّ من قدرة المرأة على أن تكون زهرة، وخوف الرّجل من أن لا تكون له زهرة، أو رغبته في أن يكون الزّهرة المطلقة.
ولذلك فإنّ النّساء من حيث أنّهنّ زهرات، أو من حيث ما يمكن أن نسمّيه بـ”منزلتهنّ الزّهريّة” على ثلاثة ضروب :
• زهرة ذات أكمام، معرّضة إلى الذّبول ككلّ الأزهار، عارفة بذلك، ولكنّها على أيّة حال زهرة، وتريد أن تبقى زهرة وإن كان ذلك في عالم “الكون والفساد”.
• زهرة قطع كمّها كما قطعت أكمام النّساء في مصر في القرن الثّامن الهجريّ. فرض عليها الإخصاء مرّات : إخصاء الأنوثة والتّفريق بين الجنسين، وإخصاء القطع بفعل تدخّل السّلطة الأخلاقيّة. وهذه المخصيّة مرّتين أو أكثر لا بدّ أن تتمرّد على عالم الإخصاء المفروض، وقد تخصي الرّجل ذاته بأشكال مختلفة.
• زهرة ترفض الذّبول، وتزيل كمّها، لتعرض نفسها على أنّها الزّهرة المطلقة، وهذه تضيع في نظرة الآخرين، ولا تكاد تداري قلقها من الإخصاء بعبادة جسدها وقد تحوّل إلى زهرة مقتلعة.
الأولى تقبل الإخصاء، والثّانية يفرض عليها إخصاء على إخصاء، والثّالثة لا تقبل الإخصاء، وتدغدغ حلم الرّجل بالإفلات من الإخصاء.
طريقة المرأة في تضميد جرح الإخصاء هو أن تكون زهرة، أن تكون علقا نفيسا لكي يتعلّق بها الرّجل. والتّفكير النّسويّ الذي لم يفهم توق المرأة إلى الزّينة، فشنّع عليها العناية بجمالها وزينتها، هو تفكير عبوس وغير نسويّ. أمّا التّعاليم الدّينيّة التي شنّعت عليها التّبرّج وأجبرتها على الخفاء والقبح، فهي تقدّم حلولا يائسة لا تزيد النّساء إلاّ اغترابا أو عنتا، ولا تزيد الرّجال إلاّ لجاجة ولهاثا ودورانا بائسا بين لّذّة الانتهاك الآثم ومتعة الطّاعة المازوشيّة
 
أعلى