نقوس المهدي
كاتب
يُفتح الخطاب الأكبري على أنساقٍ فكرية إنسانية عاصرته أو سبقته دون أن يفقد إبداعيته وخصوصيته، ومن بين القضايا التي تبرز عبرها خصوصية تفكير الشيخ الأكبر مسألة الأنوثة والذكورة.
تحضر هذه المسألة في الفكر السابق عن ابن عربي دون الإعلان عنها لتتخذ مع صاحب الفتوحات طابعها المعرفيَّ بشكل صريح؛ فيخترق الزوج المفاهيميُّ – الأنوثة/الذكورة – الفكر الأكبري على المستوى الأنطولوجي والكسمولوجي والأنثروبولوجي والمعرفي واللغوي… ويحضر بشكل واسع وعميق إلى حد يمكن اعتبار هذا الخطاب هو خطاب أنوثة. المؤشر على صحة هذه الفرضية ما يرمز إليه ابن عربي في الصفحة الأولى من صفحات الفتوحات حينما يعرض لمناسبة كتابته لمؤلفه، وهي مشاهدته القلبية للنبي والصحابة والأنبياء محيطين بمجلسه، وحين يصل إلى ذكر النبى يقول:
… والختم بين يديه قد جثى يخبره بحديث الأنثى […] فرآني وراء الختم لاشتراك بيني وبينه في الحكم…[1]
الاشتراك بينهما في الحكم يتمثل في كون النبى ختم للنبوة العامة وابن عربي ختم للولاية، لكن يمكن اعتبار أن الإشارة تتعلق بمسألة الأنوثة لما نستوحيه من تصريحه: “يخبره بحديث الأنثى”.
الاعتراف بالأنوثة والذكورة كقطبية تميز الوجود هو في ذاته إعادة النظر في مبادئ الفكر العقلاني والفقهي (مبدأ الهوية، الخلق من عدم…) مما دفع ابن عربي إلى اعتماد مبادئ (مبدأ التثليث، الرؤية، الحي…) تسمح بقبول قضية ونقيضها، فتتعدد الدلالات المتعلقة بنفس الموجود وتتقابل لتثير حيرة الفكر، لكن الحيرة في هذا الطريق هي عين الصواب وهي السبيل إلى معرفة العالم نظرًا لطابعه الخيالي[2].
خطاب من هذا النوع لا يمكن إلا أن يرفض من طرف الفكر المعبر عن سلطة المجتمع المبنية على القيم الذكورية، مما تطلب من صاحب الفتوحات اعتماد صيغ لغوية ودلالية بالغة التعقيد تجعل المعنى يقاوم الظهور، ويختفي خلف الإشارة والتلميح والترحال ما بين الظاهر والباطن، مما يضفي على الخطاب الأكبري طابع الرمزية ويصير التأويل الطريقَ لفكِّ بعض ألغاز هذه الرمزية.
تفكيك الرمزية والكشف عن المعنى يستدعي استخدام المنهج السيميائي بما أن الوصول إلى المعنى يمر عبر معنى آخر، وغالبًا ما نجد أن المعنى يقبل ألفاظًا مختلفة وأحيانًا متقابلة، فتتوارى الدلالة أو الدلالات خلف ظاهر الكلمة ويقتضي بلوغ باطنها مراعاة الاشتقاقات اللغوية والاستعمالات الاصطلاحية وسياق الخطاب الذي ورد فيه المفهوم دون إغفال المرجعيات الماقبل أكبرية ومقارنة الدلالات للفصل فيها حسب ما ترجحه قضايا أخرى في فكر ابن عربي.
ينطلق الشيخ الأكبر من أنه لا يوجد – في الوجود – إلا الحقُّ وأعيانه وصوره، والعالم هو صور الحق المنعكسة في مرآة الوجود، وتحمل الصورة سمات المتجلي، فما يطبع الصورة أي الموجودات الكونية يجد أصله في الوجود الإلهي كما هو شأن الرحمة والجبروت، الجمال والجلال، الوحدة والكثرة، القدم والحدوث، الأنوثة والذكورة[3].
للدلالة على الأنوثة والذكورة يستخدم شيخ المتصوفة أزواج من المفاهيم (فاعل/منفعل، مؤثر/مؤثر فيه، بسيط/مركب، أصل/فرع، جمع/فرق…) تتداولها منظومات فكرية مختلفة (فلسفة، علم الكلام، فقه، تصوف…) ليعيد صياغتها حسب تصوره الخاص.
يقوم التصور العرفاني لابن عربي على اعترافه بحضور الأنوثة والذكورة عبر كل فعل من منطلق كونهما منفعل/فاعل، يقول في الجزء الأول من “الفتوحات (ص 507):
فإن كل منفعل فرتبته رتبة الأنثى وما تم إلا منفعل، والفعل مقسم على الحقيقة بين الفاعل والمنفعل، فمن الفاعل الاقتدار ومن المنفعل القبول للاقتدار فيه.
الإلقاء من طرف الذكورة والتلقِّي من جهة الأنوثة حالين عبرهما يظهر التمايز والفرق ويعبران عن وجودهما كعلاقة ذات وجهين، هذه العلاقة لا تربط بين موجودين متقابلين بل هي علاقة ذات أبعاد متعددة متشابكة: فهي علاقة داخلية/خارجية، كلية/جزئية، معنوية/حسية، كونية/أنطولوجية…، علاقة تقوم كتعاطف وانجذاب بين وجهي القطبية المكونة لكل موجود. فالفعل والانفعال يتجاوران داخل كل كائن؛ إذ إن كل موجود، كيفما كانت طبيعته: مادية أو معقولة أو خيالية…، فله وجهين أو نسبتين، فهو فاعل/منفعل غبر نفس الفعل، أي أن كل موجود هو ذكر وأنثى، وذكورته كأنوثته (أي رتبته) تتغير حسب موقعه من الفعل أي حسب وظيفتي الفاعلية والانفعالية، لذا يتكلم كوربان عن جدلية الفاعل والمنفعل[4] التي يمكن تشبيهها بعلاقة استنشاق النفس بزفيره.
تتحدد الفاعلية والانفعالية كعلاقة أو نسبة، والنسب ليست من حقائق الكائن لأنها مجرد أعراض، يقول ابن عربي:
الذكورية والأنوثية إنما هما عرضان ليستا من حقائق الإنسانية…
ونظرًا لكون العرض يفنى في الزمن الثاني لوجوده أي يتميز بالتحوُّل والزوال فالذكورة والأنوثة كعرضين يتصفان بالتبدل والتجدد داخل نفس الموجود وبذلك ينتمي هذين العرضين إلى علم الأحوال حيث يحكم التبدل والتلوين بفعل تجدد الخلق، ويرجع هذا التجدد إلى التجلي الدائم اللامنقطع وإلى استعدادات الممكنات لقبول التجلي، فتتوالى الصور عبر تجددها.
صور العالم كآثار للمتجلي وانعكاس لصورته هي ذات طبيعة انفعالية لذا يصرح ابن عربي: “وما تمَّ إلا منفعل”، إذ إن كل ما سوى الله فهو منفعل أي محل يتميز بالاستعداد للتلقي والتأثر، فتسري الأنوثة – كمبدأ – في الكون باعتباره محلاً لفعل الحق.
المحلُّ تسمية تخصُّ كل ما تغلب عليه الأنوثة لما يتمتع به من استعداد وقابلية وإمكان ليحتل المرتبة التي ترجع إلى المرأة، يقول شيخ العارفين:
وأشبهت المرأة الطبيعة من كونها محلاً للانفعال فيها وليس للرجل ذلك، فإن الرجل يلقي الماء في الرحم لا غير. والرحم محل التكوين والخلق، فتظهر أعيان ذلك النوع في الأنثى لقبولها التكوين…[5]
الاستعداد للقبول خاصية ذاتية تميز المحلَّ وبفعل هذه الخاصية وجد الكون لأن كل الموجودات هي قوابل ومحالٌّ باستثناء الله، يقول الشيخ الأكبر:
(…) وليس [تعالى] بمحلٍّ للحوادث بل الأعيان محلُّ الحوادث، وهو عين الحوادث عليها، فإنها محالُّ ظهوره (…) فما هو لنا بأين ونحن له أين، فمن لا أينية له هو نحن، فأعياننا أين لظهور…[6]
قول ابن عربي بأن المحلَّ أين لا يعني أنه مكان، بل هو أين لأنه يتطلب التوجه، والتوجه نكاح أي فعل يقوم ما بين التأثير والتلقي، لكن تأثير الذكورة لا يفارق عالم الباطن وحين يظهر يكون ظهوره مرتبة أخرى لتجليه “فإنها محالُّ ظهوره”، فانكشاف تأثير الذكورة يتم عبر المحلِّ، لذا فإن المحلَّ قابل، يتلقى الصورة ويعكسها حسب استعداده ليتعلق المحلُّ بالعين: “بل الأعيان محلُّ الحوادث” وميزة العين هي الرؤية وخاصية المحلُّ هي تلقي أثر المتجلي أي أثره أو صورته، مما يجعل من المحلِّ مرآة وموضوع للرؤية[7].
الرؤية كعلاقة بين المرآة والمتجلي وصورته هي أساس الإيجاد، ويتطلب هذا الإيجاد محلاً أصليًا يقبل تجلي الوجود المطلق ويتمثل في الأعيان الثابتة. يعتبر ابن عربي أول من استعمل اصطلاح أعيان ثابتة بمعنى الحقائق الباطنية للأشياء[8] أو حسب شودكيفيتس “المثل الأزلية للأشياء”[9]، وعين في العربية واسعة التداول تدل على المماثل وذات الشيء وعلى الخصوصية والتمييز[10] والمنبع وحاسة النظر والحقيقة، وتبرز خصوصية الشيخ الأكبر في تركيبه بين عين وثبوت، لتدل الأعيان الثابتة على مقام السكون والثبوت والاستعداد والإمكان. كما أن الشيخ الأكبر يربط بين عين وقدم باعتبار رتبتها كموضوع أو مجلى لرؤية الحق لذاته، يقول:
(…) رؤية الحق في القدم أعيانا أحوالهم العدم، يميزهم بأعيانهم في تلك الحال لا تفصيل حدود بل تفصيل رؤية الموجود[11]
الحق يرى الأعيان الثابتة رؤية كلية، معقولة…، تضم مجموع الأعيان دون فرق، وهي رؤية تكشف ما تصير إليه كل عين من تمايز، لأن العين بالنسبة للكناوي تعني: وجود أو ما تصير إليه ذات[12]، وتتحدد حقيقة الأعيان كموضوع لرؤية الحق لذاته[13] أو مرآة تقبل صورة الحق الواحدة لتعكسها متعددة حسب استعداداتها، فالأعيان هي مجلى الحق ومظاهر وجوده”. “فالأعيان – كما يقول – لولا ما تستحق أن تكون مظاهر الحق فيها”[14] والمظهر أو المجلى هو ما يكشف الصورة ويظهرها لذات المتجلِّي.
وتمثل الأعيان الثابتة أول تجلي للحق لذاته عبر فيضه الأقدس، وهذا التعين الأول لا يخلق الأعيان بل يوجدها بمعنى يخلق لديها الوعي والإدراك بنفسها من خلال الرؤية المشتركة بينها وبين الحق، فهذه الرؤية هي ذاتها إيجاد وتجلِّي النور الإلهي:
فيتجلى تعالى للأشياء التي يريد إيجادها في حال عدمها في اسمه النور تعالى، فينفهق على تلك الأعيان أنوار هذا التجلي، فتستعد به لقبول الإيجاد استعداد الجنين في بطن أمه في رابع الأشهر من حمله لنفخ الروح فيه، فيقول له عند هذا الاستعداد كن فيكون في حينه من غير تثبُّط[15].
التجلِّي رؤية ونفخ وقول وتوجه… وكلها تدل – في الخطاب الأكبري – على النكاح كعلاقة بين فاعل/منفعل، لكن المحلَّ، بتأثير استعداده على الإيجاد، يصير فاعلاً ومنفعلاً أي ذا طبيعة تركيبية، فيتحدد كآخر يتميز عن الفاعل (البسيط).
فتتخذ الأعيان الثابتة رتبة الغير، هذه الغيرية تسمح بقيام الرؤية بين وجهي الوجود، يوضح الشيخ الأكبر هذه العلاقة عبر الفص الأول من فصوص الحكم:
فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل المنظور فيه ولا تجليه له[16].
الأعيان الثابتة كمرآة بدئية لها رتبة الآخر (بكسر الخاء) إذ تلي الذات الإلهية وللآخر دلالة الآخر (بفتح الخاء) – لهما نفس الاشتقاق اللغوي – ويحتل هنا الآخر رتبة العين التي تعكس صورة الذات، والعين مرآة وإمكان لما تتمتع به من استعداد وقابلية، وبهذه الخصائص تمثل وجه الوجود الآخر المقابل للوجوب[17].
وجه الوجود الآخر – مقابل الذات – ينعته شيخ المتصوفة بأنه معدوم، إلا أنه لا يعني بأن لا حقيقة له، فما يقصده أنه لا وجود للأعيان الثابتة خارج الذات الإلهية، فهي كصور لحقائق العلم الإلهي أو كمعلومات تقوم في العلم الإلهي[18] ولها الثبوت والقدم، فلا ترتدي حلَّة الوجود الخارجي عن المطلق لأنها أعيان الحق اللانهائية، تظل باطنة في عالم الغيوب[19] لا تغادر ثبوتها: “لأن عين الممكن – كما يقول ابن عربي – ما زال في شيئية ثبوته، ما له وجود وإنما ذلك حكم عينه في الوجود الحق”[20]، من هذا الوجه تقبل الأعيان الثابتة اسم الشيء الذي أمره الحق بالوجود.
مظاهر الحق أو العالم يمثل أحكام الأعيان الثابتة أي آثار استعدادها لقبول صورة الحق ومن هذه الناحية تختلف هذه الأعيان عن الموجودات الحسية من حيث أن الأولى معدومة في العالم الحسي والثانية موجودة فيه ومن ناحية أخرى وكما يرى ويليام شيتيك بأنه لا فرق بين الأعيان الثابتة القائمة في العلم الإلهي والموجودات الكونية لأنهما يرجعان إلى نفس الحقيقة والأصل[21]، كما أنهما يشتركان في القابلية والاستعداد والإمكان أي يشتركان في مرتبة الأنوثة، مما يجعل الأصل والفرع أنوثة في التصور الأكبري للوجود.
لكن الأعيان الثابتة المنفعلة عن الذات الإلهية والمنفعلة باستعدادها وإمكانها… هي في نفس الوقت فاعلة باستعدادها لتجلِّي أحكامها[22] وفاعلة بالنسبة لما يصدر عنها من موجودات أي لها مرتبة الذكورة بالنسبة للحضرة الثالثة من حضرات الوجود وهي العماء.
يورد ابن عربي بخصوص العماء حديث حيث سئل النبي: “أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟ فقال: كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء”[23].
العماء في الخطاب الأكبري يدل على نفس الرحمن[24] وهو الحق المخلوق به[25] الخيال المطلق[26] وعين الرحمة وجوهر العالم[27].
ويمثل العماء التجلِّي المقدس للذات الإلهية – بعد التجلِّي الأقدس – وباطن الألوهة كتجلِّي للباطن وللغيب[28]، فظهر كحضرة ثالثة من حضرات الوجود [الذات، الأعيان الثابتة، العماء] وعمر الخلاء كله، فشكل ظرفًا للحق ومكانًا للعالم، فوقه للحق وهو مستوى الرب[29] وتحته للخلق[30] كمظاهر للحق.
فالعماء برزخ بين الذات والعالم وبين الذات والأعيان الثابتة التي تقوم كمرآة تعكس صورة الحق المتجلِّي، هذه الصورة – أو الصور المتعددة بتعدد استعدادات الأعيان – تمثل حضرة ثالثة تفصل وتجمع بين الناظر وموضوع رؤيته لذاته؛ فالعماء كبرزخ ليس المرآة وليس المتجلي ويجمع بينهما باعتباره حضرة الصور وجوهر للعالم، يقول شيخ العارفين:
إن جوهر العالم هو النفس الرحماني الذي ظهرت فيه صور العالم[31].
فالعماء يعكس صور العالم التي هي صورة المتجلي المتكاثرة بتكاثر الأعيان أو المرايا المتميزة بقبولها لتلقي الصورة، يفصح الشيخ العارف:
النفس… هو العماء القابل لفتح صور العالم فيه…[32]
فتأتي مرتبة العماء كعلاقة أو برزخ ما بين المرآة والمتجلي أي كصورة للوجود أو خيال مطلق: “ثم اعلم -يقول ابن عربي- بعد هذا أن حقيقة الخيال المطلق هو المسمى بالعماء الذي هو أول ظرف قبل كينونة الحق”[33].
فالعماء ظرف للحق[34] وأين له[35] ومستوى الاسم الرب[36]، وكلها صفات تدل على قابليته للظرفية والأينية ولاستواء أي أنه محل له مرتبة الأنوثة، صدرت عنه المحال وكل الموجودات، فهو أصل وعين الموجودات كما يعبر شيخ العارفين عن ذلك:
والعماء أول الأينيات ومنه ظهرت الظروف والمكانيات والمراتب فيمن لم يقبل المكان وقبل المكانة، ومنه ظهرت المحالُّ القابلة للمعاني الجسمانية حسًا وخيالاً، وهو موجود شريف الحق معناه وهو الحق المخلوق به كل موجود سوى الله، وهو المعنى الذي ثبتت فيه واستقرت [به] أعيان الممكنات، ويقبل حقيقة الأين وظرفية المكان ورتبة المكانة واسم المحلِّ…[37]
العماء أصل لكلِّ أشكال الموجودات دون أن يتميز بالحسية، وهو ظرف وجوهر دون أن يتَّسم بطابع المادية، فهو موجود معقول ظهرت فيه صور العالم كمعلومات، هذا لا ينفي أنه من صور الطبيعة، ليس الطبيعة بمعناها المادي بل الطبيعة كاستعداد للتكوين والولادة ورمز للأنوثة، أي الطبيعة الكلية كشيئية عامة ظهرت عنها المحالُّ والقوابل كظهور البنت عن الأم، كلاهما تتصف بالأنوثة رغم اختلاف مرتبتيهما:
… فلهذا سميناها طبيعة كما نسمي البنت والبنات والأم أنثى ونجمعها إناثًا… وهذه صورة العماء الذي هو الجسم الحقيقي العام الطبيعي الذي هو صورة من قوة الطبيعة تجلى لما يظهر فيه من الصور…[38]
فالتجلِّي يظهر من عالم الغيوب لما يتمتع به الباطن من استعداد للتكوين وذلك لأن هذا الأصل الشريف هو رحم كوني يشتمل في باطنه، كما يرىIzutsu ، على قوة محركة تدفع المطلق نحو الظهور[39]. يتخذ العماء صورة رحم كوني نظرًا لما يتمتع به من قابلية للتكوين والإيجاد، وكذلك لما يشترك فيه مع الرحم من وجود في ظلمة.
الظلمة برزخ ما بين قبل الوجود (الإمكان) وتحقق الوجود، وهي حالة يقتسمها الجنين مع المخلوقين قبل وجودهم الحسي، يقول صاحب الفتوحات:
… فإن المخلوقين غير موصوفين في تلك الظلمة بالعلم لأن الاتصاف بالعلم تابع للوجود وهم غير موجودين بل [هم] في شيئيتهم القابلة لقول التكوين، وجعل الظلمة ظرفًا للخلق… وإن كان قوله في ظلمة في موضع الحال من الخالق، فيكون المراد به العماء[40].
فجوهر العماء ظلمة كظرف للمخلوقين، ويربط ابن عربي هذه المرتبة بالآية: “يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق في ظلمات ثلاث” (39-6) والخلق تصوير رجوعها للآية: “هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء” (6-3)، وتقبل الأرحام التصوير لظلمتها[41]، والظلمة غيب[42] ومن هذا الغيب تظهر الصورة التي لا تقوم إلا في ظلمة مهيأة لقبولها، وتنتقل من الغيب إلى الشهادة بفعل تجلِّي النور.
قابلية العماء للتلقي تجعله رحم كوني ذا طبيعة معقولة، وبهذا المعنى فهو جوهر[43] يظهر فيه كل شيء في الكون[44] أي بمعنى الأصل – العين – الذي يحتوي على كل أنواع الموجودات ويحيط بها لشكله المستدير[45]، وترمز الاستدارة إلى شكل الرحم لتصير الاستدارة والميل أصلين لوجود الكون فـ: “الإيجاد لا يكون إلا عن انحراف وميل”[46]، وتدل الاستدارة على الأنوثة لما نجده في رمزية وجود حواء عن الضلع[47]، فالضلع يرمز إلى الانحناء والميل اللذان يحفظان ما ينطويان عليه، كما أن استدارة الرحم هي حنوٌّ وحفظ لما بباطنه، فتميز الرحم بالرحمة وتعلقًا ببعضهما، ويظهر تعلقهما هذا في فعل الإيجاد وعين الرحمة تتمثل في العماء[48]، فانطبعت الاستدارة الأصلية في كل شيء وعمت الرحمة الكون، يقول الشيخ الأكبر:
فلابد من الاستدارة، معنى وحسًا، ومن خلق العالم على الصورة أن خلقه مستدير الشكل، فانظر في حكمة الله، ولما كان المرجع إليه ليظهر الحنوُّ الذي صورته انحناء لذلك عمت رحمته جميع الموجودات ووسعت كل شيء[49].
تجلَّت الرحمة الإلهية عبر نفس الرحمن – الذي هو العماء – وكانت رحمة لأنها نفَّست عن كرب الممكنات بإزاحة العدم عنها:
فنفس الرحمان بنفسه هذا الحرج فأوجد [الممكن] فكان تنفيسه عنه إزالة حكم العدم فيه… فنفس الرحمن هو المعطي صور الممكنات الوجود…[50]
إعطاء الوجود ليس هو الخلق – كما تمت الإشارة إلى ذلك – وإنما هو إعطاء الممكنات الوعي بذاتها وبالآخر عبر الرؤية، ونفس الرحمن هو العماء من حيث هو “… ظهور الاسم الباطن والحكم الغيب وهو الظاهر والباطن…”[51]، فبالنفس يصير الباطن ظاهرًا[52] فيكون النفس هو أول غيب ظهر[53].
فعل التنفيس ينبع من عالم الغيب، وهو في ذاته تجلٍّ للعماء ونفخ وكلام ونور ينقل الصور من ظلمة اللاوجود والجهل إلى مقام الوجود والمعرفة، هذا الفعل يشبهه ابن عربي بحركة النفس – خلال الكلام – الذي ينتقل من الباطن إلى الظاهر “… نفس المتنفس لم يكن غير باطن المتنفس فصار النفس ظاهرًا”[54]. التنفس كفعل أصلي هو حركة في عالم الثبات تسمح بظهور الكثرة من قلب الوحدة[55]، والحركة فعل يقتسمه الفاعل والمنفعل لأن العماء تركيب معقول يتصف بكونه ظاهر وباطن، له مرتبة البرزخ بين الذات والعالم[56]، فالعماء من جهة قابليته وإمكانه واستعداده… هو أنوثة ومحل للفعل، وهو من جهة كونه نفس وفاعلية وتأثير بالنسبة للعالم هو ذكورة وربوبية.
فالعماء علاقة بنسبتين: “فيكون في القديم قديمًا وفي المحدث محدَّثا”[57] ويكون الممكن ممكنًا وفي الواجب واجبًا، فهو يجمع بين قطبية الوجود لأنه صورة عن الحب الأصلي. نفس الرحمن تنفيس ورحمة بمعنى أنه ارتياح من الكرب الداخلي وسببه الحب البدئي وما يترتب عنه من شوق وميل نحو المحبوب، يقول شيخ العارفين:
فلولا الحرج والضيق ما كان للنفس الرحماني حكم، فإن التنفيس هو إزالة عين الحرج والضيق، فالعدم نفس الحرج والضيق، فإنه يمكن أن يوجد هذا المعدوم، فإذا علم الممكن إمكانه وهو في حال العدم كان في كرب الشوق إلى الوجود الذي تعطيه حقيقته ليأخذ نصيبه من الخير[58].
يشكل الحب عند ابن عربي أساسًا للوجود، فالحب علاقة انجذاب بين فاعل ومنفعل، البين بينهما يولد الحرج والكرب والقرب منبع الإيجاد، لذا فالكون وجد عن الحب الأصلي الذي شكل قوة باطنية دفعت نفس الرحمن نحو الظهور[59]. يستند محيي الدين بن عربي، في تصوره للحب، على حديث قدسي: “كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني” ليبرز بأن المعرفة والحب يقترنان ببعضهما ليظهر عنهما فعل التنفيس أي الإيجاد؛ وفعل التنفيس كشف عن الكنز الخفيِّ ورحمة لأنه فرج عن الكرب الأصليِّ، من هذا المنطلق يتكلم كوربان عن الإله الودود الذي خلص الوجود المطلق من التفرد والجهل[60]. الإله الودود يزيل كرب الشوق ليحقق راحة المحبِّ[61] وذلك عبر توجهه نحو المحبوب (الكنز الخفيُّ) والتوجه – كتنفس – حركة عبرها تجلَّى العماء وظهر العالم، يقول شيخ المتصوفة:
وكان أصل ذلك [العماء] حكم الحب والحب له الحركة في المحب والنفس حركة شوقية لمن تعشَّق به وتعلق له عن ذلك التنفس لذة، فقد قال تعالى -كما ورد- كنت كنزًا لم أعرف، فأحببت أن أُعرف…، فبهذا الحب وقع التنفس فظهر النفس فكان العماء[62].
فالعماء من حيث هو ظلمة وغيب وباطن لا تظهر عنه صور الممكنات، فالغيب لا ينكشف [63] والإيجاد لا يكون عن الباطن، ومن حيث هو ظاهر ونفخ صدر عن أبخرة النفس [64]هو انجلاء وصقل لمرآة الوجود بفضل الحب، إن أن الحب هو صفاء العين، والحب لغويًا مشتق من الحب والحبب أي البياض والصفاء كنقيض للكدر[65]. فبفضل الحب المحرك لنفس الرحمن صقلت مرآة الوجود وظهر الكنز الخفيُّ.
يقول شيخ المتصوفة في الفص الأول من “فصوص الحكم:
وقد كان الحق سبحانه أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه، فكان كمرآة غير مجلوَّة. ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلاً إلا ويقبل روحًا إلهيًا عبر عنه بالنفخ فيه؛ وما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسوَّاة لقبول الفيض التجلِّي الدائم الذي لم يزل ولا يزال… فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة…[66]
جلاء مرآة الوجود يرجع إلى فعل التنفيس كحركة ارتياح ورحمة وذلك لقوة تأثير الحيِّ. وإذا سألنا: “من أين الحب؟” كما سأل الحكيم الترمذي، يجيب ابن عربي: “من تجلِّيه في اسمه الجميل”[67]، ويستمر صفحات بعد ذلك: “… فإن قلت وما الجمال؟ قلنا: نعوت الرحمة والألطاف من الحضرة الإلهية باسمه الجميل”[68].
الجمال لا ينعكس إلا عبر المرآة ويدفع نحو محبة الرؤية والظهور، والجمال من صفات الله، وبما أن الله أوجد العالم على صورته، فالصورة أي العالم تعكس الجمال الإلهي، يقول ابن عربي:
… إذ لم يكن في الوجود إلا هو، فلابد أن يكون [العالم] على صورته، فلما أظهره في عينه كان مجلاه، فما رأى فيه إلا جماله، فأحب الجمال، فالعالم جمال الله…[69]
فعبر صورة العالم ينعكس الجمال الإلهي[70] مما يولد حب الله للعالم، والحب فعل خيالي، فكان العماء تمثل أول في علم الله أو هو صورة الحب الإلهي، فظهر العالم على صورة أصله أي وجودًا خياليًا أو ظلاً للذات الإلهية إذ إن “كل ما سوى الحق – كما يرى ابن عربي – خيال حائل وظل زائل”[71].
فالعالم خيال لأن وجوده عن حضرة الخيال – العماء – التي تمثل مرتبة صورة الحق في المرآة[72]، فالصورة برزخ ما بين المرآة والمتجلي فلا هي هو ولا هي غيره، لذلك يصرح ابن عربي:
فمن هذه الحقيقة وجد العالم بوساطة الحقِّ تعالى وليست بموجودة فيكون الحق قد أوجدنا من موجود قديم فيثبت لنا القدم، وكذلك لتعلم أيضًا أن هذه الحقيقة لا تتصف بالتقدم عن العالم ولا العالم بالتأخر عنها، ولكنها أصل الموجودات عمومًا، وهي أصل الجوهر وفلك الحياة والحق المخلوق به، وغير ذلك، وهي الفلك المحيط المعقول، فإن قلت أنها العالم صدقت أو أنها ليست العالم صدقت أو أنها الحق أو ليست الحق صدقت، تقبل هذا كله وتتعدد بتعدد أشخاص العالم وتتنزه بتنزيه الحقِّ…[73].
حقيقة الخيال هي قبول صورة المتجلي، وتتميز هذه الصور بالتبدل والانتقال من حال إلى آخر[74]، مما يجعل خاصية الصور التغير والاختلاف لأن: “الصور هي المتخيلات والعماء الظاهر فيه هو الخيال”[75]. اختلاف الصور هو تعبير عن تجدد الخلق لأن التجلي دائم والقبول لامنقطع والعالم بينهما نكاح مستمر بين محل وحال، يشير صاحب الفتوحات إلى هذه العلاقة بقوله:
ومعلوم أنه ما تمَّ إلا من يقبل اللون مثلاً واللون فما هو المتلون، وما تمَّ إلا من يقبل الحياة والحياة فما هو الحي، وما تمَّ إلا من يقبل الحركة والحركة فما هو المتحرك…[76]
الوجود كمحلٍّ (مبدأ الأنوثة) وحالٍّ (مبدأ الذكورة) يفقد طابعه المادي ليتَّسم بالطابع الخيالي لأنه وجود في مرآة.
حضور المرآة في فكر ابن عربي يتعلق بطرحه لمسألة الأنوثة على المستوى الأنطولوجي، فالمرآة ارتبطت، عبر تاريخ البشرية، بالمرأة والجمال والحب والخيال…، وكل هذه العناصر جعلها الفكر السائد تقترن بعالم الطبيعة والانفعال والزوال… والأنوثة، فاحتلت في إطار التفكير الفلسفي، الذي مجد التجريد والتأمل لذاته، مرتبة النقص والتبعية على أساس أفضلية الفاعل بالنسبة للمنفعل. فاستمد ابن عربي المقولات المتداولة (كالفاعل والمنفعل) ليعيد بناءها على أساس إلغاء الأفضلية والتراتبية، وليعتمد على مبدأ التثليث بدل مبدأ الهوية وعوض التأمل سينطلق من علم النكاح ومحل العقل سيستند على الحب كأصل للمعرفة والإيجاد، وذلك لأن التصور الأكبري – على المستوى الأنطولوجي – يتأسس على حضور مبدأي الأنوثة والذكورة. وإذا ركزت هذه المقاربة على الأنوثة فلأنها تناولت حضرة من حضرات الوجود ترجع الفعالية فيها إلى الأنوثة، لتظهر الزوجية مع أول مراتب الوجود وهي مرتبة الربوبية.
*** *** ***
[1] الفتوحات المكية، ابن عربي، دار الباز، الجزء 1، ص 3-2.
[2] ف، ج 4، ص 43.
[3] هذا التقابل لا يتعلق بذات الحق بل بأسمائه المتعارضة والمتقابلة، ويتمثل عبر الحضرة الثالثة من حضرات الوجود وأول مراتبه.
[4] L’Imagination Créatrice dans le soufisme d’Ibn Arabi, (Corbin Henry), 2ed., Paris 1977, p 88.
[5] ف. ج 3، ص 87، وص 90
[6] ف. ج 2، ص 75-74
[7] ف. ج 3، ص 380
[8] The Mystical Philosophy of Muhyid-din Ibnu Arabi, Ed. A.M.S Press, New York 1974, p.41
[9] Un Océan Sans Rivage, Michel Chodkiewiez; Ed. Seuil, Paris, p.154
[10] The Sufi Path of knowledge “Ibn Arabi’s Metaphysics of Imagination”, William C.Chittick, State University of New York Press, p.83.
[11] ف. ج 3، ص 39
[12] The Sufi Path of k., p.83
[13] نفس المرجع، ص 135
[14] ف. ج 2، ص 94
[15] ف. ج 1، ص 732
[16] فصوص الحكم، ابن عربي، نشر دار الفكر العربي، ص 9-48
[17] دلالة الأخير والآخر تلتقي مع اسم نساء، فلفظ نساء مشتق من نسيء وهو المتأخر والآخر
[18] The Mystical Philo. P.48
[19] الكتاب التذكاري، ص 217-216
[20] ف. ج 4، ص 312
[21] The Sufi Path of k., p.84
[22] The Mystical Philo. P.53
[23] ف. ج 3، ص 63.
[24] ف. ج 2، ص 403، 395
[25] ف. ج 2، ص 391
[26] ف. ج 2، ص 310
[27] ف. ج 3، ص 430و452
[28] ف. ج 2، ص 403
[29] ف. ج 3، ص 420
[30] ف. ج 2، ص 391
[31] ف. ج 3، ص 452
[32] ف. ج 2، ص 395، 391
[33] ف. ج 2، ص 310
[34] ف. ج 3، ص 430
[35] ف. ج 2، ص 174
[36] ف. ج 3، ص 420
[37] ف. ج 2، ص 283
[38] ف. ج 3، ص 420
[39] Unicité de l’Existence et Création Perpétuelle en Mystique Islamique, Izutsu Toshihiko, Trad/ de l’anglais: Marie Charlotte Grandry, Ed. Les deux océans, p.77
[40] ف. ج 2، ص 62
[41] ف. ج 2، ص 65
[42] ف. ج 3، ص 431
[43] ف. ج 3، ص 430، لا يستعمل ابن عربي مقولة جوهر بالمعنى المتداول عند المتكلمين، فالجوهر ليس بمادة ويخضع للتبدل والتعير مثله مثل العرض
[45] ف. ج 3، ص 420
[46] ف. ج 3، ص 93
[47] ف. ج 3، ص 119، لا آية في القرآن تصرح بأن حواء وجدت عن الضلع، ولا وجود لكلمة ضلع في النص المقدس، واستعمال كلمة ضلع في الخطاب الأكبري يدل على الاستدارة المقترنة بمبدأ الأنوثة مقابل قيومية الذكورة
[48]ف. ج 3، ص 430
[49] ف. ج 3، ص 119
[50] ف. ج 2، ص 459
[51] ف. ج 2، ص 403
[52] ف. ج 2، ص 396
[53] ف. ج 3، ص 420
[54]ف. ج 3، ص 396
[55] ف. ج 3، ص 392
[56] Imag. Créat. P.167
[57] ف. ج 2، ص 63
[58] ف. ج 3، ص 459
[59] ف. ج 2، ص 402
[60] Imag. Créat. P.95
[61] ف. ج 2، ص 356
[62] ف. ج 2، ص 310
[63] ف. ج 3، ص 431
[64] ف. ج 2، ص 310
[65] لسان العرب، ابن منظور
[66] الفصوص، ص 49
[67] ف. ج 2، ص 114
[68] ف. ج 2، ص 133
[69] ف. ج 2، ص 45، 542
[70] ف. ج 3، ص 449
[71] ف. ج 2، ص 313
[72] ف. ج 2، ص 312
[73] ف. ج 1، ص 119
[74] ف. ج 3، ص 313
[75] ف. ج 2، ص 311
[76] ف. ج 4، ص 411
(منقول).
تحضر هذه المسألة في الفكر السابق عن ابن عربي دون الإعلان عنها لتتخذ مع صاحب الفتوحات طابعها المعرفيَّ بشكل صريح؛ فيخترق الزوج المفاهيميُّ – الأنوثة/الذكورة – الفكر الأكبري على المستوى الأنطولوجي والكسمولوجي والأنثروبولوجي والمعرفي واللغوي… ويحضر بشكل واسع وعميق إلى حد يمكن اعتبار هذا الخطاب هو خطاب أنوثة. المؤشر على صحة هذه الفرضية ما يرمز إليه ابن عربي في الصفحة الأولى من صفحات الفتوحات حينما يعرض لمناسبة كتابته لمؤلفه، وهي مشاهدته القلبية للنبي والصحابة والأنبياء محيطين بمجلسه، وحين يصل إلى ذكر النبى يقول:
… والختم بين يديه قد جثى يخبره بحديث الأنثى […] فرآني وراء الختم لاشتراك بيني وبينه في الحكم…[1]
الاشتراك بينهما في الحكم يتمثل في كون النبى ختم للنبوة العامة وابن عربي ختم للولاية، لكن يمكن اعتبار أن الإشارة تتعلق بمسألة الأنوثة لما نستوحيه من تصريحه: “يخبره بحديث الأنثى”.
الاعتراف بالأنوثة والذكورة كقطبية تميز الوجود هو في ذاته إعادة النظر في مبادئ الفكر العقلاني والفقهي (مبدأ الهوية، الخلق من عدم…) مما دفع ابن عربي إلى اعتماد مبادئ (مبدأ التثليث، الرؤية، الحي…) تسمح بقبول قضية ونقيضها، فتتعدد الدلالات المتعلقة بنفس الموجود وتتقابل لتثير حيرة الفكر، لكن الحيرة في هذا الطريق هي عين الصواب وهي السبيل إلى معرفة العالم نظرًا لطابعه الخيالي[2].
خطاب من هذا النوع لا يمكن إلا أن يرفض من طرف الفكر المعبر عن سلطة المجتمع المبنية على القيم الذكورية، مما تطلب من صاحب الفتوحات اعتماد صيغ لغوية ودلالية بالغة التعقيد تجعل المعنى يقاوم الظهور، ويختفي خلف الإشارة والتلميح والترحال ما بين الظاهر والباطن، مما يضفي على الخطاب الأكبري طابع الرمزية ويصير التأويل الطريقَ لفكِّ بعض ألغاز هذه الرمزية.
تفكيك الرمزية والكشف عن المعنى يستدعي استخدام المنهج السيميائي بما أن الوصول إلى المعنى يمر عبر معنى آخر، وغالبًا ما نجد أن المعنى يقبل ألفاظًا مختلفة وأحيانًا متقابلة، فتتوارى الدلالة أو الدلالات خلف ظاهر الكلمة ويقتضي بلوغ باطنها مراعاة الاشتقاقات اللغوية والاستعمالات الاصطلاحية وسياق الخطاب الذي ورد فيه المفهوم دون إغفال المرجعيات الماقبل أكبرية ومقارنة الدلالات للفصل فيها حسب ما ترجحه قضايا أخرى في فكر ابن عربي.
ينطلق الشيخ الأكبر من أنه لا يوجد – في الوجود – إلا الحقُّ وأعيانه وصوره، والعالم هو صور الحق المنعكسة في مرآة الوجود، وتحمل الصورة سمات المتجلي، فما يطبع الصورة أي الموجودات الكونية يجد أصله في الوجود الإلهي كما هو شأن الرحمة والجبروت، الجمال والجلال، الوحدة والكثرة، القدم والحدوث، الأنوثة والذكورة[3].
للدلالة على الأنوثة والذكورة يستخدم شيخ المتصوفة أزواج من المفاهيم (فاعل/منفعل، مؤثر/مؤثر فيه، بسيط/مركب، أصل/فرع، جمع/فرق…) تتداولها منظومات فكرية مختلفة (فلسفة، علم الكلام، فقه، تصوف…) ليعيد صياغتها حسب تصوره الخاص.
يقوم التصور العرفاني لابن عربي على اعترافه بحضور الأنوثة والذكورة عبر كل فعل من منطلق كونهما منفعل/فاعل، يقول في الجزء الأول من “الفتوحات (ص 507):
فإن كل منفعل فرتبته رتبة الأنثى وما تم إلا منفعل، والفعل مقسم على الحقيقة بين الفاعل والمنفعل، فمن الفاعل الاقتدار ومن المنفعل القبول للاقتدار فيه.
الإلقاء من طرف الذكورة والتلقِّي من جهة الأنوثة حالين عبرهما يظهر التمايز والفرق ويعبران عن وجودهما كعلاقة ذات وجهين، هذه العلاقة لا تربط بين موجودين متقابلين بل هي علاقة ذات أبعاد متعددة متشابكة: فهي علاقة داخلية/خارجية، كلية/جزئية، معنوية/حسية، كونية/أنطولوجية…، علاقة تقوم كتعاطف وانجذاب بين وجهي القطبية المكونة لكل موجود. فالفعل والانفعال يتجاوران داخل كل كائن؛ إذ إن كل موجود، كيفما كانت طبيعته: مادية أو معقولة أو خيالية…، فله وجهين أو نسبتين، فهو فاعل/منفعل غبر نفس الفعل، أي أن كل موجود هو ذكر وأنثى، وذكورته كأنوثته (أي رتبته) تتغير حسب موقعه من الفعل أي حسب وظيفتي الفاعلية والانفعالية، لذا يتكلم كوربان عن جدلية الفاعل والمنفعل[4] التي يمكن تشبيهها بعلاقة استنشاق النفس بزفيره.
تتحدد الفاعلية والانفعالية كعلاقة أو نسبة، والنسب ليست من حقائق الكائن لأنها مجرد أعراض، يقول ابن عربي:
الذكورية والأنوثية إنما هما عرضان ليستا من حقائق الإنسانية…
ونظرًا لكون العرض يفنى في الزمن الثاني لوجوده أي يتميز بالتحوُّل والزوال فالذكورة والأنوثة كعرضين يتصفان بالتبدل والتجدد داخل نفس الموجود وبذلك ينتمي هذين العرضين إلى علم الأحوال حيث يحكم التبدل والتلوين بفعل تجدد الخلق، ويرجع هذا التجدد إلى التجلي الدائم اللامنقطع وإلى استعدادات الممكنات لقبول التجلي، فتتوالى الصور عبر تجددها.
صور العالم كآثار للمتجلي وانعكاس لصورته هي ذات طبيعة انفعالية لذا يصرح ابن عربي: “وما تمَّ إلا منفعل”، إذ إن كل ما سوى الله فهو منفعل أي محل يتميز بالاستعداد للتلقي والتأثر، فتسري الأنوثة – كمبدأ – في الكون باعتباره محلاً لفعل الحق.
المحلُّ تسمية تخصُّ كل ما تغلب عليه الأنوثة لما يتمتع به من استعداد وقابلية وإمكان ليحتل المرتبة التي ترجع إلى المرأة، يقول شيخ العارفين:
وأشبهت المرأة الطبيعة من كونها محلاً للانفعال فيها وليس للرجل ذلك، فإن الرجل يلقي الماء في الرحم لا غير. والرحم محل التكوين والخلق، فتظهر أعيان ذلك النوع في الأنثى لقبولها التكوين…[5]
الاستعداد للقبول خاصية ذاتية تميز المحلَّ وبفعل هذه الخاصية وجد الكون لأن كل الموجودات هي قوابل ومحالٌّ باستثناء الله، يقول الشيخ الأكبر:
(…) وليس [تعالى] بمحلٍّ للحوادث بل الأعيان محلُّ الحوادث، وهو عين الحوادث عليها، فإنها محالُّ ظهوره (…) فما هو لنا بأين ونحن له أين، فمن لا أينية له هو نحن، فأعياننا أين لظهور…[6]
قول ابن عربي بأن المحلَّ أين لا يعني أنه مكان، بل هو أين لأنه يتطلب التوجه، والتوجه نكاح أي فعل يقوم ما بين التأثير والتلقي، لكن تأثير الذكورة لا يفارق عالم الباطن وحين يظهر يكون ظهوره مرتبة أخرى لتجليه “فإنها محالُّ ظهوره”، فانكشاف تأثير الذكورة يتم عبر المحلِّ، لذا فإن المحلَّ قابل، يتلقى الصورة ويعكسها حسب استعداده ليتعلق المحلُّ بالعين: “بل الأعيان محلُّ الحوادث” وميزة العين هي الرؤية وخاصية المحلُّ هي تلقي أثر المتجلي أي أثره أو صورته، مما يجعل من المحلِّ مرآة وموضوع للرؤية[7].
الرؤية كعلاقة بين المرآة والمتجلي وصورته هي أساس الإيجاد، ويتطلب هذا الإيجاد محلاً أصليًا يقبل تجلي الوجود المطلق ويتمثل في الأعيان الثابتة. يعتبر ابن عربي أول من استعمل اصطلاح أعيان ثابتة بمعنى الحقائق الباطنية للأشياء[8] أو حسب شودكيفيتس “المثل الأزلية للأشياء”[9]، وعين في العربية واسعة التداول تدل على المماثل وذات الشيء وعلى الخصوصية والتمييز[10] والمنبع وحاسة النظر والحقيقة، وتبرز خصوصية الشيخ الأكبر في تركيبه بين عين وثبوت، لتدل الأعيان الثابتة على مقام السكون والثبوت والاستعداد والإمكان. كما أن الشيخ الأكبر يربط بين عين وقدم باعتبار رتبتها كموضوع أو مجلى لرؤية الحق لذاته، يقول:
(…) رؤية الحق في القدم أعيانا أحوالهم العدم، يميزهم بأعيانهم في تلك الحال لا تفصيل حدود بل تفصيل رؤية الموجود[11]
الحق يرى الأعيان الثابتة رؤية كلية، معقولة…، تضم مجموع الأعيان دون فرق، وهي رؤية تكشف ما تصير إليه كل عين من تمايز، لأن العين بالنسبة للكناوي تعني: وجود أو ما تصير إليه ذات[12]، وتتحدد حقيقة الأعيان كموضوع لرؤية الحق لذاته[13] أو مرآة تقبل صورة الحق الواحدة لتعكسها متعددة حسب استعداداتها، فالأعيان هي مجلى الحق ومظاهر وجوده”. “فالأعيان – كما يقول – لولا ما تستحق أن تكون مظاهر الحق فيها”[14] والمظهر أو المجلى هو ما يكشف الصورة ويظهرها لذات المتجلِّي.
وتمثل الأعيان الثابتة أول تجلي للحق لذاته عبر فيضه الأقدس، وهذا التعين الأول لا يخلق الأعيان بل يوجدها بمعنى يخلق لديها الوعي والإدراك بنفسها من خلال الرؤية المشتركة بينها وبين الحق، فهذه الرؤية هي ذاتها إيجاد وتجلِّي النور الإلهي:
فيتجلى تعالى للأشياء التي يريد إيجادها في حال عدمها في اسمه النور تعالى، فينفهق على تلك الأعيان أنوار هذا التجلي، فتستعد به لقبول الإيجاد استعداد الجنين في بطن أمه في رابع الأشهر من حمله لنفخ الروح فيه، فيقول له عند هذا الاستعداد كن فيكون في حينه من غير تثبُّط[15].
التجلِّي رؤية ونفخ وقول وتوجه… وكلها تدل – في الخطاب الأكبري – على النكاح كعلاقة بين فاعل/منفعل، لكن المحلَّ، بتأثير استعداده على الإيجاد، يصير فاعلاً ومنفعلاً أي ذا طبيعة تركيبية، فيتحدد كآخر يتميز عن الفاعل (البسيط).
فتتخذ الأعيان الثابتة رتبة الغير، هذه الغيرية تسمح بقيام الرؤية بين وجهي الوجود، يوضح الشيخ الأكبر هذه العلاقة عبر الفص الأول من فصوص الحكم:
فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل المنظور فيه ولا تجليه له[16].
الأعيان الثابتة كمرآة بدئية لها رتبة الآخر (بكسر الخاء) إذ تلي الذات الإلهية وللآخر دلالة الآخر (بفتح الخاء) – لهما نفس الاشتقاق اللغوي – ويحتل هنا الآخر رتبة العين التي تعكس صورة الذات، والعين مرآة وإمكان لما تتمتع به من استعداد وقابلية، وبهذه الخصائص تمثل وجه الوجود الآخر المقابل للوجوب[17].
وجه الوجود الآخر – مقابل الذات – ينعته شيخ المتصوفة بأنه معدوم، إلا أنه لا يعني بأن لا حقيقة له، فما يقصده أنه لا وجود للأعيان الثابتة خارج الذات الإلهية، فهي كصور لحقائق العلم الإلهي أو كمعلومات تقوم في العلم الإلهي[18] ولها الثبوت والقدم، فلا ترتدي حلَّة الوجود الخارجي عن المطلق لأنها أعيان الحق اللانهائية، تظل باطنة في عالم الغيوب[19] لا تغادر ثبوتها: “لأن عين الممكن – كما يقول ابن عربي – ما زال في شيئية ثبوته، ما له وجود وإنما ذلك حكم عينه في الوجود الحق”[20]، من هذا الوجه تقبل الأعيان الثابتة اسم الشيء الذي أمره الحق بالوجود.
مظاهر الحق أو العالم يمثل أحكام الأعيان الثابتة أي آثار استعدادها لقبول صورة الحق ومن هذه الناحية تختلف هذه الأعيان عن الموجودات الحسية من حيث أن الأولى معدومة في العالم الحسي والثانية موجودة فيه ومن ناحية أخرى وكما يرى ويليام شيتيك بأنه لا فرق بين الأعيان الثابتة القائمة في العلم الإلهي والموجودات الكونية لأنهما يرجعان إلى نفس الحقيقة والأصل[21]، كما أنهما يشتركان في القابلية والاستعداد والإمكان أي يشتركان في مرتبة الأنوثة، مما يجعل الأصل والفرع أنوثة في التصور الأكبري للوجود.
لكن الأعيان الثابتة المنفعلة عن الذات الإلهية والمنفعلة باستعدادها وإمكانها… هي في نفس الوقت فاعلة باستعدادها لتجلِّي أحكامها[22] وفاعلة بالنسبة لما يصدر عنها من موجودات أي لها مرتبة الذكورة بالنسبة للحضرة الثالثة من حضرات الوجود وهي العماء.
يورد ابن عربي بخصوص العماء حديث حيث سئل النبي: “أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟ فقال: كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء”[23].
العماء في الخطاب الأكبري يدل على نفس الرحمن[24] وهو الحق المخلوق به[25] الخيال المطلق[26] وعين الرحمة وجوهر العالم[27].
ويمثل العماء التجلِّي المقدس للذات الإلهية – بعد التجلِّي الأقدس – وباطن الألوهة كتجلِّي للباطن وللغيب[28]، فظهر كحضرة ثالثة من حضرات الوجود [الذات، الأعيان الثابتة، العماء] وعمر الخلاء كله، فشكل ظرفًا للحق ومكانًا للعالم، فوقه للحق وهو مستوى الرب[29] وتحته للخلق[30] كمظاهر للحق.
فالعماء برزخ بين الذات والعالم وبين الذات والأعيان الثابتة التي تقوم كمرآة تعكس صورة الحق المتجلِّي، هذه الصورة – أو الصور المتعددة بتعدد استعدادات الأعيان – تمثل حضرة ثالثة تفصل وتجمع بين الناظر وموضوع رؤيته لذاته؛ فالعماء كبرزخ ليس المرآة وليس المتجلي ويجمع بينهما باعتباره حضرة الصور وجوهر للعالم، يقول شيخ العارفين:
إن جوهر العالم هو النفس الرحماني الذي ظهرت فيه صور العالم[31].
فالعماء يعكس صور العالم التي هي صورة المتجلي المتكاثرة بتكاثر الأعيان أو المرايا المتميزة بقبولها لتلقي الصورة، يفصح الشيخ العارف:
النفس… هو العماء القابل لفتح صور العالم فيه…[32]
فتأتي مرتبة العماء كعلاقة أو برزخ ما بين المرآة والمتجلي أي كصورة للوجود أو خيال مطلق: “ثم اعلم -يقول ابن عربي- بعد هذا أن حقيقة الخيال المطلق هو المسمى بالعماء الذي هو أول ظرف قبل كينونة الحق”[33].
فالعماء ظرف للحق[34] وأين له[35] ومستوى الاسم الرب[36]، وكلها صفات تدل على قابليته للظرفية والأينية ولاستواء أي أنه محل له مرتبة الأنوثة، صدرت عنه المحال وكل الموجودات، فهو أصل وعين الموجودات كما يعبر شيخ العارفين عن ذلك:
والعماء أول الأينيات ومنه ظهرت الظروف والمكانيات والمراتب فيمن لم يقبل المكان وقبل المكانة، ومنه ظهرت المحالُّ القابلة للمعاني الجسمانية حسًا وخيالاً، وهو موجود شريف الحق معناه وهو الحق المخلوق به كل موجود سوى الله، وهو المعنى الذي ثبتت فيه واستقرت [به] أعيان الممكنات، ويقبل حقيقة الأين وظرفية المكان ورتبة المكانة واسم المحلِّ…[37]
العماء أصل لكلِّ أشكال الموجودات دون أن يتميز بالحسية، وهو ظرف وجوهر دون أن يتَّسم بطابع المادية، فهو موجود معقول ظهرت فيه صور العالم كمعلومات، هذا لا ينفي أنه من صور الطبيعة، ليس الطبيعة بمعناها المادي بل الطبيعة كاستعداد للتكوين والولادة ورمز للأنوثة، أي الطبيعة الكلية كشيئية عامة ظهرت عنها المحالُّ والقوابل كظهور البنت عن الأم، كلاهما تتصف بالأنوثة رغم اختلاف مرتبتيهما:
… فلهذا سميناها طبيعة كما نسمي البنت والبنات والأم أنثى ونجمعها إناثًا… وهذه صورة العماء الذي هو الجسم الحقيقي العام الطبيعي الذي هو صورة من قوة الطبيعة تجلى لما يظهر فيه من الصور…[38]
فالتجلِّي يظهر من عالم الغيوب لما يتمتع به الباطن من استعداد للتكوين وذلك لأن هذا الأصل الشريف هو رحم كوني يشتمل في باطنه، كما يرىIzutsu ، على قوة محركة تدفع المطلق نحو الظهور[39]. يتخذ العماء صورة رحم كوني نظرًا لما يتمتع به من قابلية للتكوين والإيجاد، وكذلك لما يشترك فيه مع الرحم من وجود في ظلمة.
الظلمة برزخ ما بين قبل الوجود (الإمكان) وتحقق الوجود، وهي حالة يقتسمها الجنين مع المخلوقين قبل وجودهم الحسي، يقول صاحب الفتوحات:
… فإن المخلوقين غير موصوفين في تلك الظلمة بالعلم لأن الاتصاف بالعلم تابع للوجود وهم غير موجودين بل [هم] في شيئيتهم القابلة لقول التكوين، وجعل الظلمة ظرفًا للخلق… وإن كان قوله في ظلمة في موضع الحال من الخالق، فيكون المراد به العماء[40].
فجوهر العماء ظلمة كظرف للمخلوقين، ويربط ابن عربي هذه المرتبة بالآية: “يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق في ظلمات ثلاث” (39-6) والخلق تصوير رجوعها للآية: “هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء” (6-3)، وتقبل الأرحام التصوير لظلمتها[41]، والظلمة غيب[42] ومن هذا الغيب تظهر الصورة التي لا تقوم إلا في ظلمة مهيأة لقبولها، وتنتقل من الغيب إلى الشهادة بفعل تجلِّي النور.
قابلية العماء للتلقي تجعله رحم كوني ذا طبيعة معقولة، وبهذا المعنى فهو جوهر[43] يظهر فيه كل شيء في الكون[44] أي بمعنى الأصل – العين – الذي يحتوي على كل أنواع الموجودات ويحيط بها لشكله المستدير[45]، وترمز الاستدارة إلى شكل الرحم لتصير الاستدارة والميل أصلين لوجود الكون فـ: “الإيجاد لا يكون إلا عن انحراف وميل”[46]، وتدل الاستدارة على الأنوثة لما نجده في رمزية وجود حواء عن الضلع[47]، فالضلع يرمز إلى الانحناء والميل اللذان يحفظان ما ينطويان عليه، كما أن استدارة الرحم هي حنوٌّ وحفظ لما بباطنه، فتميز الرحم بالرحمة وتعلقًا ببعضهما، ويظهر تعلقهما هذا في فعل الإيجاد وعين الرحمة تتمثل في العماء[48]، فانطبعت الاستدارة الأصلية في كل شيء وعمت الرحمة الكون، يقول الشيخ الأكبر:
فلابد من الاستدارة، معنى وحسًا، ومن خلق العالم على الصورة أن خلقه مستدير الشكل، فانظر في حكمة الله، ولما كان المرجع إليه ليظهر الحنوُّ الذي صورته انحناء لذلك عمت رحمته جميع الموجودات ووسعت كل شيء[49].
تجلَّت الرحمة الإلهية عبر نفس الرحمن – الذي هو العماء – وكانت رحمة لأنها نفَّست عن كرب الممكنات بإزاحة العدم عنها:
فنفس الرحمان بنفسه هذا الحرج فأوجد [الممكن] فكان تنفيسه عنه إزالة حكم العدم فيه… فنفس الرحمن هو المعطي صور الممكنات الوجود…[50]
إعطاء الوجود ليس هو الخلق – كما تمت الإشارة إلى ذلك – وإنما هو إعطاء الممكنات الوعي بذاتها وبالآخر عبر الرؤية، ونفس الرحمن هو العماء من حيث هو “… ظهور الاسم الباطن والحكم الغيب وهو الظاهر والباطن…”[51]، فبالنفس يصير الباطن ظاهرًا[52] فيكون النفس هو أول غيب ظهر[53].
فعل التنفيس ينبع من عالم الغيب، وهو في ذاته تجلٍّ للعماء ونفخ وكلام ونور ينقل الصور من ظلمة اللاوجود والجهل إلى مقام الوجود والمعرفة، هذا الفعل يشبهه ابن عربي بحركة النفس – خلال الكلام – الذي ينتقل من الباطن إلى الظاهر “… نفس المتنفس لم يكن غير باطن المتنفس فصار النفس ظاهرًا”[54]. التنفس كفعل أصلي هو حركة في عالم الثبات تسمح بظهور الكثرة من قلب الوحدة[55]، والحركة فعل يقتسمه الفاعل والمنفعل لأن العماء تركيب معقول يتصف بكونه ظاهر وباطن، له مرتبة البرزخ بين الذات والعالم[56]، فالعماء من جهة قابليته وإمكانه واستعداده… هو أنوثة ومحل للفعل، وهو من جهة كونه نفس وفاعلية وتأثير بالنسبة للعالم هو ذكورة وربوبية.
فالعماء علاقة بنسبتين: “فيكون في القديم قديمًا وفي المحدث محدَّثا”[57] ويكون الممكن ممكنًا وفي الواجب واجبًا، فهو يجمع بين قطبية الوجود لأنه صورة عن الحب الأصلي. نفس الرحمن تنفيس ورحمة بمعنى أنه ارتياح من الكرب الداخلي وسببه الحب البدئي وما يترتب عنه من شوق وميل نحو المحبوب، يقول شيخ العارفين:
فلولا الحرج والضيق ما كان للنفس الرحماني حكم، فإن التنفيس هو إزالة عين الحرج والضيق، فالعدم نفس الحرج والضيق، فإنه يمكن أن يوجد هذا المعدوم، فإذا علم الممكن إمكانه وهو في حال العدم كان في كرب الشوق إلى الوجود الذي تعطيه حقيقته ليأخذ نصيبه من الخير[58].
يشكل الحب عند ابن عربي أساسًا للوجود، فالحب علاقة انجذاب بين فاعل ومنفعل، البين بينهما يولد الحرج والكرب والقرب منبع الإيجاد، لذا فالكون وجد عن الحب الأصلي الذي شكل قوة باطنية دفعت نفس الرحمن نحو الظهور[59]. يستند محيي الدين بن عربي، في تصوره للحب، على حديث قدسي: “كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني” ليبرز بأن المعرفة والحب يقترنان ببعضهما ليظهر عنهما فعل التنفيس أي الإيجاد؛ وفعل التنفيس كشف عن الكنز الخفيِّ ورحمة لأنه فرج عن الكرب الأصليِّ، من هذا المنطلق يتكلم كوربان عن الإله الودود الذي خلص الوجود المطلق من التفرد والجهل[60]. الإله الودود يزيل كرب الشوق ليحقق راحة المحبِّ[61] وذلك عبر توجهه نحو المحبوب (الكنز الخفيُّ) والتوجه – كتنفس – حركة عبرها تجلَّى العماء وظهر العالم، يقول شيخ المتصوفة:
وكان أصل ذلك [العماء] حكم الحب والحب له الحركة في المحب والنفس حركة شوقية لمن تعشَّق به وتعلق له عن ذلك التنفس لذة، فقد قال تعالى -كما ورد- كنت كنزًا لم أعرف، فأحببت أن أُعرف…، فبهذا الحب وقع التنفس فظهر النفس فكان العماء[62].
فالعماء من حيث هو ظلمة وغيب وباطن لا تظهر عنه صور الممكنات، فالغيب لا ينكشف [63] والإيجاد لا يكون عن الباطن، ومن حيث هو ظاهر ونفخ صدر عن أبخرة النفس [64]هو انجلاء وصقل لمرآة الوجود بفضل الحب، إن أن الحب هو صفاء العين، والحب لغويًا مشتق من الحب والحبب أي البياض والصفاء كنقيض للكدر[65]. فبفضل الحب المحرك لنفس الرحمن صقلت مرآة الوجود وظهر الكنز الخفيُّ.
يقول شيخ المتصوفة في الفص الأول من “فصوص الحكم:
وقد كان الحق سبحانه أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه، فكان كمرآة غير مجلوَّة. ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلاً إلا ويقبل روحًا إلهيًا عبر عنه بالنفخ فيه؛ وما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسوَّاة لقبول الفيض التجلِّي الدائم الذي لم يزل ولا يزال… فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة…[66]
جلاء مرآة الوجود يرجع إلى فعل التنفيس كحركة ارتياح ورحمة وذلك لقوة تأثير الحيِّ. وإذا سألنا: “من أين الحب؟” كما سأل الحكيم الترمذي، يجيب ابن عربي: “من تجلِّيه في اسمه الجميل”[67]، ويستمر صفحات بعد ذلك: “… فإن قلت وما الجمال؟ قلنا: نعوت الرحمة والألطاف من الحضرة الإلهية باسمه الجميل”[68].
الجمال لا ينعكس إلا عبر المرآة ويدفع نحو محبة الرؤية والظهور، والجمال من صفات الله، وبما أن الله أوجد العالم على صورته، فالصورة أي العالم تعكس الجمال الإلهي، يقول ابن عربي:
… إذ لم يكن في الوجود إلا هو، فلابد أن يكون [العالم] على صورته، فلما أظهره في عينه كان مجلاه، فما رأى فيه إلا جماله، فأحب الجمال، فالعالم جمال الله…[69]
فعبر صورة العالم ينعكس الجمال الإلهي[70] مما يولد حب الله للعالم، والحب فعل خيالي، فكان العماء تمثل أول في علم الله أو هو صورة الحب الإلهي، فظهر العالم على صورة أصله أي وجودًا خياليًا أو ظلاً للذات الإلهية إذ إن “كل ما سوى الحق – كما يرى ابن عربي – خيال حائل وظل زائل”[71].
فالعالم خيال لأن وجوده عن حضرة الخيال – العماء – التي تمثل مرتبة صورة الحق في المرآة[72]، فالصورة برزخ ما بين المرآة والمتجلي فلا هي هو ولا هي غيره، لذلك يصرح ابن عربي:
فمن هذه الحقيقة وجد العالم بوساطة الحقِّ تعالى وليست بموجودة فيكون الحق قد أوجدنا من موجود قديم فيثبت لنا القدم، وكذلك لتعلم أيضًا أن هذه الحقيقة لا تتصف بالتقدم عن العالم ولا العالم بالتأخر عنها، ولكنها أصل الموجودات عمومًا، وهي أصل الجوهر وفلك الحياة والحق المخلوق به، وغير ذلك، وهي الفلك المحيط المعقول، فإن قلت أنها العالم صدقت أو أنها ليست العالم صدقت أو أنها الحق أو ليست الحق صدقت، تقبل هذا كله وتتعدد بتعدد أشخاص العالم وتتنزه بتنزيه الحقِّ…[73].
حقيقة الخيال هي قبول صورة المتجلي، وتتميز هذه الصور بالتبدل والانتقال من حال إلى آخر[74]، مما يجعل خاصية الصور التغير والاختلاف لأن: “الصور هي المتخيلات والعماء الظاهر فيه هو الخيال”[75]. اختلاف الصور هو تعبير عن تجدد الخلق لأن التجلي دائم والقبول لامنقطع والعالم بينهما نكاح مستمر بين محل وحال، يشير صاحب الفتوحات إلى هذه العلاقة بقوله:
ومعلوم أنه ما تمَّ إلا من يقبل اللون مثلاً واللون فما هو المتلون، وما تمَّ إلا من يقبل الحياة والحياة فما هو الحي، وما تمَّ إلا من يقبل الحركة والحركة فما هو المتحرك…[76]
الوجود كمحلٍّ (مبدأ الأنوثة) وحالٍّ (مبدأ الذكورة) يفقد طابعه المادي ليتَّسم بالطابع الخيالي لأنه وجود في مرآة.
حضور المرآة في فكر ابن عربي يتعلق بطرحه لمسألة الأنوثة على المستوى الأنطولوجي، فالمرآة ارتبطت، عبر تاريخ البشرية، بالمرأة والجمال والحب والخيال…، وكل هذه العناصر جعلها الفكر السائد تقترن بعالم الطبيعة والانفعال والزوال… والأنوثة، فاحتلت في إطار التفكير الفلسفي، الذي مجد التجريد والتأمل لذاته، مرتبة النقص والتبعية على أساس أفضلية الفاعل بالنسبة للمنفعل. فاستمد ابن عربي المقولات المتداولة (كالفاعل والمنفعل) ليعيد بناءها على أساس إلغاء الأفضلية والتراتبية، وليعتمد على مبدأ التثليث بدل مبدأ الهوية وعوض التأمل سينطلق من علم النكاح ومحل العقل سيستند على الحب كأصل للمعرفة والإيجاد، وذلك لأن التصور الأكبري – على المستوى الأنطولوجي – يتأسس على حضور مبدأي الأنوثة والذكورة. وإذا ركزت هذه المقاربة على الأنوثة فلأنها تناولت حضرة من حضرات الوجود ترجع الفعالية فيها إلى الأنوثة، لتظهر الزوجية مع أول مراتب الوجود وهي مرتبة الربوبية.
*** *** ***
[1] الفتوحات المكية، ابن عربي، دار الباز، الجزء 1، ص 3-2.
[2] ف، ج 4، ص 43.
[3] هذا التقابل لا يتعلق بذات الحق بل بأسمائه المتعارضة والمتقابلة، ويتمثل عبر الحضرة الثالثة من حضرات الوجود وأول مراتبه.
[4] L’Imagination Créatrice dans le soufisme d’Ibn Arabi, (Corbin Henry), 2ed., Paris 1977, p 88.
[5] ف. ج 3، ص 87، وص 90
[6] ف. ج 2، ص 75-74
[7] ف. ج 3، ص 380
[8] The Mystical Philosophy of Muhyid-din Ibnu Arabi, Ed. A.M.S Press, New York 1974, p.41
[9] Un Océan Sans Rivage, Michel Chodkiewiez; Ed. Seuil, Paris, p.154
[10] The Sufi Path of knowledge “Ibn Arabi’s Metaphysics of Imagination”, William C.Chittick, State University of New York Press, p.83.
[11] ف. ج 3، ص 39
[12] The Sufi Path of k., p.83
[13] نفس المرجع، ص 135
[14] ف. ج 2، ص 94
[15] ف. ج 1، ص 732
[16] فصوص الحكم، ابن عربي، نشر دار الفكر العربي، ص 9-48
[17] دلالة الأخير والآخر تلتقي مع اسم نساء، فلفظ نساء مشتق من نسيء وهو المتأخر والآخر
[18] The Mystical Philo. P.48
[19] الكتاب التذكاري، ص 217-216
[20] ف. ج 4، ص 312
[21] The Sufi Path of k., p.84
[22] The Mystical Philo. P.53
[23] ف. ج 3، ص 63.
[24] ف. ج 2، ص 403، 395
[25] ف. ج 2، ص 391
[26] ف. ج 2، ص 310
[27] ف. ج 3، ص 430و452
[28] ف. ج 2، ص 403
[29] ف. ج 3، ص 420
[30] ف. ج 2، ص 391
[31] ف. ج 3، ص 452
[32] ف. ج 2، ص 395، 391
[33] ف. ج 2، ص 310
[34] ف. ج 3، ص 430
[35] ف. ج 2، ص 174
[36] ف. ج 3، ص 420
[37] ف. ج 2، ص 283
[38] ف. ج 3، ص 420
[39] Unicité de l’Existence et Création Perpétuelle en Mystique Islamique, Izutsu Toshihiko, Trad/ de l’anglais: Marie Charlotte Grandry, Ed. Les deux océans, p.77
[40] ف. ج 2، ص 62
[41] ف. ج 2، ص 65
[42] ف. ج 3، ص 431
[43] ف. ج 3، ص 430، لا يستعمل ابن عربي مقولة جوهر بالمعنى المتداول عند المتكلمين، فالجوهر ليس بمادة ويخضع للتبدل والتعير مثله مثل العرض
[45] ف. ج 3، ص 420
[46] ف. ج 3، ص 93
[47] ف. ج 3، ص 119، لا آية في القرآن تصرح بأن حواء وجدت عن الضلع، ولا وجود لكلمة ضلع في النص المقدس، واستعمال كلمة ضلع في الخطاب الأكبري يدل على الاستدارة المقترنة بمبدأ الأنوثة مقابل قيومية الذكورة
[48]ف. ج 3، ص 430
[49] ف. ج 3، ص 119
[50] ف. ج 2، ص 459
[51] ف. ج 2، ص 403
[52] ف. ج 2، ص 396
[53] ف. ج 3، ص 420
[54]ف. ج 3، ص 396
[55] ف. ج 3، ص 392
[56] Imag. Créat. P.167
[57] ف. ج 2، ص 63
[58] ف. ج 3، ص 459
[59] ف. ج 2، ص 402
[60] Imag. Créat. P.95
[61] ف. ج 2، ص 356
[62] ف. ج 2، ص 310
[63] ف. ج 3، ص 431
[64] ف. ج 2، ص 310
[65] لسان العرب، ابن منظور
[66] الفصوص، ص 49
[67] ف. ج 2، ص 114
[68] ف. ج 2، ص 133
[69] ف. ج 2، ص 45، 542
[70] ف. ج 3، ص 449
[71] ف. ج 2، ص 313
[72] ف. ج 2، ص 312
[73] ف. ج 1، ص 119
[74] ف. ج 3، ص 313
[75] ف. ج 2، ص 311
[76] ف. ج 4، ص 411
(منقول).