نقوس المهدي
كاتب
ملخّص للبحث متضمنا إشكالاته
نتغيا من خلال هذا المنجز محاولة الكشف عن خبايا الكينونة الأنثوية المحتجبة وراء السرد النشوئي البدئي؛ وذلك من خلال إعادة التفكير والانشغال الفلسفي بسؤال الأصل المرتبط هنا بقصة الخلق الإنسي مع الوقوف على استيضاح صحّة أسطورة الانفصال الآدمي من عدمها، بلفت الانتباه إلى مفهوم الرغبة «désir»الذي ظلّ غائبا عن مسار التفكير الكوني في إشكالية الخلق الإنسي إلى حدود زماننا المعاصر. لربما هي عودة ملحاحة إلى الوراء، إلى ذلك الوجود الأصيل و المنسيّ كما اتّسم به قلق السؤال الفلسفي عند وورثة الفلسفات الأنطولوجية. فالاجتثاث الفينومينولوجي للأنطولوجيا معناه في المقام الأول إماطة اللّثام عن تاريخية مفاهيمها وتصوراتها للوجود. ومن أجل تحقيق ذا مبتغى، كان لزاما عليّنا التوسيع من حقل التفكير، والبحث عن المبادئ الموجهة للأشياء، ضمن آفاق ترتدي المجهول واللامنطوق والغوري، منطلقا في رحلة استكناه للتاريخ النشوئي، يسكنني فيها التّيه والشغف، باحثا عن موقع للاشعور و عن أثر للرغبة، في معرض الاسترجاع النقدي التحليلي لقصة الخلق البدئي، وإحياء السؤال المتفلسف القاضي بنا إلى تجديد فهمنا للغزية الوجود الإنسي.
تبعا لهذا الأفق الذي نخوض في رسم قسماته، أجد نفسي وبدون نيّة مسبقة، أخطّ نقدا راديكاليا يساءل زخما تاريخيا من التأويلات الأسطورية – الدينية، بل حتى الفلسفية منها، والتي أسرفت في مجملها التركيز على مسألة خلق المرأة من ضلع الرجل، لدعم أسطورة كمال الذكر عن الأنثى، بينما تمّ إهمال في مقابل ذلك جانب من الخيال تتحقق ضمنه قوة التأويل- المتعلق هنا بالحلم وفعالية التجربة الصوفية- باعتباره الأسبق، والأهم في نظرنا عند الحديث عن سرّ ازدواجية الجسد الإنساني، ومحاولة كشف حقيقة الرغبة المتوارية خلف جدار الوعي. حيث يترجم هذا المنجز بين يدي القارئ، جهدا تأمليّا قلّ نضيره في زمن النزعة الآلية واتساع مناخات الكسوف الفلسفي، أصبوا من خلاله وضع ملامح أنطولوجيا كينونية، تتصوّر قصة الخلق الإنسي كوجود راغب، وتقوم بتقويض جذري للأفهام، للبنى، للأنساق، للنصوص المبلوعة في جوفها ذاتية الموجود الأنثوي. كما تسمح هذه القراءة من جوانب متشعّبة أخرى بتفجير إشكاليات ميتافيزيقية كافية حول الكيان النفسي للإنسان.
ممّا لا جدال فيه اختلاف الفكر الكوني منذ الأزمنة الغابرة إلى الحقبة المعاصرة حول كيفية خلق حوّاء. ولا نعلم علم اليقين إن كان الرّب جلّ ذكره قد خلق حوّاء في نفس وقت خلق آدم أم بعده، ومزمع ما أمكننا معرفته هو ما تذكره الكتب السماوية التي لا تخوض في التفاصيل، و كذا الأحاديث المنسوبة إلى نبي الإسلام، إلى جانب روايات متضاربة تصلنا من زمن أساطير الأوّلين. بمعنى ليس فقط ذكر واقعة خلق حوّاء من ضلع آدم {مع تعليق الحكم هنا حول قضية الضلع} هو كفيل بمعرفة خبايا الوجود الإنسي والنفس والجسد. فالخطاب الإلهي في مضمونه الذكوري موجّه إلى كائن ذكر معلوم باسمه، ألا وهو آدم، بينما المرأة ملحقة مضافة كانتماء فرعي، نوعي. ومع كل الأسف نجد هذا التفسير الأجوف لايزال يجثم على سيرورة الفكر الإنساني عبر أزمنة التخلّقات الفكرية. هذا على الرغم من كونه مبني على الرأي والظنّ والاعتقاد غير المشفوع ببراهين وأدلّة سواء أتت من نبع عقلاني برهاني أو ذوقي عرفاني. ولا نخفي ميلنا إلى السبيل الثاني.
تجدر الإشارة إلى أن قصّة الخلق غير متوازنة في السّرد بين النوعين. فحينما نعود إلى مجريات قصّة البدء الإنسي، نجد آدم هو وحده المخاطب من طرف الرّب في كافة أطوار خلقه : بدءا بخلقه وإشهاده على ذرّيته في الملأ الأعلى، ثم تعليمه اللغة وسيادته على الملائكة، ثم تعرّفه على الموجودات في الكون وتسميتها بمسمياتها، إلى وقوعه في الخطيئة وطلبه الغفران والثوبة من الرّب متحدثا باسم حوّاء، حتّى عودته إلى أديم الأرض.
أمّا قصّة خلق حوّاء فلا يأتي ذكر لاسمها إذا استثنينا الإشارة إليها بالزوج أو الأنثى، بل حتىّ أن الرّب لم يبلغ الأنثى بخطاب مباشر عن منع الأكل من الشجرة المحظورة وإنما وصلها النهي عنها عن طريق آدم. لذا لا بد من إعادة قراءة قصة خلق حوّاء ما دام يلفّها كل هذا السواد والغموض وفيها الكثير من الفراغات والمغيوبات، كما لها – وهو ما سنأتي على توضيحه في تفاصيل البحث – جانب باطني أوسع من أن يحدّد بدقة أو يفسر تفسيرا تامّا أو يأمل المرء بكشفه تماما. مما يترك حقيقة خلق المرأة معلّقة بالعلم الإلهي وغامضة على مرّ التاريخ الإنساني، الذي اكتفى فيه الفكر الكوني بالتّركيز على كيفية وهب المرأة للحياة، ولم يتساءل في الكثير من الأحيان كيف جاءت المرأة إلى الوجود. هل فعلا ثم خلق حوّاء من ضلع آدم بهذه الطريقة المؤلمة والعنيفة والمعدوم فيها أي ذكر أو إشارة لمفهوم الرغبة، لكأن آدم وحوّاء كائنين مجردين من الرغبة التي هي مفتاح كيان الإنسان ومشتلّ نزوعاته المتدفقة باستمرار. إذن فهذ اللّبس تحديدا، الذي اقترن بمفهوم الضّلع الأعوج ومعناه الترميزي، هو ما سنحاوله استكناه مغالقه، وسبر أغواره في سياق معالجتنا لمسألة خلق الأنثى. حيث يأتي مفهوم الرغبة ليعوض الضلع، ويردم الثغرة القائمة على مستوى العلاقة المبهمة لآدم بحّواء. وهذا الجانب المهمل {اللامفكر فيه} نجده الخيط الناظم لبحثنا.
تندرج هذه الورقة ذات النّفس النقدي – التأسيسي، والتي تحاول في طياتها جاهدة تفتيق معالم رؤيا اختلافية، تعيد تقويض الأنطولوجيا النشوئية منذ فجرها، بغية تكسير »التقليد الإنتسابي « الذي بموجبه لا يمكن للمرأة أن توجد سوى في، ومن، داخل جنس الذكر {جسده/ ضلعه}، والحرص في المقابل على إعادة تشييد معنى مخالف يسمح بإرباك نمطية الفهم السطحي، والانزياح به عن المسالك المألوفة التي يمتطيها عادة التّفكير في الموضوع، من خلال تطوين مفهوم الرغبة بدلا من الضلع كمبدأ يقوم عليه تفسير وتأويل واقعة الخلق الإنسي. فبدل الاكتفاء بالنقد والتفكيك نرسم في هذا البحث منعطفا جديدا لعله يتجاوز ويهدي في ذات الوقت لتأويل مغاير من المرجى الأخذ بناصيته كل ما تعلق الأمر بسؤال الرغبة في التكوين البدئي للإنسان.
تقديم هامشي:
تعدّ أسطورة البدء المقدس أو “النشأة التكونية للإنسان” من بين أهم الأحداث التي تستوجب من الحس الفلسفي وقفات تأملية، ليعيد التفكير في أبعادها من منظور استعادي «rétrospective » ، ويتساءل على نحو يدفع بإرادة المعرفة خارج ثنايا المألوف، والجاهز من الخطابات المحنّطة لعقود من الدّهر في تلافيف المعتقد والموروث والمؤسطر وطبقات العقل الباطن. فالدعوة إلى إعادة القراءة المتجددة للتراث الفكري –خاصة بعده الإناسي منه- حاجة معرفية لضبط منشئه وحركة مفاهيمه في نواميس أنساقنا الثقافية والفكرية والمعتقدية والأخلاقية.
إذ علينا أن نقيم تمييزا جوهريا بين المظهر الأنطولوجيّ، والمظهر الذي يقدمه لنا التاريخ الرسميّ بخصوص الخلق الأنثوي. فعلاقة آدم وحوّاء النشوئية قد تمت بعجلة شديدة لم تمهل الفكر ليقول كلمته. لذا، فإننا نطمح من وراء المساهمة بهذا الموجز، القبض على المعنى قبل أن يحشر في نظم الخطاب التي تسيّج مساحات التّفكير ضمن جغرافيا المقدس، وتوابته السّكونية المؤبّدة. وليس الغرض من تناول هذا الموضوع الموغل في عمق القدم – ما قبل التاريخ- إعادة التّفكير في المفكّر فيه، وإنما تأتي هذه الورقة بلمحات مركّزة حول حلقات مفقودة في الانشغال الفكري بقصّة الخلق الإنسي، ليتسنّى لنا إثرها تخصيب آفاق أخرى مغايرة، تنأى بقدر كافي عن تفسيرات غافلة/ قاصرة/ متناقضة/ فارغة (…) الخ. ويبقى دائما السؤال يستلحق معناه المؤجل، ومفتوحا على أجوبة ليست حاضرة، مما يستدعي المزيد من الحفر والتنقيب والتدّارس إيمانا منا بنسبانية كلّ معرفة تتّخذ الإنسان موضوعا لها.
كثيرة هي الاختلافات بين أصحاب الرؤى والمذاهب الفقهية الاجتهادية حول قضايا مقدسة داخل أو خارج النص الديني، غير أن باب الاجتهاد والتأويل يظل مشروعا، ولا يحقّ لأي كان أن يصادر حق الرأي والتفكير والحوار والمساءلة النقدية. ولست أزعم أنني أجبت على جميع التساؤلات التي تولّد وجهاتها المجهولة عبر مسارات هذا البحث المحّمل بثقل التاريخ الإنساني بتأويلاته. و لا أدّعي كذلك أن هذا التفسير الذي قدّمته للرغبة والحلم الآدمي هو الأصح والخالي من الهفوات، لكنني على قدر من الإيمان بأن هذا البحث يستبطن جوانب خفيّة لم تكتشف بعد، ويثري بحثنا المتعلق بأصل المعتقد الأسطوري والديني عند الإنسان وبدايته النشوئية.
ما أكبره من خطأ وخسارة أن نصّور تاريخ النزوع الإنساني بهذه الطريقة الجوفاء التي لا نجد فيها أيّ أثر للرغبة – رغبة آدم وحوّاء في بعضهما البعض- ويلفت النظر شيء، أنهم حرصوا على تصوير واقعة الخلق الأول بالعدمية والخشونة ومجانبة الرغبة الإنسانية. وما أكثر التّفاهات التي تحاك في هذا المجال، والحقيقة أنني أعجب وآسف في نفس الوقت حين أقرأ بعض ما كتب حول هذا
الموضوع. فالخطابات الفقهية والعقل الذكوري المتعالي والأساطير المؤسسّة جميعهم يتحاملون على إجهاض المعنى المراد به من قصة الخلق الإنسي ملجمين بذلك صوت الرغبة التي لا يأتون على ذكرها سواء عن قصد أو غير قصد. بل ونصطدم بجدار الكبت أكثر تصلّبا عند الرجال من النساء، حين يعتبرون خلق حوّاء شيئا ثانويا وجد تعريفه عند آدم كسائر المخلوقات، متشبّثين بهذا الموقف الاستنساخي الذي ينسب وجود الأنثى إلى علّة ما ذكورية.
كما لم يفتني في هذه القراءة إضعاف مفعول مقولات العقل النقلي {الوسائلي}؛ واستخراج نقائص دالة من النصوص الميثولوجية والدينية مع تسليط الضوء على تاريخ الرغبة المهدور والمحجوب وراء جدار الوعي. ففي هذا الطرح تأصيل لمسعى فكري يراد منه إعادة تقويض وتفكيك ثنائية أصل / فرع، إلى جانب تأزيم فكرة مركزية المعنى المحصورة عند الطرّف الذكوري. لذلك، فإذا استطعنا أن نفسر على ضوء هذا النموذج أساس قانون الخلقة السليم بشكل لا يصوّغ ممارسة الخصاء على الكائن الأنثوي، آنها يمكن أن نسمع نداء الرغبة الحقيقية في المرأة كذات وكيان مكتفي بذاته، لا كموجود غير مرغوب فيه أو كموضوع بدون رغبة. وقصارى القول أن النزوع الإنساني لا يمكن إلاّ أن يكون نزوعا راغبا، وإذا سبق وكان العكس، فسنكون قد سلّمنا سلفا – منذ الخطاب الإلهي للأرواح – أن نعيش في هذه الحياة بدون رغبة، تاركين قوى الطبيعة تفعل فينا على نحو ميكانيكي، تطبعه الاستجابات الغريزية أكثر من النزوعات العرفانية والجمالية.
إنّ أهم ركيزة يقف عليها بنيان البحث هو مفهوم الرغبة. فنحن نحثّ من خلال إعادة التفكير في قصة الخلق الإنسي، على استحضار الرغبة كحلقة مفقودة في تفسير علاقة آدم وحوّاء النشوئية. وعلى ضوء هذا المستجد المفهومي نهدف معالجة القضايا الإشكالية التالية :
-العمل على فكّ طلاسم العلاقة المعقدة بين الجسد الذكوري والجسد الأنثوي، والمقصود بالتحديد مساءلة قضية الضّلع وانتساب حوّاء من حيث الخلق لآدم.
-تأصيل مفهوم الرغبة في تجربة النزوع الإنسي، بعد أن غاب هذا الأخير على التّفكير الكوني في مسألة خلق آدم وحوّاء على مرّ الزمن الأنطولوجي.
-إدراج الحلم كسجل خيالي باطني ينضاف إلى تفسير حدث الخلق الأنثوي، باعتبار المنام الذي راود آدم قد تضمن كشفا عن صورة حوّاء قبل أن توجد ككائن مجسم في واقع آدم.
– إعادة الاعتبار للاشعور في تجربة الخلق الانسي، على أساس كونه مسرح الصراع النفسي لآدم وحوّاء مع ذواتهم ومجال الرغبة أيضا. الشيء المفضي إلى إعادة مساءلة مفهوم الخطيئة الأصلية ومجمل النزوعات المخبوءة في النفس الآدمية والتي وجدت تعبيرها في خرق الأمر الإلهي، بدل أن تتم مقاربتها من زاويا أخرى.
التساؤلات الإشكالية للبحث:
ملحوظة: المرجو الإبقاء على تساؤلات البحث مع أهدافه عند النشر.
كيف حظرت حوّاء كموجود في الوجود؟ وهل من الممكن أن يكون قد جسّد الحلم أول تجلي للكيان الأنثوي؟
لماذا كان هناك منام في قصة الخلق الأنثوي، ولم يكن هناك تجليّ مباشر؟
ما غاية الحلم في قصة الخلق الإنسي، وما موقع اللاشعور من الغيب؟
هل رغب آدم في حوّاء قبل خلقها ؟ أيمكن أن ننتهي إلى القول أن خلق حوّاء هو جواب عن رغبة ؟
ما علاقة الرغبة بكل من المعرفة والجنس والموت ؟
هل خلق حوّاء كان حقّا بهذه الطريقة المؤلمة والعنيفة، والقصد هنا أسطورة الضلع ؟
عندما نتساءل عن الرغبة الأصيلة في نزوع الكائن الإنساني، هل نكون أمام موضوع بدون رغبة، أو رغبة بدون موضوع؟
لماذا يبدو الحضور الأنثوي كما لو أنه معنى خارج التاريخ الإنسي ؟
كيف أمكن آدم إدراك حوّاء؟ هل من خلال ملكة العقل، أم عن طريق الحس، أم هو حدس باطني ترآى في حضرة الخيال ؟
لماذا لم يخلق الرّب آدم وحوّاء في وقت واحد ؟
هل يمكن للإنسان أن يسعد بشيء لم يرغب فيه قبلا ؟ أو بعبارة أخرى: هل يمكن لآدم أن يسعد مع حوّاء دون رغبة مسبقة فيها، وأن تبادله هي كذلك نفس الشعور ؟
الموجود الأنثوي كجرح أنطولوجي
“إن تاريخ الفلسفة يكشف لنا عن فشل الفلسفة في فهم طبيعة المرأة” نيتشه، ما وراء الخير والشر
نستهّل هذه الورقة بلفت انتباه القارئ إلى كون التحليل الذي نهتدي به لفهم طبيعة الكينونة الإنسانية، قد يتنافى مع جملة من المعتقدات المتجذّرة تاريخيا، والمسلمات الموروثة ثقافيا حيال التّصور الأرخي “archaïque” للوجود الأنثوي. وهي أنماط ونماذج من الوعي يزدوج فيها الرصيد الميثولوجي {الأسطوري} بالمنظور التيولوجي {اللاهوتي}، من أجل صياغة الموقف المتعصّب والشائع، المتشبّع حتى النّخاع بفكرة أن أصل المرأة من صلب الرجل- من داخله- مع نفي قطعي لرغبة آدم المسبقة في الموجود الأنثوي. حوّاء التي انفصلت عن آدم – تبعا لهذا التفسير- في مشهد منامي لاواعي، أرّخ لواقعة انشطار الجسد وازدواجية الجنسين. ونحن نعلم ابتداء النماذج الجذورية المفصلية للمشهد النشوئي للكائن البشري من هذه الوحدة البدئية المنشطرة. لذا كان حرّيا بنا عدّها باعتبارها مصادرات أنطولوجية، أي وجودية، لكونها مقولات ميتافيزيقية مرجعية أسّست حولها رؤى العالم» « world view » للكائن الإنساني المنقسم إلى شطرين.
إن فكرة الكائن الخنثوي البدئي «Androgyne » الذي يطبع حضوره الكثير من الأساطير، نجد توظيفاته منذ مأدبة أفلاطون في شرح الرغبة الجنسية، باعتبارها توق الذكر والأنثى للعودة إلى الوحدة البدئية الضائعة (1). وهو تصور بموجبه تعاش الحياة كتباعد وانفصال نظرا لقيام هوة منذ الأزل بين الطرفين {ذكر/أنثى} لا يمكن ردمها مهما استغرق الوجود نفسه. وهذه النظرية تذكّر بما جاء على لسان الروائي اليوناني أريستوفان “Aristophane” {توفي قرابة عام 380 ق.م}. الذي يقول بأنه كان للبشر في بداية أمرهم أربعة أذرع وأربع أرجل »الكائن الرابوعي « وقد تمرّدوا على الإله “زيوس” فعاقبهم بشطرهم إلى قسمين. ومنذ ذلك الوقت أخذ كل شطر يبحث عن الآخر من خلال غريزة الحب ليجتمع معه ويرجع إلى أصله (2). لذلك تكون كل عملية جنسية سعيا وشوقا إلى تحقيق التوحد البدئي الضائع بعد انشطار آدم إلى ذكر وأنثى *.
غير هذه الأسطورة الضاربة في رحم الحضارات والمتواترة بشكل نافد، تذهب الميثولوجيا اليهودية إلى اعتبار حوّاء ليست زوجة آدم الأولى. فوفقا للتفسيرات العبرية المتأخرة كانت ليليت “Lilith” – تبعا لسفر التكوين- هي الزوجة الأولى لآدم. وتشير الروايات اليهودية أيضا إلى أن الرّب خلق ليليت، الزوجة الأولى لآدم بالطريقة نفسها التي خلق بها آدم. غير أن آدم وليليت لم يتفقا مع بعضهما أبدا. فلم تكن ليليت مستعدة للخضوع لآدم. وقد بررت مطالبتها بالمساواة مع آدم بأنها قد خلقت من التراب نفسه الذي خُـلق منه آدم. لقد عبّرت ليليت المتمردة عن مطمع مساواتها مع آدم من خلال امتـناعها عن أن يلقي آدم جسده فوقها أثـناء ممارسة الجنس. فليليث أرادت أن تكون مشاركة في الفعل الجنسي بصورة فاعلة وتـنام فوق آدم (3).
ويمكن أن نوجز عقدة ليليت « Lilith-complexe » ، ذلك الجزء المحرم من النفس الأنثوية في ثلاث مظاهر على الأقل دون أن نفصّل فيها: هناك المرأة المساوية للرجل، والتي لا هي أدنى ولاهي أعلى منه، وإنما مساوية له، الناشئة من الأصل ذاته. وأيضا هناك المرأة الفاعلة جنسياً، المستقلة برغباتها الماقتة للدونية القضيبية، ثم المرأة الكارهة للأطفال الرافضة للأمومة. على هذا النحو قسّمت صورة الأنـثى منذ عشرات آلاف السنين إلى حوّاء وليليت، حيث تقدّس البطريركية صورة حوّاء وتلعن صورة ليليت وتحرمها ولا تأتي على ذكرها. وعليه فإن حوّاء ترمز لخضوع المرأة والسلبـية الجنسية وللزواج الأحادي « monogamie » وللأمومة «المضحية» وللمطبخ والعبادة وتربـية الأولاد وخدمتهم. وهو في الواقع مجرد جانب واحد فقط من الأنوثة المزدوجة. أما الجانب الآخر فتعبّر عنه ليليت التي ترمز للمساواة والفاعلية الجنسية والرغبة ورفض الإنجاب والأمومة. وعليه فإننا نـتعرّف في كل من حوّاء وليليت على وجهين من الوجود الانثوي، منفصلان عن بعضهما ومتـنافرين على الأغلب، ويمتلكان مشاعر عدائية تجاه بعضهما البعض. بحيث يمثلان نمطين مختلفين من النساء: القديسة والعاهرة (4).
لكن من الملاحظ ،أن هذا الثابت القيمي منذ قصّة الخلق الإنسي – زمن البدء الأول- لم يتعرّض لقضية نجدها أساسية بما كان في حياتنا الذاتية، وهي تتعلق بخواص بنية النفس والنزوع الراغب لدى الإنسان على خلاف الحيوان الذي يفتقر إلى عدّة مقومات لكي يدخل عالم الرغبة، يأتي على رأسها الخيال واللغة. حوّاء خلقت من آدم وهي طرف جزئي منه، اعتقاد ضعيف، ولم يجزم أحد في هذا اللّغز الذي لا يكفّ عن ملاحقة التّفكير البشري إلى حدّ الآن. ولكن ينساب هذا المعطى إلى الذهن، لأن القارّ في أذهاننا ومخايلنا الكوني جميعا أن واحد منهما خُلق من الآخر. فيتم التّسليم غلطا بأن حوّاء خلقت من آدم مادام قد سبقها كموجود؛ وجودا ظاهريا وملموسا في العالم المادي. فكما يرى العديد من الرّاسخون في العلم – ونحن ننوّه بما ذهبوا إليه – أنّه لا يجوز أن تخلق حوّاء من نفس آدم اللّحمي- لا الترابي- لأنها إن خلقت من لحمه يعني تولّدت منه، فتصبح بمثابة بنته وليس زوجته. ولأن الزّوجة أمر عرضي خارجي، أما البنت فهي أمر ذاتي، والذاتي يختلف عن العرضي بالماهية، فلا يقاس أحدهما بالآخر إطلاقا (5) (6).
بوجود افتراض كهذا، قد اختلفت الآراء والتّصورات على مرّ تواريخ الحضارات في كيفية خلق حوّاء. ولا نعلم علم اليقين إن كان الرّب قد خلق حوّاء في نفس وقت خلق آدم أم بعده، وجلّ ما أمكننا معرفته هو ما تذكره الكتب السماوية التي لا تخوض في التفاصيل، وكذا الأحاديث المنسوبة إلى نبي الإسلام إلى جانب روايات متضاربة تصلنا من زمن أساطير الأوّلين. بمعنى أنّه ليس فقط ذكر واقعة خلق حوّاء من ضلع آدم – مع تعليق الحكم هنا حول قضيّة الضلع – هو كفيل بمعرفة خبايا الوجود الإنسي والنفس والجسد. فالخطاب الإلهي في مضمونه الذكوري موجّه إلى كائن ذكر معلوم باسمه، ألا وهو آدم، بينما المرأة ملحقة مضافة كانتماء فرعي، نوعي (7).
الجدير بالإشارة كون قصّة الخلق غير متوازنة في السّرد بين النوعين. فحينما نعود إلى مجريات قصّة البدء الإنسي، نجد آدم هو وحده المخاطب من طرف الرّب في كافة أطوار خلقه : بدءا بخلقه وإشهاده على ذرّيته في الملأ الأعلى، ثم تعليمه اللغة وسيادته على الملائكة بعد سجودهم له، ثم تعرّفه على الموجودات في الكون وتسميتها بمسمياتها، إلى وقوعه في الخطيئة وطلبه الغفران والثوبة من الرّب متحدثا باسم حوّاء، حتّى عودته إلى أديم الأرض. أمّا قصّة خلق حوّاء فلا يأتي ذكر لاسمها إذا استثنينا الإشارة إليها بالزوج أو الأنثى، بل حتىّ أن الرّب لم يبلغ الأنثى بخطاب مباشر عن منع الأكل من الشجرة وإنما وصلها النّهي بالمحظور عن طريق آدم. لذا لا بد من إعادة قراءة وتمحيص قصة خلق حوّاء ما دام يلفّها كل هذا السواد والغموض وفيها الكثير من الفراغات والمغيوبات، كما لها – وهو ما سنأتي على توضيحه في تفاصيل البحث – جانب باطني أوسع من أن يحدّد بدقة أو يفسر تفسيرا تامّا أو يأمل المرء بكشفه تماما. ممّا يترك حقيقة خلق المرأة معلّقة بالعلم الإلهي وغامضة على مرّ التاريخ الإنساني، الذي اكتفى فيه الفكر الكوني بالتّركيز على كيفية وهب المرأة للحياة، ولم يتساءل في الكثير من الأحيان كيف جاءت المرأة إلى الوجود. هل فعلا ثم خلق حوّاء من ضلع آدم بهذه الطريقة المؤلمة والعنيفة والمنعدم في مجرياتها أي ذكر أو إشارة لمفهوم الرغبة. لكأن آدم وحوّاء كائنين مجرّدين من الرغبة التي هي مفتاح كيان الإنسان ونبع نزوعاته المتدفقة كسدّ جارف باستمرار.
إذن فهذ اللّبس تحديدا، الذي اقترن بمفهوم الضّلع الأعوج ومعناه الترميزي، هو ما سنحاوله استكناه مغالقه، وسبر أغواره في سياق معالجتنا لمسألة خلق الأنثى. حيث يأتي مفهوم الرغبة ليعوّض الضلع، ويردم الثغرة القائمة على مستوى العلاقة المبهمة لآدم بحّواء. ولعلّ هذا الجدل المحتدم حول طبيعة الخلق الأنثوي، قد يحلينا بالضّرورة للحديث عن ثنائية الداخل والخارج ضمن مساقاتها اللاهوتية والفلسفية العقلانية، بنّية تفكيك الثنائية ذكر/أنثى، وباقي المتلازمات التي تتفرّع عنها {أصل/ فرع، داخل/ خارج، مركز/هامش، حقيقة/ وهم، معنى/ اللامعنى …} الخ ، مع تبيان الكيفية التي تتحرّك بها ومن خلالها، هذه المعاني ضمن كوسمولوجيا مجنّسة تطبعها علاقات الصراع والتّضاد بين الطّرفين. فثنائية ذكر / أنثى تدخل ضمن مساق الأزواج المفاهيمية المزدوجة التي يتمحور حولها اللاغوس الغربي، بحيث تحكمها علاقة التناقض من جهة {تناقض طبيعة الذكر مع طبيعة الأنثى} وعلاقة التراتبية من جهة أخرى {تفوق وهيمنة الذكر على الأنثى}، والتي تمّ الحطّ تاريخيا من دلالة الطرف الثاني، والإعلاء من قيمة ودلالة الطرف الأول (8). كما وقد صيغت على نسق هذا المنطق المتعارض جميع التضادات التصورية. والجدير بنا في هذا المنوال التّنويه باستراتيجية التفكيك مع فيلسوف الهوامش جاك دريدا، التي أبرز من خلالها هشاشة هذه الثنائيات المخترقة لما هو ذكوري وما هو أنثوي. فالثاني حسب دريدا ليس ما يأتي بعد الأول فحسب، وإنما هو ما يسمح للأول بأن يكون أولا. وهكذا فالأول لا يصير أولا بقواه وبإمكاناته وحدها، بل ينبغي على الثاني أن يساعده بكل قوة تأخره، فبفضل الثاني يكون الأول أول (9) (10).
فيما يخصّ واقعة الانسلاخ من عدمها، يمكننا البدء بتناول المفارقة التالية: فلو افترضنا جدلا أن القاعدة أو الأصل هو الاتصال {الخلق من الداخل، وخروج حوّاء من ضلع آدم} ثم حدث بعده انفصال الجسد الإنساني عن نفسه، لانعدمت حينها أي إمكانية في ملئ هذا الفراغ المتروك لدى الكائن الإنساني المنقسم إلى شطرين. وهو بالمناسبة تصوّر تعاش الحياة بموجبه كتباعد وانفصال، نظرا لقيام هوّة أزلية بين الطرفين {ذكر/أنثى}، لا يمكن ردمها مهما استغرق الوجود نفسه.
وبالعكس تماما، فنحن نجد أنه في سبيل تحقيق هذا الارتباط البعدي بين النوعين، تحصل وحدة الحالة التجاسدية بمختلف انفعالاتها متوّجة في الجنس {بما يفيد الجناس والتّجانس}. وليست هناك من فكّ إلهي لارتباط قبلي مزعوم بين جسد الذكر والأنثى أثناء خلقهما. فالقاعدة كما نرى هي الانفصال، أي أن كل جنس كان مفصولا عن الآخر في البداية النشوئية، ليأتي من بعد الخلق الاتصال والالتحام الرمزي في شكل جسد واحد. ففكرة التّكامل والتّجانس لم تكن واردة بين آدم وحوّاء حتىّ علموا بالارتباط المقدس المترجم أخلاقيا في سنّة القران. ومن أجل أن يحقّق الرّب الخطّة كاملة في الواقع ويوثّق عرى العلاقة بينهما جسما وروحا، باين بين جسميهما، بينما “النفس” ظلّت واحدة. وهذا التّباين هو الذي يجذب كلاّ منهما نحو الآخر، ويجعل منها عاشقين لبعضهما. هذا وإن كان للمرأة جسم وأخلاق ورغبات الرجال لتعذّر عليها أن تجذب الرجل نحوها وتحوله إلى عاشق محب لها، وفي المقابل لو كان للرجل نفس مواصفات المرأة الجسمية والروحية، لما أمكن المرأة أن تعدّه فارس أحلامها وتظهر من فنونها ما تصطاد به قلبه (11). إن هذه الحقيقة المبدئية تدعم نموذجا من التّفكير، سيكون له دور مشرق في تصويب الفهم وإضاءة خارطة الطريق في القادم من البحث.
يتعامل الفكر مع قصة الخلق الإنسي بوصفها مصدرا للمعرفة، وأمّا نحن فنضعها موضع مساءلة. بحيث أن الوعي النقدي يكّف عن التفكير من داخل إطار التصورات أو بواسطتها لكي يستطيع التفكير من خارجها. طالما أن بنية التصور ذاتها، ليس لها من مصدر سوى السياق التكويني نفسه. ففي لعبة السياق نلحظ أن التصورات القارّة المسبوكة في الوعي الإنساني هي مجرد أداة لخدمة ذات السياق. ويكون لهذه التصورات وجهين: وجها معرفيا: أو بنية التصور ذاتها، ووجها تاريخيا: أو تكوينه التاريخي. والتكوين التاريخي مرتبط بالسياق، سياق الخبرة. وأمّا البنية فهي المضمون العقلي للعالم والأشياء، وهي معرفة معرضة باستمرار للانزلاق في هذا السياق ولفقدان قيمتها، وخصوصا إن كان السياق مرتبطا بخبرات ميّتة. كما وأن السياق هو يبني العلاقات القائمة بين الأشياء. وهذه العلاقات لا تقوم في الشيء ذاته، بل يفترضها السياق افتراضا، ويحيل الأشياء إليها، فهي كالشبكة التي يصطاد بها الأشياء ويحكم بها الواقع. ورغم ذلك فالسياق التكويني للتصورات هو ما يجعل تأثيرها الاجتماعي وحضورها الثقافي ممكنا (12).
لا مندوحة أننا في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى مجاوزة هذه الرؤيا الدونية والاختزالية للمرأة، خاصة ونحن نعلم أن هذه الطبيعة الغامضة لمنشأ الأنثى جعلت عرب الجاهلية على سبيل المثال يعتقدون أن النساء ليست مخلوقة من الآلهة، وإنما هي مخلوقات شيطانية. حيث كان يبيحون التقليد القبلي المتزمت مبدأ “الوأد” الإناثي عند الولادة، فتسوّل لهم أنفسهم دفن البنات فورا بعد ميلادهن، لأنهنّ في اعتقادهم الجاهلي مخلوقات مدنّسة، وأن ميلاد الأنثى بدل الذكر هو نذير شؤم وهلاك ونقص في الجاه والمال (…) الخ. وكثير من الحضارات كانت في شكّ وعماية في شأن الأنثى، وهل روحها شيطانية، أم آدمية إنسانية. بل حتى تاريخ الكنيسة المسيحية لم يسلم من تأثره بهذه العقيدة المعادية للمرأة، والتي تجد تشخيصها من زاوية نفسية فيما يعرف برهاب النساء أو الجينوفوبيا « gynophobie » * .
وظلّ الشكّ يحوم حول طبيعة الأنثى الغامضة قرونا متواصلة حتى القرن السادس ميلادي، و بعد الخروج من عصر الظلمات عقدت مؤتمرات ليتدارسوا فيها هل المرأة لها روح أصلا أو هي كائن بدون روح. لأن الشائع أنها كانت بروح حيوانية، والبعض قال إن لا روح لها أصلا. وتراجع هؤلاء فيما بعد عن أحكامهم، وقالوا يبدوا أن لها روحا ولكن دون روح الرجل، وهي مخلوقة فقط لخدمته وإسعاده وإرضاءه. يقول الداعية القديس بولس الأول في رسالته: المرأة مجد الرجل، لأن الرجل ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل، ولأن الرجل لم يخلق من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل (13). بل حتى مواقف الفلاسفة من المرأة لم تكن بريئة كما ينبغي أن تكون عليه سريرة الفيلسوف، حيث بدت هي الأخرى مشحونة بنوع من الذاتية وبقايا الجروح العاطفية التي تعود إلى تخوم الطفولة و بقايا الحب الأمومي المشوش. ويكفي أن نسجّل في هذا الصدد الحكم الذاتي للفيلسوف عن المرأة. إذ غالبا ما تكون الظروف الشخصية للفيلسوف أو طبيعة علاقته بزوجته أو محبوبته أو أمه، هي التي تعكس في آخر المطاف مواقفه من المرأة، والأمثلة عديدة في هذا الباب (14). فالصورة التي رسمها أرسطو مثلا – وقبله أفلاطون- للمرأة تعدّ بالغة الأهمية، إذ رسّبت في أعماق الثقافة الغربية، وأصبحت الهادي والمرشد عن النساء بصفة عامة (15). فعند مقارنته بين الرجل والمرأة، تساءل، هل تعدّ المرأة من الجنس البشري، وتنتسب إلى الإنسانية ؟ يجيب نافيا، لكونه يعتبرها كائنا دونيا، وقد خلقت مسخا مشوها ناقصا. وهي مجرد كائن بهيمي أقرب ما يكون إلى القردة (16). فالمبدأ الأول في الفكر الأرسطو طاليسي كان مذكرا بامتياز نافيا في تمركزه للمؤنث. كما كان كبار المفكرين الغربيين من أبناء القرن الثامن عشر من مثال غوته وروسو ومونتسيكيو وأوغست كونت (…) الخ، كانوا أيضا من دعاة تقزيم المرأة والحطّ من شأنها وتفضيل سيادة وسيطرة الرجل عليها. لذا فتناول موضوع الاختلاف الجنسي عند فيلسوف بعينه، لا يجب أن يتم بمعزل عن ارتباطاته وتداخلاته مع الموضوعات الأخرى، ولا بمعزل عن رهانته الاجتماعية والتاريخية (17).
إنّ اعتبار المرأة كائن ناقص كان مشتهرا في الغرب قبل شيوعه بين شعوب الشرق. فالغربيون كثيرا ما جنوا على المرأة بالطعن فيها واعتبارها ناقصة، مبرّرين ادعائهم بكون قانون الخلقة قد خلق المرأة ناقصة عقلا ودينا لحكمة ما. إذ قالوا على لسان الكنيسة والدين: {أن المرأة يجب أن تخجل من كونها امرأة}. وقالوا: {المرأة هي الموجود ذو الشعر الطويل والعقل القصير} و {المرأة آخر موجود وحشي دجّنه الرجل} و {المرأة نقلة بين الحيوان والإنسان} وأمثال ذلك غزيرة. وعلى خلاف الأسطورة التّوراتية والمسيحية لاحقا فإن مفردة حوّاء، بالمعنى الفلسفي، هي أصل كآدم، لا تخالفه نفساً ولا جسما إلاّ بما اختصّتها به طبيعة الأنثى. وكل ما قيل ويقال عن نفسها وعقلها وأضلاعها، تخريفات، وتوهيمات، ترمي إلى تسليعها والإتجار بها. وحوّاء ترمز إلى الخلود الأنثوي، المحتوية رغبات الرجل والسائرة به إلى أعلى (18). لا ريب، أننا متحجّرون في قيم الموروث النقلي لصياغات الضمير الجمعي، وننفر من تخلقات المستحدث، ونحاول كلما صحا الضمير من غفوة الماضي الثقيل بادرنا إلى زيادة جرعة المنوّم لإبقائه خارج دائرة الصحوة الوعي والزمان، وعزل تلك الرؤى التي تشكل قوى الرفض المتحدية للصياغات التقليدية (19).
لعلّ جميع من يقولون بأن حوّاء خُلقت من الضلع الأيسر لآدم، إنما هم يعتمدون في ذلك على ما يرد في سفر التكوين، الإصحاح الثاني. أما الآخرون اللذين يقولون بأن الرّب خلق المرأة بنفس الطريقة التي خلق بها آدم، فهم في هذا قريبين من القصة الواردة في الإصحاح الأول من سفر التكوين. في حين أن القرآن لا يأتي على ذكر قصة خلق حوّاء بتاتا، ولكنه يفككّ بالمقابل شفرة الخلق الإنسي من خلال كشفه ولأول مرّة سرّ أطوار خلق الإنسان، وقد جاءت فيه وفق الترتيب التالي : طور النّطفة – طور العلقة – طور المضغة – طور العظام {الهيكل الجسدي} – طور كسوا العظام باللّحم – طور النشأة خلقا آخر {وخلقناكم أطوارا} . ومما قد يزيد في التأكيد على بهتان هذا المنظور الضلعي للخلق الأنثوي هو كون نطفة المرأة تختلف عن نطفة الرجل، وهو ما قاله نبي الإسلام عن خلق الإنسان {من كل يُخلق: من نطفة الرجل، ومن نطفة المرأة ، فأمَا نُطفة الرجل فنطفة غلِيظة ، منها العظم والعصب ، وأمَا نطفة المرأة فَنطْفة رقِيقة منها اللحم والدَم}. وبالتالي ما دامت نطفة المرأة من لحم ودم تستبعد بديهيا قضية الضلع كمادة خلقت منها الأنثى كما يسود الاعتقاد. فالنّطفة هي المادة الأوليّة التي يبتدأ بها أطوار خلق الإنسان ذكرا كان أم أنثى كما وضحنّا توّا. فضلا عن ذلك، فما أن نتأمل مليّا في الأصل والسبب، حتى نلاحظ، تلك الأولية للمؤنث (20).
في ضوء هذه الامتدادات التاريخية لهذه التصورات المحشوة في أمشاج الذهنيات البشرية عبر العصور المظلمة والمستنيرة، نسجّل ما يحقّقه هذا المنظور – المنصب حول إعادة كتابة تاريخ الرغبة الإنسية – من اختلاف وقلب لاستراتيجية التأويل في تناولنا سائر قضايا المرأة عمّا لو قاربناها من منظور إطاري منمذج، يمكن أن ندعوه ب »إطار الانتساب« ، تتموقع في نسقيّته المرأة كذيل أو ملحق تابع للرجل، لأنها مخلوقة من جزء منه، من ضلعه. وهذا النموذج الإستتباعي له طابع تثبيتي للنّظرة التّحقيرية المتوجهة إلى نرجسية المرأة، إلى سلبيتها وإذعانها للهيمنة. ويأخذ على النساء إذا لاحظنا السهولة التي من خلالها تخلّيهن عن أسمائهن ويأخذن أسماء أزواجهن، إذ يستنتج: أن المرأة في الجوهر من دون اسم، وذلك لأنه ينقصها، بالطبيعة، الشخصية (21). استنادا على هذا الإطار الإنتسابي، تحشر الأنثى بين ثنائية الموجب والسالب، باعتبارها شيئا فرعيا وتابعا، يحيل مرجعيا على الدّال “الذكر”، لتنتظم مركزية المعنى بمجمل المركزية القضيبية في أنماط الوعي وقوالب اللغة، ممتدة إلى العلاقات الجندرية داخل المجتمع وباقي الميادين الحياتية الأخرى. فمركزية العقل « logocentrisme »هي الوجه الآخر لمركزية القضيب « phallocentrisme » من هنا مجيء الفلسفة التفكيكية بمقولة مركزية العقل والقضيب (. « phallogocentrisme » (22إن واقع المرأة الخصيّ هذا ومهما اختلفت أسبابه، فهو يعود في منتهاه إلى طبيعة الفكر الذكوري المتعالي الذي شكّلت في هوامشه المرأة كجنس آخر أو كجنس ثاني *، كما أحبت أن تنعتها سيمون دي بوفوار. فالمرأة لا تولد امرأة، وإنما تصير كذلك، وهذا أقصى اعتراف قد يخرج من فاه فيلسوفة وجودية حتى أخمص قدميها.
مهما حاولنا البحث عن أجوبة، فإن حدث الخلق الأنثوي يبقى مجادلا فيه، ويظلّ يطرح إشكالات تؤرّق الفكر الكوني على مرّ الزمن. وكما هو ملاحظ لدى الفكر المنسوب إلى العقل الذكوري من ربطه لخاصيّة الحضور بالذكر المنتصب والمتجليّ، في حين يترك الغياب يمزّق كيان المرأة الهشوش، منذ أن انشقّت عن الجسد الذكوري كما يسود الاعتقاد، ليكون هو الأصل والحقيقة، وتكون هي رمز للوهم والزّيف، بما هي مجرّد انعكاس مشوه للجسد الذكوري في السّجل الواقعي. وهذا الحضور الواهم أو الأنا المزيّف الذي ترتجف خلفه سيكولوجية المرأة حسب التحليل النفسي الفرويدي هو ما يجعلها تخفي ما لا تملك {هوام القضيب المفقود} وتخون المعنى. فالترّاث الذكوري أراد عبر تقنيات تحكمّ وتوجيه متعدّدة تقعيد صورة مشوّهة للمرأة، بوصفها كائن شبقي، رامز للخصاء، ومجرّد جزء مستّل من الجسد الذكوري الذي انشقّت عنه في انشطار واغتراب وحالة من الألم، لتكون بذلك معجونة من طينة أو طبيعة مازوشية، تلد وهي مستيقظة، وترى الموت أمامها، لكنها تزداد عاطفة وحبّا، واجدة في عذابها لذّتها. بالمقابل يتم الحرص على التضخيم النرجسي لسادية الرجل، الذي يتقوّى من هذا الضعف الفطري الكامن في تكوين المرأة النفجنسي.
.
نتغيا من خلال هذا المنجز محاولة الكشف عن خبايا الكينونة الأنثوية المحتجبة وراء السرد النشوئي البدئي؛ وذلك من خلال إعادة التفكير والانشغال الفلسفي بسؤال الأصل المرتبط هنا بقصة الخلق الإنسي مع الوقوف على استيضاح صحّة أسطورة الانفصال الآدمي من عدمها، بلفت الانتباه إلى مفهوم الرغبة «désir»الذي ظلّ غائبا عن مسار التفكير الكوني في إشكالية الخلق الإنسي إلى حدود زماننا المعاصر. لربما هي عودة ملحاحة إلى الوراء، إلى ذلك الوجود الأصيل و المنسيّ كما اتّسم به قلق السؤال الفلسفي عند وورثة الفلسفات الأنطولوجية. فالاجتثاث الفينومينولوجي للأنطولوجيا معناه في المقام الأول إماطة اللّثام عن تاريخية مفاهيمها وتصوراتها للوجود. ومن أجل تحقيق ذا مبتغى، كان لزاما عليّنا التوسيع من حقل التفكير، والبحث عن المبادئ الموجهة للأشياء، ضمن آفاق ترتدي المجهول واللامنطوق والغوري، منطلقا في رحلة استكناه للتاريخ النشوئي، يسكنني فيها التّيه والشغف، باحثا عن موقع للاشعور و عن أثر للرغبة، في معرض الاسترجاع النقدي التحليلي لقصة الخلق البدئي، وإحياء السؤال المتفلسف القاضي بنا إلى تجديد فهمنا للغزية الوجود الإنسي.
تبعا لهذا الأفق الذي نخوض في رسم قسماته، أجد نفسي وبدون نيّة مسبقة، أخطّ نقدا راديكاليا يساءل زخما تاريخيا من التأويلات الأسطورية – الدينية، بل حتى الفلسفية منها، والتي أسرفت في مجملها التركيز على مسألة خلق المرأة من ضلع الرجل، لدعم أسطورة كمال الذكر عن الأنثى، بينما تمّ إهمال في مقابل ذلك جانب من الخيال تتحقق ضمنه قوة التأويل- المتعلق هنا بالحلم وفعالية التجربة الصوفية- باعتباره الأسبق، والأهم في نظرنا عند الحديث عن سرّ ازدواجية الجسد الإنساني، ومحاولة كشف حقيقة الرغبة المتوارية خلف جدار الوعي. حيث يترجم هذا المنجز بين يدي القارئ، جهدا تأمليّا قلّ نضيره في زمن النزعة الآلية واتساع مناخات الكسوف الفلسفي، أصبوا من خلاله وضع ملامح أنطولوجيا كينونية، تتصوّر قصة الخلق الإنسي كوجود راغب، وتقوم بتقويض جذري للأفهام، للبنى، للأنساق، للنصوص المبلوعة في جوفها ذاتية الموجود الأنثوي. كما تسمح هذه القراءة من جوانب متشعّبة أخرى بتفجير إشكاليات ميتافيزيقية كافية حول الكيان النفسي للإنسان.
ممّا لا جدال فيه اختلاف الفكر الكوني منذ الأزمنة الغابرة إلى الحقبة المعاصرة حول كيفية خلق حوّاء. ولا نعلم علم اليقين إن كان الرّب جلّ ذكره قد خلق حوّاء في نفس وقت خلق آدم أم بعده، ومزمع ما أمكننا معرفته هو ما تذكره الكتب السماوية التي لا تخوض في التفاصيل، و كذا الأحاديث المنسوبة إلى نبي الإسلام، إلى جانب روايات متضاربة تصلنا من زمن أساطير الأوّلين. بمعنى ليس فقط ذكر واقعة خلق حوّاء من ضلع آدم {مع تعليق الحكم هنا حول قضية الضلع} هو كفيل بمعرفة خبايا الوجود الإنسي والنفس والجسد. فالخطاب الإلهي في مضمونه الذكوري موجّه إلى كائن ذكر معلوم باسمه، ألا وهو آدم، بينما المرأة ملحقة مضافة كانتماء فرعي، نوعي. ومع كل الأسف نجد هذا التفسير الأجوف لايزال يجثم على سيرورة الفكر الإنساني عبر أزمنة التخلّقات الفكرية. هذا على الرغم من كونه مبني على الرأي والظنّ والاعتقاد غير المشفوع ببراهين وأدلّة سواء أتت من نبع عقلاني برهاني أو ذوقي عرفاني. ولا نخفي ميلنا إلى السبيل الثاني.
تجدر الإشارة إلى أن قصّة الخلق غير متوازنة في السّرد بين النوعين. فحينما نعود إلى مجريات قصّة البدء الإنسي، نجد آدم هو وحده المخاطب من طرف الرّب في كافة أطوار خلقه : بدءا بخلقه وإشهاده على ذرّيته في الملأ الأعلى، ثم تعليمه اللغة وسيادته على الملائكة، ثم تعرّفه على الموجودات في الكون وتسميتها بمسمياتها، إلى وقوعه في الخطيئة وطلبه الغفران والثوبة من الرّب متحدثا باسم حوّاء، حتّى عودته إلى أديم الأرض.
أمّا قصّة خلق حوّاء فلا يأتي ذكر لاسمها إذا استثنينا الإشارة إليها بالزوج أو الأنثى، بل حتىّ أن الرّب لم يبلغ الأنثى بخطاب مباشر عن منع الأكل من الشجرة المحظورة وإنما وصلها النهي عنها عن طريق آدم. لذا لا بد من إعادة قراءة قصة خلق حوّاء ما دام يلفّها كل هذا السواد والغموض وفيها الكثير من الفراغات والمغيوبات، كما لها – وهو ما سنأتي على توضيحه في تفاصيل البحث – جانب باطني أوسع من أن يحدّد بدقة أو يفسر تفسيرا تامّا أو يأمل المرء بكشفه تماما. مما يترك حقيقة خلق المرأة معلّقة بالعلم الإلهي وغامضة على مرّ التاريخ الإنساني، الذي اكتفى فيه الفكر الكوني بالتّركيز على كيفية وهب المرأة للحياة، ولم يتساءل في الكثير من الأحيان كيف جاءت المرأة إلى الوجود. هل فعلا ثم خلق حوّاء من ضلع آدم بهذه الطريقة المؤلمة والعنيفة والمعدوم فيها أي ذكر أو إشارة لمفهوم الرغبة، لكأن آدم وحوّاء كائنين مجردين من الرغبة التي هي مفتاح كيان الإنسان ومشتلّ نزوعاته المتدفقة باستمرار. إذن فهذ اللّبس تحديدا، الذي اقترن بمفهوم الضّلع الأعوج ومعناه الترميزي، هو ما سنحاوله استكناه مغالقه، وسبر أغواره في سياق معالجتنا لمسألة خلق الأنثى. حيث يأتي مفهوم الرغبة ليعوض الضلع، ويردم الثغرة القائمة على مستوى العلاقة المبهمة لآدم بحّواء. وهذا الجانب المهمل {اللامفكر فيه} نجده الخيط الناظم لبحثنا.
تندرج هذه الورقة ذات النّفس النقدي – التأسيسي، والتي تحاول في طياتها جاهدة تفتيق معالم رؤيا اختلافية، تعيد تقويض الأنطولوجيا النشوئية منذ فجرها، بغية تكسير »التقليد الإنتسابي « الذي بموجبه لا يمكن للمرأة أن توجد سوى في، ومن، داخل جنس الذكر {جسده/ ضلعه}، والحرص في المقابل على إعادة تشييد معنى مخالف يسمح بإرباك نمطية الفهم السطحي، والانزياح به عن المسالك المألوفة التي يمتطيها عادة التّفكير في الموضوع، من خلال تطوين مفهوم الرغبة بدلا من الضلع كمبدأ يقوم عليه تفسير وتأويل واقعة الخلق الإنسي. فبدل الاكتفاء بالنقد والتفكيك نرسم في هذا البحث منعطفا جديدا لعله يتجاوز ويهدي في ذات الوقت لتأويل مغاير من المرجى الأخذ بناصيته كل ما تعلق الأمر بسؤال الرغبة في التكوين البدئي للإنسان.
تقديم هامشي:
تعدّ أسطورة البدء المقدس أو “النشأة التكونية للإنسان” من بين أهم الأحداث التي تستوجب من الحس الفلسفي وقفات تأملية، ليعيد التفكير في أبعادها من منظور استعادي «rétrospective » ، ويتساءل على نحو يدفع بإرادة المعرفة خارج ثنايا المألوف، والجاهز من الخطابات المحنّطة لعقود من الدّهر في تلافيف المعتقد والموروث والمؤسطر وطبقات العقل الباطن. فالدعوة إلى إعادة القراءة المتجددة للتراث الفكري –خاصة بعده الإناسي منه- حاجة معرفية لضبط منشئه وحركة مفاهيمه في نواميس أنساقنا الثقافية والفكرية والمعتقدية والأخلاقية.
إذ علينا أن نقيم تمييزا جوهريا بين المظهر الأنطولوجيّ، والمظهر الذي يقدمه لنا التاريخ الرسميّ بخصوص الخلق الأنثوي. فعلاقة آدم وحوّاء النشوئية قد تمت بعجلة شديدة لم تمهل الفكر ليقول كلمته. لذا، فإننا نطمح من وراء المساهمة بهذا الموجز، القبض على المعنى قبل أن يحشر في نظم الخطاب التي تسيّج مساحات التّفكير ضمن جغرافيا المقدس، وتوابته السّكونية المؤبّدة. وليس الغرض من تناول هذا الموضوع الموغل في عمق القدم – ما قبل التاريخ- إعادة التّفكير في المفكّر فيه، وإنما تأتي هذه الورقة بلمحات مركّزة حول حلقات مفقودة في الانشغال الفكري بقصّة الخلق الإنسي، ليتسنّى لنا إثرها تخصيب آفاق أخرى مغايرة، تنأى بقدر كافي عن تفسيرات غافلة/ قاصرة/ متناقضة/ فارغة (…) الخ. ويبقى دائما السؤال يستلحق معناه المؤجل، ومفتوحا على أجوبة ليست حاضرة، مما يستدعي المزيد من الحفر والتنقيب والتدّارس إيمانا منا بنسبانية كلّ معرفة تتّخذ الإنسان موضوعا لها.
كثيرة هي الاختلافات بين أصحاب الرؤى والمذاهب الفقهية الاجتهادية حول قضايا مقدسة داخل أو خارج النص الديني، غير أن باب الاجتهاد والتأويل يظل مشروعا، ولا يحقّ لأي كان أن يصادر حق الرأي والتفكير والحوار والمساءلة النقدية. ولست أزعم أنني أجبت على جميع التساؤلات التي تولّد وجهاتها المجهولة عبر مسارات هذا البحث المحّمل بثقل التاريخ الإنساني بتأويلاته. و لا أدّعي كذلك أن هذا التفسير الذي قدّمته للرغبة والحلم الآدمي هو الأصح والخالي من الهفوات، لكنني على قدر من الإيمان بأن هذا البحث يستبطن جوانب خفيّة لم تكتشف بعد، ويثري بحثنا المتعلق بأصل المعتقد الأسطوري والديني عند الإنسان وبدايته النشوئية.
ما أكبره من خطأ وخسارة أن نصّور تاريخ النزوع الإنساني بهذه الطريقة الجوفاء التي لا نجد فيها أيّ أثر للرغبة – رغبة آدم وحوّاء في بعضهما البعض- ويلفت النظر شيء، أنهم حرصوا على تصوير واقعة الخلق الأول بالعدمية والخشونة ومجانبة الرغبة الإنسانية. وما أكثر التّفاهات التي تحاك في هذا المجال، والحقيقة أنني أعجب وآسف في نفس الوقت حين أقرأ بعض ما كتب حول هذا
الموضوع. فالخطابات الفقهية والعقل الذكوري المتعالي والأساطير المؤسسّة جميعهم يتحاملون على إجهاض المعنى المراد به من قصة الخلق الإنسي ملجمين بذلك صوت الرغبة التي لا يأتون على ذكرها سواء عن قصد أو غير قصد. بل ونصطدم بجدار الكبت أكثر تصلّبا عند الرجال من النساء، حين يعتبرون خلق حوّاء شيئا ثانويا وجد تعريفه عند آدم كسائر المخلوقات، متشبّثين بهذا الموقف الاستنساخي الذي ينسب وجود الأنثى إلى علّة ما ذكورية.
كما لم يفتني في هذه القراءة إضعاف مفعول مقولات العقل النقلي {الوسائلي}؛ واستخراج نقائص دالة من النصوص الميثولوجية والدينية مع تسليط الضوء على تاريخ الرغبة المهدور والمحجوب وراء جدار الوعي. ففي هذا الطرح تأصيل لمسعى فكري يراد منه إعادة تقويض وتفكيك ثنائية أصل / فرع، إلى جانب تأزيم فكرة مركزية المعنى المحصورة عند الطرّف الذكوري. لذلك، فإذا استطعنا أن نفسر على ضوء هذا النموذج أساس قانون الخلقة السليم بشكل لا يصوّغ ممارسة الخصاء على الكائن الأنثوي، آنها يمكن أن نسمع نداء الرغبة الحقيقية في المرأة كذات وكيان مكتفي بذاته، لا كموجود غير مرغوب فيه أو كموضوع بدون رغبة. وقصارى القول أن النزوع الإنساني لا يمكن إلاّ أن يكون نزوعا راغبا، وإذا سبق وكان العكس، فسنكون قد سلّمنا سلفا – منذ الخطاب الإلهي للأرواح – أن نعيش في هذه الحياة بدون رغبة، تاركين قوى الطبيعة تفعل فينا على نحو ميكانيكي، تطبعه الاستجابات الغريزية أكثر من النزوعات العرفانية والجمالية.
إنّ أهم ركيزة يقف عليها بنيان البحث هو مفهوم الرغبة. فنحن نحثّ من خلال إعادة التفكير في قصة الخلق الإنسي، على استحضار الرغبة كحلقة مفقودة في تفسير علاقة آدم وحوّاء النشوئية. وعلى ضوء هذا المستجد المفهومي نهدف معالجة القضايا الإشكالية التالية :
-العمل على فكّ طلاسم العلاقة المعقدة بين الجسد الذكوري والجسد الأنثوي، والمقصود بالتحديد مساءلة قضية الضّلع وانتساب حوّاء من حيث الخلق لآدم.
-تأصيل مفهوم الرغبة في تجربة النزوع الإنسي، بعد أن غاب هذا الأخير على التّفكير الكوني في مسألة خلق آدم وحوّاء على مرّ الزمن الأنطولوجي.
-إدراج الحلم كسجل خيالي باطني ينضاف إلى تفسير حدث الخلق الأنثوي، باعتبار المنام الذي راود آدم قد تضمن كشفا عن صورة حوّاء قبل أن توجد ككائن مجسم في واقع آدم.
– إعادة الاعتبار للاشعور في تجربة الخلق الانسي، على أساس كونه مسرح الصراع النفسي لآدم وحوّاء مع ذواتهم ومجال الرغبة أيضا. الشيء المفضي إلى إعادة مساءلة مفهوم الخطيئة الأصلية ومجمل النزوعات المخبوءة في النفس الآدمية والتي وجدت تعبيرها في خرق الأمر الإلهي، بدل أن تتم مقاربتها من زاويا أخرى.
التساؤلات الإشكالية للبحث:
ملحوظة: المرجو الإبقاء على تساؤلات البحث مع أهدافه عند النشر.
كيف حظرت حوّاء كموجود في الوجود؟ وهل من الممكن أن يكون قد جسّد الحلم أول تجلي للكيان الأنثوي؟
لماذا كان هناك منام في قصة الخلق الأنثوي، ولم يكن هناك تجليّ مباشر؟
ما غاية الحلم في قصة الخلق الإنسي، وما موقع اللاشعور من الغيب؟
هل رغب آدم في حوّاء قبل خلقها ؟ أيمكن أن ننتهي إلى القول أن خلق حوّاء هو جواب عن رغبة ؟
ما علاقة الرغبة بكل من المعرفة والجنس والموت ؟
هل خلق حوّاء كان حقّا بهذه الطريقة المؤلمة والعنيفة، والقصد هنا أسطورة الضلع ؟
عندما نتساءل عن الرغبة الأصيلة في نزوع الكائن الإنساني، هل نكون أمام موضوع بدون رغبة، أو رغبة بدون موضوع؟
لماذا يبدو الحضور الأنثوي كما لو أنه معنى خارج التاريخ الإنسي ؟
كيف أمكن آدم إدراك حوّاء؟ هل من خلال ملكة العقل، أم عن طريق الحس، أم هو حدس باطني ترآى في حضرة الخيال ؟
لماذا لم يخلق الرّب آدم وحوّاء في وقت واحد ؟
هل يمكن للإنسان أن يسعد بشيء لم يرغب فيه قبلا ؟ أو بعبارة أخرى: هل يمكن لآدم أن يسعد مع حوّاء دون رغبة مسبقة فيها، وأن تبادله هي كذلك نفس الشعور ؟
الموجود الأنثوي كجرح أنطولوجي
“إن تاريخ الفلسفة يكشف لنا عن فشل الفلسفة في فهم طبيعة المرأة” نيتشه، ما وراء الخير والشر
نستهّل هذه الورقة بلفت انتباه القارئ إلى كون التحليل الذي نهتدي به لفهم طبيعة الكينونة الإنسانية، قد يتنافى مع جملة من المعتقدات المتجذّرة تاريخيا، والمسلمات الموروثة ثقافيا حيال التّصور الأرخي “archaïque” للوجود الأنثوي. وهي أنماط ونماذج من الوعي يزدوج فيها الرصيد الميثولوجي {الأسطوري} بالمنظور التيولوجي {اللاهوتي}، من أجل صياغة الموقف المتعصّب والشائع، المتشبّع حتى النّخاع بفكرة أن أصل المرأة من صلب الرجل- من داخله- مع نفي قطعي لرغبة آدم المسبقة في الموجود الأنثوي. حوّاء التي انفصلت عن آدم – تبعا لهذا التفسير- في مشهد منامي لاواعي، أرّخ لواقعة انشطار الجسد وازدواجية الجنسين. ونحن نعلم ابتداء النماذج الجذورية المفصلية للمشهد النشوئي للكائن البشري من هذه الوحدة البدئية المنشطرة. لذا كان حرّيا بنا عدّها باعتبارها مصادرات أنطولوجية، أي وجودية، لكونها مقولات ميتافيزيقية مرجعية أسّست حولها رؤى العالم» « world view » للكائن الإنساني المنقسم إلى شطرين.
إن فكرة الكائن الخنثوي البدئي «Androgyne » الذي يطبع حضوره الكثير من الأساطير، نجد توظيفاته منذ مأدبة أفلاطون في شرح الرغبة الجنسية، باعتبارها توق الذكر والأنثى للعودة إلى الوحدة البدئية الضائعة (1). وهو تصور بموجبه تعاش الحياة كتباعد وانفصال نظرا لقيام هوة منذ الأزل بين الطرفين {ذكر/أنثى} لا يمكن ردمها مهما استغرق الوجود نفسه. وهذه النظرية تذكّر بما جاء على لسان الروائي اليوناني أريستوفان “Aristophane” {توفي قرابة عام 380 ق.م}. الذي يقول بأنه كان للبشر في بداية أمرهم أربعة أذرع وأربع أرجل »الكائن الرابوعي « وقد تمرّدوا على الإله “زيوس” فعاقبهم بشطرهم إلى قسمين. ومنذ ذلك الوقت أخذ كل شطر يبحث عن الآخر من خلال غريزة الحب ليجتمع معه ويرجع إلى أصله (2). لذلك تكون كل عملية جنسية سعيا وشوقا إلى تحقيق التوحد البدئي الضائع بعد انشطار آدم إلى ذكر وأنثى *.
غير هذه الأسطورة الضاربة في رحم الحضارات والمتواترة بشكل نافد، تذهب الميثولوجيا اليهودية إلى اعتبار حوّاء ليست زوجة آدم الأولى. فوفقا للتفسيرات العبرية المتأخرة كانت ليليت “Lilith” – تبعا لسفر التكوين- هي الزوجة الأولى لآدم. وتشير الروايات اليهودية أيضا إلى أن الرّب خلق ليليت، الزوجة الأولى لآدم بالطريقة نفسها التي خلق بها آدم. غير أن آدم وليليت لم يتفقا مع بعضهما أبدا. فلم تكن ليليت مستعدة للخضوع لآدم. وقد بررت مطالبتها بالمساواة مع آدم بأنها قد خلقت من التراب نفسه الذي خُـلق منه آدم. لقد عبّرت ليليت المتمردة عن مطمع مساواتها مع آدم من خلال امتـناعها عن أن يلقي آدم جسده فوقها أثـناء ممارسة الجنس. فليليث أرادت أن تكون مشاركة في الفعل الجنسي بصورة فاعلة وتـنام فوق آدم (3).
ويمكن أن نوجز عقدة ليليت « Lilith-complexe » ، ذلك الجزء المحرم من النفس الأنثوية في ثلاث مظاهر على الأقل دون أن نفصّل فيها: هناك المرأة المساوية للرجل، والتي لا هي أدنى ولاهي أعلى منه، وإنما مساوية له، الناشئة من الأصل ذاته. وأيضا هناك المرأة الفاعلة جنسياً، المستقلة برغباتها الماقتة للدونية القضيبية، ثم المرأة الكارهة للأطفال الرافضة للأمومة. على هذا النحو قسّمت صورة الأنـثى منذ عشرات آلاف السنين إلى حوّاء وليليت، حيث تقدّس البطريركية صورة حوّاء وتلعن صورة ليليت وتحرمها ولا تأتي على ذكرها. وعليه فإن حوّاء ترمز لخضوع المرأة والسلبـية الجنسية وللزواج الأحادي « monogamie » وللأمومة «المضحية» وللمطبخ والعبادة وتربـية الأولاد وخدمتهم. وهو في الواقع مجرد جانب واحد فقط من الأنوثة المزدوجة. أما الجانب الآخر فتعبّر عنه ليليت التي ترمز للمساواة والفاعلية الجنسية والرغبة ورفض الإنجاب والأمومة. وعليه فإننا نـتعرّف في كل من حوّاء وليليت على وجهين من الوجود الانثوي، منفصلان عن بعضهما ومتـنافرين على الأغلب، ويمتلكان مشاعر عدائية تجاه بعضهما البعض. بحيث يمثلان نمطين مختلفين من النساء: القديسة والعاهرة (4).
لكن من الملاحظ ،أن هذا الثابت القيمي منذ قصّة الخلق الإنسي – زمن البدء الأول- لم يتعرّض لقضية نجدها أساسية بما كان في حياتنا الذاتية، وهي تتعلق بخواص بنية النفس والنزوع الراغب لدى الإنسان على خلاف الحيوان الذي يفتقر إلى عدّة مقومات لكي يدخل عالم الرغبة، يأتي على رأسها الخيال واللغة. حوّاء خلقت من آدم وهي طرف جزئي منه، اعتقاد ضعيف، ولم يجزم أحد في هذا اللّغز الذي لا يكفّ عن ملاحقة التّفكير البشري إلى حدّ الآن. ولكن ينساب هذا المعطى إلى الذهن، لأن القارّ في أذهاننا ومخايلنا الكوني جميعا أن واحد منهما خُلق من الآخر. فيتم التّسليم غلطا بأن حوّاء خلقت من آدم مادام قد سبقها كموجود؛ وجودا ظاهريا وملموسا في العالم المادي. فكما يرى العديد من الرّاسخون في العلم – ونحن ننوّه بما ذهبوا إليه – أنّه لا يجوز أن تخلق حوّاء من نفس آدم اللّحمي- لا الترابي- لأنها إن خلقت من لحمه يعني تولّدت منه، فتصبح بمثابة بنته وليس زوجته. ولأن الزّوجة أمر عرضي خارجي، أما البنت فهي أمر ذاتي، والذاتي يختلف عن العرضي بالماهية، فلا يقاس أحدهما بالآخر إطلاقا (5) (6).
بوجود افتراض كهذا، قد اختلفت الآراء والتّصورات على مرّ تواريخ الحضارات في كيفية خلق حوّاء. ولا نعلم علم اليقين إن كان الرّب قد خلق حوّاء في نفس وقت خلق آدم أم بعده، وجلّ ما أمكننا معرفته هو ما تذكره الكتب السماوية التي لا تخوض في التفاصيل، وكذا الأحاديث المنسوبة إلى نبي الإسلام إلى جانب روايات متضاربة تصلنا من زمن أساطير الأوّلين. بمعنى أنّه ليس فقط ذكر واقعة خلق حوّاء من ضلع آدم – مع تعليق الحكم هنا حول قضيّة الضلع – هو كفيل بمعرفة خبايا الوجود الإنسي والنفس والجسد. فالخطاب الإلهي في مضمونه الذكوري موجّه إلى كائن ذكر معلوم باسمه، ألا وهو آدم، بينما المرأة ملحقة مضافة كانتماء فرعي، نوعي (7).
الجدير بالإشارة كون قصّة الخلق غير متوازنة في السّرد بين النوعين. فحينما نعود إلى مجريات قصّة البدء الإنسي، نجد آدم هو وحده المخاطب من طرف الرّب في كافة أطوار خلقه : بدءا بخلقه وإشهاده على ذرّيته في الملأ الأعلى، ثم تعليمه اللغة وسيادته على الملائكة بعد سجودهم له، ثم تعرّفه على الموجودات في الكون وتسميتها بمسمياتها، إلى وقوعه في الخطيئة وطلبه الغفران والثوبة من الرّب متحدثا باسم حوّاء، حتّى عودته إلى أديم الأرض. أمّا قصّة خلق حوّاء فلا يأتي ذكر لاسمها إذا استثنينا الإشارة إليها بالزوج أو الأنثى، بل حتىّ أن الرّب لم يبلغ الأنثى بخطاب مباشر عن منع الأكل من الشجرة وإنما وصلها النّهي بالمحظور عن طريق آدم. لذا لا بد من إعادة قراءة وتمحيص قصة خلق حوّاء ما دام يلفّها كل هذا السواد والغموض وفيها الكثير من الفراغات والمغيوبات، كما لها – وهو ما سنأتي على توضيحه في تفاصيل البحث – جانب باطني أوسع من أن يحدّد بدقة أو يفسر تفسيرا تامّا أو يأمل المرء بكشفه تماما. ممّا يترك حقيقة خلق المرأة معلّقة بالعلم الإلهي وغامضة على مرّ التاريخ الإنساني، الذي اكتفى فيه الفكر الكوني بالتّركيز على كيفية وهب المرأة للحياة، ولم يتساءل في الكثير من الأحيان كيف جاءت المرأة إلى الوجود. هل فعلا ثم خلق حوّاء من ضلع آدم بهذه الطريقة المؤلمة والعنيفة والمنعدم في مجرياتها أي ذكر أو إشارة لمفهوم الرغبة. لكأن آدم وحوّاء كائنين مجرّدين من الرغبة التي هي مفتاح كيان الإنسان ونبع نزوعاته المتدفقة كسدّ جارف باستمرار.
إذن فهذ اللّبس تحديدا، الذي اقترن بمفهوم الضّلع الأعوج ومعناه الترميزي، هو ما سنحاوله استكناه مغالقه، وسبر أغواره في سياق معالجتنا لمسألة خلق الأنثى. حيث يأتي مفهوم الرغبة ليعوّض الضلع، ويردم الثغرة القائمة على مستوى العلاقة المبهمة لآدم بحّواء. ولعلّ هذا الجدل المحتدم حول طبيعة الخلق الأنثوي، قد يحلينا بالضّرورة للحديث عن ثنائية الداخل والخارج ضمن مساقاتها اللاهوتية والفلسفية العقلانية، بنّية تفكيك الثنائية ذكر/أنثى، وباقي المتلازمات التي تتفرّع عنها {أصل/ فرع، داخل/ خارج، مركز/هامش، حقيقة/ وهم، معنى/ اللامعنى …} الخ ، مع تبيان الكيفية التي تتحرّك بها ومن خلالها، هذه المعاني ضمن كوسمولوجيا مجنّسة تطبعها علاقات الصراع والتّضاد بين الطّرفين. فثنائية ذكر / أنثى تدخل ضمن مساق الأزواج المفاهيمية المزدوجة التي يتمحور حولها اللاغوس الغربي، بحيث تحكمها علاقة التناقض من جهة {تناقض طبيعة الذكر مع طبيعة الأنثى} وعلاقة التراتبية من جهة أخرى {تفوق وهيمنة الذكر على الأنثى}، والتي تمّ الحطّ تاريخيا من دلالة الطرف الثاني، والإعلاء من قيمة ودلالة الطرف الأول (8). كما وقد صيغت على نسق هذا المنطق المتعارض جميع التضادات التصورية. والجدير بنا في هذا المنوال التّنويه باستراتيجية التفكيك مع فيلسوف الهوامش جاك دريدا، التي أبرز من خلالها هشاشة هذه الثنائيات المخترقة لما هو ذكوري وما هو أنثوي. فالثاني حسب دريدا ليس ما يأتي بعد الأول فحسب، وإنما هو ما يسمح للأول بأن يكون أولا. وهكذا فالأول لا يصير أولا بقواه وبإمكاناته وحدها، بل ينبغي على الثاني أن يساعده بكل قوة تأخره، فبفضل الثاني يكون الأول أول (9) (10).
فيما يخصّ واقعة الانسلاخ من عدمها، يمكننا البدء بتناول المفارقة التالية: فلو افترضنا جدلا أن القاعدة أو الأصل هو الاتصال {الخلق من الداخل، وخروج حوّاء من ضلع آدم} ثم حدث بعده انفصال الجسد الإنساني عن نفسه، لانعدمت حينها أي إمكانية في ملئ هذا الفراغ المتروك لدى الكائن الإنساني المنقسم إلى شطرين. وهو بالمناسبة تصوّر تعاش الحياة بموجبه كتباعد وانفصال، نظرا لقيام هوّة أزلية بين الطرفين {ذكر/أنثى}، لا يمكن ردمها مهما استغرق الوجود نفسه.
وبالعكس تماما، فنحن نجد أنه في سبيل تحقيق هذا الارتباط البعدي بين النوعين، تحصل وحدة الحالة التجاسدية بمختلف انفعالاتها متوّجة في الجنس {بما يفيد الجناس والتّجانس}. وليست هناك من فكّ إلهي لارتباط قبلي مزعوم بين جسد الذكر والأنثى أثناء خلقهما. فالقاعدة كما نرى هي الانفصال، أي أن كل جنس كان مفصولا عن الآخر في البداية النشوئية، ليأتي من بعد الخلق الاتصال والالتحام الرمزي في شكل جسد واحد. ففكرة التّكامل والتّجانس لم تكن واردة بين آدم وحوّاء حتىّ علموا بالارتباط المقدس المترجم أخلاقيا في سنّة القران. ومن أجل أن يحقّق الرّب الخطّة كاملة في الواقع ويوثّق عرى العلاقة بينهما جسما وروحا، باين بين جسميهما، بينما “النفس” ظلّت واحدة. وهذا التّباين هو الذي يجذب كلاّ منهما نحو الآخر، ويجعل منها عاشقين لبعضهما. هذا وإن كان للمرأة جسم وأخلاق ورغبات الرجال لتعذّر عليها أن تجذب الرجل نحوها وتحوله إلى عاشق محب لها، وفي المقابل لو كان للرجل نفس مواصفات المرأة الجسمية والروحية، لما أمكن المرأة أن تعدّه فارس أحلامها وتظهر من فنونها ما تصطاد به قلبه (11). إن هذه الحقيقة المبدئية تدعم نموذجا من التّفكير، سيكون له دور مشرق في تصويب الفهم وإضاءة خارطة الطريق في القادم من البحث.
يتعامل الفكر مع قصة الخلق الإنسي بوصفها مصدرا للمعرفة، وأمّا نحن فنضعها موضع مساءلة. بحيث أن الوعي النقدي يكّف عن التفكير من داخل إطار التصورات أو بواسطتها لكي يستطيع التفكير من خارجها. طالما أن بنية التصور ذاتها، ليس لها من مصدر سوى السياق التكويني نفسه. ففي لعبة السياق نلحظ أن التصورات القارّة المسبوكة في الوعي الإنساني هي مجرد أداة لخدمة ذات السياق. ويكون لهذه التصورات وجهين: وجها معرفيا: أو بنية التصور ذاتها، ووجها تاريخيا: أو تكوينه التاريخي. والتكوين التاريخي مرتبط بالسياق، سياق الخبرة. وأمّا البنية فهي المضمون العقلي للعالم والأشياء، وهي معرفة معرضة باستمرار للانزلاق في هذا السياق ولفقدان قيمتها، وخصوصا إن كان السياق مرتبطا بخبرات ميّتة. كما وأن السياق هو يبني العلاقات القائمة بين الأشياء. وهذه العلاقات لا تقوم في الشيء ذاته، بل يفترضها السياق افتراضا، ويحيل الأشياء إليها، فهي كالشبكة التي يصطاد بها الأشياء ويحكم بها الواقع. ورغم ذلك فالسياق التكويني للتصورات هو ما يجعل تأثيرها الاجتماعي وحضورها الثقافي ممكنا (12).
لا مندوحة أننا في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى مجاوزة هذه الرؤيا الدونية والاختزالية للمرأة، خاصة ونحن نعلم أن هذه الطبيعة الغامضة لمنشأ الأنثى جعلت عرب الجاهلية على سبيل المثال يعتقدون أن النساء ليست مخلوقة من الآلهة، وإنما هي مخلوقات شيطانية. حيث كان يبيحون التقليد القبلي المتزمت مبدأ “الوأد” الإناثي عند الولادة، فتسوّل لهم أنفسهم دفن البنات فورا بعد ميلادهن، لأنهنّ في اعتقادهم الجاهلي مخلوقات مدنّسة، وأن ميلاد الأنثى بدل الذكر هو نذير شؤم وهلاك ونقص في الجاه والمال (…) الخ. وكثير من الحضارات كانت في شكّ وعماية في شأن الأنثى، وهل روحها شيطانية، أم آدمية إنسانية. بل حتى تاريخ الكنيسة المسيحية لم يسلم من تأثره بهذه العقيدة المعادية للمرأة، والتي تجد تشخيصها من زاوية نفسية فيما يعرف برهاب النساء أو الجينوفوبيا « gynophobie » * .
وظلّ الشكّ يحوم حول طبيعة الأنثى الغامضة قرونا متواصلة حتى القرن السادس ميلادي، و بعد الخروج من عصر الظلمات عقدت مؤتمرات ليتدارسوا فيها هل المرأة لها روح أصلا أو هي كائن بدون روح. لأن الشائع أنها كانت بروح حيوانية، والبعض قال إن لا روح لها أصلا. وتراجع هؤلاء فيما بعد عن أحكامهم، وقالوا يبدوا أن لها روحا ولكن دون روح الرجل، وهي مخلوقة فقط لخدمته وإسعاده وإرضاءه. يقول الداعية القديس بولس الأول في رسالته: المرأة مجد الرجل، لأن الرجل ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل، ولأن الرجل لم يخلق من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل (13). بل حتى مواقف الفلاسفة من المرأة لم تكن بريئة كما ينبغي أن تكون عليه سريرة الفيلسوف، حيث بدت هي الأخرى مشحونة بنوع من الذاتية وبقايا الجروح العاطفية التي تعود إلى تخوم الطفولة و بقايا الحب الأمومي المشوش. ويكفي أن نسجّل في هذا الصدد الحكم الذاتي للفيلسوف عن المرأة. إذ غالبا ما تكون الظروف الشخصية للفيلسوف أو طبيعة علاقته بزوجته أو محبوبته أو أمه، هي التي تعكس في آخر المطاف مواقفه من المرأة، والأمثلة عديدة في هذا الباب (14). فالصورة التي رسمها أرسطو مثلا – وقبله أفلاطون- للمرأة تعدّ بالغة الأهمية، إذ رسّبت في أعماق الثقافة الغربية، وأصبحت الهادي والمرشد عن النساء بصفة عامة (15). فعند مقارنته بين الرجل والمرأة، تساءل، هل تعدّ المرأة من الجنس البشري، وتنتسب إلى الإنسانية ؟ يجيب نافيا، لكونه يعتبرها كائنا دونيا، وقد خلقت مسخا مشوها ناقصا. وهي مجرد كائن بهيمي أقرب ما يكون إلى القردة (16). فالمبدأ الأول في الفكر الأرسطو طاليسي كان مذكرا بامتياز نافيا في تمركزه للمؤنث. كما كان كبار المفكرين الغربيين من أبناء القرن الثامن عشر من مثال غوته وروسو ومونتسيكيو وأوغست كونت (…) الخ، كانوا أيضا من دعاة تقزيم المرأة والحطّ من شأنها وتفضيل سيادة وسيطرة الرجل عليها. لذا فتناول موضوع الاختلاف الجنسي عند فيلسوف بعينه، لا يجب أن يتم بمعزل عن ارتباطاته وتداخلاته مع الموضوعات الأخرى، ولا بمعزل عن رهانته الاجتماعية والتاريخية (17).
إنّ اعتبار المرأة كائن ناقص كان مشتهرا في الغرب قبل شيوعه بين شعوب الشرق. فالغربيون كثيرا ما جنوا على المرأة بالطعن فيها واعتبارها ناقصة، مبرّرين ادعائهم بكون قانون الخلقة قد خلق المرأة ناقصة عقلا ودينا لحكمة ما. إذ قالوا على لسان الكنيسة والدين: {أن المرأة يجب أن تخجل من كونها امرأة}. وقالوا: {المرأة هي الموجود ذو الشعر الطويل والعقل القصير} و {المرأة آخر موجود وحشي دجّنه الرجل} و {المرأة نقلة بين الحيوان والإنسان} وأمثال ذلك غزيرة. وعلى خلاف الأسطورة التّوراتية والمسيحية لاحقا فإن مفردة حوّاء، بالمعنى الفلسفي، هي أصل كآدم، لا تخالفه نفساً ولا جسما إلاّ بما اختصّتها به طبيعة الأنثى. وكل ما قيل ويقال عن نفسها وعقلها وأضلاعها، تخريفات، وتوهيمات، ترمي إلى تسليعها والإتجار بها. وحوّاء ترمز إلى الخلود الأنثوي، المحتوية رغبات الرجل والسائرة به إلى أعلى (18). لا ريب، أننا متحجّرون في قيم الموروث النقلي لصياغات الضمير الجمعي، وننفر من تخلقات المستحدث، ونحاول كلما صحا الضمير من غفوة الماضي الثقيل بادرنا إلى زيادة جرعة المنوّم لإبقائه خارج دائرة الصحوة الوعي والزمان، وعزل تلك الرؤى التي تشكل قوى الرفض المتحدية للصياغات التقليدية (19).
لعلّ جميع من يقولون بأن حوّاء خُلقت من الضلع الأيسر لآدم، إنما هم يعتمدون في ذلك على ما يرد في سفر التكوين، الإصحاح الثاني. أما الآخرون اللذين يقولون بأن الرّب خلق المرأة بنفس الطريقة التي خلق بها آدم، فهم في هذا قريبين من القصة الواردة في الإصحاح الأول من سفر التكوين. في حين أن القرآن لا يأتي على ذكر قصة خلق حوّاء بتاتا، ولكنه يفككّ بالمقابل شفرة الخلق الإنسي من خلال كشفه ولأول مرّة سرّ أطوار خلق الإنسان، وقد جاءت فيه وفق الترتيب التالي : طور النّطفة – طور العلقة – طور المضغة – طور العظام {الهيكل الجسدي} – طور كسوا العظام باللّحم – طور النشأة خلقا آخر {وخلقناكم أطوارا} . ومما قد يزيد في التأكيد على بهتان هذا المنظور الضلعي للخلق الأنثوي هو كون نطفة المرأة تختلف عن نطفة الرجل، وهو ما قاله نبي الإسلام عن خلق الإنسان {من كل يُخلق: من نطفة الرجل، ومن نطفة المرأة ، فأمَا نُطفة الرجل فنطفة غلِيظة ، منها العظم والعصب ، وأمَا نطفة المرأة فَنطْفة رقِيقة منها اللحم والدَم}. وبالتالي ما دامت نطفة المرأة من لحم ودم تستبعد بديهيا قضية الضلع كمادة خلقت منها الأنثى كما يسود الاعتقاد. فالنّطفة هي المادة الأوليّة التي يبتدأ بها أطوار خلق الإنسان ذكرا كان أم أنثى كما وضحنّا توّا. فضلا عن ذلك، فما أن نتأمل مليّا في الأصل والسبب، حتى نلاحظ، تلك الأولية للمؤنث (20).
في ضوء هذه الامتدادات التاريخية لهذه التصورات المحشوة في أمشاج الذهنيات البشرية عبر العصور المظلمة والمستنيرة، نسجّل ما يحقّقه هذا المنظور – المنصب حول إعادة كتابة تاريخ الرغبة الإنسية – من اختلاف وقلب لاستراتيجية التأويل في تناولنا سائر قضايا المرأة عمّا لو قاربناها من منظور إطاري منمذج، يمكن أن ندعوه ب »إطار الانتساب« ، تتموقع في نسقيّته المرأة كذيل أو ملحق تابع للرجل، لأنها مخلوقة من جزء منه، من ضلعه. وهذا النموذج الإستتباعي له طابع تثبيتي للنّظرة التّحقيرية المتوجهة إلى نرجسية المرأة، إلى سلبيتها وإذعانها للهيمنة. ويأخذ على النساء إذا لاحظنا السهولة التي من خلالها تخلّيهن عن أسمائهن ويأخذن أسماء أزواجهن، إذ يستنتج: أن المرأة في الجوهر من دون اسم، وذلك لأنه ينقصها، بالطبيعة، الشخصية (21). استنادا على هذا الإطار الإنتسابي، تحشر الأنثى بين ثنائية الموجب والسالب، باعتبارها شيئا فرعيا وتابعا، يحيل مرجعيا على الدّال “الذكر”، لتنتظم مركزية المعنى بمجمل المركزية القضيبية في أنماط الوعي وقوالب اللغة، ممتدة إلى العلاقات الجندرية داخل المجتمع وباقي الميادين الحياتية الأخرى. فمركزية العقل « logocentrisme »هي الوجه الآخر لمركزية القضيب « phallocentrisme » من هنا مجيء الفلسفة التفكيكية بمقولة مركزية العقل والقضيب (. « phallogocentrisme » (22إن واقع المرأة الخصيّ هذا ومهما اختلفت أسبابه، فهو يعود في منتهاه إلى طبيعة الفكر الذكوري المتعالي الذي شكّلت في هوامشه المرأة كجنس آخر أو كجنس ثاني *، كما أحبت أن تنعتها سيمون دي بوفوار. فالمرأة لا تولد امرأة، وإنما تصير كذلك، وهذا أقصى اعتراف قد يخرج من فاه فيلسوفة وجودية حتى أخمص قدميها.
مهما حاولنا البحث عن أجوبة، فإن حدث الخلق الأنثوي يبقى مجادلا فيه، ويظلّ يطرح إشكالات تؤرّق الفكر الكوني على مرّ الزمن. وكما هو ملاحظ لدى الفكر المنسوب إلى العقل الذكوري من ربطه لخاصيّة الحضور بالذكر المنتصب والمتجليّ، في حين يترك الغياب يمزّق كيان المرأة الهشوش، منذ أن انشقّت عن الجسد الذكوري كما يسود الاعتقاد، ليكون هو الأصل والحقيقة، وتكون هي رمز للوهم والزّيف، بما هي مجرّد انعكاس مشوه للجسد الذكوري في السّجل الواقعي. وهذا الحضور الواهم أو الأنا المزيّف الذي ترتجف خلفه سيكولوجية المرأة حسب التحليل النفسي الفرويدي هو ما يجعلها تخفي ما لا تملك {هوام القضيب المفقود} وتخون المعنى. فالترّاث الذكوري أراد عبر تقنيات تحكمّ وتوجيه متعدّدة تقعيد صورة مشوّهة للمرأة، بوصفها كائن شبقي، رامز للخصاء، ومجرّد جزء مستّل من الجسد الذكوري الذي انشقّت عنه في انشطار واغتراب وحالة من الألم، لتكون بذلك معجونة من طينة أو طبيعة مازوشية، تلد وهي مستيقظة، وترى الموت أمامها، لكنها تزداد عاطفة وحبّا، واجدة في عذابها لذّتها. بالمقابل يتم الحرص على التضخيم النرجسي لسادية الرجل، الذي يتقوّى من هذا الضعف الفطري الكامن في تكوين المرأة النفجنسي.
.