نقوس المهدي
كاتب
في حالات الأمراض العقلية الصعبة غالبا ما يزور المرضى أطباء مختصين، وهناك لائحة محددة من الأمراض السيكوباتية لها أعراض معروفة ومدروسة بشكل يكفي ليجعل متخصصا في التحليل النفسي أو طب الأعصاب قادرا على منح الثقة للشخص الذي يقف أمامه، الثقة في أن هناك علاجا، ولكن بالرغم من ذلك لا يمكن للمرء أن يوافق طب الأعصاب والتحليل النفسي في كل الحدود التي يرسمانها للمرض، الحالات الباتولوجية في واقع الأمر تتعدّى نطاق الأعراض المحصورة طبّيا ، وإلا كيف سنفسّر استمرار ممارسات طبّية هامشية تعتمد الخرافة والسحر واللامنطق العقلي منهاجا تقتدي به في معالجة ظواهر كثيرة؟
من ناحية الدرس الأنتربولوجي يقول لنا المتخصصون إن كل شعوب الأرض طوّرت آليات نفسية وممارسات طقوسية تلعب دور التطبيب في كثير من الحالات التي يُعتقد أن المعالجة المباشرة لا تنفع فيها، وأن « المعالجة الروحانية » التي تسبر غور الإنسان هي « العلاج الأنجع »، ومن ذلك ما هو « مسّ شيطاني » وما هو حالات تتعدّى العصابات السيكولوجية والوساوس القهرية، حالات تتغير فيها نبرة الصوت وحالة الجسد ووظيفة الحواس ، وحالات أخرى يتجاوز فيها المجهود العضلي ما يمكن أن يسببه ارتفاع أقصى في الأدرينالين، إنها الحالات الباراسيكولوجية التي تفعل في الجسد البشري وبه، من خلال سلطة الرمزي وسلطة الماورائي، أي تلك القوة النفسية ذات الطابع المبهم، الغامض، الذي لا يتجلّى لعدسة المجهر ولا يستأصل بمشرط الجرّاح، إنها الظواهر الباراسيكولوجية التي استمرت مع الإنسان طوال فترة تواجده على الكوكب، تداخلت في تقاطعات مع خطابات كثيرة، خطاب الدين، خطاب علم النفس، خطاب الأنتربولوجيا، علم الأعصاب..إلخ، و الأصل فيها أنها حالات – بغض النظر عن حكمنا بوجودها أو غيره- لم تخضع للفهم الكافي …
ومن الأشياء الطريفة التي قد نأتي على ذكرها هنا ، وهي في الواقع ليست من الطرافة في شيء، هو أن الحب ظاهرة باراسيكولوجية أيضا، ولكن وجب أن نؤطر ذلك في سياق يسمح بهذا الزعم، فكيف ذلك؟
هذا سؤال لا يمكننا الجواب عنه بشكل قاطع، لأن الأصل أن ما هو فوق علمي فوق نفسي لا معيار تابث لتحديده، لأن الأسس التي يعتمد عليها العقل البشري في التعريف والتحديد، إن منطقيا أو تجريبيا تعتمد على ما راكمه هذا العقل المُكوَّن ذاته، وما كونه العقل البشري هو مجموع خبرات الحياة والمعارف العلمية والنفسية إلخ، فكيف نحدد بالعلم والمعرفة ما يختلف في جوهره عن منطق العلم والمعرفة؟
لقد تحدث العلم البيولوجي عن الحب كسوائل وهرمونات تمتزج وتخلق نوعا من التكيف الكيميائي ، يخلق العادة و الألفة ، التنبيه في منطقة من الدماغ للحاجة إلى إفراز الهرمون، وكي لا أطيل في هذا المخاض، فالأمر يتعلق بفهم يخضع للتجربة الموضوعية، مع العلم أن النصف الأكبر من سكان الأرض يربطون الحب بالقلب عوض الدماغ (أمر غريب !)، إن هناك جوهرا في الحب ينفلت للتحديد البيولوجي، لأن الإنسان لا يمكن اختزاله في البعد التجريبي فقط، إنه كائن رمزي، ثقافي، نفسي، والأكثر من ذلك كائن لا يعرف نفسه تماما، يجهل أشياء كثيرة عن ذاته، عن دماغه، عن العالم المحيط به وعن التحولات التي تحدث له، وهذا بالضبط ما ينتج أمرين، الأول هو أن كل العلوم مبنية على منطق الفرضية التي تقبل الخطأ ، والتي تعتبره جزء من نسق أي نظرية أو تفسير (التراكم + التجاوز)، الأمر الثاني هو استمرار الغموض والإبهام كمنطقة كبيرة في التجربة الإنسانية، ومنطقة الغموض هذه تتسع دائرتها باستمرار عكس ما يعتقد عامة الناس، إذ يُعتقد أن تقدم العلم واضطراد الاختراعات الجديدة يقلص من مساحة الظل حول الظواهر الكونية التي ترتبط بتجربة الإنسان، في حين أن الأصل هو أن كل تقدم في التقنية والعلوم يوسع دائرة الجهل ويفتح آفاقا للمجهول والغامض حين يفتح بابا للفرضيات والطروحات، كلما غاص الفهم زاد الغموض، إن مجرد نظرة خاطفة على ما افترضه علم الفلك المعاصر تبين أن الإنسان فتح آفاقا جديدة لفهم الكون لا يمكنه سوى أن يلامس جوانبها في حين ينتظره دائما مجهول تزيد دائرته اتساعا مع كل اكتشاف جديد يجر وراءه عشرات الفرضيات، وهنا بالضبط الجثة التي يعتاش عليها ذباب المجهول والغموض، والإبهام والسحر والشعوذة والأسطورة والخرافة، إن بين العلم والخرافة خيطا دقيقا جدا، بله علاقة جدلية تجعل اتساع رقعة الواحد منهما يستلزم اتساع رقعة الآخر، وهنا بالأساس نتحدث عن اتساع دائرة المجهول في الحب بقدر ما نتحدث عن انحسار دائرة المعلوم فيه.
إن مجرد مراجعة بسيطة لبعض مراجع الحضارة الإنسانية حول الحب قبل قرنين من الزمن تفيد كيف أن الإنسان وعى البعد النفسي للحب، حالاته، علاماته، نتائجه من اكتئاب إلخ، مع المدارس الكلاسيكية في التحليل النفسي دخل الحب لأول مرة مَخبَر الوعي والتحليل، ثم الآن نتحدث عن تفسيرات علمية بيولوجية، وبعد ذلك قد نتحدث عن شيء آخر، لأن العلم لم يمسح الطاولة تماما من بقايا الفهم النفسي للحب ، بل لازالت مداواة اكتئاب الحب تتم في مصحة المحلل النفسي، الذي يغض الطرف تماما عن قدرية وحتمية الجانب الهرموني فيما يباشره من حالات، لذلك اعتبرنا الحب حالة تتركب من القضيتين أو الفهمين، فهم البيولوجيا الذي يتناول الموضوع كحالة تجريبية ، وفهم علم النفس الذي يتناول الحب كحالة من حالات أهواء النفس وميولاتها المرتبطة باللاوعي أحيانا وبالوعي والقَصْدِية أحيانا أخرى، هذا التركيب الثنائي يفيد بالنسبة لنا باراسيكولوجية الحب، أي الحب بافتراضه تجربة تفوق البيولوجي وتفوق النفسي الصرف في الآن ذاته وإن كانا معا يتناولانه كموضوع، على الأقل في تجسداته ضمن الثقافة الشعبية بل الثقافة الفقهية العالِمة في بعض الحالات…
إن الحب حالة مرضية تاريخية ، وهي حالة مرضية سليمة، بمنطق دوركايم، في تقسيمة للظواهر المعتلة والظواهر السليمة، سليمة لا يعني هنا أن الحب ظاهرة جيدة، فحكم القيمة غير متضمن في التقسيم، السلامة هنا بالمعنى الموضوعي، ما دامت ظاهرة لا تهدد التكوين الاجتماعي بقدر ما تدعم استقراره وديمومته…
أما باراسيكولوجية الحب فنابعة من كونه شبيها بحالة صرع غير قابلة للمداواة بالتجريب ولكن بالإرادة، إذ كل ما يتجاوز قدرة المحلل النفسي والطبيب النفسي وقدرة طبيب الأعصاب يُصَنَّفُ خارجا عن قدرة العلم، والعلم التجريبي لا يستطيع مداواة « مرض الحب » حتى وإن تفنّن في تقديم التفسيرات المتضاربة والمتكاملة أحيانا حول طبيعته، إن العلم قادر على تقليص بعض أعراض الحب كالاكتئاب مثلا أو الأرق، لكنه في المقابل لا يصل جوهر التجربة ذاته ليستأصلها من العمق، هنا أستدرجكم لما أريد أن أسلط الضوء عليه، أي طريقة تعامل الإنسان مع الحب باعتباره حالة إرادة، إرادة غير قابلة للمحو بأي منظومة يحكمها العقل والعلم والمنطق المشترك، أو على الأقل صعوبة العلاج ونسبيته اعتمادا على هذه النُّظُم العقلانية، وكي أكون أكثر تحديدا، أقصد بالتناول الباراسيكولوجي للحب ما تم تأسيسه من متون ونصوص محفوظة ضمن نطاق الشعوذة و السحر والذي يتمركز حول تجربة الرغبة في السيطرة على انفعالات الحب ومساراته، ولأكون أكثر تخصيصا فهذا التقديم تمهيد لأقول شيئا عن الشعوذة وعلاقتها بالحب في إطار الثقافة الفقهية الإسلامية بالذات !.
نجد حول كتب السحر والشعوذة ستارا ضبابيا كبيرا، الناس يخافون من تلك الخربشات لاعتقادهم أن قراءتها أو المساس بها قد يؤذيهم إذاية مباشرة، وهو أمر مفهوم، إذ كل ثقافة محلية تحتفظ باعتقادات كشكل من أشكال المجهول تنبع عنه ممارسات ، كالتطيّر من الغراب الذي هو مشترك بين كل ثقافات الأرض تقريبا، نقر الخشب درء للإصابة بالعين إلخ وكل تلك الممارسات السريالية التي لا تخضع في فهمها للعقل كما نفهمه في إطار المعرفة بقدر ما تخضع لحس مشترك وروح جماعية للشعب أو الأمة أو القبيلة، وهذه الإحاطة الضبابية خلقت نوعا من الشعور الجمعِي بأن السحر والشعوذة يملكان قدرة خارقة على تغيير مسارات الناس وتحويلها من حال إلى حال، بخرق كل الأنظمة العقلانية المضبوطة، كنظام الزمن ونظام الأحداث المتسلسلة ونظام السّببية، بل و تجاوز كل الظروف الموضوعية والقيود التي يمكن أن تضعها أمام تحقيق هدف أو بلوغ مراد، على هذا الأساس تم اعتبار السحر بابا من أبواب تحقيق الحب أو القضاء على الحب أو تطوير الحب أو منحه طابعا خاصا، ولنتذكر أن هذه الأمنيات لا يمكن تحقيقها في خطاب علمي كخطاب البيولوجيا أو التحليل النفسي إلا بدرجات قليلة جدا وبطرق غير مباشرة وغير آنية تعتمد تحفيز الإرادة الذاتية للفرد…
يشكل الحب بما هو حالة شعورية وجسدية في الآن ذاته حالة مستعصية على الإرادة الفردية، ذلك أن جزء من الشخص ينحو نحو ذات أخرى، جزء من الإرادة الفردية يتعلق بموضوع خارجي لا يخضع للوعي الذاتي، لا يخضع للدماغ الذي يخصنا، فيكون بذلك منفلتا، هاربا، غير واثقين فيه، نريده ويمكن أن نفقده، ولكي نسيطر عليه تماما يلزمنا شيء نقيِّد به عقل و مشاعر ذلك الآخر، وبما أننا نؤمن بأن السحر قادر على خرق كل الأنظمة المضبوطة وما دمنا نعتقد بأن السحر قادر على السيطرة على الذات البشرية، فوسيلتنا للسفر إلى إرادة ووعي الآخر هي السحر ، في هذا السياق تداخل خطاب السحر بخطاب الفقه الديني على هامش المعرفة الرسمية أو تاريخ المعرفة الرسمية، ولعل مجرد اضطلاع بسيط على بعض الخربشات التي ألّفها من يسهمون في استغلال الضعف البشري إزاء الفهم الكامل للحب، لعل اضطلاعا بسيطا على مرجعين أو ثلاثة سيبيّن أن هذه الكتيبات لا تضيف أي جديد على بعضها البعض، فالمعرفة السّحرية إن أمكن أن نسمّيها هكذا معرفة غير خاضعة لنمط المعرفة المنهجية أي لا تتوفر على بناء نظري متكامل في المعرفة، ولا تخضع لمنطق التراكم والتجاوز، فمعظم هذه المخطوطات والكتيبات مليئة بتعاويذ متكررة يتم نقلها عن كتب قديمة، بعضهم ينسبها إلى علماء كبار كما حدث مع أبي حامد الغزالي الذي نُسب إليه « مُثلّث الغزالي » الذي لا يصح أن يثبت له لسبب بسيط، هو أن المطلّع على نسق المعرفة عند الغزالي ، أي المعرفة الدينية سيكون متأكدا من أن الغزالي متصوف وفقيه أبعد ما يكون عن الإيمان « بالمعرفة السحرية » لأنه سيصنفها بكل بساطة ضمن إطار الشِّرك والبدع التي تؤدي إلى الضلال، كما سبق و أن وضح في كتابه « المنقذ من الضلال » الذي صنف ونقد فيه المعارف وأنساق المعرفة الإسلامية دونما أن يذكر أي وجود لنمط مشابه من المعرفة القادرة على تغيير الموجود أو الوجود بشكل مباشر، وكما نجد بعض الرسائل تحت عنوان « رسائل ابن سبعين » المتصوف الأشهر، أو « مجموعة ابن سينا » إلخ، فهذه مخطوطات حتى إن تبُثَ تحقيقها فهي لا تخضع لمنطق الذين ألّفوها ولترسانتهم النظرية في مختلِف العلوم، إن معظم هذه الكتيبات تنتمي لفترة ما بعد موجة الإسلام الفقهي الثانية، نقصد بها موجه الفقه و السياسة في بلاد المشرق، أي إن أمر التأليف في هذه المسائل وإن كانت جذوره قديمة وتعود في معظمها إلى الإسرائيليات التي تسربت من اليهودية إلى الإسلام فكثافته وترسخ القيم التي ينتجها هي وليدة الفهم السلفي والوهابي للدين، فهم يعود في أصوله إلى كتابات غير عقلانية ككتابات ابن تيمية وابن القيم الجوزية إلخ، أي الكتب التي رسخت لفهم سحري خارق للدين عوض الفهم العقلاني الذي كانت تقدمه الفلسفة والمنطق وعلم الكلام مثلا، فبمنطق الفهم الخرافي للدين كما أسست له المعرفة الفقهية السلفية يكون العالم منقسما، وانقسام العالم يخلق توازيا بين عالمين كما نتصوره نحن المسلمون، ولكن في العالم الثاني أي عالم غير المرئي، عالم الميتافيزقي والخارق والكلّي تسرح عقول هؤلاء في الخلق و الإبداع مع العلم أن القرآن الكريم حصر العالم العُلوي في خطاب مضبوط ومتناسق لا يحتوي على معظم ما تنشره هذه الكتب التجارية، كأهوال القبور، وأشكال العذاب وألوان الكرامات والمزاعم، واستحضار الجن إلخ…
إن هذا الفهم السلَفِي هو الذي يشكل القاعدة التي تنطلق منها تجارة كتب الشعوذة وحتى الممارسة الشعوذية في حد ذاتها، والتي تحتل مكانة كبيرة في الوعي الإسلامي الجمعي، غير أننا و بموجب الفهم الذي يجب أن يكون للإسلام، نرى أن كشف طبيعة الخطاب الذي ينبع عن الفهم الخرافي للعالم ضروري، لأنه الطريق إلى رفع الستار عن الكثير من الممارسات الاجتماعية غير السليمة، فإن كنا قد سلّمنا سلفا بأن كل شعوب الأرض تحتفظ بخطابات خاصة لفهم العالم، بعضها يتميز باللاعقلانية، فإننا في الآن ذاته لا يمكن أن نسلم بكل بما ينتج من سلوكيات وممارسات عن هذه الخطابات، ذلك أن كل ما هو سلوكي يخضع لحكم القيمة بطبيعته، عكس ما هو عقدي والذي يظل فاعلا في أطر محدودة إذا تم تكييفه وإخضاعه لنسق من المراقبة الجماعية التي تضمن الاختلاف، إن سلوك الشعوذة سلوك آنِي وحالي أيضا، و نسق النصوص التي تؤطره تحمل طابع الانتشار السريع و الممنوع أيضا، وهي مفارقة مفهومة، إذا قلنا إن دائرة الغموض تكتسب أهمية واهتماما لكنها لا يمكن أن تنشط في الضوء على مرآى من الجميع.
من خلال مراجعة بعض هذه « الكتب » يتضح أنها لا تحمل أبعادا معرفية رصينة، لا على مستوى التبويب المنهجي ولا على مستوى المحتويات التي تضمها، والتي قلنا إنها محتويات متشابهة ومتكررة، يتشارك في ذلك كتاب أُلِّف في القرن السابع الهجري بكتاب كتبه أحد شيوخ النصب والاحتيال في 2014، يُنظر في متون أي كتاب قديم في السحر وكتيب صغير في العصر الحديث أو الآني لكشف ذلك بسهولة، فكلها تحتوي نمط التصنيف والتبويب ذاته، ترص المادة بعض الكلمات المؤطِّرة ، كفائدة، ثقاف، تهييج، محبة ..عبارة عن عناوين صغيرة، والمحتوى يكون متشابها ونمطيا من حيث ارتكازُه على تكرير بعض الجداول المزركشة بالحروف وبعض العبارات المتكررة ك: « الوحا الوحا الساعة الساعة العجل العجل »، والتي لا تحمل أي معنى، سوى إحالتها مثلا على قصة العجل، العجل الذي تجسد فيه الشيطان لقوم موسى كي يعبدوه، ولعل هذا وجه من أوجه قوة الخطاب الشعوذي إذ يحاول دائما أن يستمد شرعية هاربة من قصص القرآن ونصوصه، ولكنها تبقى شرعية ملغومة وغير موضوعية، لأن القرآن وإن اعترف بالسحر فهو حدد له شروطه، وقيده بالمنع والرفض، فكيف يعقل أن يكون قابلا للتوظيف فيه؟…
وفي نسق الشذرات التي تحتويها هذه المخطوطات أو الكتيبات نجد مضمونا مختلفا من شذرة لأخرى، لكنه يشترك في كونه مضمونا لا يخضع لأي منطق لغوي أو عقلي، فهو نص خارق للمألوف والمعهود، شبيه بانزياح مدفوع إلى أقصى نقطة، يخترق نظام اللغة العادية التي نتداولها في الخطابات المعروفة، ويخرق نظام العقل من حيث دلالته على إنجاز أشياء خارقة من حيث الملفوظ، من خلال استدعاء أسماء سريالية يفترض أنها أسماء للشيطان أو أسماء للجن خدّام الفقيه الذي لا يستطيع جلبهم إلا بمقابل المال و بعض الطلبات !، وهذه الأسماء بعضها مشترك بين بعض الثقافات خصوصا بين الإرث اليهودي في السحر وبين ثقافة السحر في هوامش الإسلام مثل :
برقان – شمهروش – الملك الأحمر – كندياس ملك الجان – الملك زوبعة الأبيض – زيتونة بنت إبليس – أبو مرّة …إلخ
ولم يرد ذكرها في أي مرجع من مراجع الإسلام ، لا في القرآن الكريم ولا في الحديث، فالجن أتى كاسم جنس جمعي يدل على الكل ولم يأتِ بأسماء مُفردة، وحتى إن حاول المشعوذ لصق آية قرآنية في خضم الشذرة التي يستخدمها فهو يرفعها من سياقها تماما ويضعها في سياق آخر مختلف بعد أن يبدل مجهودا كبيرا في الاحتيال لجعل الآية تتماشى مع ما يريد، لكن لو يحضر العقل النقدي سيكون ذلك بيّنا في كل مرة، فأسماء الجن لم تذكر في القرآن، واستعمال الآيات كان عاما كلفظ عفريت ولفظ الجن وشياطين إلخ، وهنا نموذج واضح لهذا الاحتيال حيث يتم توظيف آية في سياق لا تمت له بصلة لا من قريب ولا من بعيد، أولا لأن المقصود في الآية هو النبي سليمان عليه السلام، وهو نبي إيماننا بقصته يدخل ضمن المقدمة الكبرى للإيمان بالدين ككل، وليس شخصا عاديا نصابا كالفقيه الذي يستل الدراهم من الناس، ثانيا لأن الأسماء التي ينادي بها المشعوذ لم ترد في الآية ولا في غيرها، وهنا المثال :
فائدة للمحبة والتهييج
» هو أن تحضر ثلاثة وعشرين ورقة وتكتب في كل ورقة 12ج، وتكتب معها هذه الآية [قال عفريت من الجنّ أنا آتيك به قبل أن تقوم من من مقامك ، وإنّي عليه لقوي أمين] وتأتي أيضا بثلاثة وعشرين قطعة من اللادن وتكتب على كل قطعة حرف (ج) ثم تحمل اسم المطلوب بالكامل وتقسم الجملة على 23 ورقة وتتلى الآية والتوكيل بعد ما يخص كل ورقة، ثم تحرق بالنار ، والرماد نصفُهُ يلقى في الطريق المطلوب والنصف الثاني يذرُّ في الهواء في حالة هبوبه وسيره إلى جهة المطلوب » [1]
أما الأبواب وعناوين الشذرات والمحتويات فواحدة، ولعلنا سنقارن هنا بين شذرتين من كتابين بينها فارق زمني كبير جدا ، الأول للشيخ البوني صاحب مؤلف »شمس المعارف الكبرى » الذي يعدّ مرجعا في الهراء لكل من لحقه من مصاصي دما ء اليائسين والثانية شذرة للطوخي الذي كان يصدر كل أسبوع كتيبا في السحر مدعيا أنه عالم فلكي، ولا نستطيع سوى أن نسمي ما يفعله بأنه فلك سماوي صرف:
1) فائدة محبة
يكتب على أثر المطلوب ويعمل فتيلة بزيت طيب وتقيدها في سراج إناء جديد فما يتم حرق الفتيلة إلا والمطلوب يحضر وهذا ما تكتب:
الشعوذة وباراسيكولوجية الحب dans الفكر و النفس clip_image002
توكلوا يا خدام هذه الطلاسم و « إجلبوا » وهيجوا كذا وكذا إلى محبة كذا وكذا ، ويا محروق واحرق قلبها وفؤاذها هي محبة كذا وكذا ، بحق الملك سمسماييل وبحق نون والقلم وما يسطرون هيا هيا ، الوحا الوحا، العجل العجل ، الساعة الساعة و الله أعلم » [2]
ــــــــــــ
2)
» تكتب هذه الأسماء على تسع ورقات وتحرق واحدة بعد واحدة في النار ، وتصبر حتى ينقطع دخان الأخرى، وترمي الثانية إلى انقطاع دخانها وتوضع في كل ورقة ثلاث حصوات لبان ذكر وثلاث حبات فلفل وتعزم بما نكتب وهذا ما تكتب وتعزم به :
بنهر طبخ 2 تمليخ2 طيخ2 سليخ2ساليخ2قيخ2 يخ2 أجب يا أحمر أنت وخدامك وأعوانك وتوكلوا يجلب كذا وكذا إلى كذا وكذا وكذا بحق هذه الأسماء عليكم وطاعتها لديكم و إلا يرسل عليكم شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران الوحا العجل » [3]
فنحن من خلال الشذرتين الممثلتين لباقي النصوص في الكتابين نرى أن فارق سبعة أو ثمانية قرون لم يغير أي شيء من حيث طبيعة الخطاب، وإنما هي أشياء تنقل وتعتمد على عنصر الخيال والانزياح وتعول تعويلا تاما على الشلل الدماغي الذي يصاب به المتلقي حين يربط بين الدين وعنصر الإيمان المطلق واللامشروط وبين هذه الخطابات السريالية الغائية، التي و إن كانت خطابات غير فاعلة واقعا فهي فاعلة نفسيا وأخلاقيا، لأنها تنبني على غايات غير أخلاقية في حد ذاتها بالرغم من أنها مجرد هراء صرف، فالخطاب يكشف عن نسق القيم التي يحتويه حتى إن لم يكن فاعلا في الواقع، ذلك أن أهداف هذه النصوص لا تني تتلخص في هكذا عناوين :
طلسم لفقد الرجولة – ثقاف – طلسم لمنع الزواج – فائدة للبنت البائرة – فعل الطلاق وتصريفاته- رباط شخص – المحبة وجلب الحوائج وقضائها – باب تهييج الجن كذا ليفعل كذا – فائدة بغضة بين الرجل وامرأته – فائدة للقبول…
و أحيانا يتجاوز الأمر مسألة العرف الأخلاقي و التمظهر المرضي للحب باعتباره فعلا إنسانيا إلى تشكيل خطر على صحة الإنسان وبيئته، الصحة النفسية و الجسدية معا ، مثلما يمكن مثلا أن نستشفه من هذا الطلسم الذي يدعو المرأة إلى شي غريب قد يصيبها بمرض على مستوى جهازها التناسلي :
فائدة محبة
» تأخذ حمامة صغيرة وتذبح وتنظف وتوضع في فرج المرأة ليلة كاملة ، ثم تخرجها في الصباح وتحمرها في السمن وتطعمها لزوجها يحصل المطلوب بإذن الله
clip_image004 dans الفكر و النفس[4]
إن باراسيكولوجية الحب تمظهر أساسا في كونه ظاهرة تخرق أنظمة العقل والفهم الموضوعي، ولكن ذلك لا يعني أن أي خطاب سينشأ في هوامش الظاهرة سيكون خطابا استشفائيا مفيدا، بل إن طبيعة الحب تترك مجالا مفتوحا لخطابات مثل خطابات الخرافة و الشعوذة، خطابات تتهكم على الوعي البشري وتتسم بطابع الاستغلال والاستحمار للإنسان، كما أنها تشكل خطرا على صحته النفسية والجسدية، لذلك وجدنا التنبيه على خصائص خطاب الشعوذة ضرورة قصوى، على الأقل ليعي الذين يعرفون القراءة أن الأمر لا يتعلق بجانب من جوانب الدين بقدر مايتعلق بفهم شائه لمنطق الفقه ومقاصده ولنصوص القرآن الكريم وغائيتها الشريفة.
ــــــــــــــــــــ
[1] عبد الفتاح السيد الطوخي، السحر العجيب في جلب الحبيب، المكتبة الثقافية بيروت، ص 44.
[2] الشيخ أبو العباس أحمد البوني المتوفى سنة سنة 622 للهجرة، سحر العشاق في جلب المشتاق ، ص 8 و9.
[3] الطوخي ، نفسه ص 42.
[4] الشيخ البوني ،م م، ص 17.
من ناحية الدرس الأنتربولوجي يقول لنا المتخصصون إن كل شعوب الأرض طوّرت آليات نفسية وممارسات طقوسية تلعب دور التطبيب في كثير من الحالات التي يُعتقد أن المعالجة المباشرة لا تنفع فيها، وأن « المعالجة الروحانية » التي تسبر غور الإنسان هي « العلاج الأنجع »، ومن ذلك ما هو « مسّ شيطاني » وما هو حالات تتعدّى العصابات السيكولوجية والوساوس القهرية، حالات تتغير فيها نبرة الصوت وحالة الجسد ووظيفة الحواس ، وحالات أخرى يتجاوز فيها المجهود العضلي ما يمكن أن يسببه ارتفاع أقصى في الأدرينالين، إنها الحالات الباراسيكولوجية التي تفعل في الجسد البشري وبه، من خلال سلطة الرمزي وسلطة الماورائي، أي تلك القوة النفسية ذات الطابع المبهم، الغامض، الذي لا يتجلّى لعدسة المجهر ولا يستأصل بمشرط الجرّاح، إنها الظواهر الباراسيكولوجية التي استمرت مع الإنسان طوال فترة تواجده على الكوكب، تداخلت في تقاطعات مع خطابات كثيرة، خطاب الدين، خطاب علم النفس، خطاب الأنتربولوجيا، علم الأعصاب..إلخ، و الأصل فيها أنها حالات – بغض النظر عن حكمنا بوجودها أو غيره- لم تخضع للفهم الكافي …
ومن الأشياء الطريفة التي قد نأتي على ذكرها هنا ، وهي في الواقع ليست من الطرافة في شيء، هو أن الحب ظاهرة باراسيكولوجية أيضا، ولكن وجب أن نؤطر ذلك في سياق يسمح بهذا الزعم، فكيف ذلك؟
هذا سؤال لا يمكننا الجواب عنه بشكل قاطع، لأن الأصل أن ما هو فوق علمي فوق نفسي لا معيار تابث لتحديده، لأن الأسس التي يعتمد عليها العقل البشري في التعريف والتحديد، إن منطقيا أو تجريبيا تعتمد على ما راكمه هذا العقل المُكوَّن ذاته، وما كونه العقل البشري هو مجموع خبرات الحياة والمعارف العلمية والنفسية إلخ، فكيف نحدد بالعلم والمعرفة ما يختلف في جوهره عن منطق العلم والمعرفة؟
لقد تحدث العلم البيولوجي عن الحب كسوائل وهرمونات تمتزج وتخلق نوعا من التكيف الكيميائي ، يخلق العادة و الألفة ، التنبيه في منطقة من الدماغ للحاجة إلى إفراز الهرمون، وكي لا أطيل في هذا المخاض، فالأمر يتعلق بفهم يخضع للتجربة الموضوعية، مع العلم أن النصف الأكبر من سكان الأرض يربطون الحب بالقلب عوض الدماغ (أمر غريب !)، إن هناك جوهرا في الحب ينفلت للتحديد البيولوجي، لأن الإنسان لا يمكن اختزاله في البعد التجريبي فقط، إنه كائن رمزي، ثقافي، نفسي، والأكثر من ذلك كائن لا يعرف نفسه تماما، يجهل أشياء كثيرة عن ذاته، عن دماغه، عن العالم المحيط به وعن التحولات التي تحدث له، وهذا بالضبط ما ينتج أمرين، الأول هو أن كل العلوم مبنية على منطق الفرضية التي تقبل الخطأ ، والتي تعتبره جزء من نسق أي نظرية أو تفسير (التراكم + التجاوز)، الأمر الثاني هو استمرار الغموض والإبهام كمنطقة كبيرة في التجربة الإنسانية، ومنطقة الغموض هذه تتسع دائرتها باستمرار عكس ما يعتقد عامة الناس، إذ يُعتقد أن تقدم العلم واضطراد الاختراعات الجديدة يقلص من مساحة الظل حول الظواهر الكونية التي ترتبط بتجربة الإنسان، في حين أن الأصل هو أن كل تقدم في التقنية والعلوم يوسع دائرة الجهل ويفتح آفاقا للمجهول والغامض حين يفتح بابا للفرضيات والطروحات، كلما غاص الفهم زاد الغموض، إن مجرد نظرة خاطفة على ما افترضه علم الفلك المعاصر تبين أن الإنسان فتح آفاقا جديدة لفهم الكون لا يمكنه سوى أن يلامس جوانبها في حين ينتظره دائما مجهول تزيد دائرته اتساعا مع كل اكتشاف جديد يجر وراءه عشرات الفرضيات، وهنا بالضبط الجثة التي يعتاش عليها ذباب المجهول والغموض، والإبهام والسحر والشعوذة والأسطورة والخرافة، إن بين العلم والخرافة خيطا دقيقا جدا، بله علاقة جدلية تجعل اتساع رقعة الواحد منهما يستلزم اتساع رقعة الآخر، وهنا بالأساس نتحدث عن اتساع دائرة المجهول في الحب بقدر ما نتحدث عن انحسار دائرة المعلوم فيه.
إن مجرد مراجعة بسيطة لبعض مراجع الحضارة الإنسانية حول الحب قبل قرنين من الزمن تفيد كيف أن الإنسان وعى البعد النفسي للحب، حالاته، علاماته، نتائجه من اكتئاب إلخ، مع المدارس الكلاسيكية في التحليل النفسي دخل الحب لأول مرة مَخبَر الوعي والتحليل، ثم الآن نتحدث عن تفسيرات علمية بيولوجية، وبعد ذلك قد نتحدث عن شيء آخر، لأن العلم لم يمسح الطاولة تماما من بقايا الفهم النفسي للحب ، بل لازالت مداواة اكتئاب الحب تتم في مصحة المحلل النفسي، الذي يغض الطرف تماما عن قدرية وحتمية الجانب الهرموني فيما يباشره من حالات، لذلك اعتبرنا الحب حالة تتركب من القضيتين أو الفهمين، فهم البيولوجيا الذي يتناول الموضوع كحالة تجريبية ، وفهم علم النفس الذي يتناول الحب كحالة من حالات أهواء النفس وميولاتها المرتبطة باللاوعي أحيانا وبالوعي والقَصْدِية أحيانا أخرى، هذا التركيب الثنائي يفيد بالنسبة لنا باراسيكولوجية الحب، أي الحب بافتراضه تجربة تفوق البيولوجي وتفوق النفسي الصرف في الآن ذاته وإن كانا معا يتناولانه كموضوع، على الأقل في تجسداته ضمن الثقافة الشعبية بل الثقافة الفقهية العالِمة في بعض الحالات…
إن الحب حالة مرضية تاريخية ، وهي حالة مرضية سليمة، بمنطق دوركايم، في تقسيمة للظواهر المعتلة والظواهر السليمة، سليمة لا يعني هنا أن الحب ظاهرة جيدة، فحكم القيمة غير متضمن في التقسيم، السلامة هنا بالمعنى الموضوعي، ما دامت ظاهرة لا تهدد التكوين الاجتماعي بقدر ما تدعم استقراره وديمومته…
أما باراسيكولوجية الحب فنابعة من كونه شبيها بحالة صرع غير قابلة للمداواة بالتجريب ولكن بالإرادة، إذ كل ما يتجاوز قدرة المحلل النفسي والطبيب النفسي وقدرة طبيب الأعصاب يُصَنَّفُ خارجا عن قدرة العلم، والعلم التجريبي لا يستطيع مداواة « مرض الحب » حتى وإن تفنّن في تقديم التفسيرات المتضاربة والمتكاملة أحيانا حول طبيعته، إن العلم قادر على تقليص بعض أعراض الحب كالاكتئاب مثلا أو الأرق، لكنه في المقابل لا يصل جوهر التجربة ذاته ليستأصلها من العمق، هنا أستدرجكم لما أريد أن أسلط الضوء عليه، أي طريقة تعامل الإنسان مع الحب باعتباره حالة إرادة، إرادة غير قابلة للمحو بأي منظومة يحكمها العقل والعلم والمنطق المشترك، أو على الأقل صعوبة العلاج ونسبيته اعتمادا على هذه النُّظُم العقلانية، وكي أكون أكثر تحديدا، أقصد بالتناول الباراسيكولوجي للحب ما تم تأسيسه من متون ونصوص محفوظة ضمن نطاق الشعوذة و السحر والذي يتمركز حول تجربة الرغبة في السيطرة على انفعالات الحب ومساراته، ولأكون أكثر تخصيصا فهذا التقديم تمهيد لأقول شيئا عن الشعوذة وعلاقتها بالحب في إطار الثقافة الفقهية الإسلامية بالذات !.
نجد حول كتب السحر والشعوذة ستارا ضبابيا كبيرا، الناس يخافون من تلك الخربشات لاعتقادهم أن قراءتها أو المساس بها قد يؤذيهم إذاية مباشرة، وهو أمر مفهوم، إذ كل ثقافة محلية تحتفظ باعتقادات كشكل من أشكال المجهول تنبع عنه ممارسات ، كالتطيّر من الغراب الذي هو مشترك بين كل ثقافات الأرض تقريبا، نقر الخشب درء للإصابة بالعين إلخ وكل تلك الممارسات السريالية التي لا تخضع في فهمها للعقل كما نفهمه في إطار المعرفة بقدر ما تخضع لحس مشترك وروح جماعية للشعب أو الأمة أو القبيلة، وهذه الإحاطة الضبابية خلقت نوعا من الشعور الجمعِي بأن السحر والشعوذة يملكان قدرة خارقة على تغيير مسارات الناس وتحويلها من حال إلى حال، بخرق كل الأنظمة العقلانية المضبوطة، كنظام الزمن ونظام الأحداث المتسلسلة ونظام السّببية، بل و تجاوز كل الظروف الموضوعية والقيود التي يمكن أن تضعها أمام تحقيق هدف أو بلوغ مراد، على هذا الأساس تم اعتبار السحر بابا من أبواب تحقيق الحب أو القضاء على الحب أو تطوير الحب أو منحه طابعا خاصا، ولنتذكر أن هذه الأمنيات لا يمكن تحقيقها في خطاب علمي كخطاب البيولوجيا أو التحليل النفسي إلا بدرجات قليلة جدا وبطرق غير مباشرة وغير آنية تعتمد تحفيز الإرادة الذاتية للفرد…
يشكل الحب بما هو حالة شعورية وجسدية في الآن ذاته حالة مستعصية على الإرادة الفردية، ذلك أن جزء من الشخص ينحو نحو ذات أخرى، جزء من الإرادة الفردية يتعلق بموضوع خارجي لا يخضع للوعي الذاتي، لا يخضع للدماغ الذي يخصنا، فيكون بذلك منفلتا، هاربا، غير واثقين فيه، نريده ويمكن أن نفقده، ولكي نسيطر عليه تماما يلزمنا شيء نقيِّد به عقل و مشاعر ذلك الآخر، وبما أننا نؤمن بأن السحر قادر على خرق كل الأنظمة المضبوطة وما دمنا نعتقد بأن السحر قادر على السيطرة على الذات البشرية، فوسيلتنا للسفر إلى إرادة ووعي الآخر هي السحر ، في هذا السياق تداخل خطاب السحر بخطاب الفقه الديني على هامش المعرفة الرسمية أو تاريخ المعرفة الرسمية، ولعل مجرد اضطلاع بسيط على بعض الخربشات التي ألّفها من يسهمون في استغلال الضعف البشري إزاء الفهم الكامل للحب، لعل اضطلاعا بسيطا على مرجعين أو ثلاثة سيبيّن أن هذه الكتيبات لا تضيف أي جديد على بعضها البعض، فالمعرفة السّحرية إن أمكن أن نسمّيها هكذا معرفة غير خاضعة لنمط المعرفة المنهجية أي لا تتوفر على بناء نظري متكامل في المعرفة، ولا تخضع لمنطق التراكم والتجاوز، فمعظم هذه المخطوطات والكتيبات مليئة بتعاويذ متكررة يتم نقلها عن كتب قديمة، بعضهم ينسبها إلى علماء كبار كما حدث مع أبي حامد الغزالي الذي نُسب إليه « مُثلّث الغزالي » الذي لا يصح أن يثبت له لسبب بسيط، هو أن المطلّع على نسق المعرفة عند الغزالي ، أي المعرفة الدينية سيكون متأكدا من أن الغزالي متصوف وفقيه أبعد ما يكون عن الإيمان « بالمعرفة السحرية » لأنه سيصنفها بكل بساطة ضمن إطار الشِّرك والبدع التي تؤدي إلى الضلال، كما سبق و أن وضح في كتابه « المنقذ من الضلال » الذي صنف ونقد فيه المعارف وأنساق المعرفة الإسلامية دونما أن يذكر أي وجود لنمط مشابه من المعرفة القادرة على تغيير الموجود أو الوجود بشكل مباشر، وكما نجد بعض الرسائل تحت عنوان « رسائل ابن سبعين » المتصوف الأشهر، أو « مجموعة ابن سينا » إلخ، فهذه مخطوطات حتى إن تبُثَ تحقيقها فهي لا تخضع لمنطق الذين ألّفوها ولترسانتهم النظرية في مختلِف العلوم، إن معظم هذه الكتيبات تنتمي لفترة ما بعد موجة الإسلام الفقهي الثانية، نقصد بها موجه الفقه و السياسة في بلاد المشرق، أي إن أمر التأليف في هذه المسائل وإن كانت جذوره قديمة وتعود في معظمها إلى الإسرائيليات التي تسربت من اليهودية إلى الإسلام فكثافته وترسخ القيم التي ينتجها هي وليدة الفهم السلفي والوهابي للدين، فهم يعود في أصوله إلى كتابات غير عقلانية ككتابات ابن تيمية وابن القيم الجوزية إلخ، أي الكتب التي رسخت لفهم سحري خارق للدين عوض الفهم العقلاني الذي كانت تقدمه الفلسفة والمنطق وعلم الكلام مثلا، فبمنطق الفهم الخرافي للدين كما أسست له المعرفة الفقهية السلفية يكون العالم منقسما، وانقسام العالم يخلق توازيا بين عالمين كما نتصوره نحن المسلمون، ولكن في العالم الثاني أي عالم غير المرئي، عالم الميتافيزقي والخارق والكلّي تسرح عقول هؤلاء في الخلق و الإبداع مع العلم أن القرآن الكريم حصر العالم العُلوي في خطاب مضبوط ومتناسق لا يحتوي على معظم ما تنشره هذه الكتب التجارية، كأهوال القبور، وأشكال العذاب وألوان الكرامات والمزاعم، واستحضار الجن إلخ…
إن هذا الفهم السلَفِي هو الذي يشكل القاعدة التي تنطلق منها تجارة كتب الشعوذة وحتى الممارسة الشعوذية في حد ذاتها، والتي تحتل مكانة كبيرة في الوعي الإسلامي الجمعي، غير أننا و بموجب الفهم الذي يجب أن يكون للإسلام، نرى أن كشف طبيعة الخطاب الذي ينبع عن الفهم الخرافي للعالم ضروري، لأنه الطريق إلى رفع الستار عن الكثير من الممارسات الاجتماعية غير السليمة، فإن كنا قد سلّمنا سلفا بأن كل شعوب الأرض تحتفظ بخطابات خاصة لفهم العالم، بعضها يتميز باللاعقلانية، فإننا في الآن ذاته لا يمكن أن نسلم بكل بما ينتج من سلوكيات وممارسات عن هذه الخطابات، ذلك أن كل ما هو سلوكي يخضع لحكم القيمة بطبيعته، عكس ما هو عقدي والذي يظل فاعلا في أطر محدودة إذا تم تكييفه وإخضاعه لنسق من المراقبة الجماعية التي تضمن الاختلاف، إن سلوك الشعوذة سلوك آنِي وحالي أيضا، و نسق النصوص التي تؤطره تحمل طابع الانتشار السريع و الممنوع أيضا، وهي مفارقة مفهومة، إذا قلنا إن دائرة الغموض تكتسب أهمية واهتماما لكنها لا يمكن أن تنشط في الضوء على مرآى من الجميع.
من خلال مراجعة بعض هذه « الكتب » يتضح أنها لا تحمل أبعادا معرفية رصينة، لا على مستوى التبويب المنهجي ولا على مستوى المحتويات التي تضمها، والتي قلنا إنها محتويات متشابهة ومتكررة، يتشارك في ذلك كتاب أُلِّف في القرن السابع الهجري بكتاب كتبه أحد شيوخ النصب والاحتيال في 2014، يُنظر في متون أي كتاب قديم في السحر وكتيب صغير في العصر الحديث أو الآني لكشف ذلك بسهولة، فكلها تحتوي نمط التصنيف والتبويب ذاته، ترص المادة بعض الكلمات المؤطِّرة ، كفائدة، ثقاف، تهييج، محبة ..عبارة عن عناوين صغيرة، والمحتوى يكون متشابها ونمطيا من حيث ارتكازُه على تكرير بعض الجداول المزركشة بالحروف وبعض العبارات المتكررة ك: « الوحا الوحا الساعة الساعة العجل العجل »، والتي لا تحمل أي معنى، سوى إحالتها مثلا على قصة العجل، العجل الذي تجسد فيه الشيطان لقوم موسى كي يعبدوه، ولعل هذا وجه من أوجه قوة الخطاب الشعوذي إذ يحاول دائما أن يستمد شرعية هاربة من قصص القرآن ونصوصه، ولكنها تبقى شرعية ملغومة وغير موضوعية، لأن القرآن وإن اعترف بالسحر فهو حدد له شروطه، وقيده بالمنع والرفض، فكيف يعقل أن يكون قابلا للتوظيف فيه؟…
وفي نسق الشذرات التي تحتويها هذه المخطوطات أو الكتيبات نجد مضمونا مختلفا من شذرة لأخرى، لكنه يشترك في كونه مضمونا لا يخضع لأي منطق لغوي أو عقلي، فهو نص خارق للمألوف والمعهود، شبيه بانزياح مدفوع إلى أقصى نقطة، يخترق نظام اللغة العادية التي نتداولها في الخطابات المعروفة، ويخرق نظام العقل من حيث دلالته على إنجاز أشياء خارقة من حيث الملفوظ، من خلال استدعاء أسماء سريالية يفترض أنها أسماء للشيطان أو أسماء للجن خدّام الفقيه الذي لا يستطيع جلبهم إلا بمقابل المال و بعض الطلبات !، وهذه الأسماء بعضها مشترك بين بعض الثقافات خصوصا بين الإرث اليهودي في السحر وبين ثقافة السحر في هوامش الإسلام مثل :
برقان – شمهروش – الملك الأحمر – كندياس ملك الجان – الملك زوبعة الأبيض – زيتونة بنت إبليس – أبو مرّة …إلخ
ولم يرد ذكرها في أي مرجع من مراجع الإسلام ، لا في القرآن الكريم ولا في الحديث، فالجن أتى كاسم جنس جمعي يدل على الكل ولم يأتِ بأسماء مُفردة، وحتى إن حاول المشعوذ لصق آية قرآنية في خضم الشذرة التي يستخدمها فهو يرفعها من سياقها تماما ويضعها في سياق آخر مختلف بعد أن يبدل مجهودا كبيرا في الاحتيال لجعل الآية تتماشى مع ما يريد، لكن لو يحضر العقل النقدي سيكون ذلك بيّنا في كل مرة، فأسماء الجن لم تذكر في القرآن، واستعمال الآيات كان عاما كلفظ عفريت ولفظ الجن وشياطين إلخ، وهنا نموذج واضح لهذا الاحتيال حيث يتم توظيف آية في سياق لا تمت له بصلة لا من قريب ولا من بعيد، أولا لأن المقصود في الآية هو النبي سليمان عليه السلام، وهو نبي إيماننا بقصته يدخل ضمن المقدمة الكبرى للإيمان بالدين ككل، وليس شخصا عاديا نصابا كالفقيه الذي يستل الدراهم من الناس، ثانيا لأن الأسماء التي ينادي بها المشعوذ لم ترد في الآية ولا في غيرها، وهنا المثال :
فائدة للمحبة والتهييج
» هو أن تحضر ثلاثة وعشرين ورقة وتكتب في كل ورقة 12ج، وتكتب معها هذه الآية [قال عفريت من الجنّ أنا آتيك به قبل أن تقوم من من مقامك ، وإنّي عليه لقوي أمين] وتأتي أيضا بثلاثة وعشرين قطعة من اللادن وتكتب على كل قطعة حرف (ج) ثم تحمل اسم المطلوب بالكامل وتقسم الجملة على 23 ورقة وتتلى الآية والتوكيل بعد ما يخص كل ورقة، ثم تحرق بالنار ، والرماد نصفُهُ يلقى في الطريق المطلوب والنصف الثاني يذرُّ في الهواء في حالة هبوبه وسيره إلى جهة المطلوب » [1]
أما الأبواب وعناوين الشذرات والمحتويات فواحدة، ولعلنا سنقارن هنا بين شذرتين من كتابين بينها فارق زمني كبير جدا ، الأول للشيخ البوني صاحب مؤلف »شمس المعارف الكبرى » الذي يعدّ مرجعا في الهراء لكل من لحقه من مصاصي دما ء اليائسين والثانية شذرة للطوخي الذي كان يصدر كل أسبوع كتيبا في السحر مدعيا أنه عالم فلكي، ولا نستطيع سوى أن نسمي ما يفعله بأنه فلك سماوي صرف:
1) فائدة محبة
يكتب على أثر المطلوب ويعمل فتيلة بزيت طيب وتقيدها في سراج إناء جديد فما يتم حرق الفتيلة إلا والمطلوب يحضر وهذا ما تكتب:
الشعوذة وباراسيكولوجية الحب dans الفكر و النفس clip_image002
توكلوا يا خدام هذه الطلاسم و « إجلبوا » وهيجوا كذا وكذا إلى محبة كذا وكذا ، ويا محروق واحرق قلبها وفؤاذها هي محبة كذا وكذا ، بحق الملك سمسماييل وبحق نون والقلم وما يسطرون هيا هيا ، الوحا الوحا، العجل العجل ، الساعة الساعة و الله أعلم » [2]
ــــــــــــ
2)
» تكتب هذه الأسماء على تسع ورقات وتحرق واحدة بعد واحدة في النار ، وتصبر حتى ينقطع دخان الأخرى، وترمي الثانية إلى انقطاع دخانها وتوضع في كل ورقة ثلاث حصوات لبان ذكر وثلاث حبات فلفل وتعزم بما نكتب وهذا ما تكتب وتعزم به :
بنهر طبخ 2 تمليخ2 طيخ2 سليخ2ساليخ2قيخ2 يخ2 أجب يا أحمر أنت وخدامك وأعوانك وتوكلوا يجلب كذا وكذا إلى كذا وكذا وكذا بحق هذه الأسماء عليكم وطاعتها لديكم و إلا يرسل عليكم شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران الوحا العجل » [3]
فنحن من خلال الشذرتين الممثلتين لباقي النصوص في الكتابين نرى أن فارق سبعة أو ثمانية قرون لم يغير أي شيء من حيث طبيعة الخطاب، وإنما هي أشياء تنقل وتعتمد على عنصر الخيال والانزياح وتعول تعويلا تاما على الشلل الدماغي الذي يصاب به المتلقي حين يربط بين الدين وعنصر الإيمان المطلق واللامشروط وبين هذه الخطابات السريالية الغائية، التي و إن كانت خطابات غير فاعلة واقعا فهي فاعلة نفسيا وأخلاقيا، لأنها تنبني على غايات غير أخلاقية في حد ذاتها بالرغم من أنها مجرد هراء صرف، فالخطاب يكشف عن نسق القيم التي يحتويه حتى إن لم يكن فاعلا في الواقع، ذلك أن أهداف هذه النصوص لا تني تتلخص في هكذا عناوين :
طلسم لفقد الرجولة – ثقاف – طلسم لمنع الزواج – فائدة للبنت البائرة – فعل الطلاق وتصريفاته- رباط شخص – المحبة وجلب الحوائج وقضائها – باب تهييج الجن كذا ليفعل كذا – فائدة بغضة بين الرجل وامرأته – فائدة للقبول…
و أحيانا يتجاوز الأمر مسألة العرف الأخلاقي و التمظهر المرضي للحب باعتباره فعلا إنسانيا إلى تشكيل خطر على صحة الإنسان وبيئته، الصحة النفسية و الجسدية معا ، مثلما يمكن مثلا أن نستشفه من هذا الطلسم الذي يدعو المرأة إلى شي غريب قد يصيبها بمرض على مستوى جهازها التناسلي :
فائدة محبة
» تأخذ حمامة صغيرة وتذبح وتنظف وتوضع في فرج المرأة ليلة كاملة ، ثم تخرجها في الصباح وتحمرها في السمن وتطعمها لزوجها يحصل المطلوب بإذن الله
clip_image004 dans الفكر و النفس[4]
إن باراسيكولوجية الحب تمظهر أساسا في كونه ظاهرة تخرق أنظمة العقل والفهم الموضوعي، ولكن ذلك لا يعني أن أي خطاب سينشأ في هوامش الظاهرة سيكون خطابا استشفائيا مفيدا، بل إن طبيعة الحب تترك مجالا مفتوحا لخطابات مثل خطابات الخرافة و الشعوذة، خطابات تتهكم على الوعي البشري وتتسم بطابع الاستغلال والاستحمار للإنسان، كما أنها تشكل خطرا على صحته النفسية والجسدية، لذلك وجدنا التنبيه على خصائص خطاب الشعوذة ضرورة قصوى، على الأقل ليعي الذين يعرفون القراءة أن الأمر لا يتعلق بجانب من جوانب الدين بقدر مايتعلق بفهم شائه لمنطق الفقه ومقاصده ولنصوص القرآن الكريم وغائيتها الشريفة.
ــــــــــــــــــــ
[1] عبد الفتاح السيد الطوخي، السحر العجيب في جلب الحبيب، المكتبة الثقافية بيروت، ص 44.
[2] الشيخ أبو العباس أحمد البوني المتوفى سنة سنة 622 للهجرة، سحر العشاق في جلب المشتاق ، ص 8 و9.
[3] الطوخي ، نفسه ص 42.
[4] الشيخ البوني ،م م، ص 17.